الفصل الرابع عشر

قال الراوي:

عندما وقع بصر سيف على يكسوم في صدر الإيوان اعترته هزَّة، كأن صوتًا صاح به في تلك اللحظة قائلًا: «لقد مات أَبْرَهَة»، وأحسَّ في أعماقه كأن صوتًا آخر يَصِيح: «أيها الطاغية الغاصب.»

وتقدم نحوَه يسير بطيئًا ويحس الثورة المكبوتة في نفسه تضطرب في عنف، لم يخطر له من قبل أنه سيجد نفسه واقفًا أمام يكسوم يحسُّ في قلبه الْمَقْت والْغَضَب ولا يستطيع أن يُنفِّس عنه بكلمة، فكان صوت ضميره يزداد حَنَقًا ويقول: «أيها الطاغية الْفَظُّ الذي سَلَبْتَ مني سعادتي»، ولكن لسانه لم يتحرك إلا بتحية خافتة عندما صار أمام العرش، فقال: عمتَ صباحًا أيها الملك.

وما كاد يقولها حتى انكمش واقشعرَّ بدنُه كأنه ارتكب خِزْيًا على مَلَأٍ من الوقوف والجالسين، وعلا الدم إلى رأسه ووقف جامدًا ينتظر صوت يكسوم، ولكنه لم ينطق برد التحية، بل نظر إليه بعينين تبصَّان ببريقٍ بارد خاطف، ثم انصرف عنه متجهًا إلى القائد العربي الذي كان واقفًا بين يديه، فقال له: أحسنت يا حناطة إذ أشعرتهم عضة السيف.

ورنَّ صوته الغليظ رنين النُّحاس.

وقال حناطة: كانت يا مولاي وقعة حاسمة، أخذناهم جميعًا في الشِّعْب كما تؤخَذ الفيران في مصيدة، فلم ينجُ منهم إلا من كان واقفًا عند فم الوادي مترددًا.

وخفق قلب سيف وهو يحسُ بوادر العاصفة. فمَنْ هؤلاء الذين أوقع بهم حناطة في الشِّعْب الضيق؟ أهم بعض قومه؟

ومضى حناطة الْحِمْيَرِيُّ قائلًا: وجاس الرجال خلالَ الوادي كله، فلم يُبْقُوا على شيء، قتلوا الرجال وغنموا النساء والأطفال وأحرقوا المزارع والقُرى، وقد اخترتُ لك يا مولاي أبرع فتياتهن حُسنًا، وبعثتُ بهن إلى قصرك بُشرى الانتصار.

وابتسم ابتسامة خفيفة.

فقال يكسوم: أحسنتَ يا حناطة. ليعلم الجميع أن العقاب قريب، وأن الفناء جزاء من يُعين أعداء الملك، ولك أن تصنع ما تشاء بالأسيرات، فوزعهن أو احتفظ بهن، وأما الأطفال فاصنع بهم كما تريد.

وكان سيف يقول في نفسه: إنها قصة مُعادة، ولكنه حناطة الحميري هذه المرة هو الذي يقتل الرجال ويغنم النساء والأطفال ويبعث بأبرعهن حُسنًا إلى يكسوم. أهكذا وقعت خَيْلاء يومًا من الأيام في يد رجل مثل حناطة؟

وقال حناطة: وإن أسفتُ على شيءٍ فقد أسِفتُ على إفلات ذلك الثعلب نُفَيْل.

وصاح سيف في سره: نُفَيْل؟

وقال يكسوم: إلى الجحيم أَفْلَتَ. سوف تقع يَدِي عليه يومًا وسوف يعرف جزاء الخائن كيف يكون. سأذهب إليه بنفسي وأستوفي منه دَيْنَه عضوًا عضوًا وقطعة من لحمه بعد قطعة. امضِ يا حناطة حتى لا تُبقي ولا تذَر. امضِ حتى لا تدع منهم باقيًا أو هاربًا. لقد جرَّأهم أَبْرَهَة بالعفو فحسبوا كل بارقة ذهبًا.

