الفصل الأول

سيكولوجية الجنس

(١) الدراسة المقارنة بين الرجل والمرأة

لم يدخل علم النفس في دور التطبيق الواسع إلا ابتداءً من الحرب العالمية الأولى، فكان اتجاهه قبل ذلك التاريخ اتجاهًا نظريًّا، يدرُس الإنسان بصفةٍ عامة مهتمًّا بالشخص البالغ المُتحضر، ثم تحوَّل الاهتمام تدريجًا نحو دراسة الطفل والمُراهق، والرجل البدائي الذي يعيش في أوساطٍ اجتماعية تختلف إلى حدٍّ كبير عن الأوساط المُتحضرة.

ولما شرع علماء النفس في تطبيق الحقائق التي وصلوا إليها في دراساتهم المختلفة اعترضتهم صعوبةٌ جديدة، وهي وجود فوارق بين الأشخاص، حتى بين الذين يعيشون في بيئةٍ اجتماعية واحدة، ويتأثَّرون بوجهٍ عام بنفس المؤثِّرات التربوية والحضارية، ومن أبرز عوامل التفرقة بين الناس العامل الجنسي، ولا شك في أن المُعتقَدات والعادات والأنظمة الاجتماعية تزيد هذا العامل وضوحًا، خاصة في تحديد نوع المَلبس والتربية والمهنة وغيرها من صور النشاط المختلفة المخصَّصة لجنسٍ دون الآخر.

وبصدد موضوع الفوارق الجنسية يوجد تيَّاران مُتطرفان في الرأي؛ ففريق يؤكِّد أن الاختلافات التي نُشاهدها في المجتمع بينَ كلٍّ من الرجل ومن المرأة، من حيث الاهتمامات والوظائف الاجتماعية، ترجع إلى العوامل الوراثية التي تُميِّز بين الجنسَين، وما يترتَّب على هذه العوامل الوراثية من خصائص جسمية ونفسية. ويذهب فريقٌ آخر إلى القول بأن الطبيعة البشرية تمتاز بالمرونة، وإنها قابلة لأن تتشكَّل بأي شكل يريد المُربي أن يطبعه عليها، حتى إن بعضهم أنكروا وجود طبيعة بشرية أولية، وزعموا أن جميع الفوارق التي نُشاهدها بين الأفراد، سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا، ترجع إلى تأثير البيئة الاجتماعية.

إن كلًّا من هذَين المذهبين يقوم على تحيُّزٍ سابق، ويرمي إلى خدمة مذهب اجتماعي خاص؛ فهو لا يعتمد على البحوث العلمية النزيهة، ولا يلتزم في تأويله لبعض الوقائع ما يجب أن يتصف به العالم من خصائص الموضوعية وروح النقد والتحرر من التعصب.

وبما أن العالم العربي يجتاز في الوقت الحاضر مرحلةً دقيقة من مراحل نموه وتطوره، وخاصةً أن هذا التطور في صوره الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المختلفة يتناول المرأة وموقفها من حركات التطور؛ فإنه يتحتَّم علينا أن نبحث فيما إذا كانت الفوارق الجسمية الموجودة بين الجنسَين تؤثِّر أو لا تؤثِّر في تنظيم الحياة العائلية، وأساليب التربية، ومختلف أوجه النشاط الاقتصادي والاجتماعي.

ولكي نضع هذه المشكلة في صيغةٍ واقعية ملموسة تُطرَح الأسئلة الآتية:

هل حِرمان المرأة من ممارسة بعض المِهن الخاصة الآن بالرجال، يرجع إلى عدم قدرتها الفطرية على القيام بأعمال هذه المِهن، أو إن اعتقادنا بأنها تفتقر إلى هذه القدرة يرجع إلى أنها حتى الآن لم تسمح لها الظروف، وخاصةً تعسُّف الرجل، بأن تُنافس الجنس الآخر في القيام بهذه الأعمال؟

هل ترجع النسبة الكبيرة من أساطين العلم والأدب والفن والسياسة من الرجال، إلى أن فرص التعليم والبحث والتفكير والإبداع وما إليها لم تُتَح للنساء كما أُتيحَت للرجال، أو إن هذا التفاوت الكبير بين الجنسَين فيما يختص بعدد العباقرة يرجع أيضًا إلى ما يوجد بينهما من فوارق فطرية؟

لماذا تميل البنت مثلًا إلى بعض الألعاب دون غيرها؟ لماذا تحب الفتاة أن تقرأ خاصةً القصص الغرامية، في حين أن الصبي تجذبه قصص المغامرات؟ هل يرجع هذان الاتجاهان المختلفان إلى ضغط البيئة أم هناك اختيارٌ تلقائي لنوع القراءات؟

كل هذه الأسئلة وما شابهها جديرةٌ بأن تبحث بطريقةٍ جدِّية نزيهة. يجب أن نستبعد أولًا الآراء الشائعة في الفوارق بين الجنسَين؛ فقد تكون هذه الآراء مجرد تقرير لأوضاعٍ اجتماعية مُصطنَعة، بل يجب أن نتَّجه شطر البحوث العلمية التي أُجريَت في هذا الميدان؛ غير أنه ينبغي أن نذكُر أن البحوث التي يمكن الاعتماد عليها حديثة لا يرجع تاريخها إلى أكثر من ثلاثين سنة، وهي فترةٌ قصيرة في حياة علم معقَّد كعلم النفس، وليس من السهل دائمًا تأويل نتائج هذه البحوث؛ وذلك لأسبابٍ كثيرة، منها تعدُّد العوامل التي تؤثِّر في النمو النفسي والاجتماعي، وتشابُك هذه العوامل بطريقةٍ معقَّدة، بحيث يصعب الوقوف على مدى التأثير الذي تُحدِثه البيئة في تكوُّن شخصية الفرد وتشكيلها؛ ثم إن البحوث التي تُجرى لقياس سمة من السمات العقلية، أو صفة من الصفات الخُلقية، لا تتناول إلا مجموعةً صغيرة من الأفراد إذا قِيسَت بمجموع السكان، ثم لو فرضنا أن عدد أفراد هذه المجموعة يكفي لضمان صحة النتائج، فهل في إمكاننا دائمًا أن نقطع بأن هذه المجموعة تُمثل حقًّا المجموع الكلي؟

ولنضرب مثلًا لبعض الدراسات المُقارنة التي تتناول توزيع نِسب الذكاء بين الذكور والإناث؛ فقد دلَّت بعض البحوث على أن مدى توزيع درجات الذكاء أوسع في الذكور منه في الإناث؛ أي إننا نجد عند طرفَي السُّلم عددًا أكبر من الذكور؛ أي إن درجات الإناث تميل إلى التكتل حول الوسط، في حين نجد عددًا من الذكور عند الطرف الأعلى الخاص بالعبقرية، وعند الطرف الأدنى الخاص بالبُلهاء والمعتوهين، ثم بالرجوع إلى عدد النُّزلاء في المستشفيات العقلية، وعدد الذين يُعرَضون للفحص في العيادات السيكولوجية، وُجِد أن عدد الذكور أكبر من عدد الإناث.

