الفصل الثامن عشر

قال الراوي:

خرج الناس ألوفًا يتزاحمون في طرق المدائن عاصمة بلاد فارس، ينتظرون خروج كسرَى أنوشروان العظيم من قصره ذاهبًا إلى الميدان الأعظم الذي حُشدت فيه الجيوش للعرض المنتظر. وكان في الميدان منصة عالية عليها بُسُط بديعة الصناعة ذات نقوش زاهية من صور الزهر والطير وصنوف الحيوان والوحش، أو مناظر فرسان يطاردون الصيد، والظباء الحائرة تعدو في ذعر، والسباع تفترس الأبقار الوحشية. وبثت فوق الْبُسُط وسائد من الحرير ذات ألوان شتَّى عليها نقوش بخيوط الذهب والفضة. وكان قائد الجيش الأعظم بابك بن البيروان يتكئ على المنصة في لباسه الحربي الفخم، تزينه حلية من الجوهر والذهب. وكانت الجموع المحتشدة تتجه بأبصارها نحو الطريق التي تهبط من ناحية القصر الملكي، تتطلع لرؤية الملك مقبلًا في موكبه؛ ليعرض نفسه على القائد الأعظم بأنه الجندي الأول الذي يَضْرِب الْمَثَل لطاعة الجندي لقائده. وكانت الجموع أخلاطًا من فُرس وكرد وعرب ومن أهل خراسان وسجستان وفرغانة، ومن الترك والديلم والكرج، يقفون جماعات وفُرادى يتحدثون في لغاتٍ شتَّى تشهد باتساع دولة كسرى.

وكان سيف واقفًا بين الناس إلى جوار شيخ عربي يلبس ثياب الفرس، ووجهه ينطق بالقلق الذي يساوره.

وقال سيف: أترى يخرج كسرى اليوم يا أبا عَدِيٍّ؟ أم نعود بالخيبة كما عُدنا في اليومين السابقين؟

فقال الشيخ: لا أحسبه يتخلف اليوم، فإن القائد يأبى إلا أن يكون كسرى أول من يعرض نفسه. إنه بابك بن البيروان، وهذا شرطه أن يقبل القيادة.

فقال سيف: أحسُّ قلبي يتقد يا أبا عَدِيٍّ، والأيام تمرُ بي كما مرت بأبي. لم تبقَ إلا هذه الفرصة فإما أن أنجح وإما أن أختصر انتظاري. أأبقى على باب كسرى حتى ألحق بأبي؟

فقال الشيخ مترددًا: لا أظنك تستطيع أن تقترب منه يا ولدي.

فقال سيف: وماذا أبالي؟ سوف ألقي بنفسي نحوه وأقتحم هذه الجموع.

فأمسك الشيخ بذراعه قائلًا: أما تحاول مرة أخرى؟ إما تنتظر عودة عمرو بن هند؟

فقال سيف: هذا آخر طوافي. أيقتلونني؟ إنه أحب إليَّ …

وظهرت طلائع الموكب فقطع سيف قوله وتطاول بعنقه. وكانت الْفِيَلَة تسير في الصدر عليها سروج حُمْر منقوشة وحلية من الفضة فوق رءوسها وحول أعناقها. ثم أتت بعدها فرقة من الفرسان على جياد رشيقة تسير صفوفًا كلٌّ منها في لونٍ من الملابس، وكانوا جميعًا في سلاح كامل: درع، وجوشن، وساقان من النحاس، وسيف، ورمح، وترس، ومِنْطَقة، وطبرزين، وعمود، وجَعْبَة فيها قوسان بوتريهما، وثلاثون نشابة، ووتران مضفوران معلَّقان في الْمِغْفَر من وراء.

وكان كسرى على جواد أبيض له سرج من الحرير الأحمر، وعليه حلية من الذهب والجواهر، وكان في لباس الجنود له سلاح مثل سلاحهم. وكان الناس يخشعون له إذا مرَّ بهم، وينحنون إجلالًا فيما يشبه السجود، وغشي الميدانَ صمتٌ رهيب.

وصاح المنادي قائلًا: سيد الْكُمَاة كسرى!

