الفصل الرابع عشر

الشرف

كلمةٌ يهتف بها أقوامٌ مختلفة من النَّاس، إلا أَنَّ أكثرهم عن حقيقة معناها غافلون، فئةٌ ترى الشرف في تشييد القصور، والتعالي في البنيان، وزخرفة الحوائط والجدارن، ووفرة الخدم والحشم، واقتناء الجياد، وركوب العربات، وفئةٌ أخرى تتوهم أن الشرف في لبس الفاخر من الثياب، والتزيُّن بألوان الألبسة وأنواعها، والتحلِّي بحلي الجواهر الثمينة، مرصعة بالأحجار الكريمة، كالألماس والياقوت والزمرد ونحوها.

وفئة تتخيل الشرف في الألقاب والرتب كالبيك والباشا، أو في الوسامات المعروفة بالنياشين وعلو أسمائها كالأول من الصنف الفلاني، والثاني من الدَّرَجَة الفلانية، حتى إنك ترى الرجل يسلب مال أخيه، وينهب ثروة أقاربه وذويه، أو بني ملَّته ومواطنيه، ليشيد بما يصيب من السحت قصرًا، ويرفع بناءً، ويزخرف بيتًا، ويقيم له حراسًا من المماليك، وخفراء من الغلمان، ويظن بذلك أنه نال مجدًا وفخارًا سرمديًّا، وصح لحاله أن يعنون بعنوان الشرف.

وتجد الآخر يذهب في الكسب أشنع مما يذهب الأول ليكتسي برفيع الثياب، ويتزين بأجمل الحُلي، أو ليكون له من ذلك ما يفاخر به أمثاله، ويتخيل أنه بلغ به درجة من الرفعة لا يُدانَى فيها، ويعبر عن حاله هذا بلفظ الشرف، ويتوهم أنه وصل الحقيقة من معناه.

ومنهم ثالثٌ يسهر ليله ويقطع نهاره، بالفكر في وسيلة ينال بها لقبًا من تلك الألقاب، أو يحصل بها وسامًا أو يستفيد وشاحًا، وسواء عنده الوسائل يطلبها أيًّا كان نوعها، وإن أفضتْ إلى خراب بلاده، أو تذليل أمته، أو تمزيق ملته، وعنده أنه رقى الذروة من معنى الشرف.

نحن نرى هذه الأوهام قائمةً مقام الحقائق في أذهان كثير من النَّاس، ولكن لا نظنها طمست عين الحق فيهم، حتى عَمُوا عن إدراك أخطائهم وانحرافهم عن الصواب في وهمهم. ماذا يجد من نفسه المباهي بقصوره، وولدانه وحوره؟ ألا يحس من نفسه أنه وإن حاز منها على أعلى ما يتصوره العقل، فذاته التي هي أعز لديه من جميع ما كسب لم تستفدْ شيئًا من الكمال، وأن جميع ما حصله فهو أجنبيٌّ عنه، وليس له نسبة إلا نسبة العناء في تحصيله؟ ألا يرى أن كثيرًا ممن بلغ مبلغه أو فاقه، سلبتهم صروف الدَّهْر ما بأيديهم، فأصبحوا بصفاتهم وجواهر ذاتهم، فإن لم تكن على جانب من الكمال الإنساني انخرطت في سلك الطبقات السافلة، ولم يبق لهم في القلوب منزلةٌ ولا في النُّفُوس مكانة.

ماذا يشعر به المفاخر بحليه ولباسه إذا تجرد منه وخلى بنفسه إن لم يكن لذاته حلية من الفضيلة وزينةٌ من الكمال، ألا يكون هو وعراة الفقراء سواء؟ أَوَلا يجد من سره عند المفاخرة أنه يجول مع الغانيات وربات الخدور، في ميدان واحد؟ ماذا يتصور الزاهي برتبته، المعجب بوسامه، إن لم يكن قبل وسمته أو الصعود لرتبته، على حال تجل، أو كمال يبجل، أليس يشعر أنه لو سلب الوسام، أو نزع عنه الوشاح، يعود إلى منزلته من الاحتقار؟ فإنْ نال الكرامة عند بعض السُّذَّج واللقب معلق عليه، أليس ذلك تعظيمًا للقب لا للملقب به، ألا تكون هذه الكرامة عارضًا سريع الزوال، بل رسمًا ظاهرًا لا يمس بواطن القلوب؟

نعم، لهذه الألقاب الشريفة شأنٌ يرتفع به النظر إذا سُبق بعمل يعترف عمومُ العالم بشرفه، وكان اللقب دليلًا عليه أو مشيرًا إليه، كما يكون لمثلها حالٌ يسقط به الاعتبار إذا تقدمها فعلة يمقتها العقلاء من النوع البشري، وكان الوسام أو اللقب عنوانًا على ما اقترف كاسبه، وعلامة على ما اجترم.