هل تُفسِّر لنا هذه النتائج التفاوت المُشاهد الآن بين الجنسَين من حيث التفوق في العلوم؟ ففريق من السيكولوجيين يؤيِّدون هذا الرأي، في حين أن غيرهم يرون أن الأنظمة الاجتماعية القائمة الآن تجعل التنافس بين الذكور في مجال العمل أشد من التنافس القائم بين الإناث، ويؤدِّي هذا التنافس الشديد إلى الكشف عن عددٍ كبير من ضعاف العقول، في حين أن في إمكان ضعيفات العقول أن يجدن عملًا في مجالاتٍ لا تكون فيها المنافسة شديدة كالأعمال المنزلية مثلًا.

ولا تزال المناقشة قائمة حول هذا الموضوع الهام؛ فهناك نتائج لاختباراتٍ سيكولوجية تؤيِّد الرأي القائل بزيادة تشتُّت نِسب الذكاء في الذكور، بينما تدحض نتائج أخرى هذا الرأي، وتسمح بالقول بأن الذكاء في مجموع السكان موزَّع بدرجاتٍ مُتعادلة بين الرجال والنساء، وأن التفاوت المُلاحظ بينهم من حيث الإنتاج والتفوق يرجع فقط إلى الأوضاع الاجتماعية، وأن تغيير هذه الأوضاع كفيلٌ بتحقيق تكافؤ الفرص للجميع.

رأينا من واجبنا أن نلفت الأنظار إلى العقبات التي تعترض الدراسة المقارنة بين الرجل والمرأة، وعلينا أن نتسلَّح بروح النقد العلمي النزيه في عرض هذا الموضوع الهام؛ إذ عليه تترتَّب نتائج خطيرة في كيفية تحقيق النظام الاجتماعي الذي يتلاءم مع طبيعة الإنسان، ويضمن لكلٍّ من الرجل والمرأة السعادة الحقة.

(٢) الخصائص الجسمية

لسنا في حاجة إلى أن نُثبِت وجود فوارق جسمية بين الجنسَين؛ فإن الاختلافات القائمة بينهما من حيث الشكل والتركيب الجسمي واضحة. هناك اختلافاتٌ أدق من حيث الوظائف الفسيولوجية والتركيب الكيميائي للسوائل العضوية، وترجع هذه الاختلافات في أصلها إلى التركيب الدقيق للخلايا لكلٍّ من الذكر والأنثى؛ فمن المعلوم أن نواة الخلية تحتوي على عدد من العوامل الوراثية المختلفة التي تُعيِّن الخصائص الجسمية، ومنها الخصائص التي تُميِّز بين الجنسَين.

فإذا نظرنا مثلًا في وزن الجسم، فنجد أن متوسط الوزن عند الولادة أكبر عند الذكر منه عند الإناث بمقدار ٥٪، وتصل هذه الزيادة عند الشهر العشرين إلى ٢٠٪؛ غير أن سرعة النمو في كلٍّ من الجنسَين مختلفة؛ فالصبي يحتفظ بتفوقه في الوزن حتى سن الحادية عشرة، ثم تأخذ النسبة في الهبوط، حتى إن في سن الرابعة عشرة تفوق البنت الصبي في وزن جسمها بمقدار ٥٪، ثم يسترجع الصبي تفوقه ابتداءً من سن السادسة عشرة حتى تصل نسبة التفوق إلى حوالَي ٢٠٪ في سن العشرين.

أما فيما يختصُّ بطول القامة، فالنمو يسير وفقًا لسير النمو في وزن الجسم، غير أن نسبة الزيادة أو النقصان أقل؛ فطول القامة عند الذكور أكبر منه عند الإناث من الولادة حتى سن الحادية عشرة، ولكن بنسبة ٢٪ على الأكثر، ثم تنعكس هذه النسبة بين الحادية عشرة والرابعة عشرة، فتفُوق البنت الصبي في طول قامتها بمقدار ٢٪، ويقف النمو في الطول لدى الفتاة حوالَي سن السابعة عشرة، في حين أنه يستمر لدى الفتى حتى سن العشرين، فيفُوق الفتاة في طول قامته بمقدار ١٠٪.

وليس ما يدعو إلى التنبيه بأن هذه الأرقام هي متوسطات تنطبق على المجموعة ككُلٍّ، وقد لا تنطبق على فرد بالذات؛ أي إن هناك تداخلًا أو تطابقًا بين مُنحنيات التوزيع لمقاييس الوزن والطول، وإن الاختلافات المُشاهدة بين الجنسَين قد توجد بين أفراد من الجنس الواحد.

وكذلك نجد الصبي يفوق البنت من حيث القوة العضلية، ويفوقها في القوة العضلية لقبضة اليد اليمنى بمقدار ١٠٪ في سن السابعة، ثم تستمر الزيادة حتى سن العشرين حتى تصل إلى ٥٠ أو ٦٠٪، في حين أن نمو القوة العضلية في البنت يميل إلى التوقف عند سن السادسة عشرة، ويسير نمو القوة العضلية في سائر الأعضاء على نفس هذا المنوال.

كما لُوحِظ أيضًا أن استجابة الصبي العضلية أشد منها في البنت؛ فهو أميل إلى الحركة وإلى النشاط العضلي الخارجي.

وربما يرجع هذا التفاوت في النشاط العضلي إلى الفرق الموجود بين الجنسَين من حيث سعة التنفس، أو ما يُسمِّيه العلماء بالمقدرة الحيوية، وهي تُقاس بكمية الهواء التي يحتفظ بها الشخص في رئتَيه؛ فالقول بأن المقدرة الحيوية عند الصبي أكبر منها عند البنت يُفيد أنه يستنفد كميةً أكبر من الأكسجين، وهو من مصادر الطاقة في الجسم، وممَّا يُعين الشخص على مواصلة مجهوده مدةً أكبر. ولا شك في أن تفوق الصبي في المقدرة الحيوية يُفسِّر لنا الفوارق التي نُشاهدها بين الجنسَين في اختيار ألعابهم وقدرتهم على إتمام التحصيل ومواصلة النشاط واختيار نوع هذا النشاط؛ فتفوُّق الصبي في المقدرة الحيوية يبلغ ٧٪ في سن السادسة، ومن ١٠ إلى ١٢٪ في سن العاشرة، حتى يصل إلى ٣٥٪ في سن العشرين. وممَّا هو جدير بالملاحظة أن النسبة بين القدرة الحيوية ووزن الجسم تكون دائمًا أكبر في الذكور وفي جميع الأعمار؛ ومعنى هذا أن بالقياس إلى وزن جسمه فإن الرجل يستهلك كميةً أكبر من الوقود، ويُنتِج كميةً أكبر من الطاقة.

وممَّا لا شك فيه أن تفوُّق الرجل في القوة العضلية والمقدرة الحيوية والقدرة على التحمل، من العوامل الهامة التي يجب اعتبارها عندما نتناول بالتفسير ما يُلاحَظ على الرجل من نزعةٍ قوية نحو العدوان والسيطرة في العلاقات الاجتماعية؛ ولكن يجب في الآن نفسه عدم إغفال ما قد يكون للتربية من أثرٍ بليغ في توجيه هذه النزعة وإعلائها.

