١

أيام تلك الأحداث كنت صبيًّا يافعًا.

أيامها كنتُ مزعجًا، جلَّاب مصائب.

كنت أكثر شبَّان القرية طيشًا، فأعرضَ عني الناس وفاضَ منِّي الكيل.

إعراض الناس عني في تلك الأيام ونفورهم كان أمرًا واقعًا وحقيقيًّا، لم أدركه رغم أني كنت موجودًا بينهم، أتنقَّل في الأنحاء مع الرائحين والغادين، وكثيرًا ما كانت قدماي تقودانني إلى حيث تقوم المشاكل ويثور اللغط دائمًا، فأمد أذني أسترق السمع، أيًّا ما كان موضوع الكلام أو أشخاص المتجادلين، وسرعان ما أندسُّ بين الصفوف أتابع كلَّ ما يُقال كلمةً بكلمة، سواء أكنتُ فاهمًا للقضية موضوع النقاش أو غير فاهم، ثم أقوم وأطير طيرانًا إلى كلِّ ركن في القرية أنقل وأذيع ما سمعتُه ورأيته إلى كلِّ مَن يصادفني، كبيرًا كان أو صغيرًا، فإذا لم أجِد في طريقي لا الكبير ولا الصغير رحت أكلِّم نفسي وأردِّد لحالي سيرة الوقائع التي رأيتها؛ خشية أن تنكتم الأخبار فتنفجر في باطني. ولم تكُن المشكلة في حدوث مثل هذا الانفجار بحدِّ ذاته، لكن في أن تطيح شظاياه بما أتصوره من حُب الناس لي، ومن جانبي فلم أتوانَ عن أن أسلك أي طريق يجلب إليَّ اهتمامهم ورضاهم، حتى أوقعني هذا المطلب في ارتكاب سخافات مهولة.

من ذلك مثلًا، ما حدث عصر ذاك اليوم الذي اجتمع فيه عدد من الناس عند شجرة الصفصاف يلعبون «البوكر» فدنوت منهم وفكرت في أن أجذب انتباههم فوثبت وثبة فهد على جذع الشجرة وجلست على فرعها أقلِّد صوت طائر الوقواق، وبقيت طويلًا أردِّد هتافه دون أن يكترث لي أيٌّ من الموجودين بالقرب مني، فانتابني الضيق واتخذت من موقعي، أعلى الفرع، مرصدًا لساحة اللعب ورحت أرمق اللاعبين والأوراق، وما هي إلا لحظات حتى كان فمي يتشوَّق إلى الفضول والثرثرة، وقلت في نفسي: ها هي ذي اللحظة قد حانت من تلقاء نفسها، فزعقت بأعلى صوتي: «فلان سحب الآن ورقة الشايب!» ورفع فلان رأسه متطلِّعًا إليَّ يتوعَّدني: «إن لم تبطِّل فسأطلع إليك أُزهق روحك.» فلما سحب علَّان الآخَر ورقة الآس لم أتمالك أنْ صحتُ في الجمع الواقف تحت الشجرة قائلًا: «الحقوا … علَّان يُمسك الآن في يده بورقة الآس!» فما كان من علَّان هذا إلا أن صرخ فيَّ: «إنْ كان فمك يوجعك من الحكَّة فسأُلقمك حجرًا يشفي أوجاعك!» ولم أبطِّل ولا حتى أُلقي في فمي بحجر يشفيني، بل ظللت أنادي وأزعق وأثرثر حتى ضجَّ الناس، وراحوا ينعتونني بكل رذيلة على ألسنة القبح السبعة، فأجبتهم من جنس ألفاظهم، ورددت عليهم شتمًا بشتم فلم يطيقوا الاستمرار على طاولة البوكر، وأخذوا يجمعون الحصى والزلط من تحت أرجلهم وهم يصطفون كصفوف مشاة جيش، ويرمونني في نفَس واحد، في محاولة هجومية كنت أظنها أول الأمر مجرَّد مناوشة سرعان ما تنقضي، شأنها شأن المزاح الثقيل، حتى ارتطمَت برأسي زلطة مترصِّدة ارتجَّ لها دماغي رجَّة عنيفة تردَّد صداها كمثل جلجلة النواقيس … وووننننغ … وفي إثرها ثلَّةٌ من نجوم لامعة انبهر لمَرآها النظر. ولحسن الحظ أني كنت مستنِدًا إلى فرع متين أحتضنه، فمنعني من السقوط وقد كدتُ يُغشى عليَّ، وأدركت أن الأمر أبعَد ما يكون عن التهريج السخيف، وأردت الاحتماء من الأذى، فتسلَّقتُ أعلى فرع ظننتُه مأوًى في ساعة الشدة، فإذا هو حطَب ذابِل، ما إنْ أسرعتُ إليه حتى أسرع بي فأخذني من ذراعي، فنزلنا معًا، إلى البِركة الآسِنة المُوحِلة، وأصدر الارتطام طرطشة مهولة تناثر منها الماء، ما سال منه وما تطيَّن … أي كان وحلًا فتيبَّس كالصلصال، وصارت له قرقعة مسموعة أثارت ضحك الواقفين، فأسعدني ضحكهم بحكم ما كان يعنيه من زوال الضغينة عليَّ، أسعدني فعلًا، برغم هيجان الدم في دماغي المرضوض، وكتل الوحل الذي غرقتُ فيه، وأغرقني من رأسي إلى أخمص القدم حتى أيقنت — وأنا أتملَّص زحفًا للخروج من البِركة الطينية كالقرد الموحول في شِبر ماء — بأني أنا الذي اندفعت إلى الفرع عامدًا، على نحوٍ غير مفهوم، أن يحدث ما حدث فأكون موضع انتباههم، ويضحكون مما ألمَّ بي، وأصبح باعثًا على سرورهم، لكن رأسي كان يؤلمني إلى حدٍّ ما، والدم يتدفَّق فيه مثل حشرات تزحف نازلةً من قشرة يافوخي دافئة طرية إلى وجهي ورقبتي، وكان الواقفون يُحملقون فيَّ وأنا أنظر إليهم وألحظ ملامحهم المتفحِّصة. فلما أسندتُ جسمي المترنح إلى جذع الشجرة سمعت أحدهم يزعق في فزع: «يا خبر … يظهر أن الولد مقطوع النَّفَس، وليس ببعيد أن تطلع روحه.» فحطَّ الذهول على الجميع، ثم صاحوا بعضهم ببعض، وتفرَّقوا من حولي كما تتفرَّق الريح أشتاتًا في خلاء، فتضايقتُ وملت بظهري إلى الوراء وغام الوجود أمامي، ووقع على عيني النوم فنمت.

عندما صحوت، كانت جمهرة من الناس تتحلَّق حول الشجرة، عرفت من بينهم عمِّي «ماليان» ذا الوجه المجدور، وكان وقتها يتولَّى منصب رئيس إحدى وحدات الإنتاج، نظرتُ فوجدته يُنهضني من رقدتي … «قُم، اصحُ يا روهان.» كان يناديني باسمي الذي عُرفتُ به أيام طفولتي الأولى، قال: «مالك؟ ولماذا جئتَ إلى هنا؟ كيف جرحتَ رأسك هكذا؟ انظر إلى نفسك وأنت في غاية البهدلة … وأمك دارت بالبلد لم تترك ركنًا إلا بحثَت عنك فيه، وهي تنادي وتسأل حتى ضاع صوتها صياحًا عليك، وأنت هنا تتسكَّع في منتهى الاستهتار … قُم … قُم بسرعة وعُد حالًا إلى البيت.»

تحت شمس النهار، شعرتُ بدوخة تلفُّ رأسي وسمعت عمِّي يقول: «نظِّف نفسك من الوحل الذي على رأسك وجسمك … أسرِع، لا تضيع الوقت.»

أطعتُ أمره، فأقعيتُ لدى شط البِركة ونثرت الماء فوقي فوجدته باردًا يؤذي جرح رأسي كلما انغمر به، فيعاودني الشعور بالألم، ووقتها كنتُ قد نظرت فلمحت العم «دو»، المسئول عن تربية المواشي في فريق الإنتاج، وكان يسحب ثلاثة ثيران ويأتي بها ليسقيها وهو يقودها ويزجرها بطريقته المميزة متوعِّدًا إياها: «لا … هذا لا ينفع أبدًا … هيا أسرِعوا، أسرِعوا ولا تخافوا … الخوف لا فائدة منه، المثَل السائر يقول: «العروس ذات الوجه العبوس لا بد ستلتقي بحماتها مهما طال الزمن.» يعني الشُّغل شغل مهما حصل!»

