(٢) من الأسانيد إلى المتون
يركز القدماء على الأسانيد دون المتون؛ فصحة الخبر في سنده وليست في متنه أي في
سلامة النقل وليست في صدق المنقول.
٣ فهناك العالي والنازل من الأسانيد. العالي الواصل إلى الرسول، والنازل
هو البعيد عنه.
٤ الأول هو المتصل، والثاني هو المنفصل؛ فلا فرق في الخبر بين نقل
القرآن ونقل الحديث. وعلو الإسناد دليل على صحة الحديث لقربه من الرسول أو من إمام
من أئمة الحديث أو إلى أحد الكتب الستة بالموافقات والإبدال والمساواة والمصافحات.
الموافقة مع أحد أصحاب الكتب، والبدل الاتفاق مع شيخ الشيخ، والمساواة وجود أحد
أصحاب الكتب بين الراوي والنبي. والمصافحة كثرة العدد بواحد وكأنه قد تمت مصافحته.
وقد يكون العلو تقدم وفاة الشيخ عن قرينه أو وفاة الشيخ دون الْتفاتٍ إلى آخر.
أما النزول فلا دليل على صحته، فليس رجاله أعلم أو أحفظ أو أتقن أو أجلَّ أو أشهر
أو أروع من العلو؛ ومن ثم صدق المحمول في صحة النقل أي في سلامة الحامل دون النظر
في صدق المحمول في ذاته ومدى اتفاقه مع العقل والواقع، وهما الركيزتان الرئيسيتان،
والعنصران المكوِّنان للوحي.
٥
والعالي والنازل صورتان رأسيتان للوحي حتى ولو كان مبلَّغًا من الرسول أفقيًّا
للناس، فما زالت الصورة الشعبية المألوفة هو نزول الوحي من أعلى إلى أدنى؛ لذلك
أصبح «التنزيل» مرادفًا للوحي، وعلى أساس هذا التصور وضع مفهوم «أسباب
النزول».
(٣) أنواع الأسانيد والمتون
ومثل علم مصطلح الحديث هناك المتواتر والمشهور والآحاد والشاذ والموضوع والمدرج،
ثلاثة في السند وثلاثة في المتن.
٦ وبالرغم من أن علم القراءات متعلق بالنص الشفاهي إلا أنه يخضع أيضًا
لمنطق الرواية العامة؛ لا فرق بين النص الشفاهي والنص المدوَّن.
المتواتر هو ما نقله جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب، وهو نقل غالب القراءات، وهو
أغلب النقل، وقد نقل عن عبد الله بن مسعود إنكار أن تكون المعوذتان من القرآن، مع
أنهما متواترتان، وأنه كان يحكُّهما من المصحف، وأن الرسول أمر بالتعوِّذ بهما فقط. كما
أنه أسقط الفاتحة لأنها وضعت حماية له بين دفتَين. والمشهور ما صح سنده ولم يبلغ
درجة التواتر، ووافق العربية والرسم، النقل الشفاهي والمدون، القراءة والكتابة.
والآحاد هو ما صح سنده وخالف العربية أو الرسم ولم يكن مشهورًا.
٧ أما فيما يتعلق بالمتن فالشاذ ما لم يصح سنده.
٨ والموضوع كقراءات الخزاعي.
٩ وهذا يدل على ارتباط النقل بالناقل سمعًا وحفظًا وأداءً.
١٠ والمدرج هو ما زيد في القراءات للتفسير بغاية الإيضاح. وهي عمليةٌ لا
شعورية، فالإيضاح جزء من نقل الذاكرة، ومع ذلك لا تجوز الرواية بالمعنى كما يحدث
أحيانًا في علم الحديث.
١١
(٥) القرآن متواتر بالسند
القرآن متواتر في كله وأجزائه، والتواتر يورث اليقين، ويقين النقل سابق على يقين
الفهم، والدواعي أي البلاغ والبيان تدفع نحو التواتر.
١٣ وإن لم يتواتر بعضه، سورتا المعوذتين مثلًا، فإن شيوعهما وتداولهما
والاستشهاد بهما، وتعضيد الحديث لهما يجعلهما بمقام التواتر. وعدم نقلهما من البعض
يقلل من شرط العدد، ولكن نقلهما من البعض الآخر يجعل العدد كافيًا. والآحاد يورث
العلم الظني والعمل اليقيني، وهو اليقين التداولي.
السؤال إذن: ألا يمكن إثبات صدق المحمول بصرف النظر عن صحة الحامل وهو التواتر؟
المحمول موضوع «متعالٍ» في حين أن الحامل جهدٌ بشريٌّ خالص ومنطق للنقل الشفاهي أو
المدون. بهذه الطريقة يصبح المحمول مشروطًا بالحامل؛ وهو ما يتنافى مع علاقة
المشروط بالشارط في الموضوعات المتعالية.
والتواتر في النهاية اجتهادٌ بشري ومنطقٌ إنساني واختراعٌ منهجي، وهو شرط صحة
القرآن؛ فصحة الحامل هنا شرط صحة المحمول وكأن المحمول ليس له صدق في ذاته بصرف
النظر عن حامله.
