الرسالة السادسة عشرة

من جون جراهام في شفايتزركاسينهوف بكارلسباد بالنمسا إلى ابنه بييربون في يونيون ستوك ياردز بشيكاجو. بعد أن بدَت على السيد بييربون أعراض بسيطة للإصابة بالعُجْب والغرور، وفي هذه الرسالة يُعطيه والده بعض العلاجات البسيطة.

***

١٦

كارلسباد، ٦ أكتوبر …١٨٩

عزيزي بييربون، لو التقيتَ مُصادفة بالدكتور تيذرينجتون، فحريٌّ بك أن تُخبره أن يبدأ التدريب؛ لأنني حين أعود سأكون قويًّا بما يكفي لأُصارعه وأُجهِز عليه. فما بين رحلة المركب التي استغرقت عشرة أيام والتي أوصاني بها وما بين زيارة الأطباء الهولنديِّين، فإنني على وشك أن تطيب علَّتي، وعلى وشك الإفلاس أيضًا. ليس على المرء فعلًا أن يتحمَّم بالمياه المعدنية هنا ليتخلَّص من الروماتيزم — ذلك لأن الفواتير التي يُرسِلونها إليك ستجعل الروماتيزم يُغادر جسدك فزِعًا.

يقولون إن رحلتنا في المحيط كانت هادئة للغاية، وأنا لا أُنكر ذلك؛ لأنني خلال الأيام الثلاثة الأولى كنتُ مشغولًا بتثبيت نفسي على سريري في السفينة لدرجةٍ منعَتْني من النظر من النافذة لأتأكَّد بنفسي. أظنُّ أنه ما من مخلوق على وجه الأرض يُمكنه أن يشعر بدوار البحر أكثر منِّي، إلا إن كان جَمَلًا له مَعِدات ثلاث.

حين تمكَّنت بالفعل من الخروج من غرفتي، بدوت وحيدًا غريبًا — ذلك لأن جميع العجائز على متن السفينة كانوا يلعبون القمار في غرفة التدخين وجميع الشباب كانوا يتسكعون بالقرب من القوارب على متن السفينة — حتى اكتشفت أن السفينة تحمل على متنها مائتي عجلٍ صغير. وبدت على تلك العجول أمارات قوية للحنين إلى الوطن، لو تدري! وأظنُّ أنهم قد أدركوا أنني من أبناء شيكاجو الأُصَلاء؛ ذلك لأننا قد تآلفنا من اللحظة الأولى. بوجهٍ عام، كانت مجموعة من العجول المبشِّرة بالخير إلى حدٍّ بعيد، وقد غمرَتني راحة كبيرة من وجودهم. لا بدَّ أن قيمتَهم المالية كبيرة أيضًا؛ لأنهم وصلوا إلى إنجلترا في حالةٍ مُمتازة.

أتمنَّى لو كان بوسعك أن تُخبر موظَّفينا في ذا بيف هاوس أن ينظروا في مسألة تصدير القطعان تلك، وأن يُجهِّزوا لي جميع الوثائق والأرقام المتعلِّقة بالأمر لأطَّلِع عليها حين أعود. إذ يبدو لي أن المسألة تحمل هامش ربحٍ جيدًا، وفي ظلِّ وجود فرع لشركتنا في إنجلترا، أرى أننا مُستعدُّون لإدارتها جيدًا وتحقيق ذلك. إنني أشعر باستياءٍ شديد حين أُفكِّر أننا نجلس على مؤخِّراتنا ونترك الآخرين يستأثرون بتلك التجارة. أعرف أننا نَشتغِل بتصنيع اللحوم، ولكن ليس ثمَّة ما يَمنعنا عن الاشتغال بشحن قطعان المواشي أيضًا. إنني أرغب في الاستفادة من البهائم حتى آخِر قطرة فيها. والمرء لا يُمكنه أن يشتغل بتجارة اليوم دون أن يُلِمَّ بجوانبها كلها. لا يزال في القمة مُتسعٌ لا يُوجَد في أيِّ مكانٍ آخر.