أما فيما يختصُّ بسرعة النمو والسير نحو اكتمال النضج، نُلاحِظ أن البنت تفُوق الصبي في هذا المجال؛ ففي جميع الشعوب وفي جميع مناطق الأرض تصل البنت إلى البلوغ قبل الصبي، وهي تتقدَّم عليه بمقدارٍ يتفاوت بين اثنَي عشر وعشرين شهرًا، وكذلك تفُوق البنت الصبي في سرعة نمو هيكلها العظمي، وفي ظهور الأسنان، وفي قدرتها على المشي، وسوف نرى أنها تفوقه من حيث القدرة على تعلُّم الكلام، كما أننا نتساءل ما إذا كان سرعة النمو من الوجهة الجسمية يستتبع حتمًا سرعة النمو من الوجهة العقلية.

وممَّا هو جدير بالذِّكر أن تفوُّق البنت في سرعة نموها يبدأ منذ الحياة الجنينية، أي قبل الولادة؛ فهي عند الولادة أكثر نضجًا من الصبي، وعلى العموم تكون مدة الحمل للأولاد الذكور أطول بقليل من مدة الحمل للأولاد الإناث.

وهناك اختلافٌ واضح بين الجنسَين من حيث التعرض للأمراض، ومن حيث القدرة على مقاومة أسباب الموت. إننا نعلَم أن عدد النساء في العالم أكثر من الرجال بنسبة ٢٪ تقريبًا، وقد دلَّت الدراسات الإحصائية من جهةٍ أخرى أن عدد الذكور في المرحلة الجنينية أكبر من عدد الإناث بمقدار ٣٠٪ تقريبًا، غير أن حالات الوفاة في الأجِنَّة الذكور أكثر بكثير منها في الإناث، ولكن على الرغم من ذلك تفُوق نسبة المواليد الذكور على الإناث بمقدار ٦٪ تقريبًا، فكيف نُعلِّل زيادة نسبة الإناث في مجموع السكان البالغين؟ بالرجوع إلى كشوف الإحصاء الخاصة بعدد الوفَيات تبعًا للأعمار المختلفة، نُلاحِظ أن نسبة الوفيات لدى الأطفال الذكور أكبر من نسبتها لدى الأطفال الإناث؛ ومعنى هذا أن البنت الصغيرة أقل تعرضًا للأمراض من الصبي، وأقدر منه على تحمُّل الإصابات ومقاومة الأمراض. وقد أدَّت الدراسة المقارنة إلى أن عوامل البيئة لا تكفي لتفسير هذا التفاوت، وأن السبب المُهيِّئ له يرجع إلى العوامل الوراثية التي تُعيِّن الفوارق بين الجنسَين؛ فالتركيب الكروموزومي للأنثى يحتوي على كروموزومَين «ص»، في مُقابل كروموزوم «ص» وكرموزوم «س» لدى الذكر، والثاني أضعف من الأول؛ فإذا وُجد في أحد الكروموزومَين «ص» لدى الأنثى مورثٌ رديء يُهيِّئ ظهور مرض أو عاهة، فقد يبطل تأثيره بفضل مورث جيد يوجد في الكروموزوم «ص» الآخر، أما في الذكر فقد لا يوجد في «س»، وهو الكروموزوم الضعيف، ما يُقاوم أثر بعض المورثات الرديئة التي يحتويها «ص».١

وهذا التفاوت بين الإناث والذكور في القدرة على مقاومة أسباب المرض والموت، يُشاهَد أيضًا لدى الحيوانات؛ فالذكر بوجهٍ عام معرَّض أكثر من الأنثى للإصابات المرَضية والعاهات الجسمية، وربما يوجد سببٌ آخر لهذا التفاوت غير السبب الوراثي، وهو أن عمليات الهدم الكيميائية الفسيولوجية مُتغلِّبة في الذكر على عمليات البناء.

ومن جهةٍ أخرى نُلاحظ أن الذكر يفُوق الأنثى في ثبات وظائفه العضوية، كدرجة حرارة الجسم وعمليتَي الهدم والبناء والتركيب الكيميائي ومستوى السكر في الدم. والمدى الأكبر لاختلال الثبات النسبي في العمليات الفسيولوجية لدى المرأة، يُفسِّر لنا كثرة تعرُّض المرأة للإغماء ولاختلال التوازن في إفرازات الغدد الصمَّاء؛ وبالتالي للتقلبات المزاجية. وسنُفصِّل القول في هذا الموضوع عند كلامنا عن طبيعة المرأة من الوجهة الجسمية والنفسية.

(٣) الخصائص الحسية والحركية

أُجريَت التجارب في معامل علم النفس الفسيولوجي لقياس حدَّة الإحساس للحواس المختلفة لدى الرجل والمرأة، وأسفرت هذه التجارب عن نتائج تكاد تكون مُتعادلة بين الجنسَين، فلا يوجد فرقٌ يُذكَر فيما يختصُّ بالإحساس بالحرارة، أو بالضغط على سطح الجلد، أو التقدير اللمسي لمساحة السطوح، أو الإحساس الشمي أو السمعي؛ غير أن المرأة تفُوق الرجل في القدرة على تمييز طعم المالح والحلو والمر والحامض، وهي دونه فيما يختصُّ بالتمييز العضلي بين الأثقال؛ غير أن هذه الفروق طفيفة جدًّا ليست لها أهميةٌ عملية. أما الفرق الواضح بين الجنسَين من الوجهة الحسية، فهو خاص بالإبصار وبالقدرة على تمييز الألوان؛ فمن الثابت اليوم أن عمى الألوان أكثر انتشارًا لدى الرجال منه لدى النساء، وذلك بنسبة ٨ إلى ١، وعمى الألوان عاهةٌ وراثية، منه العمى الكلي وهو نادر، ومنه العمى الجزئي وهو أكثر انتشارًا، خاصةً فيما يختصُّ باللونَين الأحمر والأخضر. والشخص المُصاب بعمى الألوان الكلي يُدرِك العالم الخارجي كما نُدرِك الصورة الفوتوغرافية غير الملوَّنة، والتي تحوي فقط درجات الرمادي من الأسود إلى الأبيض. أما الشخص المُصاب بعمى الألوان الجزئي، فإنه يرى بعض الألوان دون غيرها؛ فلا يُميِّز مثلًا بين الأحمر والأخضر أو بين الأزرق والأصفر فيخلط بينهما، غير أنه في حياته العادية قد لا يتأثَّر كثيرًا بهذا النقص؛ إذ إنه يتعرَّف الأشياء بخصائصها الحسية الأخرى كالشكل، وخاصةً درجات النصوع؛ أي كمية الضوء الذي تعكسه الأشياء. ودرجات النصوع تختلف باختلاف الألوان، كما تختلف باختلاف درجات الرمادي.

وقد يوجد أن عمى الألوان موجود في الرجال بنسبة ٤٪، في حين أن هذه النسبة في النساء لا تفُوق ١/ ٢٪.