١٤
(٦) الصدق الذاتي للمتن
وقد استقرَّ القرآن الآن في النفوس والعقول والأذهان، ولم يعد أحد عمليًّا يشك في
صحة النقل. وإذا أراد القارئ أن يبين مهارته في القراءة باستحداث بعض القراءات غير
المتداولة فإنه يكون من جانب الأداء الفني الذي يستحسنه البعض ويستهجنه البعض
الآخر؛ ومن ثم كان الدخول في المسائل التاريخية الصرفة وقت الرواية والأخبار
والقراءة والتدوين من نافلة القول. والعجيب أن هذه المادة ما زالت تدرس في الجامعات
والمعاهد الدينية كجزء من نقل التراث وتدريسه، الاستشراق وحده هو الذي يحاول بعث
هذه الموضوعات لإثارة الشك حول الصحة التاريخية للروايات، أسوة بما تم في باقي
الكتب المقدسة بل وفي المدونات الإنسانية الكبرى مثل شعر هوميروس ثم الشعر الجاهلي
بل في كل الأعمال الإنسانية مثل أعمال شكسبير وإنكار مؤلفها، وكذلك يفعل بعض مدعي
التجديد والمتأثرين بالاستشراق. وهو تجديد خارج المكان والزمان والتاريخ، مجرد
فرقعاتٍ إعلامية تخطئ ولا تصيب، غايتها الإثارة والضجة. وتثبيتها تقوية الاتجاهات
المحافظة وليس حركات التجديد، وكما حدث في قضية «الشعر الجاهلي» و«التصوير الفني»،
والدعوة إلى «الترتيب الزماني»، وتاريخية النص القرآني: إذا ما وضع في إطار تاريخ
الأديان المقارن.
المهم هو صدق المتن وتطابقه مع التجربة الحية التي يشعر بها كل قارئ ومستمع، هو
نوع من الوحي المباشر وكأن القرآن قد أنزل على القارئ أو السامع في التو واللحظة،
فالقرآن مجموعة من التجارب الأولى التي يمكن أن تتكرر في حياة البشر. الصدق هنا ليس
عن طريق السند بل عن طريق المتن، وليس عن طريق اللغة، قراءةً وكتابة، ولكن عن طريق
الحدس المباشر، والصدق الذاتي. هو طريق عمر بن الخطاب محدَّث هذه الأمة. فلا فرق بين
النزول والصعود، بين الوحي والواقع، بين كلام الله وكلام البشر، بين العلم الإلهي
والعلم الإنساني إلا في درجة اليقين، وأشكال الصياغة، والنظرة الكلية الشاملة.
فالصدق صدقان: صدقٌ نازل، وصدقٌ صاعد. واليقين يقينان: يقين تنزيل ويقين تأويل.
والصحة صحتان: صحةٌ تاريخية للسند، وصحةٌ شعورية للمتن. وكما قال الصوفية «عن ربي عن
قلبي أنه قال …»
والتطابق مع التجربة الحية يحيل إلى تطابقٍ آخر مع العقل، ويثير في الذهن أفكارًا
وتصوراتٍ وبراهين. فالعقل والتجربة واجهتان لشيءٍ واحد؛ العقل تصديقٌ ثانٍ للتجربة،
يميز بين التجربة الحية والهوى بين الفطرة والانفعال، بين البداهة والميل؛ لذلك طلب
إبراهيم البرهان ليس لكي يؤمن بل لكي يطمئن قلبه، والمزاوجة بين العقل والقلب؛ لذلك
كان مطمح الفلاسفة الجمع بين الصدق العقلي والصدق التجريبي.
١٥ ولا يعني العقل الصدق الصوري؛ تطابق النتائج مع المقدمات، وتطابق
الفكرة مع ذاتها بل تصديق العقل لمضمون التجربة الحية في البداهة العقلية والفطرة
الطبيعية. الصدق العقلي ذو مضمون، يتجه نحو الأشياء ذاتها وليس فقط وسائل معرفته
وطرق روايته؛ فالحقيقة شيء وروايتها شيءٌ آخر.
١٦ لذلك اعتنى الأدب والفلسفة المعاصرة في الغرب بالسرد، والرواية،
والقص، والزمان الداخلي، والسيرة الذاتية.
١٧
والتطابق مع التجربة الحية والعقل هو أيضًا تطابق مع الواقع، فالتجربة الحية هي
موطن التقاء العقل بالواقع؛ العقل حدس معاش، والواقع تجربةٌ معاشة.
١٨ فالعقل والواقع ركيزتا التجربة، يحمي التطابق مع الواقع الوحي من أن
يصبح مجرد خطابٍ مغلق على ذاته، تكفيه اللغة كمكونٍ رئيسي له، كما تحميه من أن يصبح
مجرد تفريغ عن الكرب، وتفريغ للهمِّ كما يحدث عند الدعاة الجدد وكان وظيفة الوحي هو
التطهير كما كانت وظيفة الفن عند بعض قدماء اليونان.
١٩ الواقع هو الواجهة الثانية للوحي، داخل فيه منذ الحوامل الموضوعية له:
المكان والبيئة الاجتماعية والزمان. وهو الذي يسمح بالتحول من النظر إلى العمل، ومن
القول إلى الفعل. الوحي يبدأ من الواقع صياغةً وإليه يعود فاعليةً وتأثيرًا. وقد نشأت
تياراتٌ معاصرة في الغرب تجعل مهمة الفلسفة رؤية الواقع وليس الابتعاد عنه أو تغليفه
بشبكة من التصورات أشبه بشبكة العنكبوت التي تعمي أكثر مما تكشف، وتخبئ أكثر مما تظهر.
٢٠
تبغي روح العصر الصدق الذاتي، وهو الصدق المباشر وليست رواياته وصحته التاريخية.
فقد يكون المتن صحيحًا شعوريًّا والسند كاذب تاريخيًّا. وقد يكون السند صحيحًا
تاريخيًّا والمتن كاذب شعوريًّا، وفي هذه الحالة صدق المتن له الأولوية على صحة
السند؛ وبالتالي تتحول علوم القرآن من علوم الرواية والخبر والسند إلى علوم الدراية
والخبرة والمتن.