قد تُوجَد أسباب لعجزنا عن الدخول في مسألة تصدير الماشية الحية، ولكن عليك أن تُخبر موظَّفينا في ذا بيف هاوس أن تلك الأسباب لا بدَّ أن تكون وجيهةً لدرجةٍ تُبرِّر تفويت هذا الربح العظيم الذي أراه فيها. قد تكون هذه الأسباب قد فاتَتني بطبيعة الحال؛ إذ إنني لم أنظر في أمر هذه التجارة إلَّا قليلًا على سبيل الاسترخاء، ولكنَّني لن أكتفِيَ بسَماع أسبابٍ من قبيل أن هذه التجارة ليست في نطاق عملِنا وتجارتنا؛ لأنَّ كل ما يدرُّ الربح ويَمشي على أربع هو من صميم تجارتنا.

وأنا أُسهب قليلًا في الحديث عن هذا الأمر لأنه يقع في صميم اختصاصِك بشكلٍ عام، حتى وإن كانت تفاصيله ليسَت ضمن مسئولياتك. إنَّ الطريقة المُثلى للتفكير في أي شيءٍ في التجارة هي بتأمُّله أولًا، وطريقة الحصول على حصة من التجارة هي أن تسعى للحُصول عليها كلها. تدور نصف المعركة حول الوصول إلى القمة أولًا؛ والنِّصف الآخر حول البقاء عليها. وبالحديث عن هذه الأمور، وبالكتابة لك عن وظيفتك الجديدة، أكون قد تجاوَزتُ وضعك الحالي قليلًا؛ لأنني أعتمد على ذكائك في استيعاب ما سأقوله لك. ولكن عليك أن تفهم بوضوحٍ أنني لا أكتب لك بصفتي رئيس الشركة، وإنما بصفتي رب الأسرة، ولا أريد الخلط بين الأمرَين.

عليك أن تفهم أنك إلى الآن لم تتبوَّأ بعدُ أيَّ منصبٍ ذي شأن في الشركة، حتى بعد ترقِّيك إلى منصب مساعد مدير قسم شحوم الخنزير. غير أن المشكلة الكبيرة التي تُواجه بعض الناس هي أنهم يُصابون بالغرور بعد أن يُحقِّقوا قدرًا ضئيلًا من النجاح. وبدلًا من أن يُنَحُّوا سلطتهم جانبًا ويُحاولوا التقرب من مرءوسيهم، يستخدمونها كهراوةٍ لإبعادهم. والرئيس المُتكبِّر يملأ مكتبه بمرءوسين فاسدين.

لا أعرف شخصًا يحظى بفُرَصٍ لتشويه صورتِه بيده أكثر من رجلٍ يتولى منصب مُساعد مدير؛ ذلك لأن الموظَّفين يَميلون إلى صبِّ اللعنات عليه عن كلِّ ما رأَوه من المُدير مِن وضاعة، والمدير سيُحمِّله مسئولية أي أخطاءٍ يقع فيها المُوظَّفون. فإن هو شرح أوامره للمُوظفين سيفقد سُلطته، وإن برَّر موقفه للمُدير سيَفقد جدواه. ذلك لأن المدير يبحث عن مساعدٍ ليُواجِه المشاكل نيابةً عنه، لا ليجلبها إليه.

الأمر المُهمُّ أن تذكُره طوال الوقت هو ألا تنسى. فالأسهل على المدير أن يقوم بأمرٍ بنفسه على أن يطلُب من شخصٍ مَرتَين أن يفعله. والتفاصيل الصغيرة تحتلُّ في رأس أي مديرٍ نفس القدْر الذي تشغلُه الأفكار الكبيرة؛ وكلَّما زاد ما تحمِله عنه من التفاصيل الصغيرة، زادت المساحة التي تُتيحها في رأسه للأفكار الكبيرة. حين يُضطرُّ مديرٌ إلى قضاء أيامِه في سبِّ ولعن مُساعده، ويُضطر المُوظَّفون لقضاء لياليهم في كراهيته، فإن هؤلاء الموظفين لن يلبثوا أن يَصبُّوا جام كراهيتهم على الشركة. وعليك أن تعرف أن الرضا هو وقود ماكينة التجارة.