وتفُوق المرأة الرجل في القدرة على تمييز الألوان، وتمييز فروق دقيقة بين درجات اللون الواحد، ويُشاهَد هذا الاختلاف في البالغين من الجنسَين، وربما يرجع تفوُّق المرأة إلى كثرة تدريبها في استخدام الألوان في أعمال التطريز والتريكو وحياكة الملابس، غير أن هذا الاختلاف يُشاهَد أيضًا منذ الطفولة عندما يُقارَن بين أطفال من سنٍّ واحدة من الجنسَين، ويرجع تفوُّق البنت على الصبي في سنٍّ واحدة إلى تقدُّم البنت من حيث النضج العضوي، غير أن تأخُّر الصبي لا يستمر بالنسبة نفسها، بل هو يقترب تدريجًا من متوسط قدرة البنت ويرتفع فوق هذا المتوسط في سن السادسة عشرة أو السابعة عشرة؛ وذلك لأن البنت في هذه السن يُوشِك نموها الجسمي أن يكتمل، في حين لا يزال الفتى يُواصل نموه حتى سن العشرين.

نستنتج مما سبق أن الاختلافات بين الجنسَين في المجال الحسي ضئيلةٌ جدًّا، فيما عدا القدرة على تمييز الألوان، وحتى في هذه القدرة الأخيرة التي تكون فيها البنت مُتفوِّقة على الصبي، فإن هذا التفوق ينعكس عند سن السادسة عشرة، كما يجب أن نذكُر أن هذه القدرة تتأثَّر إلى حدٍّ كبير بالممارسة والتمرين.

تكلَّمنا حتى الآن عن القدرات الحسية كلٍّ على حِدَة في ضوء تجارب خاصة تُجرى في المعمل. أما إذا انتقلنا إلى الحياة العملية التي يعتمد فيها النشاط على تضافُر القدرات الحسية والعقلية، فإن المقارنة تصبح شاقَّةً عسيرة لتدخُّل عدد كبير من العوامل؛ غير أن هناك بعض نتائج ثابتة جديرةٌ بالذِّكر. ففيما يختصُّ بالأعمال التي تتطلَّب إدراكًا سريعًا للتفاصيل، وانتقال الانتباه من جهة إلى جهةٍ أخرى، فإن المرأة تفُوق الرجل تفوقًا ملحوظًا، وقد وُجِد هذا التفوق في الاختبارات التي تتطلَّب المقارنة السريعة بين كشفَين من الأسماء أو من الأرقام؛ ممَّا جعل علماء النفس يعتقدون أن المرأة أصلح من الرجل للقيام بأعمال السكرتارية والوظائف الكتابية.

أما فيما يختصُّ بالأعمال التي تتطلَّب إدراك الخصائص المكانية، أو تصوُّر هذه الخصائص، فإن تفوُّق الرجل ثابتٌ بلا جدال، وهذا يُفسِّر لنا تفوُّقه في القدرات الميكانيكية. ولكن البنت الصغيرة تفُوق الصبي في المهارة اليدوية؛ فهي قادرة على ارتداء ملابسها، والقيام بالحركات اليدوية الدقيقة في سنٍّ مُبكرة عن سن الصبي، ومن هذه الأعمال نذكُر عقد العُقَد والفيونكات ومعالجة الأزرار ربطًا وفكًّا وأشغال الخرز … إلخ من الأعمال التي تتطلَّب سرعةً وحذاقة في تحريك أطراف الأصابع، وفي أثناء الحرب الأخيرة لُوحِظ تفوُّق العاملات في المصانع في الأعمال التي تتطلَّب سرعة الحركات ودقتها، كأعمال الفرز وأعمال تركيب الأجزاء والقِطع الصغيرة.

والآن ننتقل إلى مجال الألعاب الرياضية، وليس غرضنا التحدث عن الألعاب المفضَّلة لدى كل جنس من الجنسَين، بل المقارنة بينهما فيما يختصُّ بالقدرات الحركية في بعض الألعاب، كالسباق والقفز إلى الأمام والقفز إلى أعلى والرمي؛ فقد أُجريَت اختبارات في جامعة كليفورنيا على مجموعة من المُراهقين والمُراهقات مدة ثلاث سنوات، تتبَّع خلالها المُجرِّب أفراد المجموعة ابتداءً من سن الثالثة عشرة، وقد أسفرت النتائج عن تفوُّق البنين على البنات. غير أن الأمر الذي يسترعي الانتباه هو أن البنين يتقدَّمون باستمرار مع السن، في حين أن تقدُّم البنات يقف عند سن الرابعة عشرة ثم ينخفض قليلًا، ويرجع هذا الاختلاف في نسبة التقدم وشكله إلى عوامل نفسية لا مجرد عوامل جسمية، كالقوة العضلية أو المقدرة على تحمُّل التعب الجسمي مثلًا؛ ففي سن المراهقة تأخذ الجاذبية بين الجنسَين تقوم بدورها، فتُدرِك البنت أن مجال القوة العضلية ليس مجالها، وإذا تفوَّقت في هذا المجال فلن يُثير هذا التفوق إعجاب زميلها، كأن الأعمال العنيفة تُقلِّل من جاذبيتها وتُسيء إلى أنوثتها الناشئة، بينما يُدرِك الفتى أن إظهار القوة وتفوُّقه في ميدان الألعاب الرياضية من العوامل التي تُثير إعجاب زميلته به، ويؤدِّي التنافس بين المُراهقين إلى زيادة حماسهم؛ ممَّا يجعلهم يُقبِلون على التمرينات الرياضية ومزاولة الألعاب التي تتطلَّب القوة والشجاعة.

فهناك إذن بجانب العامل الجسمي عامل الاهتمام وتأثير الدوافع النفسية. نعم إن ما يطرأ في سن المُراهقة من تغييراتٍ فسيولوجية نتيجة لتنشيط الغدد الجنسية يؤثِّر في بعث الاهتمامات المختلفة لدى الجنسَين، غير أنه يجدر بنا ألا ننسى العوامل الحضارية والثقافية التي قد تُغيِّر من هذه الاهتمامات، أو بالعكس تعمل على تثبيتها؛ ولذلك يجب دائمًا أن نُراعي في مقارنتنا بين الجنسَين البيئة الاجتماعية الخاصة، وما تتميَّز به هذه البيئة من مُعتقَدات وعادات وتقاليد، وستُتاح لنا الفرصة للعودة إلى هذه النقطة الهامة في كلامنا عن أثر العوامل الاقتصادية والحضارية في تكوين الشخصية.

(٤) القدرات العقلية

كثيرًا ما يشكو المرء من طبعه، في حين لا نسمعه إلا نادرًا يشكو من ذكائه، والطالب الذي يرسُب في الامتحان يتَّهم المُمتحِن بالتحيز والتحامل عليه، وعندما تحتدُّ المناقشة بين شخصَين، ويعجِز أحدهما عن إقناع الآخر، فلا يجد مَخرجًا للموقف سوى أن يرمي الآخر بالغباوة وعدم الفهم. والواقع أن اعتزاز المرء بذكائه وفطنته أمرٌ ملحوظ، وعندما يُصرِّح بأنه غبي فتصريحه هذا هو ضرب من الإثبات في صورة النفي. وتشتدُّ المُفاضلة حول الذكاء بين الجنسَين؛ فالرجل يعتقد أنه أذكى من المرأة، والمرأة تعزُو هذا الاعتقاد — وهو اعتقادٌ خاطئ في نظرها — إلى كبرياء الرجل وعجرفته.