انظر وتَدَبَّرْ ولا تخطئْ، فما أنت من الصواب ببعيدٌ، إن عثمان الغازي الذي لقبه أعداؤه بأسد «بلاونه» نال رتبة ومنح لقبًا، وحظي بمكانةٍ رفيعة بين الطبقة العليا من العظماء في دولته، بعدما دفع بروحه للموت في المدافَعة عن مِلَّتِهِ، وجاهد في إعلاء كلمة دينه، بما شهد له الأعداءُ والأصدقاء.

وإن بعض الأمراء في دار إسلامية علقتْ عليهم ألقابٌ شريفة من دولة كدولة الإنجليز جزاءً لهم على ما تقدموا أمام جيوش أعدائهم، لافتتاح بلادهم، حتى مكنوا الإنجليز من ديارهم، وجميع المسلمين الآن يكابدون الجهد في إيجاد الوسائل لخروجهم منها … أين موقع النيشان من صدر عثمان الغازي من موقعه على صدور أولئك المخدوعين، أظن رجع النظر بين الموقعين يثبت لك أن النيشان يشرف بشرف العمل الذي جعل دليلًا عليه ويسقط بسقوطه.

ماذا غرَّ أولئك الواهمين على اختلافهم، ألا يعلمون أن الثياب المعلمة بالدم، الموشاة بالنجيع، الملونة بالمهج، هي التي حفظت للابسيها ذكرًا حسنًا لا ينقطع، وأثرًا مجيدًا لا يمحى، إن الذين ضرجوا بدمائهم في طلب المجد لمللهم هم الذين خشعت لذكرهم الأصوات، وأجمعتْ على فضلهم خواطرُ القلوب.

ألم يصل إليهم أن الذين قضوا نحبهم في غيابات الجُبِّ، وانتهت حياتهم في ظلمات السجن، لطلب حق مسلوب أو حفظ مجد موجود؛ هم الذين سما ذكرهم إلى شرف الشمس الأعلى، وعلتْ أسماؤهم على جميع الأسماء، أظن أن الذين كانوا في الغرفات العالية ينظرون إلى جَنَّاتهم وحدائقهم، ويشرفون على النَّاس من شرفات قصورهم، وقصروا حياتهم على التمتع بما نالوا؛ لم يبق لهم ذكر ولم يكن لهم في حياتهم شأن، إلا ما هو محصورٌ في دوائر بيوتهم.

ولا يختلف عنهم أولئك الذين كانوا يسحبون مطارف الرفه، ويكتسبون حلل الخز والديباج، ذهبوا وذهبتْ معهم أكسيتهم، فارتدوا من حيث أَتَوا لا يعلم متى جاءوا إلى الدنيا، ومتى انكشفوا عنها.

هل سمعنا أن أحدًا يذكر بين بني البشر بأنه نال نيشان كذا وحصل رتبة كذا؟ نعم، يقولون: علم وعمل، وأعطى وبذل، ورفع ووضع، وجاهد وكافح، وأباد وأبقى، وما يشاكل ذلك من الأعمال التي لها أثرٌ ثابتٌ، إذا ذكر الإسكندر الأكبر هل يخطر بالبال إن كان له قصر أو لا؟ أي أبله يطلب سيرة نابليون الأول في آثار قصر كان يسكنه، أو في خرق ثياب كان يلبسها؟ وهل بلغ عظماءُ العالم ما بلغوا من مقامات الشرف بعدما شيدوا وزينوا وترفهوا وتنعموا، أم كان جميع ما ينالون من ذلك بعد أن يسودوا ويفتحوا ويغلبوا ويأخذوا بالنواصي؟

خدع قوم بالأحلام وغرتهم الأوهام، ففرطوا في شئون بلادهم، وباعوا مجدها الشامخ بتلك الأسماء التي لا مسمى لها، وزعموا، وإن لم تطاوعهم ضمائرهم، أنهم رقوا من مكانة الشرف وإن كان خاصًّا بهم بعدما علموا أن الرتب والنياشين جاوزت حدها، ونالها غير أهلها، فلو أنهم أصغَوا لما تحدثهم به سرائرُهم، وتعنفهم به خواطر أفئدتهم، ورمقوا بأبصارهم ما يحيط بهم؛ لعلموا أنهم في أخس المنازل وأبعد المزاجر، وأدركوا خطأهم في معنى الشرف وجورهم عن جادة الصواب في طلبه، لو أحسوا بما رزئت به أوطانهم، وما لصق من الذل والعار بذراريهم، لطرحوا الوشاحات، ونبذوا الوسامات، ولبسوا أثواب الحداد، ونفروا خفافًا وثقالًا لطلب الشرف الحقيقي.

