(٢) التفسير والتأويل
التفسير هو البيان والكشف من السفر أي الضوء. هو كشف المغلق وإطلاق المحتبس، وفي
الاصطلاح هو علم نزول الآية، صورتها وأقاصيصها، إشارتها وترتيبها، محكمها
ومتشابهها، ناسخها ومنسوخها، خاصها وعامها، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفسر طبقًا
لمباحث الألفاظ. وقد يزداد الحلال والحرام، والوعد والوعيد، والأمر والنهي، والعبر والأمثال.
٢٦
هل المعنى هو القصد والمراد أم الشيء؟ قد يجمع القصد بين الاثنين.
٢٧ أعني تعني أقصد. وهو مشتق من الإظهار مثل عنوان الكتاب أو عنت القربة
إذا أظهرت الماء، وعنت الأرض أي أنبتت؛ لذلك فسر البعض معاني القرآن.
٢٨
وهناك ثلاثة دوافع وراء الحاجة إلى التفسير.
٢٩ الأول كمال فضيلة الصنف فإنه لقوَّته العلمية يجمع المعاني الدقيقة في
اللفظ الوجيز. والثاني إغفال بعض تتمات المسائل أو شروطها، ويحتاج الشارح لبيان
المحذوف. والثالث احتمال اللفظ لمعانٍ مثل المجاز والإشراك ودلالة الالتزام فيحتاج
الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه. والتفسير علمٌ شريف من ثلاث جهات: الموضوع وهو
الوحي كلام الله، والغاية، والفرض أو شدة الحاجة.
٣٠
والتفسير أعم من التأويل. التفسير للألفاظ، والتأويل للمعاني، والرؤيا التفسير
لكل النصوص. التأويل خاص بالكتب المقدسة. والتفسير لغريب الألفاظ. والتأويل قد يكون
لمألوفها. التفسير للألفاظ، والتأويل للمعاني. التفسير يتعلق بنطق الألفاظ،
والتأويل بالمعاني، والفهم للأشياء بناءً على مستويات اللغة الثلاثة: اللفظ والمعنى والشيء.
٣١ التفسير بيان لفظ له احتمالٌ واحد، والتأويل لفظ له معانٍ مختلفة طبقًا
للأدلة، صرف الآية إلى معنًى موافق لما قبلها وما بعدها تحتمله الآية ومتفق مع
الكتاب والسنة عن طريق الاستنباط. التفسير للظاهر، والتأويل للباطن. التفسير كشف
المراد عن اللفظ المشكل وردُّ أحد الاحتمالَين إلى ما يطابق الظاهر. التفسير يتعلق
بالدراية، والتأويل بالدارين. التفسير مقصور على الاتباع والسماع، والتأويل مقصور
على الاستنباط والاجتهاد.
٣٢
التأويل من «أول» أي الرجوع إلى المصدر الأول. وقد يعني النقيض أي المآل والمصير
والذهاب إلى الآخر. وقد يكون من الأيالة أي السياسة، سياسة الكلام وتوضيح معانيه.
٣٣ والتأويل نوعان: منقاد ومستكره.
٣٤ الأول ما لا تقع فيه بشاعة أو يحدث فيه استقباح. وقد يقع فيه خلاف بين
الأئمة إما لاشتراك اللفظ أو لأمرٍ راجع إلى النظم أو الغموض المعنى، والثاني هو
البشع إما لتخصيص لفظ أو لتلفيق بين اثنين أو ما يحدث فيه من استعارة أو اشتقاق
بعيد. ولا يوجد تأويلٌ مخالف أو متفق مع الشرع محظور أو مباح، عالم أو جاهل بل
التأويل مطابقة معنى النص مع تجربةٍ ذاتية للفرد أو الجماعة. فالخلاف في مدى اتساع
التجربة الذاتية وصدقها فردية أو مشتركة، مصلحةٌ خاصة أم مصالحُ عامة.
٣٥
(٦) الضمائر
في القرآن خمسة وعشرون ضميرًا متصلًا ومنفصلًا.
١٥٥ ويرجع الضمير إلى مرجع يعود إليه. ويعود إلى أقرب مذكور. فالأصل أن
يقدَّم ما يدل عليه الضمير. إذ يعود ضمير الغيبة إلى شيء سبق ذكره في اللفظ بالمطابقة
أو أن يعود على مذكور في سياق الكلام، مؤخَّر في الكلام مقدَّم في النية أو أن يدل
اللفظ على صاحب الضمير بالتضمين أو بالالتزام أو السياق.