لم تكُن الثيران الثلاثة تحمل في أنفها حلقات، وكانت ترفع رأسها عاليًا تعاند سائقها وتختبر قوتها مع عضلاته، مثلما اعتادت في مرَّات كثيرة عندما كنت أراقبها وهي تتمرَّد وتتحدى بحُكم صداقتي الطويلة معها، ولطالما كنت أقودها مع العم دو، أيام الشدة الطاحنة الممتدة من الشتاء الماضي حتى أوائل هذا الربيع، إلى الأرض المغمورة بالجليد فكانت تعرف بغريزتها — مثلها في ذلك مثل باقي ثيران بلدتنا — ما يجب عليها أن تعمله، إذ كانت تتصرَّف على طريقة الثور المغولي، فتذهب وتنبش بحوافرها طبقة الثلج بحثًا عمَّا تحتها من حشائش وكانت صغيرة السن وقتئذٍ، فما كاد الشتاء ينقضي حتى كبرت، وصارت أقرب إلى حجم الثيران الكبيرة. كان اثنان منها متشابهَين تمامًا كأنهما من قالب واحد: الجسم كله لونه أصفر شاحب، بينما الفم وجزء من الرأس يميلان إلى البياض، وقد نودي عليهما باسم «روشي»، أما الثور الآخَر ذو اللون الأحمر الداكن فكان يصغرهما قليلًا، ويتميَّز بهضبتين بارزتين في ظهره، ربما لأنه كان الابن الأوحد للبقرة المغولية ذات الذيل المعوج، وبسبب تفرُّده هذا فقد أسميته «شوانجين» (ذا الهضبتين) والمشكلة أنه تفرَّد أيضًا بخصال رديئة همجية، فكم رأيته في المرعى إبَّان الشتاء الماضي يطارد أمه ويثب فوق ظهرها، ولم يكُن العم دو يكترث لهذا الانتزاء الغريب، باعتبار أن الأمر سيان، وأن امتطاءه لها مثل عدمه، لكنه سرعان ما اكتشف أن «أخينا» هذا ليس صغيرًا إلى ذاك الحد، وأن الموضوع يمكن أن يصل إلى اقتراف آثام بشعة بغير وازع من ضمير، فجاء بحبل غليظ وربط ساقَيه الأماميتين، ثم بدا أن القيد على هذا النحو لن يسلبه مقدرة امتطاء أي أنثى بما في ذلك أمه التي حبلت به. وكنت أذكر للعم دو كلمة قالها ذات مرة: «الخيول مثل أولاد الناس، لكن النعاج والبقر أحقر الأجناس.»

«اسمع يا عم دو … أنت خطوتك بطيئة جدًّا، ليتك تحاول أن تسرع قليلًا!» كذا صاح عمي ماليان وهو يواصل قائلًا: «ليس معقولًا أن تمشي هكذا على مهل ورفيقنا المحترم «لاو تونغ» ينتظرك على أحرِّ من الجمر.»

عند واجهة منزل آل «شياوجي» كان الرفيق لاو تونغ جالسًا القرفصاء يدخِّن لفافة سجائر ويقول: «كلها حاجات بسيطة … لا تستعجل، امشِ على مهل … على أقل من مهلك لو أحببت.»

الرفيق لاو تونغ رجل طويل القامة داكن البشرة، شفتاه رقيقتان تميلان إلى السمرة، عيناه غائرتان في محجريهما ويضع فوقهما نظَّارة سوداء، جسده يميل إلى النحافة وهو على أية حال الطبيب البيطري المعيَّن في النقطة البيطرية التابعة للكومونة الشعبية، التي هي عبارة عن مزرعة جماعية يملكها ويزرعها مجموعة من الفلاحين. رفيقنا هذا كان مدخِّنًا شرِهًا، السيجارة في يده يشعلها من سيجارة، ويظل يسعل ويشتد به السعال حتى يكاد ينشرخ صدره. ما بين إصبعه الوسطى والسبابة، في اليد اليمنى صُفرة واضحة تشي بتاريخه السجائري العريق، وطريقته في وضع اللفافة بين إصبعَيه جذَّابة جدًّا، أشبه ما تكون بطريقة أداء مغنيات المسارح وهُنَّ يُدلين بزهرة «لان هوا» بين أصابعهن في شيء من الروعة الساحرة والفتنة التي ليس لها حدود، حتى صرت مُولعًا بتقليده في هذا إبَّان مراهقتي.

أسرع العم ماليان وراء الثورين الأخوين «روشي» فضرب كلًّا منهما على قفاه ثم انعطف على شوانجين فركله، فتواثبوا ثلاثتهم سراعًا حتى بلغوا شجرة الصفصاف.

لمَّا هرولت الثيران سحبت وراءها العم دو، مع أنه هو الذي كان يجرُّها أصلًا، فأخذ يلهث في إثرها ويغمغم قائلًا: «… ما هذه العافية التي حلَّت عليكم … هل تأكلون زلطًا؟!»

زجره عمي ماليان بشدة: «ما لك تهمس لنفسك وتتباطأ هكذا؟ أليست عندك همَّة لكي تلحق بنا؟ كم نبَّهتُ عليك بإحضار الثيران والمجيء إلى هنا قبلما يمضي الوقت؟!»

قام الرفيق لاو تونغ واقفًا وهو يقول: «ولماذا الاستعجال؟ المسألة كلها لا تحتاج إلى أكثر من بضع دقائق.»

«بضع دقائق؟ تقصد أن إخصاء البهائم لا يأخذ إلا دقائق؟» والعم دو أخذ يهز رأسه الأصلع ويحملق بعينَيه متسائلًا: «كيف يكون الأمر هكذا يا أستاذ لاتونغ؟ هل تظن أنك تحكي لناس لا يفهمون كيف تُخصى الثيران؟ لعلمك، هذه ليست أول مرة أحضر فيها عملية إخصاء للمواشي.»

بلفافة التبغ المائلة في طرف فمه وحزام بنطاله في يده جرى الرفيق لاتونغ وراء جذع الشجرة فاستقبل حافة البركة، وأخذ يبول في الماء، فلما انقطع صوت طرطشة البول استدار راجعًا وهو يباعد ما بين ساقَيه قليلًا ويشبك الزرائر في فتحة بنطاله، ثم يمسح كفَّيه ويزر بعينيه حتى تضيقان ويسأل محدِّثه: «وأنت … متى بالضبط شاهدتَ عملية إخصاء ثيران، على قولك؟»

قال له العم دو: «ذلك كان قبل زمن التحرير … وكانت عملية الإخصاء معروفة، وكثير من الناس يعملونها للثيران، بحيث كانوا يجيئون بفتائل من كتَّان مُشرب بالزيت، ويربطونه حول الخصيتين ثم يعتصرونهما بدرجة تقطع عنها دوران الدم، ويأتون بعصًا من الأبنوس، زَلِقة من كثرة التزييت، ويفتِّتون بها الخصية المغطَّاة بقطعة من القماش ومسنودة فوق قالب من الحجر ويستمرون في الدقِّ بها حتى تنهرس الخصية، ومثل هذه العملية كانت تحتاج إلى نهار بطوله لثور واحد، وكنت تنظر في عينَي البهيمة فتجدها تدور كالمجنونة، حتى يتوه السواد في البياض فيُغشى عليها وتظل تخور وتزعق كأنها في طلوع الروح.»

نفخ الرفيق لاو تونغ عقب السيجارة المُدلى من فمه فطار بعيدًا وقال بشيء من الاحتقار: «تلك كانت طُرق همجية عتيقة، تخلَّصْنا منها الآن، لكن ما تقوله كان زمانًا ومضى … زمانًا عانى فيه الإنسان والحيوان أيضًا، فلم تكُن الظروف ترحم أحدًا.»

أضاف عمي ماليان: «يا سلام … هذا هو الكلام، نحن الآن في المجتمع الجديد … الكل يعيش فرحانًا سواء كان إنسانًا أو بهيمة!»

تكلم العم دو بصوت خفيض جدًّا: «لكننا نحن لم نسمع في المجتمع القديم عن حكاية إخصاء الذكور هذه، أصبحنا الآن نسمع عن إخصاء الكل، سواء كان حيوانًا أو حتى إنسانًا.»

قاطعه عمي ماليان قائلًا: «أنت يا كبير يا أهبل … يا مَن اسمك دو … اسمع، إذا كنت تحس بأنك عشت وزهقت من العيش فاطلع إلى بيتكم الآن بسرعة واشنق نفسك … وارحمنا من التخريف والكلام الفاضي!»