بعض الرجال لا يرى إلا مَن هم دُونه، والبعض الآخر لا يرى إلا مَن هم فوقه، أما الرجل الذكي فلَه عينان تنظران في الاتجاهَين معًا، وبوسعه أن ينتبِه للطرفَين في الوقت ذاته. والمساعد الذي يتحوَّل إلى الذراع اليُمنى لمديره سيجد أن الذِّراع اليُسرى تُساعده أيضًا؛ وليس من الصعب على المُوظَّف أن يجدَ مزايا في مديرٍ يجدُ فيه مزايا. فتسلُّق الجبال يصبح سهلًا إذا كان هناك مَن يشدُّك مِن أعلى ومَن يدعمك مِن أسفل.

عند إدارة البشر، عليك أن تعرف أن مشاعرك أنت هي المشاعر الوحيدة التي لا تَحمل أي أهمية. ولا أقصد بذلك أن تُضحِّي باحترامك لذاتك، وإنما أن تضَع في اعتبارك أنه كلَّما كبر المنصب الذي يتولَّاه المرء، كبرت معه الشخصية التي ينبغي أن يتحلَّى بها ليملأه. وكلما زادت لياقتُك ومُراعاتك لمشاعر الآخر، كنت أجدرَ بمنصب المدير.

بطبيعة الحال، سيستغرِقُ كلَّ هذا الكثير من الوقت والتفكير، لدرجةٍ لن تترك لك مساحةً كبيرة للعب الجولف؛ خصوصًا بعد الظهيرة. وأنا أذكر هذا الأمر عَرَضًا لأنني أرى في جرائد شيكاجو التي تُرسِل إليَّ أنك كنتَ من بين اللاعبين في مباراة للجولف ذات يومٍ بعد الظهر قبل أسبوعَين. الجولف لعبة غبيَّة ومُمتعة في نفس الوقت، ولا بأسَ منها، على حدِّ علمي، إلَّا فيما يتعلَّق بالكرات؛ الكرات الصلبة في البداية، والكرات الضائعة في المنتصف، والأيادي المُرتفعة بكئوس الشراب بعد الجولات. ولكن الشابَّ الذي يرغب في أن يتبوَّأ منصب الريادة في تجارة اللحوم لا يَملك من الوقت ما يُضيِّعه في أي ساحاتٍ وملاعب، إلا ساحات إعداد النقانق.

من حقِّ كل رجلٍ أن يحظى بمساحةٍ من الترفيه في حياته، تمامًا كما يحقُّ لكلِّ صبيٍّ أن يحظى بقطعةٍ من فطيرة حلوة بعد أن يتناول غداءه؛ ولكن لا يُسمَح له أن يقتصر في وجبته على الفطيرة وحدَها. وكل مَن يترك الحلوى تحلُّ محلَّ الخبز واللحم في وجباته سيُصاب بالأمراض في سنٍّ صغيرة للغاية؛ ومَن لا عمل لهم إلَّا تبديد أموال آبائهم يُشبهون إلى حدٍّ كبير الصغار المشاركين في مسابقة أكل الفطائر في معرض المقاطعة؛ من جهة أنَّ لدَيهم الكثير من المخبوزات ويحظَون باهتمامٍ كبير، إلَّا أنَّ ألمًا شديدًا في المعدة يكون في انتظارهم مع الوقت.