الشرف حقيقةٌ محدودةٌ كشفتْها الشرائع، وحددتها عقول الكاملين من البشر، وليس لذي شاكلة إنسانية أن يرتاب في فهمها، إلا مَنْ ختم الله على قلبه، وجعل على بصره غشاوة.

الشرف بهاء للشخص، يحوم عليه بالأنظار، ويوجه إليه الخواطر والأفكار، وجمال يروق حسنه في البصائر والأبصار، ومشرق ذلك البهاء عمل يأتيه طالبه يكون له أثر حسن في أمته أو بني ملته، أو في النوع الإنساني عامة، كإنقاذٍ من تهلكة، أو كشف لجهالة، أو تنبيه لطلب حق سُلب، أو تذكير بمجد سبق، وسؤدد سلب، أو إنهاض من عثرة، أو إيقاظ من غفلة، أو إرشاد لخير يعم، أو تحذير من شر يغم، أو تهذيب أخلاق، أو تثقيف عقول، أو جمع كلمة وتجديد رابطة، أو إعادة قوة وانتشال من ضعف، أو إيقاد حمية، أو حضوٍّ لغيرة.

من أتى عملًا من الأعمال له أثر من هذه الآثار فهو الشريفُ وإن كان يسكن الخصاص والأكواخ، ويلبس الدلوق والأسمال، ويقتات بنبات البر، ويبيت على تُراب الفقر، ويتوسد نشز الأرض، ويضرب في كل واد، ويتردد بين الرُّبى والوِهاد، هذا له حلية من عمله، وزينة من فضله، وبهاءٌ من كماله، وضياءٌ من جده، يهدي إليه ضالة الألباب، وتائهة الأفئدة، تعرفه المشاعر الحساسة ولا تنكره، وتكتنفه ذرَّات القلوب المتطايرة إليه ولا تنفصل عنه، له من رُوحه قصورٌ شاهقة، وغرفات شائقة، ومناظرُ رائقة، وجمال باهر، ونور زاهر، لا يكاد يخفى حتى يظهر، ولا يكاد يُستر حتى يبصَر، إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه إلى أعلى عليين، حياةٌ طيبة في القلوب وعزة مشرقة في جبهة الزمان وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ.

نعم، وقد ينبعث عليه من أرباب الطباع الفاسدة بعض الكرائه، فيسلقونه بالألسنة، ويرشقونه بسهام اللَّوم، ولا تروق في أنظارهم أزهارُ أعماله، ولا أنوار مزاهره؛ لبعدها عن فهمهم، وغرابتها على حواسهم؛ لِما ألفوه من الانكباب على تلك السفاسف الساقطة التي عَدُّوها شرفًا، وحسبوها مجدًا، وقد بيناها كما كشفتها الشرائع وآراء العقلاء، وإنما مثلهم مثل الجُعَل ينفر من رائحة الورد، ويألف روائح القذر، لا يبعد أن يسخر بالعامل الفاضل أناس لا أخلاق لهم، أو يقصده بالأضرار من لا ذمة له، ولكنهم بأنفسهم يهزءون، وبمصالحهم يضرون، ولا يطول عليهم الزمان في هذا العمى، بل لا يلبثون إذا بدت الثمرة الشهية أن يهرعوا لاقتطافها، ويطعموا من جناها، ولا يسعهم بعد ذلك إلا الحمد لغارس الشجرة، وحافظ الثمرة، وإن كان دونهم في تلك الزخارف التي لا قيمة لها في نظر العاقل؛ ثم يكون عقابهم على ما فرط منهم ندمًا على الخطيئة، وأسفًا على السيئة، وألمًا في قلوبهم تهيجه ذكرى ما قاموا من سوء عملهم، وانكشاف نقصهم لدى وجدانهم. هكذا تمنح العناية الإلهية هذه الكرامة لصاحب العمل الشريف ما دام حيًّا، فإذا غابت شمسه عن أُفُق هذا العالم لم تحجب أشعة ضيائه التي فاضت منه على نجوم هاديات، وبدور منيرات، نعم إنه يموت ويتوارى خلف حجاب العدم بجسمه، ولكنه قائمٌ في الأفئدة، شاهدٌ على الألسنة، حيٌّ يُرزق عند ربه — ونعمت الحياة حياته، ولمثل هذا فليعمل العاملون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