الفصل الرابع

لقاء تنمية المجتمعات الصحراوية

شاركتُ — ممثلًا المجتمعات الأهلية في مصر — في ورشة عمل انعقدَتْ في عمَّان بالأردن، خلال يومي ٤ و٥ مايو عام ٢٠١٤، وذلك في إطار «مشروع التنسيق والمشاركة في المعرفة عن المجتمعات الصحراوية، وأساليب الإعاشة لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا».

(١) Desert Ecosystems and Livelihoods Knowledeg Sharing and Coordination Project (MENA-DELP)

هذا المشروع يتم تنفيذه في إطار برنامج دعم المشروعات القومية في دول الجزائر ومصر والأردن والمغرب وتونس، بتمويل من البنك الدولي ومرفق البيئة العالمي GEF، وتحت مظلة — وتنسيق — مرصد الصحراء والساحل Observatory of Sahara and Sahel (OSS)، الذي تمَّ إنشاؤه عام ١٩٩٢، ويعمل كمنظمة دولية في تونس منذ عام ٢٠٠٠.

ويستهدف هذا المشروع دعم علاقات التعاون بين الأطراف المعنِيَّة، عن طريق المشاركة في المعرفة والخبرات لتحسين الإدارة المستدامة للمجتمعات/الأنساق الحيوية الصحراوية، وكذلك دعم القدرات المؤسسية للإدارة المستدامة لهذه الأنساق على المستويين الوطني والإقليمي.

(٢) ورشة عمل إقليمية عن المجتمعات/المناطق الصحراوية، لماذا؟

يتعرض العديد من المناطق الصحراوية Desert ecosystems لمخاطر التعدي البشري والتغيُّر المناخي، مما يجعلها عاجزةً عن توفير المتطلبات الضرورية للتنمية الاجتماعية/الاقتصادية لسكانها؛ فنصيب الفرد من المياه العذبة يتضاءل، كما تتدهور نوعيةُ التربة مما يتطلب التدخُّل لتحسينها، كذلك فلقد أدَّتِ الضغوط على الموارد الطبيعية إلى استنزافها وفقدان التراث التقني المرتبط بالتعامل معها، الذي يمثِّل إرثًا حضاريًّا متميزًا ووسائل مجرَّبة للاستفادة المستدامة منها في تلبية الحاجات الإنسانية للسكان.

(٣) أهداف لقاء عمَّان

استهدف لقاء عمَّان تحقيقَ التواصل الحميم بين ممثِّلي وزارات البيئة وبحوث الصحراء، والمجتمعات الأهلية في الجزائر ومصر والأردن والمغرب وتونس، وتأمُّلَ التجارب الزراعية الناجحة في المناطق الصحراوية، ولقد تمَّ التركيز في اللقاء على الموضوعات الآتية:
  • تقييم الأساليب المتَّبعة في إدارة المراعي في المناطق الصحراوية من منظور التنمية المستدامة وتحسين الإنتاجية.

  • تقييم الإمكانات التنموية للمنتجات الأساسية والثانوية للواحات.

  • تقييم الإمكانية التنموية لزراعة الصوبات مع الاستفادة من الطاقة الحرارية الجوفية Geothermal energy.

(٤) أهم الموضوعات التي تناوَلَها اللقاء

(٤-١) إدارة المراعي

تضمُّ المراعي مساحات شاسعة في دول المنطقة: حوالي ٣٣ مليون هكتار في الجزائر، و٢١ مليونًا في المغرب، و٠٫٧ مليون في الأردن، و٤٫٥ ملايين في تونس، و١٠ ملايين هكتار في مصر، والغطاء النباتي لا يوفر إلا ٢٥٪ فقط من احتياجات الغذاء للحيوانات، وهناك ضرورة لتبنِّي نظام رعوي/زراعي في هذه المناطق؛ ولقد اتفق المشاركون على التوصيات الآتية:
  • (١)

    لا نجاح للتنمية دون مقاربة تشارُكية: المطلوبُ تنظيمُ وإشراكُ المجتمعاتِ المحلية في إدارة المراعي، وذلك عن طريق إنشاء جمعيات وائتلافات المربين.

