الفصل الخامس والسبعون

الباب العالي والإنجليز

يهتم المسلمون في كل أرض بأمر ما يجري في مصر، بل تذهب نفوسهم حسرات كلما رأوا أو سمعوا أن جنديًّا أجنبيًّا يجول في نواحيها مقاتلًا أو حاميًا، وليس شأن مصر عندهم كغيرها من البلاد، فإنها بهرة الإِسلام وباب الحرمين الشريفين، فكل نازلة بها ترزأ الدين وتصدع من أركانه.

والمسلمون — في قلقهم هذا — ينظرون إلى الدولة العثمانية ويقلبون وجوههم في سماء سلطتها الحسية والمعنوية؛ يرجون منها عزمة ثابتة تُنقذ بها الأراضي المصرية من تبوُّؤ الأعداء، ويُحفظ بها شرف المسلمين ومكانتهم بين الأمم، وتصان بها ولاية الإِسلام من السقوط في حبائل هذه الدولة الداهية — دولة الإنجليز — التي أخذت على نفسها أن تبيد ولاية هذا الدين وتحول حابله على نابله، هذا فضلًا عمَّا يراه كل مسلم من أن عزة الدولة العثمانية وشوكتها ليست إلا بسلامة ملكتها على مصر، فإن قضي فيها الأمر لغيرها — والعياذ بالله — أصبحت حقوق العثمانيين في جميع ممالكهم معرضة للخطر.

فهذه دولة الإنجليز كمرض الآكلة يظهر أثره ضعيفًا لا يحس به عند بدئه ثم يذهب في البدن فيفسده ويبليه بدون أن يشعر المصابُ بالألم، هكذا شأن الإنجليز في لينهم وتَلَطُّفهم وحلاوة وعودهم وتملُّقهم وخضوعهم، يسلبون المالك ملكه بل الحيَّ حياته وهو مأخوذ بما يشعوذون له. ولا ريب في أن الإهانة التي تمس الدولة العثمانية تنال جميعَ المسلمين في الشرق والغرب، فإن كل مسلم — وله الحق — يعد هذه الدولة دولته ولو تباعدت الأقطار.

إن الهنديين إلى اليوم وما بعد اليوم يُباهون بها ويحسبون أنفسهم في عداد الأمم التي لم تذهب سلطنتها ويعتقدون أن لهم سلطانًا قويًّا في الدولة العثمانية، بل يرون أن خلاصهم من قيد الرق الإنجليزي لا بد أن يكون يومًا ما بسعيها، وقد أظهرتْ أيام الحرب الأخير آثار لحمتهم معها باللحمة الملية بما لم يبقِ ريبة لمرتاب في شدة صلتهم بها.

لهذا كنا نعجب لسُكُوت الدولة العثمانية في هذه الأزمان الأخيرة عندما اشتدت مقارعات السياسيين من كل دولة وتصارعوا في المفاوضات والمجادلات محاماة عمالهم من المصالح في مصر، مع أن الدولة كانت أحق وأولى من جميع الدول بالاهتمام وبذل الجهد للمناضلة عن حقوقها الثابتة إرضاءً لخواطر المسلمين عمومًا، واستبقاءً لحسن عقيدتهم فيها، وحمايةً عن ممالكها وأهم مملكة منها، إلى أن اطلعنا على إعلان بعث به الباب العالي إلى الدول بطريق التلغراف فيما يتعلق بالاتفاق المنعقد بين فرنسا وإنجلترا في المسألة المصرية، أتى فيها على بيان العواقب السيئة التي تنشأ من طول مدة الاحتلال الإنجليزي في مصر.

وأظهر أن مجرد تحديد المدة لا يكف الإنجليز عن حرصهم وغاية ما فيه أنه يستتبع مداعاة الدول والدولة العثمانية مع الإنجليز، وبرهن على أن بقاء العساكر الإِنجليزية في مصر ليس بضروري في حل المسألة، فإن كانت الدول لا ترى في العساكر الأهلية كفاية لصيانة البلاد من الخلل، فالباب العالي مستعد لإرسال العساكر إليها على ما تقتضيه حقوقه فيها كما عرضه على الدولة البريطانية وجرى البحث فيه، ولكن حال دون الإجراء موانع سياسية.