وهنا أريد أن أُحذِّرك من أن تسمح لجرثومة المجتمع الراقي أن تسكن عقلك. بل إنني أُفضِّل على ذلك لو دخَّنت تلك السجائر التركية التي تُشبه رائحتها رائحة حريقٍ في مصنعٍ للأسمدة. ستُقابل في مسار عملك في التجارة كلَّ يومٍ قدرًا كبيرًا من الحمقى الشاردين، ستُقابلهم فُرادى فلا تُتعب نفسك بالبحث عن قطعانهم بعدَ هبوط الظلام.

كلُّ من أقابلهم هنا في أوروبا يظنُّون أننا لا نملك أي مجتمعٍ راقٍ في أمريكا، وقدْر هائل من الناس في نيويورك يظنُّون أننا لا نَملك أي مجتمعٍ راقٍ في شيكاجو. ولكن على حدِّ عِلمي، يُوجَد قدر من الرجال معدومي القيمة الذين يُنفقون أموالًا هائلة في كل مكان؛ والقواعد التي تحكم هذه اللعبة تبدو متشابهةً في الأماكن الثلاثة — عليك أن تكون سليل عائلةٍ غنية لتَنتمي إلى هذا المجتمع الراقي، وكلما زاد بُعد نسبك عن تلك العائلات، زادت صعوبة انتمائك لذلك المجتمع. الفرق الوحيد هو أنه في أوروبا، الشخص الذي صنَع من المال ما يكفي لتكون أُسرتُه غنية قد مات منذ زمنٍ بعيد لدرجة أن الأسرة نسيَت مهنته؛ وفي نيويورك فقد مات ولكن منذ فترة وجيزة لا تسمح لهم بنسيان مِهنته؛ ومن ثم فهم يدَّعون أنهم قد نسوها؛ أما في شيكاجو، فلا يُمكنهم نسيانه، لأنه لا يزال حيًّا يُكابد بالعمل في مجلس التجارة أو في ستوك ياردز. وأودُّ أن أقول هنا إنني لا أودُّ أن أُحسَب من الأسلاف إلا بعد موتي. حينها، إن كنتَ ترغب في أن تجعل فتًى كان جدُّه يبيع الويسكي الفاسد للهنود يُشمشِم بأنفه ويَشتَمُّ رائحة لحم الخنزير حين تدخل إلى الغرفة، فلك ما تشاء.

بالطبع قد أكون مُبالِغًا في حُكمي على الأمر؛ لأنه خارج نطاق معرفتي. ولكنَّني من واقع خبرتي أعلم أن مَن يظنُّون أنفسهم أفضل قِطَع اللحم من الذبيحة، وأننا جميعًا نُشبه قِطَع اللحم التي لا تصلح إلا لصُنع النقانق، عادةً ما يتبيَّن لك حين تضعهم تحت سكين الاختبار أنهم ليسوا سوى شريحةِ لحمٍ قُطعت من الرقبة. وقد تعاملتُ مع اثنين أو ثلاثة من هذه الفئة من البشر في العمل في مكتبي، بعد أن انتهى بهم الحال إلى الإفلاس، ووجدتُ أنك حين تَفصلهم عن أموالهم لا يبقى منهم شيء، حتى أصدقاؤهم.

وفي كل مرةٍ أرى فيها رجلًا يُحاول أن يتسلَّل إلى داخل المجتمع الراقي أو أن يَشتري لنفسه موطأ قدمٍ فيه، أتذكَّر على الفور صديقي القديم هانك سميث وزوجته كيت — التي كان اسمها كيت بوتس قبل أن يتزوَّجها — وكيف حاوَلا أن يشقَّا طريقهما للوصول إلى الطبقة العُليا.

قضيتُ أنا وهانك فترةَ صِبانا في ميزوري، وظل مُقيمًا في البلدة القديمة بعد أن تركتها أنا. كانت أخباره تصِلني من آنٍ لآخر، أحيانًا بأنه يعمل في متجرٍ وأحيانًا بأنه يعمل مُزارعًا، وكثيرًا ما يكون من دون عمل. ثم نسيتُ بشأنه تمامًا إلى أن ظهر ذات يومٍ قبل سنواتٍ قليلة في الصحف على أنه الكابتن هنري سميث، «ملك الذهب» في كلوندايك، العائد لتوِّه من سيركل سيتي، وفي جعبته ذهبٌ قيمتُه مليون دولار أو أكثر. ليس ثمة حدٌّ لما يمكن أن تكون عليه قيمة صاحب منجم الذهب في تلك الأيام، إلا حدود خيالِه هو.