  • (٢)

    النظر في البعد التاريخي والتقليدي للمراعي في كل بلد. (نظام الحمى الذي كان معروفًا بين العرب قبل الإسلام، وجاء الإسلام واعترف به!)

  • (٣)

    الأخذ في الاعتبار بالتراث الحضاري للمراعي والمعرفة المحلية لكل منطقةٍ، للمساهمة في تطوير منظومة التنمية المستدامة للمراعي.

  • (٤)

    التركيز على تربية الجمال والمَعْز؛ نظرًا لتكيُّفها مع الظروف الطبيعية والمناخية للصحراء، بما في ذلك تحمُّل ندرة المياه وتقبُّل مستوياتٍ أدنى منها من حيث مستوى الملوحة.

  • (٥)

    تسجيل السلالات المحلية للإبل والمَعْز والأغنام، ودراسة إمكانية معالجة وتحسين هذه السلالات.

  • (٦)

    الاستفادة تنمويًّا من المنتجات الثانوية للمراعي في نشر صناعات بيئية وصغيرة تقوم عليها، مثل صوف الأغنام ووبر الجمال وشعر المَعْز وقرون الكباش والمَعْز، بالإضافة إلى الجلود.

(٤-٢) زراعة النباتات الطبية والعطرية

تتميَّز بلدان المنطقة بخبرة ١٠ آلاف عام تقريبًا من التعامُل مع الكثير من النباتات الطبية والعطرية — واستئناسها — وتتميَّز المناطق الجافة الصحراوية بإنتاج هذه النباتات، ويعتمد ٨٠٪ تقريبًا من الأدوية الحديثة على الموروث الشعبي المحلي لاستخدام هذه النباتات، كما تُعَدُّ هذه النباتات مصدرًا للنكهات في الأطعمة والألوان الطبيعية والعطور؛ حيث تعتمد أوروبا في تلبية حاجتها من العطور على مصر بنسبة ٥٤٪ (الياسمين والجيرانيوم)، كما تعتمد اليابان على تونس في استيراد الخرُّوب للأغراض الدوائية!

وتتعرَّض موائل هذه النباتات للتآكُل حاليًّا نتيجةً لاستخدام الأراضي الصحراوية في البناء، كما تتعرَّض الأصول الوراثية لهذه النباتات للنهب المنظَّم من دول العالم المتقدِّم، عن طريق التقنيات الحيوية Biotechnology، لتلبي احتياجات هذه الدول! ولقد اتفق المشاركون على التوصيات الآتية:
  • (١)
    إنشاء نقطة لقاء Focal point للنباتات الطبية والعطرية في المنطقة.
  • (٢)
    استئناس Domestication  أنواع Species من النباتات الطبية والعطرية المهدَّدة بالانقراض في المنطقة.
  • (٣)

    حصر السلالات الموجودة من النباتات الطبية والعطرية في المنطقة، وتحديد مواقع وجودها ومحتواها من المواد والمعرفة التقليدية باستخدامها.

  • (٤)

    التسجيل العلمي للأصول الجينية للنباتات الطبية والعطرية بالمنطقة.

  • (٥)

    إقامة مشروعات إقليمية لتصنيع المستخلصات الدوائية.

(٤-٣) الطاقة الجوفية الحرارية Geothermal energy

قدَّمت تونس عرضًا رائدًا ومشوِّقًا لاستخدام المياه الجوفية الساخنة في زراعة الصوبات بمساحة ٢٥٠ هكتارًا، مستفيدة في ذلك من الطاقة الحرارية الجوفية، التي يمكن استخدامها — فضلًا عن زراعة الصوبات — في توليد الكهرباء والتدفئة في المجتمعات الصحراوية، ولقد تبيَّنَ من الحوار وجود مصادر عديدة للطاقة الحرارية الجوفية غير مستغلة (في مصر مثلًا: عيون موسى في جنوب سيناء، وعين قيفار في الصحراء الغربية، وعين موط بالواحات الداخلة)، وقد اتفق المشاركون على التوصيات الآتية:
  • (١)

    توفير البيانات والمعلومات عن مصادر الطاقة الحرارية الجوفية في المنطقة؛ المواقع، ودرجات الحرارة، ومعدلات السحب الآمِن.