١٥٦
والأصل توافق الضمائر حذرًا من التشتيت. وجمع العلاقات لا يعود عليه الضمير إلا
بصيغة الجمع.
١٥٧ ويدل بالجزء على الكل.
١٥٨ والضمير لا يعود إلا على مُشاهَدٍ محسوس.
١٥٩
والعدول إلى الضمائر له أسبابه منها: الاختصار، والفخامة، والتحقير.
١٦٠ وضمير الشأن أو القصة هو ضمير المجهول. قد يعود إلى ما بعده ولا يكون
مفسره إلا جملة. ولا يتبع بتابع. ولا يعمل فيه إلا الابتداء أو النسخ، وهو ملازم
للأفراد، ولا يُحمل كلية.
١٦١ والفرق بينه وبين ضمير الفصل أن الفصل يكون على ضمير الغائب والمتكلم
والمخاطب. فقد يأتي الضمير متصلًا بشيء وهو كغيره.
١٦٢ وإذا اجتمع في الضمائر مراعاة اللفظ أو المعنى يبدأ باللفظ ثم بالمعنى.
١٦٣ والضمير لا يكون إلا بعد الظاهر لفظًا أو مرتبة أو لفظًا ومرتبة. ولا
يكون قبله إلا في أبواب ضمير الشأن والقصة.
وقد يعود الضمير على شيء والمراد به جنسه.
١٦٤ وقد يُذكَر شيئان ويعود الضمير إلى أحدهما.
١٦٥ وقد يذكر شيئان ويعود الضمير إليهما جمعًا لأن الاثنين جمع في المعنى.
١٦٦ وقد يُثنى الضمير ويعود إلى أحد المذكورين.
١٦٧ وإذا اجتمعت ضمائر فإن عودها لواحد أَولى من عودها لمختلف.
١٦٨ وإذا عطف «أو» يُفرد الضمير.
١٦٩ وقد تسدُّ مسدَّ الضمير أمور، منها: الإشارة، والألف واللام، والاسم الظاهر.
١٧٠ ويجوز حذف الضمير للعلم به.
١٧١
و«إيَّا» ضمير.
١٧٢ والضمير هو الشخص، المتكلم أو المخاطب أو الغائب. «ومهما» اسم يعود
الضمير عليه للتأكيد. «النون» اسم ضمير النسوة لتفرد النساء. وهي غير نون التوكيد.
١٧٣ «والهاء» اسم ضمير الغائب. «وها» اسم فعل بمعنى «خذ»، واسم ضمير
للمؤنث، وحرف تنبيه للإشارة.
١٧٤
(٨) شروط المفسر
يُفسَّر القرآن بالقرآن.
١٩٣ فالتفسير للفهم كما هو الحال في أي نص من العلوم الرياضية أو الطبيعية.
١٩٤ ميزته الالتزام بالنص. وخطورته الوقوع في التفسير الحرفي. وهو التفسير
بالسياق الكلي أو تفسير الجزء بالكل. وعند القدماء هو التفسير بالمنقول وليس
بالمعقول، بالرواية وليس بالدراية.
١٩٥ التفسير مضطر إلى النقل وهو الأكثر. والثاني يعتمد على العقل وهو
الأقل. وقد ترد تفاسير عن الصحابة بقراءةٍ مخصوصة.
١٩٦ فالمنقول اختيار، ولا يخلو من معقول. ولا يمكن في تفسير المتشابه
الاعتماد على المنقول وحده لأن اللفظ يتردد بين معنيَين.
١٩٧ وكيف يتم التفسير بالنقل وحده حتى نقل مباحث الألفاظ؟ لذلك يحدث رد
الفعل على ضرورة التفسير بالرأي. وكيف يتم النقل عن المفسرين السابقين والمحدثون
مثلهم، رأيًا برأي واجتهادًا باجتهاد؟
١٩٨ وقد يحتاج كل تفسير منقول إلى تفسير، وكل تفسير إلى تفسير إلى ما لا
نهاية. ومن ثم لزمت العودة إلى التفسير بالرأي، التفسير بالمعقول، والتفسير
بالواقع، والتفسير بالتجربة الذاتية.
ومآخذ أي مصادر أو مناهج للتفسير أربعة:
- (أ)
النقل عن النبي مع خطورة تدخل الضعيف والموضوع خاصة في المغازي
والملاحم والتفسير.