ونظر بعد حينٍ إلى سيف مُتجهمًا، فقال له: أقد عُدتَ إلى صنعاء؟

وكانت بسمته تصف حقده.

وأجاب سيف ثابتًا: عدتُ إذ جاءني النبأ الفاجع.

فقال يكسوم في ضحكة: أكان فاجعًا حقًّا؟

فقال سيف: إنما أتحدث عن نفسي.

فقال يكسوم في غيظ: حسبتُكَ استغنيتَ عنه منذ حين.

فقال سيف: كان بَرًّا رحيمًا وقلبًا كريمًا. ألهذا القول جئت بي إلى هنا؟

فقال يكسوم: ليس لهذا دعوتك، ولكني عجبتُ لقولك.

فقال سيف: ألم تسمع من قبل رجلًا حزن على صديق؟

فقال يكسوم ساخرًا: صديق؟ مَرْحَى لك! ما أَبْرَهَة سوى صديق؟ ومن هذا الذي تملأ الأرض بذكره؟ من هذا الأب الذي استحدثته؟

فقال سيف ساخرًا: أنتحدث عن أنسابنا؟

فقال يكسوم جامدًا: لا حاجة بنا إلى هذا، ولكنها خاطرة طارئة. أتتبرَّأ ممن أحسن إليك ومن تقول إنه كان بَرًّا رحيمًا؟ ألم يكن أَبْرَهَة سوى صديق؟

فقال سيف: لو عرفتَ معنى الصديق عندي لعرفت كيف أصفه.

فقال يكسوم: ومن هذا الذي تنادي الناس باسمه، وتتوافد عليك الوفود لتتحدث عن مفاخره؟ أتريدها ثورة جديدة؟ ما هذا الاسم الجديد؟ أهو ذو يَزَن؟

فانتفض سيف قائلًا: ليس ذلك الاسم جديدًا، وهل تجهله حتى أُذكرك به؟ نعم هو ذو يَزَن، هو أبي ذو يَزَن، وهو أولى أن أُسَمَّى باسمه ولستُ أبغي عنه بديلًا. أهذا كل ما أردت أن تقوله؟

فقال يكسوم متمهلًا: لا، لا، كل هذه خواطر تخطر لي في ثنايا حديثك، وما جئتُ بك إلى هنا إلا لكي أقول لك كلمة؛ لقد آنَ لك أن تطرحَ ما تعوَّدته من تدليل أَبْرَهَة، ليس لك اليوم إلا الجد والحذر، أو عداوة سافرة.

فقال سيف هادئًا: عرفتُ ذلك قبل أن تقوله.

فقال يكسوم غاضبًا: بل أَرْهِفْ أذنيك فإني أُنْذِر وأحذِّر، لست أنطق إلا جدًّا مرًّا.

فتضاحك سيف قائلًا: علمتُ أنني لم أجئ لألهو.

فقال في صيحة: حسبُكَ أيها الفتى! لقد عرفت غرورك وبطَرك وعنادك، ولكنك لن تعرف الجد حتى ترى الرءوس تطيح عن أعناقها. سوف تعرف الجد متى علمت مصير أصحابك وأعوانك ومن تسميهم قومك.

ثم صفَّقَ بيديه في عنف.

وسكت سيف لا يدري ماذا يقصد، حتى سمع ضجَّة عند باب الإيوان، وصاح يكسوم قائلًا: أسرعِوا به إلى هنا.

ودفع الجند رجلًا يتعثر بينهم في القيود، وكاد سيف يصيح ذعرًا: «أبو عاصم!»

واتجه نحوه بغير وعي يمدُّ يده إليه في مواساة، ولكن الجنود جعلوا يدفعون الشيخ في عنف وهم محيطون به حتى أوقفوه أمام يكسوم. وعجب سيف لابتسامة ضئيلة بدت على وجه الشيخ، وأحسَّ في قلبه شعلة لهب.