  • (٢)

    توفير التقنيات الحديثة للاستفادة من مصادر الطاقة الحرارية الجوفية؛ في توليد الطاقة الكهربية، وزراعة الصوبات، والتدفئة في المناطق الصحراوية.

(٥) عرض المشروعات الوطنية

(٥-١) الأردن

تم عرض تجربة الأردن في الاهتمام بالمناطق الصحراوية، علمًا بأن ٩٠٪ من مساحة أراضي المملكة الأردنية الهاشمية صحراء، وفقًا لتعريف الصحراء بأنها الأراضي التي يقلُّ فيها معدل هطول الأمطار عن ٢٠٠مم سنويًّا، ولقد شمل العرض التعريف بإنشاء الجمعية الملكية لحماية الطبيعة عام ١٩٦٦ ووجود ٣٥ محمية طبيعية الآن، كما شمل العرضُ المنهجيةَ المتبعة في إدارة المحميات، التي تعطي الأولوية في توظيف العاملين بالمحمية للسكان من المنطقة التي تتواجد بها، كما تتضمن هذه المنهجية ربْطَ المحمية بالسياحة البيئية، مع تشجيع الحِرَف التقليدية التي تنتج سلعًا يمكن أن تباع لزوار المحمية. كذلك شمل العرضُ الجهودَ التي بُذِلَتْ في نشر تقنيات الحصاد المائي وإنشاء السدود لزيادة الموارد المائية في المناطق الصحراوية.

(٥-٢) المغرب

تم عرض مشروع المغرب (خطة المغرب الأخضر) للاهتمام بالمناطق الصحراوية، التي قَلَّ فيها معدل الأمطار بنسبة ٣٠٪ نتيجةً للتغير المناخي، ولقد اعتمدت هذه الخطة على تقديم الدعم التقني لصغار المزارعين، أقل من ٥ هكتارات (البذر غير المباشِر)، مع مساعدتهم على تكوين كيانات جماعية تجعلهم قادرين على التعاون مع كبار المزارعين في تسويق المنتجات، كما قدَّم المغرب خبرة مساعدة سكان الواحات في تربية الأغنام على مساحات صغيرة.

(٥-٣) مصر

تم عرض تجربة مصر في الاستفادة تنمويًّا من المنتجات الثانوية للنخيل، الذي يُعَدُّ من أهم مكونات الغطاء النباتي الطبيعي والمزروع في المناطق الصحراوية في البلدان التي يغطيها المشروع، ولقد شمل العرض نماذجَ لمشروعات بيئية وصغيرة تقوم على جريد وخوص النخيل، وذلك في العديد من المجتمعات الصحراوية في مصر، بالإضافة إلى قرى الصعيد.

(٦) مشاهداتي خلال الجولات الدراسية Study tours

(٦-١) منطقة محارب

زرنا مشروعًا لتحسين الأحوال المعيشية للبدو، وذلك باستخدام محراث خاص يحرث لعمق متر؛ مما يسمح بإكثار نبات القطف الرعوي ورفع حصة الحصاد المائي من ٧٠مم حتى ٢٠٠مم؛ مما يحقِّق (القطف مع الشعير) اكتفاءً رعويًّا للبدو في المنطقة.

(٦-٢) محطة الخناصري لبحوث الثروة الحيوانية

هذه المحطة أُنشِئت عام ١٩٥٨ كمحطة بحوث لخدمة تنمية الثروة الرعوية الحيوانية؛ هذه المحطة تخدم محافظة المِفْرَق التي تضمُّ حوالي ١٠٠ ألف رأس من الأغنام؛ أي إن إنتاجها السنوي من الصوف يصل إلى حوالي ٢٥٠ طنًّا كان يُصدَّر إلى تركيا، ولقد انقطعت التجارة مع تركيا نتيجةً للأوضاع الراهنة في سوريا؛ مما أدَّى إلى إهمال «هذا المورد الذي يمكن أن يكون منطلقًا لثورة في صناعة غزل ونسيج الصوف، بطلها السيدات في المنازل الريفية».

fig10
شكل ٤-١: ٢٥٠ طنًّا من الصوف سنويًّا: أساس لثورة صناعية صغيرة في مجال غزل ونسيج الصوف، تقودها السيدات.