- (ب)
الأخذ بقول الصحابي المرفوع عن النبي. وهي رواية لا رأيًا. به مخاطر
النقل. وإذا كان منقولًا عن التابعي تزداد هذه المخاطر. وقد يضاف إليهم
التابعون إلى ما لا نهاية حتى طبقات المفسرين بالرغم من أخطار
النقل.
- (جـ)
الأخذ بمطلق اللغة. فالقرآن بلسانٍ عربي. ويكون التفسير طبقًا لألفاظ
اللغة العربية.
- (د)
التفسير بمقتضى معاني الكلام والمقتضب من قوة الشرع. وهو الذي دعا
إليه الرسول بتفهيم الدين وتعليم التأويل. فالقرآن ذو وجوه يُحمل على أحسنها.
١٩٩ وهو عود إلى المصدر الأول.
طبقًا للمصدر الرابع يمكن التفسير بالاستنباط والاستدلال إذا تعددت معاني اللفظ
مثل «الصراط» بين الحقيقة والمجاز، بين المعنى الحسي والمعنى العقلي. وميزته حرية
الحركة من أجل المحافظة على المعاني الكلية للقرآن. فاللغة ليست فقط لفظًا بل معنى،
وأصل الوقوف على معاني القرآن التدبر والتفكر. وعيبه تعدد التفسيرات طبقًا
للمفسرين. وقد يسمح لبعض أصحاب الأهواء الخلط بين الرأي والهوى وهو تفسير
المتكلمين، ليس المعتزلة وحدهم ولكن الفِرق جميعًا دفاعًا عن عقائدها. وتضرب الأمثلة
من تفسيرات فرق المعارضة وحدها وعلى رأسها المعتزلة التي ما زالت باقية ضمن فرق أهل السنة.
٢٠٠ والتفسير بالرأي قد يؤدي عند الفقهاء إلى خمسة مخاطر: الأول التفسير
من غير حصول العلوم، وهو تفسيرٌ صوريٌّ فارغ. والثاني تفسير المتشابه الذي لا يعلمه
إلا الله، وهو نفي للمعرفة الإنسانية وغلق لباب الفهم والاجتهاد. والثالث التفسير
اعتمادًا على المذهب أو الفرقة بحيث يكون هو الأصل والتفسير تابع، وبالتالي رد
الأصل إلى الفرع. والرابع القطع بأن هذا التفسير هو مراد الله دون دليل. والخامس
التفسير بالهوى وليس بالرأي والاستحسان طبقًا للمصالح العامة.
٢٠١ وهي ليست مخاطر بل هو واقعٌ إنساني، الحوامل الذاتية للوحي. ولماذا
استبعاد التفسير بالرأي؟ لا يعني الرأي الهوى أو وجهة النظر الخاصة بل التجربة
البشرية العامة الفردية والجماعية والمطردة عبر الزمان.
٢٠٢ والقرآن له وجوهٌ عده طبقًا لتعدد المواقف.
٢٠٣ يحتاج إلى اختيار أحدها، وهو ما لا يتم إلا بالعقل والمصلحة أي الرأي.
وهذا هو أحد معاني التشابه، ووظيفة الرأي تحويله إلى محكم.
وهناك عدة وسائل لإيضاح المعنى حين الإشكال مثل رد الكلمة إلى ضدها أو إلى نظيرها
والتمييز بين الخبر والشرط أو صيغةٍ كلاميةٍ أخرى، ودلالة السياق، والنقل عن المعنى
الأصلي، ومعرفة أسباب النزول، والسلامة من التدافع.
٢٠٤ وعلى المفسر أن يعرف قواعد أصول الفقه فيما يتعلق بمباحث الألفاظ.
٢٠٥ فالرأي ليس مجرد هوًى شخصي بل له منطقٌ محكم. ويمنع من الوقوع في غرائب
التفسير، وهو التفسير البعيد الشيئي التاريخي الحرفي الخاص القائم على الأهواء.
٢٠٦
ولا يمكن استبعاد تفسير الصوفية.
٢٠٧ وهو التفسير الإرشادي أو الباطني أي التأويل اعتمادًا على فتاوى بعض
الفقهاء. فهناك مستويات لفهم المعنى، الظاهر والباطن، طبقًا لدرجة المعرفة لدى المفسر.