وقال يكسوم في سخريةٍ وحقد: أما زالت فيك بقية أيها الخبيث؟

وتعلقت الأبصار بوجه الشيخ المجعد وهامته الكبيرة البيضاء التي وقعت عنها عمامتها، وقال من بين ابتسامته: تسألني أبقيَتْ فيَّ بقية؟

فصاح به يكسوم: سمعت الصواعق. أما سمعتني؟

فقال الشيخ: عرفت أنك تسألني مثل هذا السؤال وأعددتُ لك جوابي. فإن كنت قد دبرت في هلاكي خطة وجدت في قولي عذرًا. لقد حاربت أباكَ عندما كنت أنت صغيرًا …

فقاطعه يكسوم: ولم يَزِدْك عفوُه إلا خبثًا.

فقال أبو عاصم: مهلًا! حاربتُ أباكَ، وكان يعرف أنه ما كان لي إلا أن أحاربَه؛ ولهذا عفا عني، ولو قتلني ما نفعه قتلي.

فصاح يكسوم: كما نفعته حياتك.

فقال الشيخ: صدقت. فإن اعتداله ردَّ السيوف إلى أغمادها سريعًا.

فقال يكسوم: أتهددني؟

فقال الشيخ: افهم من قولي ما شئت. لقد مضت الأعوام منذ حاربتُ أباك وكأنها لم تكن ساعة واحدة، وأنت هذا تراني مُشرفًا على قبري، وسيَّان عندي أتستعجل هذه البقيَّة الضئيلة أم تدعها، اختَر لنفسك ما تحب. ولكن اعلم يا يكسوم أنك تحفر لنفسك هاوية، أنت تستعجل خاتمة طغيانك كلما أوغلت فيه.

فصاح يكسوم: اصمت أيها الأحمق.

ومضى الشيخ كأنه لا يسمع: أنت لا تزيد إلا حنقًا بطاعة حنقك، ولا تزيد إلا عذابًا بما توقع من العذاب. أنت لا تزيد إلا بُعدًا عن الطمأنينة كما ظننت أن عسفك يوقع الخوف في أعدائك، وتُقرِّب الخلاص إلى المطحونين كلما بالغت في طحنهم. أنت تحطم قيود الأشقياء الذين تقتلهم، وتضعها في عنقك أنت وفي عنق أمثال هذا الشيطان الذي يغرر بك. وأشار إلى حناطة.

وكانت كلماته هذه تتقذف في وجه يكسوم برغم صرخاته المتوالية: اصمت! اخرس! كمِّموا فمه!

وكان الحراس الذين حول الرجل يحاولون إسكاته وإغلاق فمه ويتجاذبونه في عنفٍ، وهو يقاوم في قوة تشبه قوة شاب ثائر.

ولمَّا سكت آخر الأمر كانت قواه قد خارت، وتخاذلتْ أعضاؤه تحت ثيابه التي ذهبت قطعًا مُمزقة.

وصاح يكسوم لاهثًا: لقد حانت ساعتك أيها الخبيث، وما كان أَوْلاك بالهلاك منذ أمدٍ بعيد حتى لا تملأ الأرض فسادًا، ولكنك ستلقى جزاءك الأوفى. خذوه حتى آمُر فيه بأمري.

وأسرع حناطة ومن معه من الجنود يدفعونه في حنقٍ وقسوة، وهو يَحْجِل في قيوده ويتكفَّأ. وكان سيف ينظر مبهوتًا إلى المنظر العاصف ويكتم صيحات حَنَقِه، ولَمَّا رأى الشيخ يترنَّح تحت ضربات الحراس صاح قائلًا: أيها الذئاب!

فلكم حناطة الشيخ قائلًا: اخسأ أيها الخائن.

ونظر نحو سيف كأنه يخاطبه.

فنظر الشيخ إليه، وقال له هادئًا بصوتٍ خافت: لو غيرك قالها؟

فكان رد حناطة لكمة أخرى ترنَّح لها الشيخ صامتًا، ومضى يَحْجِل في قيوده متعثرًا.

وصاح سيف متجهًا نحو يكسوم: إنها مُثْلة! إنها وحشية!

