الفصل الثاني والثمانون

التهتك في الحيلة
اشتهرت دولة الإنجليز بخلابة الشرقيين وأخذهم بالرويغة١ حتى وضحت سبلها من كثرة ما طرقت، وانقلب وجه الحيلة فظهر مستورُها، وعادت تشبه ألهيات الصبيان، وألاعيب الأطفال، يدرك سرها الذكي والغبي، من يوم كان اللورد دوفرين في القاهرة لكشف حالة مصر وتقرير نظامها لحكومتها (كما يزعمون)، لوح للحكومة بترك السودان، ثم جاء من بعده الماجور بارنج، وألزم الحكومة بالتنازُل عن حقها فيه؛ لأنه يكلفها نفقاتٍ وافرةً ليس لها عوضٌ من الفائدة، فامتثلتْ الحكومةُ أمر غالبيها وهمت بإخلائه.

ولم تلابس عملها حتى صدرتْ أوامرُ الدولة البريطانية بتعيِين الجنرال جوردون للقيام بتخلية السودان؛ فتكون المنة على السودانيين في استقلالهم (الموهوم) لدولة بريطانيا، وتكون الصلة بينهم وبينها خاصة، وما وصل الخرطوم إلا وأقام محمد أحمد أميرًا على كوردفان، وأخذ في إرجاع الولايات السودانية لمُلُوكها الأقدمين أو أبنائهم، ولم يكن القصدُ من هذه الزغزغة إلا أن يكون السودانُ بعد تنازُل المصريين فراطة لا حق لأحد فيه فيأخذه السابق إليه بدون أن تعترض فيه المشكلات السياسية ليتيسر للإنجليز عاجلًا أو آجلًا أن يستولوا عليه وينزعوه من أيدي أمرائه الصغار، ويكون فيه بعض العوض عن مصر لو صدتهم مقاومات الدول عنها كما أشرنا إلى ذلك في أحد الأعداد.

وفي هذه الأزمان الأخيرة أخرجت حكومة إنجلترا من جرابها ألعوبة أخرى، ومثلت من ضيق جوردون في الخرطوم سببًا عظيمًا لتمهيد طريق يوصل الجيوش لتخليصه، فأصدرت أوامرها إلى أحد المصانع الكبيرة بإعداد الآلات، وتعيين المهندسين والصناع، ليسيروا إلى سواحل البحر الأحمر ويباشروا مد سكة حديد من سواكن إلى بربر كما ذكرت ذلك جريدة «البال مال جازيت»، وتزعم أنْ لا باعث لها على ذلك إلا الرغبة في تخليص جوردون! إن كان جوردون في خطر ويحتاج في إنقاذه إلى إرسال الجيوش، فهل يبقى حيًّا إلى أن تمد سكة الحديد وتخرق الجبال والأودية وتسير عليها العربات حاملة الجيوش، مع أن الأخبار قد أشارت إلى وقوعه أسيرًا أو هلاكه قتيلًا؟!

إذا فرضنا هلاك جوردون — كما هو الغالب — أو خلاصه، فهل تهدم دولة إنجلترا طريق الحديد، وتنقض بناءها بعد إنفاق النفقات الواسعة عليها، أو تتبرع بهبتها للحكومة المصرية سخاءً وجُودًا؟!

كلا والله، لا هذا ولا ذاك، ولكن أخذت أقرب الطَّرِيقين للاستيلاء على السودان، فإن مد الطَّرِيق الحديدية في تلك الجهة يسهل لها الولاية على السودان الشرقي، فإذا استقر لها الأمر فيه وصلتْه بالغربي ولم تلاق في ذلك صُعُوبةً، على أنها في خلال المدة بعد مد السكك الحديدية تستفيد أعظم فائدة جوهرية من مواصلة البلاد السودانية، فإنها تفتح للتجارة الإِنجليزية بابًا وتغلق، بصفته باب المنفعة عن مصر فتأتي بضائع البن ونحوها مما يحتاج إليه السودانيون من إنجلترا إلى سواكن، ومن سواكن تذهب إلى السودان، بدون أن تصل إلى أيدي المصريين، وتنقل الأصناف التجارية السودانية من داخل السودان إلى بربر ثم تحمل إلى سواكن وتصدَّر إلى أوروبا ولا يراها مصري.

فإذا تولى الإنجليز مصر — لا قدر الله — حرموا الوطنيين من الاشتراك معهم في تجارة السودان — وهي من أغزر ينابيع ثروتهم التجارية — وإذا ألجأتْهم الحوادثُ للجلاء عنها فقد اختصُّوا بمادة المنفعة التي يمكن أن تأتي من أقطار السودان، وبذلك يتقوَّض كثيرٌ من بيوت التجارة في الأقطار المصرية، ويعدم بخرابها آلاف مؤلفة من النُّفُوس، فليس حقيقة الغرض من مد سكة الحديد من سواكن إلى بربر إلا التوصل إلى ينبوع متدفق من ينابيع الثروة المصرية، وتحويل مجراه عن مصر إلى جزائر بريطانيا، وسنأتي على تفصيل الخسائر التي تلم بأهالي مصر من مد هذه السكة في عدد آخر.

هذه إحدى خطيئات الإنجليز الذين بعد استيلائهم على الهند حظروا على الأهالي في جميع ممالكهم أن يُعالجوا زراعةَ الأصناف التجارية كالنيلة ونحوها، واختصت الحكومة الإِنجليزية بزراعتها، وزادوا في المظلمة فحكموا على جميع الحكومات المستقلة التي يتولاها النوابون والرجوات أن لا تزرع الأفيون بحجة أن الحكومة الهندية الإِنجليزية تزرعه، فلا يجوز لغيرها العمل في زراعته؛ كي لا تَقِلَّ الفائدة، أو لئلا تستفيد شيئًا مما تستفيد.

هذه آثارُ جورها، يثبتها خراب البيوت القديمة وفاقة العائلات الشريفة، في كل بلد لها فيه أمرٌ ونهيٌ، ولا تزال ترد شرعتها هذه في كل قطر تطأه أرجل رجالها قريبًا كان أو بعيدًا، فعلى البصير أنْ ينظر وعلى اللبيب أن يحظر.

١  الرُّوَيغة: المكر والحيلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