وتقدم كسرى نحو المنصة بجواده فاستعرض للقائد الأكبر الذي كان متكئًا على الأريكة، وعلا صوت بابك قائلًا: إنك أيها الملك مثال لرعيتك في تقدير العدل الذي لا محاباة فيه ولا هوادة، فهَلُمَّ إلى كل ما يلزم الجندي من صنوف الأسلحة فاعرضها عليَّ واحدًا فواحدًا.

وأشار كسرى إليها على ترتيبها، فقال الشيخ القائد: أين الوتران من وراء المغفر؟

فبادر كسرى فتناول وترين وعلقهما وراء مغفره.

وصاح المنادي: الْكَمِيُّ سيد الْكُمَاة كسرى! أربعة آلاف درهم عطاءً ممتازًا.

وعلتْ صيحة إعجاب من الجموع عندما اتجه كسرى يشق الميدان.

وهمس سيف عندما اقترب الملك في موضعه: «انظر يا أبا عَدِيٍّ إلى وجهه»، وكانت لحيته البيضاء تُحيط بوجهٍ ينطق جلالًا وقوة وهدوءًا.

واستمر سيف: إن وجهه ينمُّ عن نبل.

وهمس الشيخ: انحنِ يا ولدي حتى لا تثورَ الشكوك فينا.

فقال سيف: إنه يقترب.

وكان أول الموكب يمر ولم يبقَ بين الملك وبين سيف إلا خطوات، فاندفع فجأة واخترق الصفوف حتى وقف في صدر الجمع وصاح قائلًا: أيها الملك العظيم!

ورن صوته في الصمت العميق، فالتفت الناس إليه، وعقدت الدهشة الألسنة، وخفق قلب الشيخ وهو يرى الحراس يبادرون إليه بسيوفهم، وجذب الملك عِنان فرسه وقال بصوتٍ جهوري: دعوه فليقترب مني.

وانفرجت حلقة الحراس وأخذ رئيسهم بذراع الشاب متقدمًا نحو الملك، وانحنى إجلالًا.

وقال الملك: سَلُوه ماذا يريد.

ولم يفهم سيف ما قال، ولكنه أدرك من هيئته أنه غير غاضب.

فقال في خشوع: لي عند الملك مظلمة، لي عندك دين.

فقال الملك: أما من يفهم لسان هذا؟

فتقدم أبو عدي يصيح من بين الجمع بالفارسية: عبدك يا مولاي يعرف لسانه.

وانفرجت له الصفوف حتى انحنى أمام الملك قائلًا: إنه يقول قولًا جريئًا يا صاحب العرش.

فقال الملك في دفعة: قُلْهُ حرفًا حرفًا.

فقال الشيخ: يقول إن له عندك مظلمة، له عندك دَين.

فلاحت بسمة هادئة على وجه الملك الشيخ وقال: إنه مضطر يخاطر بنفسه. سله عن دَينه أيها الشيخ وله عندي الوفاء إن صدق.

فقال أبو عدي لسيف متظاهرًا بالجفاء: الملك العظيم يسألك عن دَينك؟

فقال سيف: أفي هذا الجمع؟ ما ينبغي أن يسمعني غير كسرى العظيم.

ونقل الشيخ قوله، فقال الملك: ما اسم الفتى؟

ولما سمع اسمه قال في صوتٍ خافت: ذو يَزَن! ذو يَزَن! كأنني أذكر هذا.

وبسط سيف ذراعيه قائلًا: أنت مثل قَطْر السماء أيها الملك تروي الجبال والسهول، ويعم فضلك القريبَ والبعيد. لا تصرف وجهك عني وافتح لي بابك حتى أطالبك بدَيني. بوعدك لأبي.

ولما نقل الشيخ قوله اتسعت بسمة الملك وقال: إنها حيلةُ أَرِيب. إن له شأنًا.

والتفت إلى كبير حراسه قائلًا: خذه بالرفق حتى أراه إذا عدت. وسار الموكب بين ضجيج الجموع بالدعاء للملك العظيم الذي يقف للأجنبي الضعيف ويستمع إلى شكواه، ويأذن له في المثول بين يديه.