ونظر الشيخ نحوه نظرة أخرى، وانفرج وجهه البائس عن بسمةٍ خافتة قبل أن يخرج من الباب.

وقال يكسوم في حقد: حقًّا إنك كنت أولى بهذا. ولكن مهلًا! مهلًا حتى ترى بعينيك هلاك فلول الخونة الذين يُشاركونك. أتعرف نُفَيْل بن حبيب؟

فنظر إليه سيف في غيظ ولم يُجبه.

ومضى يكسوم قائلًا: سأحمل إليك بعض أنباء لا تعرفها، وأظنك تطرب لها. كان نُفَيْل ينتظرك في شِعْب غيمان مع أصدقائك، وبعث إليك رجلًا من قومك يستعجلك، بعث إليك هذا الشيخ لتذهب إليهم، ولكنك كنت في شغلٍ عن مثل هذا العناء، كنتَ في شغلٍ بأحاديث أخرى مع النساء.

وضحك ساخرًا ضحكة طويلة، وكان سيف يستمع وهو بين اللهفة والْحَنَق، وتمنَّى لو استطاع أن يقذف بحربة إلى صدر ذلك الضبع الذي أمامه.

ومضى يكسوم قائلًا: كنت في شغل عن قومك ومؤامراتهم ومتاعبهم. وما لك أنت وهذا العناء؟

وأحسَّ سيف لذعة السخرية التي لاحتْ على وجوه الجمع الذي حول يكسوم. ومضى يكسوم قائلًا: فلما وجدتكَ لاهيًا في أحاديثك الناعمة بعثتُ آخر بدلًا منك ليأتي إليَّ بأصحابك.

فقال سيف في دفعة: أبعثتَ إليَّ لتُسمع هؤلاء كيف تذلني؟

فقال يكسوم في هدوءٍ مُنذر: من هؤلاء الذين تشير إليهم بقولك؟ دع هؤلاء فإنني أنا أخاطبك وأصبر على حماقتك. دع هؤلاء فهم أعواني وأصحابي، هؤلاء هم الذين لا يُداخلهم شك في ولائي ولا يُداخلني شك في ولائهم. انظر إلى نفسك أنت واستمع إلى ما أُنذرك به.

فقال سيف وهو يرتجف غضبًا: بل استمع أنت، ولا تدخل في الحديث غيري. سأهب لك جوابي مثل ما وهب لك الشيخ الطيب. سأهب لك عذرًا تتخذه تُكَأة للتنكيل الذي تهفو إليه نفسك. أقول لك: إنني ابن ذي يَزَن، سيد حِمْيَر، وإن لي قومًا لا أبرأ منهم إلا أن يكون فيهم زَنِيم مثل حناطة هذا، يستعبد نفسه لك ويلعق قدميك لقاء فضلة من سلطانك، فيستعبد لك الأحرار ويغنم لك النساء ولا يرحم طفولة ولا شيخوخة …

فقاطعه حناطة في غضب: جرأة خائن. وما سمعت بمثلها جرأة في حضرة ملك.

وكان يكسوم يتَّقد غيظًا، ولكنه قال ضاحكًا في غلٍّ: امضِ في قولك فأنت لم تُتِمَّه.

فقال سيف ضاحكًا: هذا أجدر بالضحك يا يكسوم. دع ذكر الخيانة يا حناطة فما أنت إلا عبد أخذت ثمنك طعامًا ونساءً بعد أن لم تكن شيئًا.

وهبَّ حناطة غاضبًا، وهبَّ الأحباش يُحيطون بسيف، وهو واضع يده على مقبض سيفه وفي عينيه لمعة من العزم على أن يجعلها موقعة حاسمة.

وعلا صوت يكسوم قائلًا: دعوه فإن لي معه شأنًا.