انتابني شيء من الحيرة حين أحضَرَ لي الساعي بعد أسبوع بطاقةً مكتوبًا عليها الكولونيل هنري أغسطس بوتس-سمايث، ولكنَّني ظننتُ أنها بطاقة لشخصٍ أجنبي رفيع الشأن جاء ليُقيِّمني حتى يتمكن من ذِكر حكاية يُحكم بها سخريته من شيكاجو ونوادرها في كتابه الجديد، وأخبرتُ الفتى أن يُدخِل الجنرال.

إن ذاكرتي تسعفني إلى حدٍّ كبير في تذكر الوجوه، وكنتُ قد اشتريتُ من هانك الكثير من التبغ في شبابي لدرجةٍ لا تَسمح لي أن أنسى وجهَه، حتى بعد أن أصبح حليقًا ويَرتدي قبعةً عالية. بعض الرجال لا تظهر عليهم أمارات النجاح، أما هانك، فقد كانت تتدفَّق من كل جزءٍ فيه. وقال لي إنه جنى قدرًا هائلًا من المال، وإنه قد سَئِم من العيش على هامش الحياة؛ وإنه بعد أن قضى كل حياته يُلبي همسات المال ناهيك عن نداءاته، فإنه سيَذهب الآن إلى المكان الذي يَصرُخ فيه المال بعلوِّ صوته. وتساءل، ما جدوى أن يكون المرء من المُتكبِّرين إذا لم يكن أكثر الناس تكبرًا. وقال لي إنه اشترى بيتًا في حي «بيكون هيل» الراقي في بوسطن، وإن منزله قريبٌ من باك باي لدرجة أني لو أرهفتُ السمع من آنٍ لآخر فسأسمع فُرَص صناعة الثروات. وأعطاني بطاقته الجديدة أربع مرات، وشرح لي أن امتلاك المرء لاسمَين يُعطيك أفضلية، ويحمِل المُنتفِخين على الاستسلام لك حين تُظهِر كافة أوراقك. كما أخبرني أن لقب بوتيس هو اللغة الإنجليزية القديمة لبوتس، وأن اسم سمايث هو الاسم الأمريكي الجديد لسميث؛ وأن أغسطس هو لمسة راقية فقط، شيءٌ يجعل له اليد العُليا نوعًا ما.

لم أشرَح وجهة نظري في أيِّ شيءٍ لهانك؛ ذلك لأن ما كان يُريد أن يسمعه هو التهاني وليس الشروح، وأنا أهتمُّ دائمًا بأن أقدِّم لكل زبونٍ المنتجاتِ التي جاء باحثًا عنها. ولم أسمع أيضًا التفاصيل الكاملة لتجاربه في الشرق، رغم أنه كما عرفتُ فيما بعدُ قد حقَّق نجاحًا باهرًا في بوسطن.