وقبل أن نُحاوِل البتَّ في هذا الإشكال، يجب أن نذكُر أنه ليس من اليسير تعريف الذكاء ومعرفة طبيعته؛ هل هو قدرةٌ عامة على التفكير المنطقي وإدراك العلاقات، أم هو مجموعة من القدرات؟ هل يكفي للحكم على ذكاء شخص أن نُجري عليه أحد اختبارات الذكاء المعروفة، وأن نقول مثلًا إن نسبة ذكائه ١٠٠ أو ١١٠ أو ١٢٠؟ وما معنى هذا التقدير الكمي؟ وما هو المقصود بقولنا إن فلانًا أذكى من فلان؟

إن هذا الموضوع من أشق موضوعات علم النفس، وأكثرها عُرضة للتأويلات المُتناقضة؛ فمعظم الاختبارات التي استُخدمت لقياس الذكاء بقصد المقارنة بين الجنسَين، كانت اختباراتٍ لفظيةً تعتمد في بعض أجزائها على اختبار المعلومات، ومن المعلوم أن بعض الموضوعات لا تُثير الاهتمام نفسه لدى الفتى والفتاة، ثم يجب مراعاة البيئة الثقافية التي تختلف في بلدٍ واحد متأثرةً بعوامل جغرافية واقتصادية كالبيئة الريفية والبيئة الحضرية، بيئة المناطق الجبلية في مُقابل بيئة السواحل … إلخ. وحتى في المدينة نفسها توجد بيئاتٌ مختلفة من حيث المستوى الاقتصادي، ومن حيث وسائل التعليم، وأساليب الترفيه وقضاء أوقات الفراغ … إلخ. لنأخذ مثلًا الاختبارات التي أجراها العالم السيكولوجي الأمريكي المشهور ثورنديك على مجموعةٍ كبيرة من طلبة وطالبات المدارس العليا في نيويورك؛ فقد أسفرت النتائج لثلاثة اختبارات مُتعادلة عن تفوقٍ ملحوظ للطلبة على الطالبات، وقد وجدت نفس النتيجة في تطبيق اختبار الذكاء للجيش الأمريكي، المعروف باختبار ألفا، ولكن بالرجوع إلى تحليل مواد هذه الاختبارات وُجِد أن الفرق بين الجنسَين لا يقوم على فرق في القدرة الطبيعية، بل على اختلاف في الاهتمام وفي فرص تحصيل بعض المعلومات. وعلى العكس من هذه النتائج، فقد أسفرت اختباراتٌ أخرى عن تفوُّق البنات على البنين، وقد لُوحِظ أن العامل المُساعد لتفوُّق البنات هو العامل اللفظي واللغوي؛ إذ إنه أصبح من المؤكَّد اليوم أن البنت بوجهٍ عام تفُوق الصبي في قدرتها على تعلم اللغة واستخدامها.

أما إذا راعى واضع الاختبارات إبعاد العوامل التي تُساعد جنسًا دون الآخر، كما هو الحال في اختبار استنفورد بينيه المُعدل سنة ١٩٣٧، فلا يوجد أي فرق يُذكَر بين الجنسَين من حيث الذكاء العام.

هذا ولا يزال مفهوم لفظ الذكاء، كما هو مُستخدَم في عبارة «اختبارات الذكاء»، مفهومًا غامضًا لا يخلو من الالتباس؛ ولذلك اهتم علماء النفس بقياس القدرات الخاصة التي تشترك في أداء اختبارات الذكاء اللفظية، ومن هذه القدرات نذكُر القدرة اللفظية أو اللغوية، التذكر، القدرة المكانية والميكانيكية، القدرة العددية، وأخيرًا القدرة الفنية، وخاصةً القدرة الموسيقية. وسنعرض الآن لهذه القدرات المختلفة، مُبتدئين بالقدرة اللفظية أو اللغوية؛ ففي هذه القدرة يتفوَّق دائمًا البنات على البنين، وذلك منذ الطفولة حتى سن البلوغ. وقد وجدت بعض النتائج المُعارضة لهذا التقرير، غير أن الاختلاف يرجع إما لتدخُّل عوامل عرَضية لم يفطن لها المُجرِّب، أو إلى نوع المعلومات الواردة في الاختبار، والتي قد تُساعد جنسًا دون الآخر. وعندما نتتبَّع نمو الوظيفة اللغوية لدى الطفل نُلاحِظ أن البنت تتكلَّم قبل الصبي، وأنها تفُوقه في عدد الكلمات التي تستخدمها أو التي تفهمها؛ ففي سن سنة ونصف تكون النسبة المئوية للكلمات المفهومة لدى البنت ٣٨٪، في حين أنها ١٤٪ فقط لدى الصبي؛ وفي سن سنتَين ٧٨٪ لدى البنت، و٤٩٪ لدى الصبي. وكذلك تسبق البنت الصبي في تركيب الجمل، وفي تعلُّم القراءة، وفي القدرة على ضبط مخارج الحروف وتوضيح مقاطع الكلام. وبهذه المناسبة يجب أن نذكُر أن البنت أقل تعرضًا للتهتهة وعيوب النطق من الصبي، وتحتفظ البنت بتفوُّقها اللغوي في جميع مراحل الدراسة؛ فهي أسرع في القراءة وفي تمارين تكملة الجمل الناقصة أو القصص الناقصة، كما أنها أغزر مادة لفظية في كتابة موضوعات الإنشاء. ووجدت مثل هذه النتائج التي تؤيِّد تفوُّق البنت في القدرة اللفظية واللغوية في الاختبارات التي أُجريَت على الزنوج والصينيين واليابانيين وسكان جزيرة هواي.

أما فيما يختصُّ بالقدرة على التذكر، فالفرق بين الجنسَين ضئيل، وإن كان غالبًا في جانب البنت، خاصة في تمارين التذكر المنطقي التي تعتمد على استخدام اللغة وفهمها. ومن المسلَّم به أيضًا أن المرأة تفُوق الرجل في تصوراتها الذهنية البرَّاقة اللامعة، غير أنه لا يمكن البتُّ فيما إذا كان يرجع هذا الفرق إلى الخصائص الجنسية أم إلى نوع الأعمال التي تقوم بها المرأة.