٢٠٨ وإرجاع الباطن إلى الظاهر هو إلغاء الباطن، عودًا إلى الظاهر.
٢٠٩ والعمل لا يعني العود إلى الظاهر وإلا تحول القرآن إلى مجموعة من
العبادات والشعائر والأحكام الصورية الشرعية مع أن الفقه أخلاق.
٢١٠ فالعمل أيضًا نوعان، أعمال الجوارح وأعمال القلوب. الظاهر اللفظ عند
الفقهاء، والباطن التأويل عند الصوفية. الظاهر التلاوة، والباطن الفهم. تتعدد وجوه
النص مما يحتاج إلى تأويل.
٢١١ يحتاج فهم القرآن إلى تثوير أي إلى فهم وتأويل.
٢١٢ والتثوير اليوم هو تحريض العقول والأذهان والنفوس والضمائر على التحرك
وتغيير الوضع القائم إلى ما هو أفضل. وتفسير الصوفية مواجيد وكشوفات تتجاوز الألفاظ
إلى الحدوس المباشرة، «عن قلبي عن ربي أنه قال …» التفسير هو المطابقة بين النص
وتجربة المفسر الذاتية.
٢١٣ وقد يستنبط الحكم من السكوت عن شيء. تكفي الإشارة بالمنطوق به إلى
المسكوت عنه.
٢١٤ وينقسم القرآن إلى ما هو بيِّن بنفسه فلا يحتاج إلى تفسير. يكفي الإدراك
المباشر وما ليس مبينًا بنفسه فيحتاج إلى تفسير. فالتفسير خطوةٌ ثانية وليست أولى.
والأمثلة على ذلك كثيرة.
٢١٥ وما يحتاج إلى بيان قد يكون بيانه في آيةٍ أخرى مضمرًا فيها إما بحذف
أو بإجمال. وقد يكون اللفظ مقتضيًا لأمر ويحمل غيره. وقد يكون اللفظ محتملًا
لمعنيَين في موضع ويُعيَّن في موضعٍ آخر. وقد يكون له ظاهر وباطن.
٢١٦
والتفسير على أربعة وجوه: الأول وجه تعرفه العرب من كلامها. والثاني تفسير لا
يُعذَر أحد بجهالته. والثالث تفسير يعرفه العلماء. والرابع تفسير لا يعرفه إلا الله.
وهو معنى حديث «أنزل الله القرآن على أربعة أحرف.» الأول تعرفه العرب. والثاني
الفرائض، الحلال والحرام. والثالث يعرفه العلماء. والرابع هو المتشابه، الأول تعرفه
العرب من لسانهم، لفظًا ومعنى. الثاني الشرائع والأحكام. والثالث اجتهاد العلماء
وتأويلهم واستنباط المعاني وكل لفظ يحتمل معنيَين. والرابع علم الغيب مثل قيام الساعة
وتفسير الروح والحروف في أوائل السور والمتشابه حيث يتوقف المفسر فيها وهي
الموضوعات المتعالية التي تخرج عن نطاق الحس.
٢١٧ وكل لفظ يحتمل معنيَين، موضوع الاجتهاد والعلماء. إما أن يكون أحدهما
أظهر من الآخر، أو أن يكون الاثنان جليَّين سواء اختلف أصل الحقيقة فيهما أم لا، وإذا
اختلفا يمكن اجتماعهما أم لا؟ والقول بالرأي على قسمَين: تفسير اللفظ لاحتياج
المفسر له أو حمل اللفظ المحتمل على أحد معنيَين.
٢١٨
ولا يوجد تكرار في القرآن بل التعبير عن أوجه المعنى.
٢١٩ وهو أحد أسباب ضرورة التفسير الموضوعي للقرآن.
٢٢٠ كما لا توجد ألفاظٌ مترادفة. فكل لفظ مترادف له أحد جوانب خصوصية
المعنى.
يبدأ المفسر بعلوم اللغة، مباحث الألفاظ، ثم علاقة الألفاظ بالمعاني، وعلم
التصريف وهو الصيغ الدالة على المعاني، وعلم الاشتقاق وردِّ الأصول إلى الفروع. ثم
تأتي علوم التركيب مثل الإعراب، وأساليب البلاغة، وعلم البيان وما يتعلق بالحقيقة
والمجاز والاستعارة والكناية والتشبيه وعلم البديع وما يتعلق بالفصاحة اللفظية والمعنوية.