وقد اختار موضع منزله في بيكون هيل، بين منزلٍ واحدٍ من سلالة مايفلاور ومنزل أحد أبناء أحفاد المُوقِّعين على إعلان الاستقلال؛ أي من سلالات البشر الذين يَعتقدون أن الربَّ حين خلقَهم أحَسنَ خِلقتَهم، وحين خلقَنَا نحن سائرَ الناسِ، خلَقَنا دون قصد وتروٍّ. ولم يكن قد مكث في البلدة ساعتَين حتى بدأ في إدخال تحسينات عليها. فقد كان هناك سورٌ من الحديد المُطاوع أمام منزله، وكان أول ما فعله هو طلاء هذا السور؛ لأنه، على حدِّ قوله، لا يُدير قَبْوًا للموتى ولا يرغب في وقوع أيِّ أخطاء. ثم اشترى عربةً أنيقة مفتوحة تجرُّها الخيول، وطلى العجلات باللون الأحمر، وعيَّن رجلًا أسود لقيادتها، وانطلق متأنقًا ليُكوِّن علاقاتٍ اجتماعية ويتعرَّف على مَن حوله. وترك بطاقة أعماله في كل مكانٍ على أحد جانبي شارع بوسطن، ثم عاد تاركًا إيَّاها على الجانب الآخر. وفي كل مكان كان يقف فيه، كان يكتشف أن الأُسرة بأكملها قد خرَجَت من المنزل. واصلَ المحاولة لمدة أسبوع، بشكلٍ مُتقطع، ولكن الحظَّ لم يُحالفه. ظنَّ في نفسه أن الرجال لا بدَّ مُولعون بالرياضة والنساء مولَعات بالتنزُّه؛ ومن ثمَّ لا يمكثون جميعًا في البيوت كثيرًا. وقدَّر أنهم لا بد أكثر الكائنات المُفعمة بالحياة التي قابلَها في حياته. قرَّر أن يكفَّ عن محاولة الإمساك بكلِّ واحدٍ منهم على حدة، وخطَّط لشيءٍ ظنَّ أنه سيجعله يجمع الناس كلهم.

أرسل هانك ألف بطاقة دعوة لِما أطلَق عليه الافتتاح الكبير لمنزله؛ وترك دعوةً في كل منزل على بُعد ميلٍ من منزله. وأحضر جوقة من العازفين على آلات النَّفخ على السلالم الأمامية للبيت، ووضع ألعابًا نارية على السطح. وطلب أربعين برميل شرابٍ من المصنع، واستأجر ساقيًا أنيقًا ليُعدَّ المشروبات الروحية الخفيفة، كما أطلق عليها، للسيدات. يقولون لي إنه حين بدأت الجوقة العزف على السلالم الأمامية وانطلقت الألعاب النارية على السطح، حتى بيكون ستريت نفسه نظر من النوافذ ليرى ما يحدُث. لا بد أن الشارع كان به عشرة آلاف شخص على الأقل، ولكن البيت لم يكن به سوى هانك وزوجته والساقي. صاح أحد الحضور طالبًا من صاحب الحفلة أن يُلقي خطبة، ثم بدأ الجمع بأكملِه يندمج في المطالبة بخطاب، حتى خرَج هانك على السلالم. وأسكت الجوقة بإشارة من يده، وأوقف الألعاب النارية بإشارةٍ من الأخرى. وقال إن إلقاء الخطب ليس من دَيدنه؛ وإنه كان يعيش على كرات الجليد في كلوندايك فترةً طويلة للغاية لدرجة أن أنبوب الغاز الخاص به كان مُتجمدًا؛ وأن هذا الترحيب الجميل قد أدَّى إلى سقوط الجليد، وأنه يرى أن احتساء بعض الشراب يُساهم في إذابة الجليد بين الناس، وقال إنه قد دعا بضعة أصدقاء لقضاء الأمسية معه، ولكن يبدو أنهم نسوا الموعد، وإنه يكره أن يرى كل الأشياء الجميلة التي اقتناها للحفل تفسد بين يدَيه.

وأثناء حدوث ذلك كله، كان سليل مايفلاور يتَّصل بالشرطة من جانب، وابن حفيد المُوقِّع على إعلان الاستقلال يتَّصل بالشرطة من الجانب الآخر، وبمُجرَّد أن بدأت الجموع في الصياح والدخول إلى المنزل، وصلت عربتان للشرطة مُحمَّلتان بالجنود. غير أنهم اضطرُّوا إلى الاتصال بمُكافحة الشغب واستدعاء قوات الاحتياط قبل أن يتمكَّنوا من فضِّ حفل الشاي الصغير الذي أعدَّه هانك.