•••

ولما صار سيف أمام الملك اتجه إليه باسمًا، وقال على لسان ترجمانه: إذن جئت تطلب دَينك.

فقال سيف: عفوًا أيها الملك، فإن الناس يتحدثون في كل مكان عن كرمك وعدلك ورحمتك. والمضطر يركب الصعب وهو عالم بركوبه.

فقال كسرى: أأمنت أن يقتلَك جندي؟

فقال سيف: الهلاك أهون ما يُخاطِر به مثلي.

فقال كسرى: كأنني أسمع صوتًا أعرفه. أعِد عليَّ اسمك يا فتى.

فقال سيف: ابن أبي مرة ذي يزن.

فصمت كسرى لحظة ثم قال لترجمانه: ألا تذكر اسمه يا وهرز؟

فقال الترجمان الشيخ: أظنه صاحب القصيدة يا مولاي.

فعاد كسرى إلى الصمت لحظة ثم قال فجأة: ذكرته يا وهرز، لقد صدقت يا فتى. كان لأبيك دَين في عنقي، قل له إنني مُنجز وعدي.

وأشار بيده فأخذ كبير الحراس بيد سيف مترفقًا حتى خرج به من الإيوان، وسيف يحس أنه لم يبلغ بعد مما أراد شيئًا. كانت كلمة قصيرة ثم صُرف من حضرة الملك ولم يسمع منه قولًا، وخرج وهو يحس كأن الأرض تنهار من تحت قدميه، حتى وقف بالباب مع مئات من طلاب الإذن وأصحاب الحاجات. وخُيِّلَ إليه أن قلبه يَدْمَى. أهذا كل مبلغ أبيه عند كسرى؟ رجل أرسل إليه قصيدة؟ وضحك في نفسه ضحكة مُرَّة وهو ينظر إلى الجموع الأنيقة التي تنتظر بالباب. أهكذا كان أبوه يقف كل يوم طوالَ السنين؟ وكان الناس يتحدث بعضهم إلى بعض وعيونهم تنزلق نحو حُجاب الباب الذين يدخلون إلى الإيوان ويخرجون منه. كان كل منهم يتربص بفرصة يفوز فيها من أحدهم بكلمة، ثم يُطأطئ رأسه احترامًا وينصرف بغير أن ينظر الحاجب إليه. أهكذا كان أبو مرة ينحني؟ ألا شد ما لقي! وبدت له حياته كلها باطلة تافهة، وإن ميتة في معركة مجهولة في بطن فلاة لا يعرف أحد من أسرارها شيئًا خير من أن تمتد به الأيام على مثل هذا. وسمع صوتًا كأنه ينادي باسمه، فإذا حاجب يقلب نَظْرَةً هائمةً في الوجوه ويقول: «ذو يزن.» فقام سيف من مجلسه وذهب إليه متلهفًا. أيكون كسرى قد بعث إليه ليستمع إلى بقية حديثه؟ وذهب به الحاجب إلى حجرة فسيحة ذات نقوش بديعة على جدرانها وسقفها، وعلى جوانبها قطع من سلاحٍ وتحف شتى، وكان في صدرها مجلس أنيق عليه بُسُط ووسائد، والشيخ وهرز يستقبله باسمًا. ونسي سيف في دهشته أن يُحيي حتى انحنى الحاجبُ نحوَ الأرض، فأومأ سيف بانحناءة. وكان وجه وهرز مجعدًا تعترضه أسارير عميقة تتخللها جراح، وشعره الأبيض يتوِّج رأسه ويطل من حاجبيه البارزين فوق عينيه. ونظر إليه سيف في إعجابٍ صامتًا. وقال وهرز: لقد أعجبتَ الملك العظيم يا فتى، وها هو ذا دَينك.

ثم أشار إلى الحاجب فحمل كيسًا ضخمًا كان على الأريكة فقدمه إلى سيف، وفتح الشاب عينيه في دهشة ونظر إلى الحاجب ثم إلى الشيخ قائلًا: أيُّ دَين هذا؟

فقال وهرز في ارتياح: هذه جائزة أبيك.