ننتقل الآن إلى القدرة المكانية والميكانيكية؛ فإن نتائج الاختبارات تؤيِّد تفوُّق البنين على البنات في هاتَين القدرتين، غير أن هذا التفوق لا يظهر إلا ابتداءً في سن الخامسة. ومن الاختبارات التي استُخدمت نذكُر فهم العلاقات الميكانيكية، اختبارات المتاهة، لوحة الأشكال الهندسية، فتح الصناديق ذات الأقفلة المعقَّدة؛ فكل هذه الاختبارات تقتضي من الشخص تصوُّر العلاقات في المكان في اتجاهَين أو في الاتجاهات الثلاثة. غير أن البنت تتفوَّق على الصبي في الاختبارات الميكانيكية التي تتطلَّب المهارة والسرعة في حركات الأصابع أكثر من التصورات المكانية. وقد يُعزى تفوُّق البنين في القدرة الميكانيكية إلى نوع الألعاب التي تُقدَّم لهم وهم أطفال، غير أنه يمكننا أن نقول إن الفرصة لا يمكن أن تُثير الاهتمام وأن تضمن تواصُله إلا إذا كان هناك استعدادٌ فطري، وما يُقال عن الألعاب الميكانيكية التي تُقدَّم للبنين يُقال عن العرائس والألعاب المنزلية التي تُقدَّم للبنات؛ فهناك دائمًا تجاوُب بين الفطرة والبيئة، مع التسليم بما تمتاز به طبيعة الإنسان من مرونة وقابلية للتعديل.

وكذلك نجد البنين يتفوَّقون على البنات في القدرة الحسابية والرياضية بوجهٍ عام، وخاصةً في حل المسائل الحسابية والهندسية. أما فيما يختصُّ بالعمليات الحسابية الأولية من جمع وطرح وضرب وقسمة، فالفروق بين الجنسَين تكاد تكون معدومة.

وقد أُجريَت بعض الاختبارات للمقارنة بين الجنسَين من حيث القدرات الفنية، وخاصةً القدرة الموسيقية؛ فقد وُجد أن رسومات البنات تحوي عددًا أكبر من التفاصيل من رسومات البنين. ويُشاهَد هذا الفرق في الطفولة، أما مع تقدُّم السن فإنه يصبح من المُتعذِّر المقارنة بين الجنسَين لتدخُّل عوامل التمرين.

أما فيما يختصُّ بالتذوق الفني والحكم الفني، فقد وُجد أن المرأة تتفوَّق على الرجل تفوقًا ذا دلالة وإن كان يسيرًا، سواء تناوَلَ الحكمُ الفني التصويرَ أو الموسيقى.

أما القدرة الموسيقية أو الاستعداد لتعلم الموسيقى، فلا يوجد فرق يُذكَر بين الجنسَين، والأفراد الموهوبون في مجال الموسيقى لا ترجع موهبتهم إلى التمرين أو إلى الإقامة في جوٍّ فني، بل إلى العوامل الوراثية.

ونختتم هذا العرض بكلمةٍ مُوجَزة عن التحصيل المدرسي؛ فمن الثابت تفوُّق البنات على البنين في التحصيل والنجاح في الامتحانات، ومن أسباب هذا التفوق نذكُر تفوُّق البنت في القدرة اللغوية؛ في جمال خطها ووضوحه، وفي بعض السمات الخلقية مثل الطاعة والهدوء والخضوع لنظام المدرسة، وتحصينها خارج المدرسة ضد عوامل التشتت وضياع الوقت.

(٥) الميول والاتجاهات

من مظاهر الشخصية المُرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسلوك الانفعالي والاجتماعي الاتجاهاتُ العاطفية نحو الأشياء والأعمال والأشخاص؛ أي ما يحب المرء وما يكره، وما يجذب اهتمامه، وعلى العكس ما لا يُثير الاهتمام، بل ما يُحدِث ابتعادًا ونفورًا. ولا شك في أن التربية التي يتلقَّاها الطفل في مجتمعه الخاص، والأمثلة التي تُثير ميله إلى التقاليد والمحاكاة، من أهم العوامل التي تخلق هذه الاتجاهات التي تُميِّز فردًا عن غيره من الأفراد. ومن الواضح أن هناك بعض الاتجاهات التي تُميِّز بين الجنسَين، ولمعظم هذه الاتجاهات المختلفة أساس في الفروق الجنسية، غير أن الأوضاع الاجتماعية والتقاليد والآراء السائدة تعمل على تنمية هذه الاتجاهات وتثبيتها.

ويجب أن نُشير في بدء هذا الحديث إلى أن معظم الدراسات التي تناولت هذا الموضوع أُجريَت في الولايات المتحدة، وقيمة هذه الدراسات لا تتجاوز البيئة الأمريكية أو الغربية بوجهٍ عام، وقد يجوز تطبيقها في محيطنا الشرقي بقدر أوجُه الشبه القائمة بينه وبين المحيط الغربي، وبقدر اشتراك أفراد الجنس البشري في طبيعةٍ أصلية واحدة، تمتدُّ حدودها إلى العوامل البيولوجية التي تُميِّز بين الذكور والإناث.

تناولت هذه الدراسات ميول الأطفال من الجنسَين في ميادين شتَّى من النشاط، كاللعب والرسم التلقائي واختبار موضوعات الإنشاء والأدب والحديث والهوايات والقراءات وأفلام السينما وبرامج الراديو واختيار المِهن والأهداف والمُثل العليا، وقد أدَّت هذه الدراسات إلى إبراز فروق ذات دلالة إحصائية بين الجنسَين. وممَّا هو جدير بالذِّكر أن هذه البحوث لم تأتِ في الغالب بنتائج جديدة كل الجِدة، بل أيَّدت الآراء الشائعة التي تتلخَّص فيها الخبرة اليومية، والمعلومات التي يجنيها الإنسان من ممارسته للحياة.

لنأخذ مثلًا الألعاب المفضلة لدى جنس دون الآخر، نجد أن البنين يميلون إلى الألعاب التي تتطلَّب بذل الجهد والنشاط، والتي تقتضي القوة والمهارة العضلية، خاصةً في الألعاب المنظَّمة التي تقوم على المنافسة، ككرة القدم والملاكمة والمصارعة والألعاب الميكانيكية والصيد والتجديف. أما ألعاب البنات فهي أميل إلى الهدوء، وإلى محاكاة الأعمال المنزلية والمدرسية. كما لُوحِظ في رياض الأطفال أن البنين يميلون إلى اللعب بمواد البناء، في حين أن الرسم وصنع التماثيل بالبلاستين من الألعاب المحبَّبة لدى البنات.

وهناك بلا شك طائفةٌ من الألعاب مشتركة بين الجنسَين. وقد وُجد أن أكبر نسبة للفروق بين الجنسَين تقع في الفترة بين السن الثامنة والحادية عشرة، وبعد هذه السن يأخذ التشابه يزداد مع تقدُّم السن. غير أنه لُوحِظ أن ألعاب البنين أكثر تنوعًا من ألعاب البنات.

وقبل الانتهاء من الحديث عن الألعاب، نودُّ أن نذكُر بعض النتائج الطريفة عن نوع من النشاط يجمع بين اللعب والجد، وهو الاهتمام بالمجموعات؛ فالبنات يمِلن إلى جمع الصور وقطع الأقمشة أكثر من البنين، أما البنين فيميلون أكثر إلى جمع طوابع البريد وقطع الأحجار والصخور.