رمش دو بعينه فظهرت القرحة التي أصابت جزءًا من الجفن وقال: «وأنا … ما الذي قلته بالضبط؟ أنا لم أقُل شيئًا.»

رفع الرفيق لاو تونغ رسغه عاليًا ونظر في ساعته وقال: «نبدأ حالًا … استعد يا ريِّس … ليتك تراقب الوقت وتنظر كم تستغرق العملية مع كل ثور من هؤلاء.»

في الحال، كان الرفيق لاو تونغ يخلع ساعته ويسلِّمها إلى العم ماليان، وأخذ يشمِّر أكمامه ويعدل الحزام حول وسطه ثم أخرج من جيبه مطواة ذات نصل لامع، شكلها أشبَه شيء بأوراق شجر الصفصاف، لكنها في عزِّ الشمس كانت تبرق وينعكس على سطحها لَأْلَاء ضوء النهار. ومن جيب بنطاله الكبير أخرج علبة صغيرة داكنة اللون، وفتح غطاءها والتقط منها بإصبعَيه قطنة مستديرة مغموسة بصبغة اليود فمسح بها على نصل المدية ثم ألقى بها إلى الأرض، فأسرع المسكين «أوتشي» بالتقاطها ودلَّك بها ساقه المصابة بالجرب المزمن.

بانتباه شديد قال الرفيق لاو تونغ: «لمَّا أقول لك: ابدأ … فلا تتأخر يا ريس ماليان … هيا، الآن ابدأ.»

وضع العم ماليان الساعة على أذنه وأمال رأسه وهو يتنصت إلى دقات الوقت، وعلى وجهه أمارات اليقظة والجد، فجريتُ حتى صرتُ أمامه وقفزت عاليًا، وفي لمح البصر التقطتُ الساعة من يده وأنا أهتف: «وأنا أيضًا أريد أن أنصت إلى الساعة.»

ما إنْ وضعتُ الساعة على أذني حتى كانت يد العم ماليان تسرع بالقبض على رسغي بقوة، فتخطفها من يدي دون أن أسمع شيئًا من دقاتها، وبكفه الغليظة ضربني على رأسي: «كيف وأنت ولد مثل اللعبة تتنطط هكذا مثل العفاريت؟!» ثم انهال عليَّ شتمًا: «أنت مقرف، جلَّاب مشاكل ووجع دماغ!» ويبدو أنه لم يكن ينوي أن تنتهي نوبة التوبيخ هذه دون أن يصفعني بكفٍّ حانقة للمرة الثانية، وبرغم هاتين الصفعتَين فقد شملني إحساس بالرضا التام، ذلك أني استطعت أن ألمس بكفي ساعة الرفيق لاو تونغ، وفوق ذلك فقد تمكنت حقًّا وفعلًا من أن أضعها لصق أذني محاولًا الإنصات إلى دقاتها، وهو ما يعني أني كنت على وشك سماع دقات الساعة بأذنيَّ هاتَين.

قال الرفيق لاو تونغ للعم دو إنه يحتاج الآن إلى ثور واحد فقط، وأن عليه تسليم الاثنين الآخَرَين إلى أي واحد من الواقفين إلى أن ينتهي من العملية، فاستجاب له وسحب الثورين: شوانجين، وروشي الكبير، فقال له لاو تونغ بلكنته المحلية الغريبة على أسماع أهل هذه المناطق: «عظيم جدًّا … اتركني الآن وشأني، وعليك فقط أن تسحب المواشي التي معك بعيدًا عن هنا.»

أطاع دو الأمر وهو يغمغم بكلام غير مسموع، فتكلم لاو تونغ مع العم ماليان: «أريد منك خدمة يا ريس … عندما تراني قد مددتُ يدي في العمل، فلتبدأ فورًا في حساب الوقت، وساعة أن تراني اعتدلتُ واقفًا، فليس عليك إلا أن تنتهي من العد … أهذا مضبوط؟»

تردَّد العم ماليان وقال له: «بصراحة يا أستاذ لاو تونغ، وبلا مؤاخذة … أنا لا أفهم في تلك الحاجات ولا أعرف كيف أقرأ هذا العدَّاد الذي أعطيتَه لي.»

أسرَعَ إليه الرفيق لاو تونغ وأخذ يشرح له كيف ينظر في الساعة ويحسب الوقت، ولم أحفظ ممَّا ذكره سوى بضع كلمات، قالها لماليان: «ليس عليك سوى أن تتابع هذا العقرب الرفيع ذا رأس السهم الأحمر … هذه سهلة جدًّا … ولما يدور ويرجع إلى مكانه مرَّة ثانية … يكون قد دار مرَّة وتبقى هذه دقيقة، ودورة ثانية … تبقى دقيقة بعدها، وهكذا … سهلة جدًّا كما ترى.»

في هذا الوقت، كان العم دو قد استدار ناحيتنا وهو يسحب روشي الصغير.

قال له الرفيق لاو تونغ: «طيب … حوِّل وجهك إلى الناحية الأخرى، وخُذ الثور واجعل وجهه إلى قدَّام، ولا تُدِر وجهك إلا عندما أقول لك.»

قال دو: «فماذا يحدث لو استدرتُ تجاهك … على الرغم مني؟»

قال لاو تونغ: «لو استدرتَ فسأغرق لك وجهك بالدم.»

كانت الشمس في أوج طلعتها، فبدت حواف شعر الثيران كأنها مدهونة بطبقة من زبد، والعم دو يقف أمام الثور ويمد الحبل المربوط به على امتداده كأنه يسحبه إلى الأمام، فإذا بالثور يثبت مكانه معاندًا وهو يرفع رأسه المربوط بالحبل ويتقهقر بجسده إلى الوراء، كان عليه أن يتقدَّم لا أن يتأخر باعتبار أن الخطر يكمن وراءه بالضبط، حيث كان الرفيق لاو تونغ يقف ويراقب حركاته، فيما نحن جميعًا نقف وراءهما على مبعدة نحو أربعة أو خمسة أمتار، ونكاد نكتم أنفاسنا ونحن نتابع عكوفه على ما بيده، ولو أننا لم نكن نرى سوى ظهره، فسمعناه يصدر أمرًا سريعًا حاسمًا في عبارة قصيرة للغاية: «هيا يا ريس … ابدأ الآن!» ثم تطلَّعنا إلى الرفيق وهو ينحني بقامته النحيلة، ورأسه في وقفته هذه قد أصبحت بحذاء القتب البارز في ظهر روشي الصغير وقد أدخل يدَيه بين ساقي الثور الخلفيَّتَين، ثم لم يتضح لأعيننا تمامًا ما كان يفعله في ذلك الجزء من جسم الثور، ولو أننا كنا نعرف أن ثمَّة ما يتوجَّب عليه إنجازه في الموضع المشار إليه، وهو ما كان يبدو أنه منهمك في أدائه، حتى بدأ رأسه وقفاه وهما بحذاء قتب الثور يتأرجحان ويتناوبان الحركة، لكن الواحد منا كان يستغرب أن يجري كل هذا، بينما الثور باقٍ مكانه دون أدنى حركة أو اضطراب مع أن صوت لهاثه كان يتردَّد في آذاننا ثقيلًا للغاية، فكنت أتساءل: لماذا لا يقلب روشي الصغير أظلافه ويرفس وجه الرفيق لاو تونغ؟! فبينما نحن في ذلك إذا بالرجل قد فرد طوله واعتدل واقفًا، فلما تنحَّى عن مكانه تراءت لعيوننا كتلة بيضاوية من اللحم مطروحة فوق الأرض، لونها يميل إلى الرمادي الداكن، وكانت تنقبض وتنبسط قليلًا، فيما كانت خصية الثور الأخرى مستقرة فوق كفِّ لاو تونغ المفرودة وهو يتطلَّع إليها، وفي جانب فمه تدلَّت المدية التي تتخذ شكل ورقة الصفصاف، فلما تكلم نطق بلهجته المحلية في شيء من الخنَّة الواضحة وكأن الكلام يخرج من أنفه رأسًا، قال: «خلاص يا ريِّس … انتهت العملية بالتمام.»

«ولو أن العقرب لم يتم ثلاث لفَّات.» أشار ماليان … «فلنقل إنها ثلاث لفات … يعني بالتقريب!»