ومدَّ سيف يده إلى الحاجب فحمل الصُّرَّة الثقيلة في شيءٍ من العنف، ولم يقف لحظة ليقول كلمة، وكان يحس في صدره مِرْجَلًا يوشك أن ينفجر. ألهذا جاء إلى كسرى؟

وخرج من الباب حتى صار بين الجمع الذي ما زال يتهامس في البهو، ثم ألقى بالحمل الثقيل على الأرض، وأكبَّ عليه يفتحه في حَنَق، ثم ضحك ضحكة جشاء وهو يدس يده في الكيس ويقبض قبضة ثم يصبها فيه ثانيةً. وصاح: إنه ذهب! إنه ذهب يُبهر الأنظار المتطلعة.

وتعالت منه صيحات مجنونة قائلًا: أيها الناس المتزاحمون هنا، إنه ذهب، فخذوا!

وأخذ يقبض القبضة منه وينثرها لا يبالي أين تتساقط. ومضى في صيحاته: أيها الأنذال البواسل الذين يتطاحنون من أجل الذهب، خذوا! إنه ذهب أيها العظماء الأذلَّاء، خذوا! أيها العبيد السادة، أيها السادة العبيد خذوا! إنه ذهب. أيها الذين تبيعون أنفسكم، خذوا! إنه ذهب. ها هو ذا الذهب أيها الحكماء الحمقى، وأيها الجشعون المهذبون، وأيها الأوغال الظرفاء، خذوا جميعًا، هذا هو الذهب فاملئوا به عيونكم وأسعدوا به عبوديتكم.

ووقف الناس يستمعون إليه ولا يفهمون ما يقول، وتزاحم كثير منهم على الذهب المنثور في دفعةٍ شرهة، وجعلوا يلتقطون ما يتساقط منه في ضجيجٍ وعنف، حتى أفرغ سيف ما في الصرة ووقف يتأمل الصراع العنيف من أجله، وضحكته المضطربة ترنُّ فوق ضجتهم العالية.

وخرج من البهو كالأعمى يتصادم بالأقدام والصدور، حتى صار خارج القصر، ثم وقف يتأمل الطريق لا يدري أين يتجه. وإذا صيحة تعلو من ورائه في أصواتٍ مختلطة وألفاظ لم يَفهم منها شيئًا سوى أنها حانقة، وامتدَّتْ إليه أيدي حُراس القصر تعود به في غِلْظة نحو الإيوان، حتى وجد نفسه أمام كسرى، وكان ينظر إليه عابسًا، وقال له على لسان وهرز: ماذا فعلت أيها البائس بجائزة الملك؟

وأحسَّ سيف كأنه خرج من مأزق، واستعاد الأمل بعد أن كاد ييأس. فماذا يفعل به كسرى؟ أيقتله؟

وقال هادئًا: وماذا أصنع بها أيها الملك؟

فقال الملك في دهشة: ألم يكن ذهبًا؟

فاندفع سيف قائلًا: كم من فقيرٍ يتلوى في هذه الساعة من الجوع أيها الملك، ولو وقعت في يده منه قطعة لطلعت عليه السعادة. ولكَمْ تزاحم الواقفون عند بابك عندما نثرته عليهم وامتلئوا به غبطة.

فقال الملك غاضبًا: أتسخر أيها الأعرابي؟

فقال سيف: عفوًا أيها الملك، إنك تملأ الأرض بعظمتك وحكمتك، ولا يمكن أن تسموَ إليك سخرية، ولكني لم أقصد بابك من أجل الذهب. فلو شئت ذهبًا لوجدته في معادن الأرض ترابًا خسيسًا، تطؤه الإبل في سيرها في الصحراء، فقطعة من الحديد خير عندي من هذا الذهب، أتخذ منها سيفًا أضرب به عدوي، أو درعًا تحمي صدري، أو لجامًا أُمْسِك به جوادي، أو مِسْمارًا يُدَقُّ في سفينة.

فقال الملك: أنت تحرج صدري بثرثرتك. فيمَ جئت إذا لم تكن طالب جائزة؟ فيمَ جاء أبوك هنا؟

فقال سيف: لم يجئ أبي من بلاده يطلب جائزة أيها الملك العظيم، ولست أعرف أنه يقول الشعر، ولكنه إذا قال شعرًا فذلك لكي يستعطفَ قلبك على غاية أسمى.