٢٢١ وعلى المفسر أن يتحرى مطابقة تفسيره للغة دون زيادة أو نقصان،
والتفرقة بين الحقيقة والمجاز وباقي مباحث الألفاظ مع أساليب البيان وفنون البلاغة.
وعليه أن يعرف كل الحوامل الموضوعية للوحي مثل المكان والزمان وأسباب النزول،
والحوامل الموضوعية الذاتية مثل الرواية، شفاهًا وتدوينًا وقراءة، والحوامل الذاتية
اللغوية مثل اللفظ والمعنى وفنون البلاغة ومناهج التفسير.
٢٢٢ ومن أوجه الزيادة عندما يحكي المفسر عن الله ويقول «حكى الله تعالى …»
ويصنع تفسيره وكأنه هو المتحدث باسم الله وليس رأيه وتفسيره وفهمه.
٢٢٣
ويحتاج المفسر إلى الفهم والتبحر في العلوم.
٢٢٤ وأولها علوم اللغة. فالعبادات للعموم وهي للسمع، والإشارات للخصوص وهي
للعقل، واللطائف للأولياء وهي المشاهد، والحقائق للأنبياء وهي للاستسلام. ولكل علم
ظاهر وباطن، حد ومطلع. الظاهر للتلاوة، والباطن للفهم. والحد لأحكام الحلال والحرام
أي الفعل والسلوك. والمطلع أي الإشراق، الوعد والوعيد، علم اليقين وعين اليقين وحق
اليقين. ويكون على قدر الاستطاعة. وتثوير القرآن هو تحويله إلى تجربةٍ ذاتية، ونقله
من مستوى النص إلى مستوى التجربة.
٢٢٥ وعند الصوفية العلوم لا حدود لها. فلكل آية ستون ألف فهم، ويحتوي
القرآن على سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم؛ إذ لكل كلمة علم، ثم يتضاعف إلى أربعة.
وهي ليست علومًا داخلة في الذات والصفات والأفعال بل هي علومٌ إنسانيةٌ خالصة، يسميها
الصوفية علوم المكاشفات.
ويحتاج المفسر إلى عدة علوم مثل اللغة لشرح مفردات الألفاظ، والنحو لتغير المعنى
بتغير الإعراب، والتصريف لمعرفة الأبنية والصيغ، والاشتقاق للفصل بين المعنيَين
المتضادَّين، والمعاني والبيان والبديع لمعرفة خواص تركيب الكلام من حيث إفادة المعنى
ووضوحه وخفاؤه وتحسين وجوه الكلام وهي علوم البلاغة لمعرفة أوجه الإعجاز، وعلم
القراءات لمعرفة كيفية النطق بالقرآن، وعلم أصول الدين للحفاظ على قواعد العقائد،
وعلم أصول الفقه لمعرفة أوجه الاستدلال على الأحكام واستنباط عللها، وأسباب النزول
والقصص لمعرفة صلة الآية بالواقع، والجواب بالسؤال، والناسخ والمنسوخ لمعرفة عامل
الزمان وأثره في تطور الأحكام، والفقه لمعرفة أحكام الشرع، والأحاديث المبينة
لتفسير المجمل والمبهم، وأخيرًا علم الموهبة الذي يورثه الله لمن عمل بما علم، وهو
ما يركز عليه الصوفية.
٢٢٦ وهي علوم تجمع بين العلوم النقلية العقلية كعلم أصول الدين وعلم أصول
الفقه وعلوم التصوف دون علوم الحكمة، والعلوم النقلية الخالصة كالحديث والفقه دون
علوم السيرة ودون العلوم العقلية الخالصة كالحساب أو الطبيعة الخالصة كالطب،
والعلوم اللغوية التي تستحوذ على نصف العلوم.
٢٢٧ لذلك لا يغرق المفسر في علوم اللغة والفقه والعقائد حتى لا يردَّ
التفسير إليها.