وقام من مجلسه متجهًا إلى سيف بنظرة فيها سخط وفيها وعيد، وقال في حقد: ما زلت تملأ شدقيكَ غرورًا وعداوة، ولولا أن يقولَ الناس إنني بدأت بأخ لمسروق وبابن لرَيْحانة لما أبقيتُ عليك ساعة، ولكن مهلًا حتى ترى مصارع أصحابك. لست أدعوك إلى التجمُّل ولا إلى الموادعة، اذهب إلى من تُسميهم قومك فانظر ما تستطيع أن تصنع بهم، وابحث فيهم عمَّن تحمله على غرورك. لن أعيد عليك بعد اليوم لفظًا. أو عُد إلى مجالسك حيث كنت مع النساء.

ثم قهقه ساخرًا وسار خارجًا من الإيوان، وحراسه يسيرون وراءه ومن حوله سِراعًا، وبقي سيف واقفًا في مكانه يحسُّ قدميه ثقيلتَين كأنه في كابوس. ودار به رأسه فلم يدْرِ أين هو، وغابت عنه أشخاص القوم وراء الأروقة، وسأل نفسه وهو يسير كالمذهول: «أحقًّا هذه الحوادث التي أشهدها؟ أحقًّا ودعت خيلاء آخر الدهر؟ ورأيت صاحبي الشيخ يَحْجِل في قيوده بين الجنود الغلاظ، وسمعت يكسوم يسخر مني ويقهقه متحديًا؟» ولمس سيفه فوجد مقبضه باردًا في قبضته المحمومة، وجذبه من قرابه فخرج منه مقدار شبر تتردَّدُ فيه لمعة زرقاء صارمة، وقال في مرارة: «لم يبقَ لي غير هذا.»

•••

وخرج في أصيل اليوم التالي يودع خَيْلاء عند باب صنعاء، فلو وقف رجل على شاطئ بحر هائج في يومٍ عاصف وحول يديه ورجليه أغلال وقيود ثقيلة من الفولاذ، ورأى أعز الناس عنده يُجاهد الموج المفترس حتى تخورَ قواه، ويغيب تحت الماء بغير أن يستطيع أن يمدَّ إليه يدًا أو يخطو نحوه خطوة، لما كان أشد من سيف يأسًا وحنقًا وحزنًا في موقفه وهو ينظر إلى ركب الراهبات اللاتي ذهبن بخَيْلاء على طريق نَجْران. وهمَّ بالسير وراءَ الركب، فأشارت كُبرى الراهبات إليه أن يبقى حيث هو، وكانت إشارتها هادئة وديعة، ولكنها صارمة. ونظر نحو هودج خَيْلاء يحاول أن يلاقيَ نظرة منها، يتخذ منها آخر ذخيرة للذكرى، فرآها مُطرقة تضمُّ الصليب إلى جبينها وتميل برأسها في خشوع تصلي، ولا ترفع بصرها إلى شيء. وكاد يصيح صارخًا يدعوها دعوة يائسة إلى البقاء، ولكن صوته لم يُطاوعه، وسارت الإبل تميل بهوادجها على رِسْلِها لا تبالي شيئًا من أمامها ولا من ورائها. وأخذ النسيم يرفُّ بأستار المحامل كأنه يلوح بتحيةٍ حائرة مضطربة، حتى غاب الركب وراءَ ثَنِيَّة الطريق. وبقي سيف في موقفه حينًا ينظر في الفراغ الصامت، وفي قلبه حُرقة طفل يُنزع من بين ذراعَي أمه، ويُعجزه الضعف أن يلحق بها. ولم يدرِ كم مضى عليه من الوقت وهو هناك ثابتًا لاهيًا عن كل شيء سوى حزنه. ثم تنبَّه إلى نفسه يسألها كأنه لا يعرف الحقيقة، فكأن مسالك الفضاء قد سُدَّتْ دونه، وكأن نور الأصيل قد خبا فعاد ظلامًا، وكأن الربيع قد تعطَّل من محاسنه وشحب لون زهره، وكأن أشعة الشمس الخابية تقذف شررًا. وتلفَّتَ إلى ورائه نحو القصر الكئيب، وهمَّتْ به دفعة أن يهرب منه كما يهرب المخبول من الأشباح التي تطارده، ولكن إلى أين؟ واقتلع قدميه يسير على غير هدًى، فإذا هو يعود إلى القصر، حتى إذا بلغه ذهب إلى البهو، ووقف عند الوعاء الْمَرْمَري، ولكنه وجده صامتًا جامدًا فاترًا، لا يزيد على قطعة من الحجر. وذهب إلى حجرة خَيْلاء لعله يتنسَّم من قِبَلها أنفاسًا تبعث إليه شيئًا من السلام، ولكنها كانت مثل طللٍ في صحراءٍ مقفرة بعد أن غادرتها خَيْلاء، فعاد نحو حجرته. وكان لا يزداد مع كل خطوة إلا ضيقًا، حتى أفاق على الحارس الحبشي يعترضه مثل تمثالٍ من نُحاس قائلًا: لا يؤذَن لأحد في الدخول إلى هنا.