بقيَتْ عينا العم ماليان تدقق في ميناء الساعة، ففات عليه منظر «العرض الجماهيري» الذي قدَّمه الرفيق لاو تونغ بصحبة العِجل روشي، بل إنه زعق مستغربًا: «هه؟ يعني انتهيت من العملية؟» انتقلت عينه بسرعة إلى الكتلة البيضاوية في كف لاو تونغ واندهش جدًّا: «عجيبة! في أقل من ثلاث دقائق … تُخصي عجلًا بحاله! بهذا، أنت تستأهل أن يقول الواحد عنك، بحق، إنك عفريت ثيران!»

استدار العم دو ونظر إلى مؤخِّرة العجل وساقيه المنفرجتين فإذا كيس الصفن فارغ من البيضتَين، والدم يقطر منه فلم يلبث أن أشار عليه بمسألة ضرورية، قال: «لكن مطلوب الآن يا أستاذ لاو تونغ أن تخيِّط الجرح!»

أجابه الرفيق قائلًا: «إذا كنتم تريدون أن أخيطه لكم فليس عندي مانع، سأقوم فورًا وأخيطه، لكن ما أعرفه بحُكم خبرتي على مرِّ السنين هو أنه يستحسن عدم الخياطة.»

صاح العم ماليان بصوته الجهوري: «ما هذا التخريف الذي تقوله يا عم دو … ألا تعرف أن الرفيق لاو تونغ طبيب بيطري متخرِّج في الجامعة وكل دراسته وخبرته طوال عمره في هذا الشغل … بصراحة لا بد أن أقول لكم كلمة … وعساها كلمة صعبة، لكن احتملوني … إن عدد الخُصَى التي استأصلها هذا الرجل أكثر من أرغفة الخبز التي حشوتم بها بطونكم.»

«هذه مجاملة منك يا ريِّس!» وبينما مدَّ إصبعَيه الغارقَين في الدماء وضبط بهما النظارة السميكة فوق أنفه، مال والتقط الخصية المطروحة فوق الأرض، ووضعها مع أختها عند حافة ناتئة من جذر الصفصافة وقال: أسرِع يا عم دو … هات الثور وتعالَ.»

أخذ الثور الأصغر فسلَّمه إلى بعض الواقفين، ثم استلم من بعضهم الآخَر الثور «روشي» الكبير، وتطلَّع في قلق واضح ناحية الرفيق لاو تونغ الذي أومأ له بالإشارة بإحضار الثور حالًا، فلم يلبث أن سحب العجل إلى أن أصبح قُدامه، وكان «روشي» الكبير كأخيه الأصغر حرونًا يُحجم عن المشي كلما نخسوه، فتعاطفتُ معه وداخَلني الهم لأجله … فما الذي يمنعك يا روشي الكبير من أن تهرب، تقفز وتنسل ناجيًا بجلدك ممَّا يسوقونك إليه، أما دريتَ بما حصل لأخيك الأصغر؟! وأقعى الرفيق لاو تونغ على الأرض دون أن تتردَّد في حَلْقه نأمةُ صوت، بينما انشغل العم دو عن النظر في ميناء الساعة بمراقبة الطبيب لاو تونغ، ثم إننا خطونا بأقدام لا نملك لها تقييدًا صوب الموضع الذي استلمه الطبيب ذو الدراية، فما هو إلا أن لمحنا كتلة بيضاوية رمادية اللون تتدحرج فوق كومة تراب ساخنة، ولم نلبث حتى رأيناه يستلم بكفه الخصية الثانية، ويضع المدية المسحوبة الشكل كورقة صفصافة في جانب فمه، فيعتدل واقفًا، وحينئذٍ سمعنا العم دو وهو يخبط على فخذه قائلًا: «اسمع يا رفيق لاو تونغ … أنا من هذه اللحظة مُصدقك لو قلت أي شيء … وسأكون ابن كلب لو جادلتك في أي حاجة! هذه بحقٍّ خفةُ يد لم أرَ لها مثيلًا … ولا حتى خفة يد «سونزي» الذي قيل في الأمثال إنه يقطف الثمر من يد الحارس وعينه مفتوحة!»

أخذ رفيقنا خصيتَي «روشي» الكبير ووضعهما أسفل الشجرة بجوار الاثنتين الأخريين، ثم استدار عائدًا وهو يثبِّت النظارة على حافة أنفه بطرف إصبعَيه المصبوغتَين بالدماء، وأشار بحركة من ذقنه إلى العم دو بأن يأتيه بالثور شوانجين … ذي السنامين، لكن الرجل نظر باستعطاف إلى ماليان قائلًا له: «هل يمكن يا ريِّس أن تدع هذا الثور، على سبيل الاحتياط للظروف؟»

رد عليه: «احتياط لماذا؟ فأنا سبق أن قلت لكم مائة مرة، وأوصيتكم بأن تأخذوا بالكم من هذا العجل، فماذا فعلتم؟ لم تفعلوا شيئًا وتركتم العجل ينزو على البقر … وكل خوفي أنه قد يتسبب في إفساد السلالة التي في بطون الأمهات!»

ألقى الرفيق لاو تونغ بالمدية المدلاة من جانب فمه، أو قل بالضبط، إنه تفلها، أي نثرها كالبصاق، وسأل مأخوذًا: «ماذا تقولون؟ هل هذا الثور يسافد الإناث؟ هل سبق له نتاج من البقر؟»

انبرى لساني على الفور مقاطعًا المتحدثين: «كل البقرات في وحدتنا الإنتاجية … الثلاث عشرة بقرة كلها انتزى عليها وحملت منه … حتى أمه، وثب عليها وأولدها عجولًا!»

صاح بي العم دو: «أنت ولد عبيط وقليل الأدب … لم تتأدب وتعرف أن التدخل في كلام الناس عيب … هل أدَّبَك أحد؟ ما شأنك بهذا الكلام وأنت حتى لا تعرف من أية فتحة يبول البقر!»

قلت: «رأيته بعينيَّ هاتين وهو يسافد كل البقر في الوحدة، أنا وحدي الذي أعرف ذلك من دون الناس جميعًا، ولما أقول هذا، يكون كلامي صادقًا، العم دو لم يشاهد شوانجين إلا وهو يقفز على ظهر أمه فقط، وظن أنه إذا ربطه من رجليه انتهت المشكلة، وسحب البالطو الثخين المبطن بالفراء وراح ينام عند شاطئ المصرف، وقال لي: اقعد هنا، اجعل عينك على العجول، لكني كنت أنا الذي شاهدتُ الواقعة كلها التي حصلت بعد ذلك، لما قامت قومة «روشي» الكبير وأخيه الأصغر، وصارت ديوكهما تنتصب من تحت بطنهما، رفيعة وحمراء مثل قرون الفلفل، وراحا ينطان على ظهر البقرة، فاستدارت هي ونطحتهما، لكن شوانجين غيرهما، لأنه كان لئيمًا يخفض رأسه، ويتظاهر بأنه يأكل العلف، وبهدوء تام وبكل خبث يلتصق بجانب البقرة، ويبقى ساكنًا لفترة، ثم … بم بم … ينطلق ديكه الصغير فجأة ويقفز بقوائمه على ظهرها، وساعتها جريت وأمسكت العصا وبقيت أنخسه في مؤخرته حتى ينزل عنها، وهو لا ينزل ولا يهتم بأي شيء.»

كنت فرحانًا أني تكلمتُ على راحتي لكني سمعت العم ماليان يزأر غاضبًا، فخُيِّل إليَّ أن الأرض وقعت عليها صاعقة وركبني الخوف وأنا أرى وجهه ينقلب إلى الزرقة من الغضب، بينما عيناه تصوبان نظرات تهديد تكاد تنغرس فيَّ كالمخرز.

«كل المشرفين هنا سواء السابقين أو الحاليين الذين تعاونوا مع المجلس المحلي، وأنا واحد منهم، كانوا ناسًا طيبين وأخلاقهم عظيمة ولا يمكن أن يحصل في وجودهم هذا الكلام الدنيء!» وبخبطة من كفه المفرودة أطاح بي العم ماليان بعيدًا، ثم قلب وجهه ناحية دو وقال له: «ماذا تنتظر؟! اسحب الثور وتعالَ!»

قال الرفيق لاو تونغ: «اهدأ قليلًا … وأمهلني حتى أرى.»

مال الرجل بوسطه ومد يده بين ساقي شوانجين يتحسس الموضع المقصود، فتقلص جسد الثور، ودفع ساقيه القويتين إلى الخلف، فرفس الرفيق في ركبته، فتأوَّه من الألم وسقط على أليته.