والفروق واضحة أيضًا فيما يختصُّ باختيار كتب القراءة؛ فالكتب التي تستهوي البنين هي التي تُصوِّر المغامرات العنيفة والرحلات والاستكشافات والأخبار العلمية وتراجم الأبطال من الرجال. أما البنات فيمِلن إلى قراءة قصص الحب والغرام، والمغامرات اللطيفة التي يكون أبطالها من الأطفال، وتراجم المشهورات من النساء، وبوجهٍ عام الكتب التي تصف ألوان النشاط النسائي المختلفة.

وهذه الاختلافات في الميل نحو بعض الموضوعات موجودة أيضًا فيما يختصُّ بالروايات السينمائية وبرامج الراديو، وكذلك برامج الدراسة؛ فالبنين أميَل إلى دراسة العلوم والرياضيات والتاريخ، والبنات إلى دراسة اللغات والمواد التجارية والموضوعات الدينية، غير أن هذا الاختلاف في الميل نحو المواد الدراسية ليس ثابتًا باستمرار؛ فقد يتغيَّر بتأثير شخصية المُدرس ومنهجه.

ننتقل الآن إلى اختبار الجنسَين في مجال العمل والمهنة. وقد أدَّت البحوث إلى أن البنين يؤثِرون الأعمال التي تقتضي درجةً أكبر من المسئولية، والتي تتضمَّن درجةً أكبر من المخاطرة والمشقَّة، بشرط أن يُعوِّض ذلك أجرٌ مرتفع، كما يؤثِرون وضع الخطط بدلًا من تنفيذ خطة يضعها الآخرون، وأن يكونوا قادة بدلًا من أن يكونوا تابعين لغيرهم. والبنات بوجهٍ عام على العكس من البنين، وقد لُوحِظ أن اهتمامهن بالأشخاص أكبر من اهتمامهن بالأشياء؛ ولذلك نجد النساء ينجحن أكثر من الرجال في المؤسَّسات الاجتماعية التي ترعى المرضى والفقراء، وتعتني خاصة بحالتهم المعنوية.

ولا يفوتنا أن نذكُر البحوث الطريفة التي أُجريَت للوقوف على الموضوعات التي يتناولها الرجال والنساء في محادثاتهم، في الأندية والحفلات والشوارع وغيرها من الأماكن العامة، وكان تسجيل الأحاديث يجري بدون علم المُتحدثين، فوُجد أن الموضوعات الأكثر تداولًا على ألسنة الرجال هي المسائل المالية والأشغال والأعمال التجارية والألعاب الرياضية، في حين أن النساء يتناولن في أحاديثهن غيرهن من النساء، وبوجهٍ عام الأشخاص دون الأشياء، فيما عدا اهتمام المرأة المعروف بكل ما يتصل بالأزياء والمَلبس.

غير أن هناك عاملًا هامًّا يُقرِّب بين الجنسَين، من حيث موضوعات الحديث واختيار موضوعات القراءة في المجلات والصحف، وهو عامل الاشتراك في مهنةٍ واحدة كالطب أو المحاماة؛ فقد وُجد أن الاختلافات بين الجنسَين في هذه الحالة أقل من الاختلافات الموجودة بين أفراد الجنس الواحد؛ ممَّا يُشير إلى أثر البيئة والمهنة في توحيد الاتجاهات بين الجنسَين. ويُلاحَظ في بعض الاختبارات التي أُجريَت على البنين والبنات لمعرفة ميولهم المهنية، أنهم مُتأثِّرون إلى حدٍّ كبير بما يعتقده المجتمع ويأخذ به في تقسيم المِهن والأعمال بين الرجال والنساء؛ غير أن هذا لا ينفي أثر بعض القدرات والميول الفطرية التي تُوجِّه جنسًا في اتجاهٍ ما بطريقةٍ واضحة؛ فالمرأة بوجهٍ عام تؤثِر الأعمال التي تسمح بها بإبراز قدرتها اللغوية وإرضاء نزعتها الاجتماعية إلى العناية بالأشخاص أكثر من عنايتها بالأشياء.

ونختتم هذه الفقرة بالإشارة إلى موقفِ كلٍّ من الرجل والمرأة من القيم الحضارية الكبرى، وتناول أحد البحوث القيم الست الآتية: القيمة النظرية العلمية – الاقتصادية – الفنية – الاجتماعية – السياسية والدينية. وأسفرت نتائج هذا البحث على أن المرأة أكثر استجابة من الرجل للقيم الفنية والاجتماعية والدينية، في مُقابل القيم النظرية والاقتصادية والسياسية. وهذه النتائج مؤيِّدة لما سبق أن وضَّحناه، كما أنه لُوحِظ أن عامل المهنة مهم جدًّا؛ فهو كما قلنا من عوامل التقريب بين الجنسَين، وكثيرًا ما يكون أثره أقوى من أثر الفروق الجنسية القائمة على الفطرة والطبيعة، ولكن من حقنا أن نطرح السؤال الآتي: ألا يتم هذا التقارب بين الجنسَين بتأثير المهنة الواحدة على حساب سعادة المرأة واتزانها الانفعالي؟

(٦) التكيُّف الاجتماعي

لا يختلف الأشخاص بعضهم عن بعض في القدرات الحسية والحركية والعقلية فحسب، بل يختلفون أيضًا في أخلاقهم واتجاهاتهم الاجتماعية وقدرتهم على المثابرة وضبط النفس.

قد سبق أن أشرنا إلى أن المرأة أكثر استجابة للقيم الفنية والاجتماعية والدينية، وسنذكُر الآن نتائج أحد البحوث المشهورة التي أُجريَت في مجال السمات الخلقية، وهو البحث الذي تناول عشرة آلاف من الأطفال، وكان غرضه المقارنة بين الجنسَين في السمات الخلقية الأربع الآتية: الخداع أو الغش، ثم التعاون والإقبال على خدمة الآخرين، ثم القدرة على الصبر والمثابرة، وأخيرًا القدرة على ضبط النفس.

ولضمان صدق النتائج كان الغرض الحقيقي من الاختبار مجهولًا من الأشخاص المُختبَرين، ورُوعِي هذا الشرط خاصة في اختبار الخداع والغش. ومن خصائص هذا الاختبار أن يُطلَب من التلاميذ تصحيح أعمالهم المدرسية سواء في الفصل أو في المنزل، اتباع بعض التعليمات أو عدم اتباعها، كأن يستعين الشخص ببصره مع أن المطلوب عمل التمرين أو القيام ببعض الحركات أثناء اللعب دون الاستعانة بالنظر … إلخ. وكانت نتيجة هذا الاختبار أن نسبة حالات الغش والخداع كانت أكبر لدى البنات في معظم التمرينات. وقد لا يرجع هذا الاختلاف إلى فساد الخُلق، بل المرجَّح أن البنت قد تشعر بضعفها في مجال التنافس مع الصبي، فتلجأ إلى الغش والكذب لتعويض هذا الضعف، ولإرضاء نزعتها إلى الظهور والتفوق.