فلم يُجبه ولم ينظر إليه، ومضى في سيره كالحالم، حتى أعاد عليه الحبشي قوله مرتين، ثم رآه يسد طريقه بسنان الحربة، فنظر سيف إليه في سخط، ثم سار خارجًا حتى بلغ مرابط الخيل، فأخذ مُهره الأبيض وخرج من الباب الخلفي إلى طريق الشمال، «إلى أين؟» لم يَدْرِ سيف إلى أين يتجه بعد أن وجد نفسه فجأة على الطريق الخالية، فإنه كان إلى تلك اللحظة منقطعًا إلى نفسه وأحلامها وخواطرها وأشجانها وأحاديثها المختلفة، فلم يفكر ساعة واحدة في خطة لحياته، ولم يصرف ذهنه مرة واحدة إلى الحقائق التي كان لا بد له من مقابلتها. أهكذا يخرج من حياة إلى حياةٍ أخرى، كمن يُلقي بنفسه إلى البحر عندما يجد نفسه على شاطئه؟ وتذكر قول أمه إذ قالت له: «إنك أسلمت نفسك للخيال، حتى إذا عُدتُ إلى الحقائق وجدتها تصدمك وتهزمك وتجرفك.» نعم، كانت الحقيقة تجرفه وهو لا يدري إلى أين.

وجاء الليل على بطء يستصحب مرارة العجز وحر القيظ، وضيق الوحشة، وخلَّف سيف المدينة وراء ظهره، يرى من أمامه ظلامًا ومن خلفه ظلامًا، وفي قلبه ما هو أشد سوادًا من الظلام. وأخذت النجوم تلمع من فوقه صامتة هادئة لا تُبالي شيئًا من الهموم التي تُثقل قلوب البشر.

أهكذا خرج أبو مرة في ظلام الليل وحيدًا لا يعرف قرارًا يستقرُّ فيه؟ وأين ذهب؟ أما زال حيًّا؟ أم قضى عليه الهم والأسى؟

وكان النسيم يهبُّ من الجنوب يحمل عطر أزهار الربيع، كأن ليس على الأرض طريدٌ محروم يَهِيم على وجهه وحيدًا. وعاد فكره إلى خَيْلاء في شيءٍ من العتب، كأنها قد تخلفت عنه وقطعت ما بينهما عمدًا. أكانت في تلك الساعة تنظر مثله إلى السماء، وترى النجوم البعيدة تومض إليها كما تومض إليه غامضة رهيبة؟ أما يتجه فكرها إليه كما يتجه هو بكل قلبه إليها؟ أم هي تصرف عنه فكرها خشية الخطيئة؟

وكانت الآكام تحفُّ بطريقه من جانبيه، والطريق ينفرج في الضوء المنبعث من النجوم، والجواد يسير على رِسْله والْعِنان مُرخًى على كاهله، وقال في نفسه: «أيها الجواد، سِر أين شئت، فأنت أهدى مني.» ومسح على مَعْرَفَتِه في عطف وشكر.