أسرع إليه ماليان وأسنده حتى وقف وسأله باهتمام: «على مهل يا أستاذنا … خير، هل حصل لك مكروه؟»

انحنى لاو تونغ وهو يمسح على ركبته برفق، ويزم شفتيه حينًا ثم قال: «لا … جاءت سليمة … هذا شيء بسيط.»

راح العم دو يضرب ظَهْر شوانجين بكفه وهو يبستم ضاحكًا، ويقول: «يا بن الأنذال … كيف تجرؤ على رفس الرفيق لاو تونغ؟ أنت هكذا طَوال عمرك … حَرُون وطائش!»

مشى الطبيب وهو يعرج بقدمه حتى وصل إلى جدار بيت عائلة شياوجي ولما وجد نفسه تحت تعريشة البوابة واطمأن إلى الظل المفروش عندها، أقعى على الأرض وقال: «ابحث لي عن حل يا ريِّس ماليان … فهذا الثور لن أعمل له عملية إخصاء!»

سأله بلهفة: «لماذا؟»

أجابه قائلًا: «إذا كان قد نزا كثيرًا وتسافد مع البقر، فمعنى هذا أن شرايينه أصبحت غليظة، وأية محاولة قطع غير مضبوطة، سوف تسبِّب نزيفًا داميًا.»

قال ماليان: «وهل تصدِّق أنت هذه التخاريف التي يقولونها؟! هذا مجرَّد ثور صغير، أصغر حتى من الاثنين الآخَرَين، ثم إنه مولود بعدهما بشهرين!»

مدَّ الطبيب يده وقال لماليان: «أعطِني … بعد إذنك.»

سأله مُستفسِرًا: «أعطيك ماذا؟»

قال: «الساعة … ساعتي من فضلك.»

رفع ماليان يده وتأمل الساعة وهي مشدودة فوق معصمه، وقال: «وهل معقول أن أحجب عنك ساعتك وآخذها لنفسي؟ شيء غريب فعلًا!»

قال له الطبيب: «هل فتحتُ فمي بهذا؟ أنا لم أقُل إنك تحجبها عني وتأخذها لنفسك.»

كلَّمه ماليان وقال: «اسمع يا أستاذ لاو تونغ … نحن عملنا المستحيل لكي نأتي بك اليوم، فقط لكي تأتي مرة واحدة إلى هنا … اسمعني بهدوء وافتح أذنَيك جيدًا، نحن هنا ظروفنا صعبة أكثر مما تتخيل … ليس فقط بالنسبة للمحاصيل وخلافه، بل حتى الحشيش الأخضر نلاقيه بصعوبة … وإلا ما كنا نضطر أن نرعى البقر في عز البرد، ويا ليتنا نجد له العلف على قدر المطلوب دون نقص أو زيادة، فالعجول هي عصب حياة الأهالي وأساس عملهم وعيشتهم، ومَن يذبح بهيمته يخربوا له بيته، ويجرجروه بين المحاكم والغرامات والتحقيقات، وحاجات ما يعلم بها ولا يتصورها إلا مَن اكتوى بنارها، ولذلك تبقى المواشي قدَّامنا تطلب الذبح وليس مَن يقدر على أن يذبحها، فيصبح الواحد منا في أزمة: لا هو قادرٌ على أن يُحيي البقرة ولا يُميتها، يعني يكون عاجزًا عن إيوائها، وفي نفس الوقت ممنوع عليه غرس السكين في بدنها، وأنا قلتُ السنة التي فاتت للمعلم دو ونبَّهت عليه أنه إذا أصبح البقر في البلد عِشارًا فسأخصم له مكافأة العمل في الوردية، لكن الكل سدَّ آذانه وامتلأت البيوت ببطون بقر حوامل، فاجعل نفسك مكاني يا رفيق لاو تونغ، وفكِّر في المسألة بعقل هادئ … فنحن بجد، مضطرون لما نفعل، وإذا لم نعمل على إخصاء الثيران فسيخرب مشروع وحداتنا الإنتاجية ولن نجد ما نأكله … تصوَّر أننا السنة الفائتة أخذنا ثلاثة عجول صغيرة ورميناها بالعمد في سوق «جياوتشو»، ورجعنا إلى بيوتنا في منتهى السعادة بعد ما تخلَّصنا من عبئها علينا لكن الفرحة ما تمَّت، لأنها رجعت لنا بعد يومين، ويا ليتها عادت وحدها، لا … بل جاءت معها بعجلين آخرين وجرينا وراءها بالعصِيِّ وضربناها لترجع من حيث جاءت، بلا فائدة، والأدهى من هذا كله أنه لمَّا قام أحد أمناء المزارع بضرب العجول لطردها، راح واحد من الناس وبلَّغ لجنة الكومونة الشعبية بهذه الواقعة، فما كان منها إلا أنها بعثت في طلب حضور السيد الأمين المُشار إليه، وأوصَت بإرساله إلى مشتل القطاع الجنوبي، في دورة تقويم دراسي لمدة شهر بحُجة أنه محتاج إلى تقويم وتعديل في السلوك … وإذا قلت لواحد اذهب إلى مشتل القطاع الجنوبي، يقول لك الجحيم أرحم! المهم إنهم استلموا «أخينا» هذا واتهموه بأنه يُخرِّب الإنتاج ويعطِّل القوى الشعبية المُنتِجة ويقوم بأعمال معادية للثورة … وضربوه علقةً مُعتبرة حتى كسروا رجله، فأُصيب بعاهة مستديمة، ما يزال يُعاني منها إلى وقتنا هذا، وانتهى به الأمر إلى أن قعد في بيته وهو يحبو على الأرض عاجزًا عن المشي …»

قاطعه الرفيق لاو تونغ قائلًا: «خلاص … اعفِني من المشاكل … وكلامك هذا يا ريِّس ماليان يجعلني أرفض بشدة أن أفكِّر حتى في الاقتراب من المواشي عندكم، لأني — حسب قولك — لو حاولت إخصاء الثور ومات من النزيف فسيُرسلوني إلى دورة التهذيب بالمشتل الجنوبي إياه … وأنت تعرف الباقي.» قام الرجل واقفًا وهو يقبض على حفنة من التراب فرك بها يدَيه ومشى يعرج برجله ناحية الدراجة فركبها وداس على البدَّال وتهيَّأ للمضِيِّ في طريقه.

أسرع إليه ماليان وسدَّ عليه الطريق وجذب المِقوَد عنوة، ثم أغلق القفل وأخذ المفتاح وألقاه في جيبه، قال: «إذا لم تقُم بإخصاء هذا الثور الآن يا عم لاو تونغ فلا تفكر في الذهاب من هنا بأي شكل من الأشكال!»

احمرَّ وجه الطبيب، وأخذته رعدة الغضب حتى صارت شفتاه ترتعشان وهو يزعق: «ما لك يا رجل … ما شأنك بي؟ وكيف تتصرف معي هكذا؟»

ضحك ماليان قائلًا: «أنا هكذا … افعل ما شئت بي لكني لن أتركك تمضي.»

انفجر فيه الرفيق لاو تونغ من الغيظ: «أنت نذل … جبان.»

ضحك ماليان مستأنفًا قوله: «بالضبط … أنا نذل وجبان فعلًا … فليس لك معي حيلة!»

أجابه: «الناس أصبحت، هذه الأيام في منتهى السفالة، الكل تعلَّم اللؤم والخسة … لا حيلة مع أمثالك طبعًا … هل بيدي شيء؟ أبدًا … وقت الجد سيُقال إنني ورَّطتُ نفسي مع الفلاحين المُعدِمين … الكوادر القيادية … المسئولين الإداريين.»

قال له ماليان: «لا داعيَ لهذا الكلام الذي يُغضب الناس بعضهم من بعض يا رفيق لاو تونغ، وإذا كنت معنا بقلبك وعزمك فتعالَ اقطع خصيتَي الثور هذا وخلِّصنا من المصائب، أما إنْ كنتَ غير قادر على تقدير ظروفنا … فما باليد حيلة … ماذا نفعل؟ كل ما نستطيعه هو أننا سنأخذ ساعتك ودراجتك ونذهب بها جميعًا إلى السوق ونبيعها ونشتري بثمنها قش الأرز وعلف العجول، وليكن في علمك أن تعريض مواشي الفلاحين في المزارع الجماعية للموت أو الهلاك جوعًا يُعتبر مشكلة خطيرة.»

رد عليه: «ما هذا التخريف يا رجل؟ ما شأني أنا بالهلاك والخراء الذي أنتم فيه؟ ما علاقتي أنا بموت المواشي؟!»