تحقَّق لهانك في نهاية المطاف ما كان يُريده في الأساس — ألا وهو جمع جيرانه مرةً واحدة، وإن كانت بُغيته قد تحقَّقت في موعدٍ لا يتَّفق تمامًا مع الموعد الذي ضربه لها. وفي صبيحة اليوم التالي امتلأ قسم الشرطة بالكثير من أبناء العائلات الرفيعة المقام وأحفادِهم ليُوجِّهوا التُّهَم إليه، لدرجةٍ بدا المشهد وكأنه اجتماع للمِّ شمل الآباء الحُجاج. وفرَض القاضي على هانك غرامةً لارتكابه ستة عشر جريمة، ووجه له إنذارًا رسميًّا بألا يُفسد السِّلم العام لمائة عامٍ قادمة. وفي ظهيرة نفس اليوم، غادَرَ مُتجهًا إلى الغرب في عربة خاصَّة؛ لأن القطار السريع نفسه لم يصل إليه بالسرعة المطلوبة. ولكنه قبل أن يَرحل، ألصق على الباب الأمامي لمنزله لافتة كُتب عليها:

«الجيران الذين اتصلوا بالشرطة لإنهاء الحفل، أرجو ألا تُلقوا بالحجارة على النوافذ للفتِ الانتباه. أنا لست بداخل المنزل ولن أكون. فقد عُدت إلى سيركل سيتي لأنعم ببعض الهدوء.»

المخلص
هانك سميث
«ملحوظة: اسمي أبسط من أن تفهموه.»

مرَّ هانك بمكتبي لمدة دقيقةٍ في طريقه إلى فريسكو. وقال إنه رغم حُبه الشديد للأماكن المُفعَمة بالحيوية، فإن بيكون هيل مليئة بالصخب لدرجةٍ لا تُطاق. ورأى أن الجموع التي حضرت دون دعوةٍ كانت لطيفة واجتماعية أكثر من اللازم، والجمع الذي تلقَّى الدعوة بالفعل كان سيَمكُث أسبوعًا في بيته لولا اللَبس الذي حدث في موعد الحفل. ربما كانت تلك فكرة بوسطن، ولكنه كان يحتاج قليلًا من التصحيح على فكرته هو. قال لي إنه يحبُّ أن يُنفق على راحته، وإنه كان سيُحسِن التعامل مع المواقف والتحديات لولا أنه يكره الدناءة. بالطبع أخبرتُ هانك أن بوسطن لم تكن رائعة للدرجة التي تدفع إلى تدريس تاريخها في المدارس، وأن سيركل سيتي ليست قاسية كما يُكتب عنها في الصحف؛ ذلك لأنني لم يكن لديَّ أدنى أملٍ في أن أجد طريقة تجعله يفهم أنه لو كان قد عاش في بوسطن مائةَ عامٍ فلم يكن سيتلقَّى أي دعوة لحُضور مجالس عِلية القوم. يُمكن للرجل أن يحفر طريق الثراء في جليد الدائرة القطبية، ولكن هذا لن يجعله بالضرورة ذا شأنٍ في حي باك باي.

وأنا أذكر هانك هنا عَرَضًا وبشكلٍ عام. فحالته قد تكون مختلفة قليلًا، ولكنها ليست أكثر غرابة من حكايات الكثير من الآخرين ممن هم حولك في شيكاجو ومن هم حولي هنا. بالطبع أريدُك أن تكون عضوًا في مجتمعٍ محترم، ولكن أي مجتمع يكون جيدًا إذا التقى فيه رجال ونساء مُتوافِقون ليحظَوا بوقتٍ طيب. كل ما هنالك أنَّني أريدك أن تبتعِدَ عن الأشخاص الذين يختارون اللعب ليكون مِهنتَهم. فإن الفتى من يقول ها أنا ذا، وليس الفتى من يقول كان أبي.

والدك المحب
جون جراهام

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