٢٢٨
وقد تُقسَّم علوم القرآن إلى ثلاثة علوم. الأول علم لم يُطلع الله عليه أحدًا من
خلقه واستأثر به. وهو خارج أقسام العلوم الإنسانية. فما فائدة علم لا يعرفه البشر؟
وهل الله يستأثر بعلم وهو يبلغ رسالته، ويرسل رسلًا؟ الثاني ما أطلع الله عليه نبيه
من أسرار الكتاب واختص به مثل أوائل السور. وهو أقرب إلى القسم الأول. وما فائدة
علم يستأثر به الرسول ولا يبلغه للناس
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ
وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. والثالث علوم علَّمها الله للنبي من المعاني
الكلية والخفية لتعليمها، وهو قسمان: الأول لا يجوز الكلام فيه إلا عن طريق السمع
مثل أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والقراءات واللغات والقصص وأمور المعاد. والثاني
ما يؤخذ بطريق النظر والاستدلال والاستنباط والاستخراج من الألفاظ، إما تأويل
الآيات المتشابهة في الصفات، وهو ما عليه خلاف، وإما استنباط الأحكام الشرعية
قياسًا أو بلاغة.
٢٢٩ ولا يعني احتواء القرآن علوم الأولين والآخرين احتواءه على العلوم
الرياضية والطبيعية، فهذه علومٌ برهانيةٌ تجريبية، بل يعني قدرته على إعطاء بعض
الفروض العلمية للتحقق من صدقها بالبرهان الرياضي أو التجريبي. وقد يشعر العالم
الرياضي أو الطبيعي عند قراءاته للقرآن بصدى بعض نتائج العلمَين فيه. فيتفق الحدس والبرهان.
٢٣٠
(٩) طبقات المفسرين
الرسول هو الطبقة الأولى.
٢٣١ والصحابة عشرة من الطبقة الثانية.
٢٣٢ وكل صحابي يعتبر نفسه هو العالم الأول. يجيب على كل سؤال. يعلم كل آية
نزلت بليل أم بنهار، في سهل أم في جبل. وهي معلوماتٌ تاريخية لا أهمية لها في
التفسير المتجدد وبمصالح الناس المتغيرة. وآخر يقول: إنه ما نزلت من آية إلا وعلم
فيمَ نزلت وأين نزلت، وأن الله وهب له قلبًا عقولًا ولسانًا سئولًا. وقال ثالث ما
نزلت آية إلا وهو أعلم فيمَ نزلت وأين، وأنه لا يوجد أعلم منه، وإلا كان قد ذهب إليه.
وهو علم يقارب الغرور وإن لم يصل إلى حد الادعاء. ويتأكد ذلك بمباركة الرسول
وأخباره وأحكامه وثنائه على صحابته. فهذا حبر هذه الأمة، حكم جبريل يكرره محمد.
ويمتد نفس الثناء على التابعين، ويدخل معهم بعض الزهاد مثل الحسن البصري. وهم نقلة
عن الصحابة دون إبداعٍ ذاتي من أنفسهم. وهنا تتحول علوم القرآن إلى علم التفسير قبل
أن يستقل في علمٍ مستقل.
وفي الجزء الأخير من باب «طبقات المفسرين» وهو آخر باب في «الإتقان» يظهر الرسول
مفسرًا أولًا.
٢٣٣ وهو استعراض لما جُمع من أقوال الرسول في شرح بعض الآيات إجابة على
أسئلة له من الصحابة على نحوٍ طولي، من الفاتحة حتى الناس.
٢٣٤ لا يجمعهما هدفٌ واحد ولا رؤيةٌ واحدة، مجرد معلوماتٍ إضافية لمزيد من
المعرفة بالآية وبعض ألفاظها المجهولة. فما مصدر هذه المعلومات؟ هل هي الوحي عن
طريق جبريل أو الوحي المباشر أو الحدس أو المعلومات التي استقاها الرسول من خلال
رحلاته عن الأمكنة والأزمنة من اليهود والنصارى وأمثال العرب وقصصهم قبل الإسلام أم
آراء شخصية في موضوعات لا أهمية لها تخطئ وتصيب. وهناك معلوماتٌ خاطئة مثل اعتبار
سام أبا العرب، وحام أبا الحبش، ويافث أبا الروم، هذه الشعوب المعروفة وقتها. وماذا
عن الشعوب الهندية والأوروبية والآسيوية والأمريكية اللاتينية؟ وأحيانًا يكون
رأيًا يحتمل الرأي الآخر. وأحيانًا يكون التفسير حقيقة والأقرب المجاز.
وكثير منها موضوعاتٌ متعالية لا يُسأل ولا يجاب عليها خاصة بأمور المعاد والخلق والعرش.
٢٣٥ يسهل تدخل الخيال فيها وتحويلها إلى خرافات.