قال ماليان: «طبعًا لك علاقة … كيف لا يكون لك علاقة بهذا؟ لا بد أن تعرف أنها مشكلتك أيضًا … لأن العجول في المزارع لو ماتت فسيتوجَّه إليكم السؤال في الوحدة البيطرية … ماذا فعلتم لأجلها؟ وما دوركم بالضبط؟ فلولا المواشي الموجودة هنا ما كان أحدٌ قد أنشأ لكم وحدة صحية … فالمواشي جاءت أولًا وأنتم وراءها.»

لم يجد الرفيق لاو تونغ فائدة من مجادلته، وقال له: «الكلام مع ماكر خبيثٍ مثلك لا رجاء معه! صدَق مَن قال في المثل … «لو كان بين العشرة مشرفين تسعة ملاعين، لكان العاشر أسخم من الشياطين» … هذه هي أحوال المشرفين من أمثالكم!»

«قل ما بدا لك … على راحتك … لكن الوضع كما قلت لك بالتفصيل وبكل وضوح … ضع عقلك في رأسك واحسم أمرك … تعمل العملية أو لا تعملها … هذا كله يرجع لك.» كان ماليان يتكلم عبر ابتسامة كبيرة على وجهه ثم رفع ساعِده ووضع الساعة بجانب أذنه متصنِّتًا إلى دقاتها، متصنِّعًا الزهو بها قائلًا: «يا سلام! صوت ذهبي … دقات ساعة أصيلة … محترمة!»

قال له الرفيق لاو تونغ: «هاتِ الساعة … قلت لك!»

والريس ماليان زرَّ عينَيه قليلًا، قال: «هل معك إثبات أن هذه الساعة ملكك؟ أنت طَوال الوقت متمسِّك بهذا الادعاء بأنها ساعتك … طيب، هل يمكن أن تُنادي عليها؟ قُل لها أن ترد عليك … فإذا ردَّت فسأعطيها لك فورًا!»

قال له لاو تونغ وقد فاض به الكيل: «كان يومي هذا يوم نحس … من لحظة أن تطلَّعتُ إلى منظرك المقرف! خلاص … خلاص، هات العجل وتعالَ لأستأصل له خصيته … وحتى أنت أيضًا يا أقذر نذل، لو أحببتَ أن أقطع لك ذكورتك بالمرة، فليس عندي مانع!»

رد ماليان عليه: «كان بودي فعلًا … على يدك الخبيرة هذه، لكن للأسف، فقد أرحتُ نفسي منذ زمان، منذ السنة قبل الماضية على يد عمنا الجراح ليو «كوايداو» (ذي المشرط الحامي) في مستشفى الكومونة.»

أمسكَ الرفيق لاو تونغ بالمشرط وقال: «اسمع يا ريِّس ماليان … نحن قلنا كل ما عندنا من حلو الكلام ومُرِّه، لكن اعمل حسابك أنه لو حدث أي شيء طارئ لهذا الثور فستتحمَّل أنت المسئولية كاملة … المسئولية كلها … كاملة يعني كاملة!»

أجابه ماليان: «حادث طارئ؟ ماذا يعني حادث طارئ! وعلى أي شيء كل هذا … هي مجرد قطعة لحم مدلاة، وجودها مثل عدمه، وتقول لي … حادثًا طارئًا؟!»

تطلَّع لاو تونغ ناحية جمهرة الواقفين متوجِّهًا بكلامه إلى الجميع قائلًا: «اشهدوا يا كل الموجودين … من أُجَراء وفلاحين … أنني رفضت عملية إخصاء الثور، لكن الريس ماليان أرغمني عليها بالغصب.»

لحقه ماليان قائلًا: «حاضر … موافق، أنا أرغمك على العملية … وأنا أيضًا المسئول مسئولية كاملة لو حصل أي شيء.»

قال لاو تونغ: «اتفقنا … وكل واحد عند كلمته … مَن يقُل كلمة يلتزم بها … ليت كل واحد يكون عند قوله حقًّا.»

استعجله ماليان: «يا سيدنا الأستاذ … ليتك تختصر كلامك وتشوف شغلك!»

أخذ الطبيب يرقب الثور شوانجين، بينما كان هذا يتطلَّع إليه شزرًا بجانب عينه، فما كاد لاو تونغ يقترب من ذيله حتى استدار بمؤخِّرته واستتر بالعم دو، فأسرع الرجل ودار به دورة كاملة ليكون في الصدارة، فلم يلبث الثور أن لفَّ بجُرمه هو الآخَر، وعاد مرَّة ثانية ليحتمي بظَهر العم دو الذي تأفَّف مستنكِرًا: «ياه … هذا ليس ثورًا، بل عفريتًا!»

نظر لاو تونغ إلى الريس ماليان، وقال له: «ما رأيك؟ لست أنا الآن الذي أرفض الشغل.»

رد عليه قائلًا: «مَن كان يستمع إليك منذ قليل، كان يتصور أنك قادر على أن تخصي الأسد في عرينه … ومَن ينظر إليك الآن يستغرب قلة حيلتك أمام عجل صغير … لك مدة وأنت عاجز عن ترويضه، يا فرحتي بك! هاتِ المشرط واسترِح أنت على جنبك وتفرَّج عليَّ أنا الفلاح الفقير الذي ما دخلتُ جامعة الطب في حياتي … أمدُّ يدي بضربة واحدة أقطع له ذكورته! وخلِّ أمثالك يأخذون فلوسهم ومرتباتهم من الحكومة على الفاضي!»

تصاعد الدم الحار إلى وجه لاو تونغ وقال له: «تعرف يا ماليان … أنت — بلا مؤاخذة — مثل الكلب الذي ينبح على المهذبين ويسكت على الأوغاد! وعمومًا فأنا أُقسم لك بألَّا أعود إلى محل عملي في الكومونة إن لم أعمل المطلوب من ناحية إخصاء العجل.»

قال ماليان: «ليتك تتكلم على قدرك وتترك هذه العنجهية.»

سكت لاو تونغ، وأقعى تحت مؤخرة شوانجين فلم يمكِّنه من لمسه واستدار في الحال فلحق به، فدار حول العم دو ودارت معه أنشوطة الحبل حول جسد المسكين ثلاث لفَّات أحكمت حصارها لحركته، فتقيَّد بقيده وأخذ يزعق بأعلى ما في صوته: «ضيَّعني العجل الهائج …»

انتهز لاو تونغ الفرصة السانحة فأدخل يدَيه بين ساقَي شوانجين، وما كاد يلمس خصيته حتى كان حافر الدابة يلكمه في بطنه، فصرخ ووقع على الأرض من الألم، في حين كان الثور قد مال قليلًا بجسمه وأصبحت ذؤابة ذيله تدور كالمروحة، وصادفت دورتها نظارته فطوَّحَتها بعيدًا فلم يكترث لها الرفيق لاو تونغ، الذي ما كان لشيء كهذا أن يشتِّت انتباهه؛ إذ طالما خبر التعامل مع البهائم على مدى عمره وعرف كيف يحمي نفسه وقت اللزوم من شيطنتها، وهكذا، فقد تدحرج بجسده على الأرض حتى بلغ المنطقة «الآمنة»، أي التي تبعد عن حدود خطر الاحتكاك المباشر مع الثور العاصي، فهرع العم ماليان والتقط النظارة من تحت أرجُل العجل، بينما أسرع بعض الواقفين إلى الطبيب فحملوه ومشوا به حتى أجلسوه تحت نافذة بيت آل شياوجيا، وقد تلوَّن وجهه واربدَّت جبهته طافحة بالعرق الغزير، فترفق به ماليان وسأله باهتمام: «قل لي … هل جرى لك شيء يا رفيق لاو تونغ؟ هل أُصِبتَ بشيء؟»

لم ينطق الرجل بشيء، وكأنه صار عاجزًا حتى عن التنفُّس، وظلَّ صوته مختنقًا فترة من الوقت، ثم إذا به ينهار فجأةً ويقول لمحدِّثه: «اذهب عني يا أخي … عليك وعلى أهلك ألف لعنة!»

اعتذر له ماليان: «لا تزعل مني … أنا أعتذر لك وأتأسَّف عن كل ما حصل بسببي … انسَ موضوع الثور هذا، خلاص … لا إخصاء ولا غيره هذا النهار، قم تعالَ عندي في البيت … أنا كنت أنوي أن أستضيفك اليوم وقلت لامرأتي أن تشتري لنا زجاجتَي «بايجو» (عرقي أبيض).»