فقال الملك في جفاء: كان ذلك من سنين طويلة، وأظن أمك لن تخبرك بهذا أيها الفتى.

وتحرك قلقًا.

فقال سيف: أمي رَيْحانة بنت ذي جدن، سليلة بيت تُبَّع ملوك اليمن، ولم يكن أبي شاعرًا بل أميرًا يطلب مُلْكًا، جاء إليك لأن الأحباش غَلَبوا على بلاده ونزع أَبْرَهَة زوجته، جاء إليك يطلب نصرك على الظلم وعونك على من يستعبدون الأحرار، وقد جئت لأجده فوجدته هلك عند بابك وهو ينتظر وعدك! أليس هذا دَينًا؟ جئت إليك أطلب النصر لا الذهب، وألتمس الشرف لا الغنى. إن فارسًا واحدًا من ذوي النجدة أُسْنِد إليه ظهري في القتال أحب إليَّ من كل ذهب الدنيا.

وكان سيف يتبع حركة وجه الملك وهو ينفرج من عبسته حتى بدا عليه الارتياح والسماح، وقال له: تقرب أيها الفتى وقل ممن أنت.

فقال سيف: أنا ابن ذي يَزَن الحميري، ليس لي مال، ولكن قومي يعرفونني. ولولا بطش الأغربة بالناس وإيقاع الفرقة بين السادة بالرُّشا والإفساد لوقف الجميع ورائي.

فقال الملك: الأغربة؟

فأجاب سيف: نعم الأغربة، هؤلاء الأحباش الذين أذلوا عِزَّ اليمن وأزالوا مجدها. فهلَّا نصرتني أيها الملك فتكون إحدى حسناتك عند أُمَّة تعرف الجميل؟ إن كرمك وفضلك وعدلك تحملك على أن تنصر المظلوم وإن لم يستنصر بك، فكيف وقد جئتُ إليك أناديك باسم أُمَّة؟

وسكت كسرى مفكرًا، ثم التفت إلى وهرز فحادثه حينًا قصيرًا، ثم التفت وهرز إلى سيف قائلًا: سينظر الملك في الأمر أيها الشاب فالزَمْ بابَه.

فقال سيف: ألم يفرغ الملك من النظر في الأمر منذ وعد أبي؟ لست أطلب نصره مبتدئًا، بل أستنجز وعدَه، اليومَ قبل الغد، فإن الحبشة تُمَهِّد هناك لقيصر. هناك مضيق البحرين الذي يُفضي بالسفن إلى الهند وسواحل فارس، وهناك الأودية التي قد تُمِدُّ جنود الروم بما تشاء من الخيرات. وهناك فرسان العرب الذين يكونون عليك إن لم يكونوا معك.

وكان الملك يُنْصِت إلى سيف في دهشة وقال له: كم سنك يا سيف؟

فقال: سنوات طويلة من الفكر والهم والحزن والْحَنَق، سنوات طويلة من المصادمة والمقاتلة والتشريد. عرفت الناس وما فيهم من ضعف وقوة، وعرفت بعض نفسي أيها الملك، وبعض ما أضمر من خير ومن شر. سنوات طويلة، وإن شئت فقل سنوات عريضة، تكشفت لي الحياة خلالَها عن أصدق ما فيها، وأجمل ما فيها، وأبشع ما فيها. هذه هي سني أيها الملك الحكيم، زادك الله حكمة.

فتبسم كسرى بغير تحفظ، والتفت إلى وهرز فحادثه حديثًا آخر أطول من حديثه الأول، وكان في نبرات صوته حرارة.

وقال الشيخ: يقول لك الملك لا تبرح بابي حتى يتخذَ في أمرك عزمًا، لا تَغِبْ عن الباب غدًا وبعد غد، وما يلي ذلك حتى يُوَفِّيَ لك دَيْن أبيك.

وحيَّا سيف تحية شكر صادقة وخرج من الإيوان كأنه يسبح في الهواء، وأسرع إلى داره الصغير في أرباض المدائن بجوار بيت الشيخ أبي عدي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