وكثير من الروايات ضعيفة أو غير مرفوعة أو غريبة. ويحتاج التفسير إلى ابن خلدون
جديد يحول منهج الرواية السبب الرئيسي في أخطاء المؤرخين إلى منهج المشاهدة والعيان
المباشر ثم إلى منهج تحليل الخبرات الإنسانية الرصيد الأول للتفسير كما هو الحال في
علوم الذوق عند الصوفية. فليست مهمة الحديث إعطاء معلوماتٍ نظريةٍ ظنية بل توجيهاتٍ
أخلاقية وتفصيلاتٍ عملية.
٢٣٦ وبنية معظم هذه الأحاديث ضعيفة؛ إذ يكون الرسول هو السائل والإجابة من
آخر عن تصورٍ نظري يخشى من وضعه على لسان الرسول.
٢٣٧ ويكون السائل أحيانًا يهوديًّا كي يوقع الإسلام في روح اليهودية
وتاريخها كما فعل بولص مع الإنجيل وتعاليم المسيح عندما هوَّد المسيحية.
٢٣٨ وتتكرر عبارة «إسناده ضعيف» عدة مرات.
٢٣٩
والتفسير في غالبيته حدثيٌّ تاريخيٌّ شيئي، وهو ليس المقصود من التفسير الأخلاقي
العملي. وهو ليس قصد الآية المتجهة إلى الدلالة وليس إلى الواقعة، إلى المعنى وليس
إلى الحدث. فالمغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى. وهو تقييد للمعنى،
وعناية بالمثل دون المثول.
وصورة الرسول جديدة غير معروفة، الزهو بالنفس وتحديد المسجد الذي أُسس على التقوى
بأنه مسجده وليس مسجد قباء، وتحول الرسول إلى شخصيةٍ مركزيةٍ محمدية كما حدث في
الإنجيل. وتحول محرروه من الأخلاق العلمية في «المواعظ على الجبل» إلى شخص المسيح
عند يوحنا وبولس.
٢٤٠
ومعاضدة السنة للقرآن في التفسير أحد العوامل الخارجية للتيقن من التفسير الداخلي
الذي يعتمد على طبيعة النص ذاته وآليات التفسير.
٢٤١ فكل حديث إنما هو تفسير لآية. القرآن أصل، والحديث فرع. والقرآن أصولٌ
كلية والحديث فروعٌ جزئية. القرآن أصولٌ نظرية، والحديث تطبيقاتٌ عملية. القرآن عام،
والحديث خاص. القرآن شامل لكل العصور، والحديث في بعض تطبيقاته العملية أول تحقق في
التاريخ، في الزمان والمكان والمجتمع.
٢٤٢ الحديث وصف وتعيين وتصريح وبيان وتعريض وتفسير وتأويل وفهم وتصديق
وتعبير وتحقيق وضرب أمثلة للقرآن.
وطبقة التابعين مجرد سرد لأسماء رجال دون وضع منهج أو وصف طريقة أو بيان مظاهرَ جديدة.
٢٤٣ يتلوهم الطبري. وتفسيره أجلُّ التفاسير مع أنه مجرد امتداد لمنهج
المؤرخين، لا فرق بين تاريخ الطبري وتفسير الطبري في المنهج والغاية والأسلوب.
٢٤٤
وتتعدد مناهج التاريخ عند القدماء مثل الإخباري الذي ليس له شغل إلا القصص
واستيفاءها والإخبار عما سلف سواء كانت صحيحة أم باطلة مثل تفسير الثعالبي. وهو
المنهج التاريخي، والفقيه يسرد الفقه من الطهارة حتى أمهات الأولاد مع أدلة الفروع
والرد على المخالفين كتفسير القرطبي وهو المنهج الفقهي. والفيلسوف صاحب العلوم
العقلية يملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة لدرجة البعد عن الآية مع التطويل
فيها لدرجة الابتعاد عن التفسير مثل تفسير الرازي، وهو المنهج الفلسفي. والمبتدع
يحرف الآيات ويطبقها على مذهبه كما فعل الزمخشري في «الكشاف» في تطبيقه التفسير على
منهج الاعتزال. والملحد يكفر ويُلحد في آيات الله، ويُقوِّل الآية ما لم تقله وهو ما
تفعله بعض فرق المتكلمين مثل الرافضة. وهو ما سيتحول إلى علم التفسير كعلمٍ مستقل من
العلوم النقلية الخمسة مع القرآن والحديث والسيرة والفقه.
٢٤٥