ظهر أن أوجاع لاو تونغ سكنت بعض الشيء، خصوصًا عندما أخرج من جيبه لفافة تبغ مثنية تكاد تنفرط من انثنائها فأشعلها بيد مرتعشة، وجذب منها نفَسًا عميقًا حبسه في صدره لفترة ثم نفثه من منخارَي أنفه دفعة واحدة.

«بكل أمانة وصدق أعتذر لك يا عم لاو تونغ!» وأمسك ماليان بالنظارة السوداء فراح يمسح زجاجها في بنطاله ثم أعادها إلى الطبيب المكروب، وسارع بخلع الساعة من يده ومعها مفتاح الدراجة، وواصل قائلًا: «مدَّ يدك خذ مني حاجاتك كلها … الواجب أن أرجعها لك … تفضل!»

أشاح الرفيق لاو تونغ بيده ولم يأخذ شيئًا بل هبَّ واقفًا فجأة.

«يا خبر … أنت زعلان بجد؟ يا أخي أنا كنت أمزح معك … هذه مجرد دعابة ليس أكثر!» هكذا قال له ماليان … «تعالَ معي نروح إلى البيت … نقعد ونشرب معًا.» كان يكلِّمه ويُمسك بذراعه وهو يمشي بجانبه يسنده ويسرِّي عنه ثم يلتفت إلى العم دو ويصيح به: «خلِّ بالك يا عم دو … خُذ العجول وارجع حالًا ولا تتأخر!» واستدار وقال لي: «اسمع يا روهان … هات البيضات الأربع من عند الشجرة، وخذهم إلى البيت عندي، أعطِهم لامرأة عمك هناك، وقُل لها أن تقليهم وتحطهم في طبق بجانب زجاجة العرقي … لا تنسَ أن تقول لها بأن تنزع عِرق البول منها … وإلا فمَن ذا يأكلها وهي مليئة بالصنان؟!»

امتثالًا لأمره جريتُ ناحية بيضات الثور المطروحة بجانب الشجرة ولاحظتُ أن العم دو يحدِّق فيها باهتمام شديد، بينما كان يجذب العجول ويجرها راجعًا من حيث جاء، وفي تلك اللحظة ترامى إلى الأسماع صوت الرفيق لاو تونغ وهو يصيح: «تمهلوا!»

أخذتنا المفاجأة وسأله ماليان محاذرًا: «ماذا جرى … خيرًا يا أستاذنا؟»

لم يكُن لاو تونغ ينظر إلينا ولا إلى ماليان الماشي بجانبه، بل كان مصوِّبًا نظراته المغتاظة إلى تلك الكتلة البيضاوية المدلاة بين ساقَي شوانجين، وبحرقة بالِغة راح يضغط على جذور أسنانه ويقول: «أقسم بعمري … يا خُصَى الكلب، أن أقطعك اليوم تقطيعًا … وإلا فسأكتب اسمي بالمقلوب!»

أسرع ماليان بسحب الطبيب من ذراعه ليواصل الطريق معه قائلًا له: «خلاص … أخرِج هذا الموضوع من رأسك يا أستاذ لاو تونغ … واحد كبير مثلك … طبيب بيطري قَدْر الدنيا، لا يحق له أن يشغل نفسه بعجل صغير ويحرق دمه من أجله … نحن طبعًا تضايقنا أنه رفسك في ركبتك، فلما جاءت الضربة الثانية في بطنك انشغلنا عليك. وعن نفسي أحسستُ بالقلق وتألَّمتُ لأجلك، صدِّقني.»

فتح لاو تونغ عينَيه على اتساعهما وقال لمحدِّثه: «اسمع يا ريِّس ماليان … ليس هناك داعٍ أبدًا أن تسخر مني بهذا الأسلوب الملتف من وراء الكلام، ولا تحاول أن تُثير غضبي وتخرجني عن شعوري أمام الناس. ثم إن هذا الذي تراه ليس ثورًا عاديًّا … بل هو فيل، أو ربما … نمر في هيئة عجل … أنا أقسمتُ أن أُجري له عملية الإخصاء اليوم … واليوم يعني اليوم.»

رد عليه ماليان: «أنا رأيي — يا رفيقنا العزيز — أن الموضوع انتهى عند هذا الحدِّ.»

شمَّر لاو تونغ عن أكمامه وشد الحزام جيدًا حول وسطه، ولمعَت عينُه ببريق إرادة ماضية لا مُعقِّب عليها، ووثب وراء الثور الذي أحسَّ بما يُراد له فأخذ يعدو هو الآخَر، فأسرع العم دو يجذبه بقوة، ويميل بجسده كله إلى الخلف وهو يُثبت كعبَيه في الأرض ويلتفت وراءه مستنجدًا بماليان، ويصرخ بكل ما في طاقته: «يا ريِّس … قُل لي ما العمل؟ سيفلت العجل من يدي غصبًا عني …»

صاح به ماليان: «إياك أن يغلبك يا بن القحبة … إذا أفلتَ منك … فسأُخصيك أنا بيدي!»

جرى رئيس الوحدة الإنتاجية، العم ماليان بنفسه، ولحق بالعم دو، وجعل يجذب معه العجل الهائج ليعينه في السيطرة عليه.

قال الرفيق لاو تونغ: «يظهر أنه لن تنفع معه سوى طريقة واحدة … هي الطريقة الغبية.»

سأله ماليان: «ماذا تعني ﺑ «الطريقة الغبية؟» … قل لنا ما هي بالضبط؟»

أجابه قائلًا: «لازم قبل أي شيء أن نربط العجل في جذع الشجرة.»

وقام العم دو وربطه.

تطلَّع لاو تونغ إلى الشجرة من فوق إلى تحت وقال لِدو: «هاتِ لنا حبلَين غليظين، ولوح خشب كبير.»

وسأله دو: «هه؟ إذَن، أنت تفكِّر تقريبًا في أن تربطه!»

قال لاو تونغ: «ليست هناك سوى هذه الطريقة مع البهيمة المُتعِبة.»

التفت ماليان وأمَرَ المدعو «خوبا» بأن يُسرع من فوره إلى أمين المخازن، ويأتي من عنده بالحبال واللوح، في أسرع وقت، فأطاع الرجل الأمر، وانطلق كومضة مارقة.

من جيبه أخرج لاو تونغ سيجارة وأشعلها، وقد راق مزاجه كثيرًا، ثم أخرج أخرى وناولها إلى ماليان الذي شكره بامتنان، والعم دو بجانبهما يخنفر بأنفه في صوت مسموع كأنه يلفت إليه انتباه الطبيب الغافل لكن الرجل لم يلحظه، بل كان مشغولًا بأن يوجِّه كلامه إلى ماليان: «في السنة الفائتة قالوا لنا إن المزرعة الحكومية الكائنة بمنطقة «جياوخي» يوجد بها أحد البغال البرية، واشتكى الأهالي من أنه كان مصدر خطر عليهم، باعتبار أنه كثيرًا ما كان يرفس المارة ويعضُّهم في الطرقات … المهم أني ذهبت إلى هناك وكشفت عليه، فإذا كيس الصفن عنده، بخلقته الطبيعية، يحمل ثلاث بيضات، ثم إنهم قالوا لي إن الاقتراب منه مسألة في غاية الخطورة، لكن هل كان ذلك يمنعني عن مهمتي؟ أبدًا … برغم كل شيء أدَّيتُ عملي، وأخصيته في الحال!»

رد عليه ماليان مؤكدًا: «لذلك كنتُ دائمًا ما أقول إننا لو جئنا لك بنمر ابن نمر … فلن يصعب عليك إخصاؤه، مهما حصل!»

واصل الرفيق لاو تونغ كلامه قائلًا: «أتظن بأن بكلامك هذا مبالغة؟ لا، أنت فعلًا لو جئتَ لي بنمر فسأُخصيه لك … بجد، تسألني كيف؟ أقول لك إن عندي طريقتي لذلك، انظر لأقول لك شيئًا … في حكاية الصحة والمرض فأنا أستطيع أن أؤكد لك بأن هناك مرضًا يستعصي على العلاج … لكن ليس هناك ثور يستعصي على الإخصاء … مستحيل!»

العم دو غمغم بصوت خفيض جدًّا قائلًا: «صدق من قال … أنت نافخ أبواق!»

وربما كان الطبيب لاو تونغ قد سمعه، لأنه حدجَه بنظرة سريعة، دون تعليق.

أقبل خوبا يجري وهو يحمل اللوح الخشبي على كتفه، وبيده حبل طويل.

هنالك سحب لاو تونغ عدَّة أنفاس من سيجارته بعصبية واستعجال، ثم طوَّح بعقبها.