فإن لم تقبل الدول أن يستقل الجيش العثماني بحل هذا المشكل، فإنه يعرض عليها أن يحتل مصر جيش مختلط يؤلف من عثمانيين وفرنسيين وإنجليز وإيطاليين وإسبانيين وإلى الدول تعيين الأجل في الوجهين.

وزاد الباب العالي في إعلانه هذا خدشًا لخواطر الإنجليز حيث قال: إن الإنجليز قد أنهَوا أعمالهم في محو العصيان وتثبيت سلطة الخديو، إلا أنهم لم يأتوا في تحسين حال مصر وتقويم نظامها إلا بما فيه إجراءُ بعض مقاصدهم السابقة.

وإنا نقول — كما يهتف به كل مسلم: إن من فروض الدولة العثمانية أن لا تدع وسيلة للذود عن مصر وكَفِّ يد الإنجليز عنها، وأن تكون همتها في ذلك كهمتها في الذود عن نفس الأستانة، وليس لها أن ترهب هذه الرعود وتلك البروق التي لا تعقب مطرًا.

ومن الحق أن نقول: إن في مكنة العثمانيين أن يقوضوا هذا البيت البلوري (بيت العظمة الإِنجليزية) بحجر واحد فإذا اشتدت الأزمة تيسر لهم السعي في الوئام بين الإيرانيين والأفغانيين والبلوجيين ولا يكلفهم هذا إلا كلمتين يستندان إلى أصل ديني قويم، وعندها يعرف الإنجليز مقام أنفسهم في الأقطار الهندية والممالك الشرقية.

هل تسلط الإنجليز في الأراضي الهندية الواسعة إلا بسبب المخاصَمات المذهبية التي كانت بين الأفغانيين والإيرانيين؟! ولو نظرنا إليها نظر التحقيق لَما رأيناها مما يوجب شق العصا وتفريق الكلمة، ولا ريبة عندنا أن رفع الشقاق وتجديد الوفاق بين تلك الأمم أيسرُ شيء على الدولة العثمانية؛ لما لها من المكانة العليا في نفوس المسلمين قاطبة، ولا يظن أن اعتصام الإنجليز في جزائر بريطانيا والهند يقصر بالعثمانيين عن النكاية بهم لانقطاع السبل بين هؤلاء وأولئك وانسداد المسالك بين الممالك العثمانية والإِنجليزية؛ فإن الظن يختلف عند وجود الاتفاق بين الأفغان والإيرانيين واتحاد كلمة الفرس مع العثمانيين.

هذه طريق محمرة وبندر عباس إلى بلوجستان مفتوحةٌ للسالك مطروقةٌ للسابل، وهي الطَّرِيق التي سلكها أول جيش إسلامي بعث به الحجاج بن يوسف لفتح السند، إن هذه لَجولة لو كانتْ لَأثارتْ في وجوه الإنجليز غبرة يضلون فيها عن رشادهم.

ومعلومٌ أن الحي لا يسلم نفسه للموت بلا مُدافعة ما دام قادرًا عليها، يكفي لقيام مليون من المقاتلين الأفغانيين والبلوجيين، تحرك خمسة آلاف عثماني إلى أحيائهم، لست أُبالي أن أقول الحق إذا حصل التساهُل في أمر مصر وانفتح باب المطامع لكل دولة صغيرة أو كبيرة وعزت بعد هذا وسائل التلاقي، فلتأت الدولة العثمانية على ما في الوسع. ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.

أسف

غالت نائبة الدَّهْر طراز العرب، وزهرة الأدب، صفينا أديب أفندي إسحق، قضى نحبه في شرح الشبوبية، وعنفوان الفتوة، وترك لنا قلوبًا آسفةً، وشئونًا فائضةً — إنا لله وإنا إليه راجعون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