وإذا كانت نتائج هذا الاختبار تُميِّز البنين على البنات، فعَلى العكس من ذلك نجد البنات يتفوَّقن على البنين في السمات الأخرى، وهي التعاون والمثابرة وضبط النفس. وكانت أكبر نسبة للاختلافات بين الجنسَين في اختبار ضبط النفس، وهذا يُفسِّر لنا نجاح البنت في تحقيق التكيُّف المدرسي أكثر من زميلها.

ويمكننا أن نستقي بعض المعلومات عن التكيُّف الاجتماعي من نسبة عدد الجرائم والمخالفات القانونية لدى الجنسَين؛ فالنتيجة التي تؤيِّدها جميع الإحصاءات التي عملت في هذا الميدان هي أن نسبة الرجال أكبر بكثير من نسبة النساء، إلا في نوعٍ واحد من الجرائم، هي الجرائم والمخالفات الجنسية. ولا شك في أن ظروف الحياة لدى الرجل تُعرِّضه لارتكاب الجرائم والمخالفات أكثر من النساء؛ نظرًا لشدة التنافس بينهم. غير أن هناك عاملًا آخر يُفسِّر لنا هذا الاختلاف الكبير في عدد الذين تصدُر ضدهم الأحكام القضائية؛ فقد تبيَّن أن القضاة أكثر تسامحًا مع النساء المتَّهَمات منهم مع المتَّهَمين من الرجال.

على كل حال، فالواقع أن نسبة الإجرام في الرجال أكبر، وكذلك نسبة البنين من الأطفال المُشاكسين المُشكلين سواء في المدرسة أو في المنزل. ومن التصرفات السيئة التي يرتكبها البنين أكثر من البنات، نذكُر الهروب من المدرسة والتجول في الشوارع، الاعتداء على ممتلكات الغير، السرقة، تحدي السلطة والانقلاب على النظام، أعمال القسوة والمشاجرة، والعدوان العنيف.

وفضلًا عن أن هذه الحالات أكبر عددًا في البنين منها في البنات، فقد لُوحِظ أن عددها أكبر أيضًا في كل طفل على حِدَة من الصبيان، وأن معالجة الاعوجاج في البنت أيسر من معالجته في الصبي.

ومن بين العوامل التي ترجع إليها زيادة حالات السلوك المُشكل لدى البنين، العاملُ البيولوجي الذي يجعل الصبي أميَل إلى الاعتداء أو السيطرة من البنت. ونقصد بالعامل البيولوجي إفرازات الغدد الجنسية لدى الذكر؛ فقد دلَّت التجارب التي أُجريَت على الحيوانات، كما دلَّت دراسة حالات تأخر نضج الغدد الجنسية لدى الذكور، أن سلوك العدوان والسيطرة والعنف مرتبط بكمية الإفرازات الداخلية للغدد الجنسية.

وبما أن ميل الصبي إلى العدوان والمُشاجرة يظهر منذ الطفولة الأولى وفي رياض الأطفال، فلا بد أن يكون لتفوُّق الصبي في القوة العضلية والنفسية شأنٌ في إثارة العدوان والسيطرة. غير أن العوامل البيولوجية لا تعمل وحدها، بل تجد ما يؤيِّدها ويُثبتها في الأوضاع الاجتماعية والمُعتقَدات السائدة عن كلٍّ من الجنسَين؛ فالأم تنصح ابنتها بألا تتشاجر مع الصِّبيان، وفي الوقت نفسه تُبدي إعجابها بابنها الصغير لأنه جريء يدفع عنه عدوان الآخرين بقوة وشجاعة، فما هو مشهور عن الصبي أو عن البنت في بيئةٍ ما يُشكل إلى حدٍّ كبير سلوك الأطفال لكي يُحقِّقوا في أنفسهم الصورة التي يتصوَّرها المجتمع عنهم. فهذا الإيحاء الجمعي شديد الأثر في الأطفال، خاصةً أنه يعمل عمله بطريقةٍ خفية مُتواصلة.

ومن اختبارات الشخصية التي طُبِّقت على البالغين من الرجال والنساء، اختبار برنرويتر Bernreuter الذي يقيس السمات الآتية: الحالات العصبية – الاكتفاء الذاتي – الانطواء – السيطرة – الثقة بالنفس – الصفة الاجتماعية.

وقد وُجد أن النساء أكثر عُرضة للمخاوف والحالات العصبية، أكثر انطواءً وخضوعًا، وأخيرًا أكثر ميلًا للتجمع والتعاون الاجتماعي؛ في حين أن الرجال أكثر اكتفاء وثقة بأنفسهم، وأكثر ميلًا إلى السيطرة.

ونجد في بحثٍ آخر مقارنةً تفصيلية بين البنين والبنات من حيث الحالات العصبية؛ فالحالات الآتية نِسبتها أكبر لدى البنات: مص الأصابع، قضم الأظفار، نوبات الغضب، اضطرابات النوم، وأخيرًا المخاوف على اختلاف أنواعها، وخاصةً الخوف من الحشرات والحيوانات والظلام والأمكنة العالية. أما في البنين فالنسبة أكبر في الحالتَين الآتيتين: بل الفراش ليلًا، واضطرابات الكلام والنطق.

إن كل هذه النتائج تؤيِّد بطريقةٍ تجريبيةٍ ما هو شائع في الآراء العامة عن طباعِ كلٍّ من الرجل والمرأة، والاتفاق هنا بين النتائج التجريبية والآراء الشائعة أكبر من الاتفاق في مجال القدرات العقلية؛ فقد سبق أن ذكرنا أن لا فرق بين الجنسَين في الذكاء، وأن الفروق التي تُشاهَد من حيث الإنتاج الفكري يرجع إلى حدٍّ كبير إلى عدم تكافؤ الفرص في المجتمع.

أما سبب الاتفاق بين العلم والرأي العام فيما يختصُّ بالسمات الخُلقية، فهو أن هذه السمات الخلقية تتأثَّر أكثر في الصفات العقلية بتأثير البيئة والتربية؛ فقد دلَّت بعض الدراسات التي تناولت القبائل البدائية على أن النظام الاجتماعي ونظام توزيع العمل بين الجنسَين قد يُخفِّف إلى حدٍّ كبير من نزعة الرجل إلى الاعتداد والسيطرة، في حين يزيد المرأة عدوانًا وسيطرة. ولكن على الرغم من تأثير البيئة والتربية، فهناك بعض الخصائص الطبيعية التي تُميِّز بين الرجل والمرأة من الوجهات البيولوجية والنفسية والاجتماعية، وأن هذه الخصائص الطبيعية تحدُّ من تأثير البيئة؛ فالتربية المثالية هي التي تعتمد على التُّربة الأصلية مُحاولةً تنمية الاستعدادات الفطرية وتهذيبها وإعلائها، بحيث تتَّفق مع القيم السامية التي تُكافح الإنسانية في سبيلها؛ قيم العدالة والمحبة.

١  راجع بهذا الصدد مقالنا «الجنسية من الوجهة البيولوجية في ضوء المنهج التكاملي»، الفقرة السادسة، ص٢٥، في «الكتاب السنوي في علم النفس»، لعام ١٩٥٤، ص٩–٢٨، منشورات جماعة علم النفس التكاملي، الناشر دار المعارف بمصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