لم يدرِ كم مضى عليه في سيره، ثم أحسَّ بالجواد يصعد في أرضٍ صلبة، وتلفَّتَ فإذا عن يمينه وشماله هوَّتان عميقتان مظلمتان، ومن أمامه قصر عالٍ يقطع صفحة السماء عابسًا، «إنه قصر ذي جدن!» ونزل كأنه يتحرك في نومه متجهًا نحو الباب المغلق وطرقه، فجاء إليه الحارس بعد حين يطل من كوة صغيرة قائلًا في نغمةٍ جافية: من أنت؟

وأجاب سيف في صوتٍ خافت: أنا سيف.

فهزَّ الرجل نفسه في دهشة قائلًا: سيدي!

وفتح خوخة الباب في حذر ثم ردَّها وراءه هامسًا: الحبشة هنا.

وصمت سيف لحظة في تردد وزاد انقباضًا، ثم ذهب إلى جواده قائلًا للحارس: وداعًا يا صبيح! لا تخبر أحدًا عني.

وسمع همهمة الرجل وهو يجيبه بصوته الخافت في رحمة. ثم سمع خوخة الباب وهي ترتد وراءه، وكأن بقية من أمل قد غلبها اليأس في نفسه. «حتى بيت جدي!»

هكذا قال في نفسه: «حتى بيت جدي الذي كنت أحسب أن أعيش فيه مع خَيْلاء!»

وعاود السير على الطريق تاركًا عِنان الجواد على كاهله، ومسح عنقه يستأنس به شاكرًا أن يجد على الأرض صديقًا باقيًا لا يسأله إلى أين تسير. وسار الجواد خفيفًا جريئًا كأنه هو خرج يقصد قصدًا. وظهر القمر بعد حين من وراء الجبل الشرقي مثلما ينهض العليل النحيل، يجاهد أن يقوم والضعف يُعجزه ويترنح به، ولكنه جلا الأرض شيئًا وكشف له وجه الربى المعشبة. وعجب إذ أحسَّ شيئًا من الأنس يدب إلى قلبه كما يتنفس النسيم الفاتر في أعقاب يوم شديد الحر. وأحسن كأن الليل يبش له بعد عبوس، فملأ صدره من الهواء وزالت عنه تلك الوحشة التي خيمت عليه منذ خرج من صنعاء. إن أودية الأرض ما زالت واسعة، يستطيع فيها أن يجد جوارًا يأمن عنده وديارًا يحلُّ فيها كريمًا. أليس قومه أمامه في تلك الأودية الساكنة؟ وطال به السير حتى لاح الفجر من المشرق يتنفس هادئًا مثل جواده الْفَتِيِّ، ورأى إلى يساره ضوء نار تتقد حينًا ثم تخبو حينًا، فلوى عِنان الجواد مُتجهًا نحوها وهو يحدث نفسه حديثًا جديدًا. سوف يمضي إلى قومه في شِعاب الجبل، فهم يملئون الأرض وينتظرون مقدمه، وسوف يجمع شملهم ليستأنف الجهادَ الذي بدأه جدُّه وأبوه. سوف يستعذب لسع الأفاعي والعقارب، وسوف يستسيغ طعام العظام والدماء، وسوف يقتل ويقتل ويقتل. ولاحت له صورة يكسوم إذ ينظر إليه بعينيه القاسيتين، ورنت ضحكته الساخرة في أذنيه، وثار الدم في رأسه. سوف يقتل ويقتل ويقتل. وبلغ قريبًا من النار، فالتفتت إليه امرأة شابة تتلفف في خمارها، ويبدو شبابها من اعتدال رأسها ولين حركتها. وقالت له مُبادرة: على الرحب نزلت.

ثم أسرعَتْ نحو الخيمة تُنادي زوجها.

وترجَّل سيف في تردد، حتى رأى صاحب المنزل يخرج إليه وهو يلقي شملته على كتفيه ويناديه قائلًا: مرحبًا بك وأهلًا!

وما كادت عين الرجل تتبيَّنه حتى صاح قائلًا: سَيْف بن ذي يَزَن!

وفتح له ذراعيه، وانقشعت هموم الليلة فجأة عن سيف كما تنقشع السحب السوداء في أعقاب زوبعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