جريت وتناولت عقب السيجارة بين إصبعيَّ وسحبتُ نفَسًا كأني أتذوَّق شيئًا شهيًّا.

وإلى جانبي كان «شياولي» يتوسَّل ضارعًا: «روهان … ليتك تعطيني أنا الآخَر نفَسًا من الدخان … مجرد نفَس واحد فقط.»

قطعت جسم السيجارة وأبقيت منها جزءًا ضئيلًا ملتصقًا بالفلتر.

ضحكت بخبث وقدَّمتُها له، قلت: «خُذ … دخِّن على راحتك.»

سبَّني ومضى قائلًا: «يجيئك يوم يا روهان وتُذل رقبتك لي، فتحتاجني بلا جدوى.»

قام العم ماليان وزجَرَنا فانتحينا جانبًا، ثم إنه أخذ مجموعة من البالغين الذين كانوا واقفين بالقرب منه وأمرهم أن يمرِّروا اللوح الخشبي الكبير، بالعرض، من تحت بطن الثور حتى ينتهوا به إلى تجويف وَرِكَيه، أي ما بين آخِر البطن وأول رجلَيه الخلفيَّتَين، ففعلوا كما قال لهم، وإذ بلغوا هذا الجزء من جسمه صاح فيهم الرفيق لاو تونغ بأن يرفعوا طرفَي اللوح من الجهتَين، حتى ترتفع رجلاه الخلفيتان عن الأرض، فلما تصرفوا على هذا النحو راح الثور يدفع بساقَيه رفسًا إلى الوراء، فأقبل إليه لاو تونغ وقيَّد كلَّ رِجل على حِدَة إلى طرف حبل، ثم سلَّم الطرف الآخَر إلى مجموعة الرجال عن يمين وعن شمال، وأمَرَ كل مجموعة أن تجذب طرفًا ناحيتها، أما لاو تونغ نفسه فقد رفع الذيل وربطه في طرف حبل، وألقى الطرف الآخَر فوق غصن الصفصافة حتى تدلَّى فجذبه بقوة وأعطاه لي، قائلًا: «الشطارة ألا تفلته من يدك!»

بمنتهى الفخر عكفتُ على المهمة التي شرَّفني بها لاو تونغ، فقبضت على طرف الحبل الغليظ لكي يبقى ذيل شوانجين مرفوعًا في الهواء.

بصوت خفيض جدًّا غمغم العم دو: «أين الرحمة التي في القلوب؟ نفوس الناس أصبحت أقسى من الحجر.»

كان شوانجين يلهث ويخور، مثلما كان الرجال الرافعين لوح الخشب تكاد تتقطَّع أنفاسهم من اللهاث، حتى اشتكى أحدهم التعب: «ما عُدنا نحتمل يا ريِّس.»

ضربه العم ماليان على رأسه وهو يسبُّه: «رجال من قش! خسارة فيكم الأكل الذي تأكلونه … اشتغلوا بقوة. ولعلمكم جميعًا، بعد الظهر سيتم خصم نصف يوم عمل للكل!»

أقعى ماليان على الأرض في هدوء وهو يستحث الماسكين بلوح الخشب على بذل أقصى الجهد: «اعمل لك همَّة أنت وهو … أين العزم؟»

تناول الرفيق لاو تونغ كتلة بيضاوية كبيرة وألقاها على الأرض في غيظ، قائلًا: «في داهية!»

ثم إنه تناولَ بيضة أخرى بذات اليد وألقى بها كسابقتها بكل مرارة: «في ستين داهية!»

اعتدل لاو تونغ واقفًا، قال: «خلاص … فكُّوا الحبال.»

ووضع كل واحد ما بيده، وأرخى ذراعه.

وفي الحال اهتاج الثور شوانجين وكاد أن يقطع قيده، فجرى العم دو بعيدًا اتقاءَ غضبته، وراح يقول: «الثور أصابه الخبال وركبه عفريت.»

وفي آخِر الأمر، هدأ الثور تمامًا وثبتت أقدامه دون رفس.

قال لاو تونغ: «هيا ارفس الآن، ما الذي يمنعك؟ ابذل عافيتك وزمجِر على هواك.»

كالبول الفاتر تقاطرت خيوط الدم السوداء على الأرض، لكن اللون فوق ساقيه الخلفيتين استحال إلى الحمرة القانية، ثم افترشت الأرض بقعة دامية، مالت رأس شوانجين إلى جذع الشجرة، وضربت الرعشة مفاصله وسَرَت في أنحاء جسده.

اصفرَّ وجه لاو تونغ ونضح العرَق في جبينه خيوطًا تمتلئ وتسيل.

صرخ العم دو: «نزيف … نزيف كبير!»

شتمه ماليان: «ارحمنا من تخاريف أهلك! أنت يا بن اﻟ … ما الذي تعرفه عن النزيف الكبير … هه؟»

جرى الرفيق لاو تونغ إلى دراجته ففتح الحقيبة السوداء المدلاة من المقود، وأخذ منها علبة أنابيب الحقن، فأخرج منها واحدة وركَّب فيها سن إبرة، وفك لفافة طبية فالتقط منها ثلاث زجاجات دواء صغيرة.

قال له ماليان: «اسمع يا أستاذ لاو تونغ، نحن هنا فقراء فقرًا مدويًّا … يلعلع في أذن الأطرش … فوحياتك! لا تحمِّلنا تكاليف الدواء الغالي الذي بيدك الآن.»

لم يهتم الرجل بما يقوله رئيس الوحدة الريفية، فأخذ سن الإبرة ورشقه في فوهة الزجاجة المهشَّمة العنق، وشفط الدواء من قاعها.

أخذت ماليان الدهشة مما جرى وصار يقول: «هل من المعقول أن فحلًا بهذا القدر … يذبل ويقع هكذا من أقل شيء؟!»

أقبل الطبيب على شوانجين وغرس سن الإبرة بسرعة في كتفه، فلم يهتز العجل أقل هزة، ربما لأن الألم بين فخذيه كان أشد من هذه الوخزة الهيِّنة جدًّا جدًّا بالقياس إلى اقتطاع خصية.

تقرفص لاو تونغ خلف ذيل شوانجين، يراقب أحواله، غير عابئ بما قد يصيبه من رفسات العجل هذه المرة. وشيئًا فشيئًا تضاءلت قطرات الدم النازف من فم الجرح، حتى أصبحت مجرد نقاط قليلة متتابعة … نقطة بعد نقطة.

قام لاو تونغ واقفًا وتنفَّس الصعداء.

نظر ماليان إلى الشمس الغاربة وقال: «الأمر وانتهينا منه … وكل واحد الآن ينتبه إلى شغله ومصالحه، مَن عنده زرع يذهب إلى زرعه، ومَن عنده مشوار يسرع قبل فوات الوقت … وأنت يا ولد يا روهان … خُذ الحاجات ورُح عند امرأة عمك كما قلتُ لك … أما أنت يا رفيقنا لاو تونغ فتعالَ معي نروح نشرب ونهدأ بعد كل هذا القلق.»

قال له لاو تونغ: «من الآن فصاعدًا لا بد أن تخصِّص واحدًا لمرافقة العجول، يبقى معها في الليل والنهار ويمنعها من الراحة، ولا بد أن يأخذ حذره جيدًا، بحيث يمنعها من الرقاد على بطنها، وإلا فلو انبطحت على الأرض لانفتق الجرح وعاود النزف من جديد.»

أخذ ماليان قراره بسرعة: «اعمل حسابك يا عم دو … أنت من الآن مسئول عن متابعة العجول!»

«واعمل حسابك أيضًا أن تضع فوق ظَهر العجول أجولة من الكتان تحميها من البرد، وأهم من كل شيء … أن تجعل عينك عليها لئلَّا تبرك على بطنها.» قال الرفيق لاو تونغ وهو يشير إلى شوانجين: «وخصوصًا هذا الثور دون الجميع!»

«اطمئن تمامًا من جهة هذا الموضوع … واجعل في صدرك قلبًا هادئًا! تعالَ بنا الآن نطلع على البيت عندي.» مدَّ ماليان يده، وأخذ لاو تونغ من ذراعه ثم استدار وزعق فيَّ: «أنت يا ولد يا بن الحيوان … هل تتذكر ماذا قلت لك أم نسيت؟ ما لك تقعد هنا مثل الفأر الجربان … اجرِ حالًا واذهب كما قلتُ لك.»

احتضنت البيضات الست وهي تقطر دمًا، وهرعت نحو بيت العم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