(٦-٣) محمية الأزرق

fig11
شكل ٤-٢: محمية الأزرق: منظر عام.
fig12
شكل ٤-٣: محمية الأزرق: موئل للطيور المهاجرة.
fig13
شكل ٤-٤: الرسم على بيض النعام غير المخصب: فنون إنتاجية للسيدات الدروز في المحمية.
محمية الأزرق تبعد عن عمَّان بحوالي ١١٥ كيلومترًا، وقد رُشِّحت عام ١٩٧٧ بموجب معاهدة رامسار Ramsar في إيران كمحمية مائية ذات أهمية دولية، كموئل لإقامة الطيور المهاجرة بين أفريقيا وآسيا، وتبلغ مساحتها حوالي ١٢ كيلومترًا مربعًا، ولقد تم تسجيل ٣٠٧ أنواع من الطيور فيها، كما أنها غنية بالأحياء البرية والنباتية والحيوانية، وهي شبه مغطَّاة بالنباتات المائية كالحلفا والبوص والعرقد والأثل العطري، ومن أهم حيواناتها البرية ابن آوى والثعالب الحمراء والضبع المخطط والذئب والوشق والعديد من القوارض.

أكثر ما شدني في الزيارةِ التنوُّعُ السكاني في المحمية، التي تضمُّ بدوًا من قبائل أردنية (بني صقر والحويطات) وعراقية (الزيادية)، كما تضمُّ الدروز الذين جاءوا من جبل العرب عام ١٨٩٠، وكذلك الشيشان الذين وفدوا عام ١٩٢٠. هذا التنوُّع العِرْقي والحضاري قد وجد تعبيرًا قويًّا في أساليب البناء والحياة في المحمية؛ مبنى مراقبة الطيور بالطين (الدروز يبنون بيوتهم بالطين)، وخيام الاستضافة من شعر المَعْز من صنع البدو، أما الطعام الذي يُقدَّم للنزلاء فيتبع المطبخ الشيشاني! كذلك أعجبني الاهتمام بالحِرَف اليدوية؛ حيث تجيد السيدات الدروز الرسمَ على بيض النعام غير المخصَّب! ولقد علمتُ أنه يُعقَد مهرجان سنوي للمحمية تُقدَّم فيه عروضٌ فنية، وتُعرَض فيه المنتجات الحِرَفية التي يقوم بصنعها سكانُ المحمية. علمتُ كذلك أن هناك حرصًا على ترتيب زيارات منتظمة لطلاب المدارس لزيارة المحمية، كي يتعلَّموا القيمةَ الثقافية والبيئية والحضارية للمحميات الطبيعية.

(٧) الخبرة الذاتية

نتردَّد كثيرًا عند الحديث عن الخبرة الذاتية خوفًا من أن يتهمنا أحدٌ بعدم الموضوعية، في حين أن الخبرة الذاتية لها دور أساسي في تحديد مسار حياتنا واختياراتنا الوجودية؛ ففي ساحاتِ التديُّن وحبِّ الوطن والحب كما نمارسه أفرادًا وجماعات، وفي اختيار التخصص ومجال العمل، تقوم الخبرةُ الذاتية بدور أساسي.

لقد مثَّل لي لقاءُ الأردن تجربةً طبيعية لم أخطِّط أو أرتِّب لها، لقد التقيتُ بأناس لم أرهم من قبلُ في حياتي، ومن تخصصات مترامية بعيدة كل البُعْد عن التخصُّص الذي أنتمي إليه وهو الهندسة، إلا أنني قد استمتعتُ بأن أكون في بلدي في الأردن، وبين أهلي من الأردن وتونس والمغرب، شعرتُ بأنه تجمعنا — بالرغم من اختلاف التخصصات، وأحيانًا لغة التعبير — ثقافةٌ واحدة؛ أي إن المياه على العمق واحدة وإنِ اختلفَتْ على السطح، شعرتُ خلالَ اللقاء أننا بلدٌ واحد، وأن الحدود بيننا مصطنعة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