سياسي صادق

نادر المثال

قرأت أكثر من مائتي بيان للقائد الأعظم زعيم الباكستان محمد على جناح … منها الخطب في المحافل، والرسائل إلى الأصدقاء والخصوم، والتصريحات في الصحف، والمناقشات والمساجلات: ما هو مكتوب منها وما هو ملفوظ مرتجل، فخرجت منها بعقيدة راسخة عن عظمة هذا الرجل. إن القائد الأعظم ولا شك رجل عظيم نادر المثال بين عظماء الرجال.

لم أتبين هذه العظمة من بلاغة أسلوبه، فإن الزعماء الذين هم أبلغ منه كثيرون …

ولم أتبينها من سعة معلوماته، فإن سعة المعلومات والعظمة لا تتلازمان في جميع الأحيان …

ولم أتبينها من قوة العقل، فقد يكون العقل قويًّا وصاحبه غير عظيم، بل قد يكون العقل قويًّا في الشر والأذى فلا يحسب صاحبه من عظماء الأمم، ولا من عظماء الإنسانية …

لكنني تبينتها من خصلة نادرة جدًّا في قادة الشعوب، وهي «الصدق الصريح في جميع الأقوال وجميع الأحوال»!

فمن المألوف في قادة الشعوب أن تكثر في أقوالهم الوعود الطنانة والكلمات البراقة، وأن يكون خطابهم للجماهير كالتنويم الذي يسوقها إلى الطريق التي يهواها الخطيب.

ويتفق كثيرًا أن يكون الزعيم مخلصًا غيورًا على مصلحة قومه وهو يتصرف بتلك الأساليب … ولكنه يخاطب الناس بما تعودوه، ولا يبالي أن يقنعهم بالوسيلة التي يرضاها ما دام إقناعهم للخير والفلاح، وما دامت قيادتهم لا تتأتى بغير هذه الوسيلة، ولو أنني وجدت في كلمات القائد الأعظم مسحة من هذه الألوان الخطابية لما أصغرته من أجلها، ولا اتهمته في إخلاصه وصدق دعوته، ولكنني أكبره لا محالة إذا خلا كلامه منها، وبلغ مع هذا غايته وغاية قومه على أقوم منهاج.

تحدث القائد الأعظم بهذه الأقوال أو كتبها خلال أربعين سنة من عنفوان صباه إلى أن علت به السن وجاوز السبعين، فلم تختلف في واحدة منها تلك المزية التي تكبره وترفعه للناس مثلًا بين زعماء السياسة وقادة الشعوب … وهي مزية الصدق الصريح، بل مزية الصدق البسيط الواضح الذي لا يشوبه مرة واحدة تزويق أو تنميق.

كل ما قرأته له من تلك البيانات التي جاوزت المائتين صالح لأن يقال أمام هيئة علمية محققة، أو أمام هيئة قضائية بعد حلف اليمين.

وعد في حدود الإمكان والنفاذ، وصدق تتساوى فيه الروية والارتجال، وخطاب للجماهير يصارحهم فيه بعيوبهم أحيانًا، ولا يتملقهم حينًا واحدًا بقول لا يقوله بينه وبين نفسه على انفراد.

إن هذا الرجل عجيب … إن هذا الرجل عظيم …

وأدعى إلى العجب منه والإيمان بعظمته أنه نشأ على مذهب الإسماعيلية المعتدلين، ومذهبهم يبيح للمعلم أن يصطنع التقية، وأن يخاطب الناس على درجات في الفهم والإقناع، ولكن الرجل لم يتقيد بهذا المذهب في هذه الخصلة، ولا في غيرها من الخصال، ولم يفارق سجيته التي فُطر ودرج عليها ومات عليها، شبابه فيها وشيخوخته سواء.

موقفه من الطلبة والعمال

كان الزعماء جميعًا يخطبون ود الطلبة الذين يتعلمون في البلاد الإنجليزية، ويعلمون أنهم عماد المستقبل، وأن من يكسبهم في حاضرهم يكسب الجيل المقبل في السياسة وفي القيادة الشعبية، ولكنه كان يؤمن بأن الطالب يحق له الاهتمام بأمراض قومه، ولكنه لا يحق له أن يتصدى لمعالجتها، ولما دُعي لمخاطبتهم في سنة ١٩١٣ قال لهم وكان يومئذ في مقتبل حياته السياسية:

إن موقف الطلبة في هذا البلد فرد بغير نظير؛ لأنهم نموذج مختار من صفوة أبناء الأمة الهندية، وخيرة من تستطيع إخراجهم وتربيتهم، إنهم هنا الأمناء على سمعة بلادهم، ويسوءني أن أقول: إنهم في الوقت الحاضر من حيث العلاقة بالمجتمع البريطاني لا يظفرون بسمعة حسنة ولا بسيرة طيبة، فهم بدلًا من سلوك مسلك الطلبة في التعلم والانتفاع بأفضل ما في الحضارة البريطانية التي لم يكسبها القوم إلا بعد رياضة العصور المتعاقبة يغفلون هذا الواجب ويقصرون حياتهم العامة على التراشق بالعبارات النابية في خصومات السياسة، دعوني أذكركم أنكم لم تدركوا بعد مرتبة الكفاية لتناول المسائل السياسية التي تتمثل في بلادكم، وما من أحد يقدر غيرتكم فوق قدري لها، ويفهم الأسباب التي حملتكم على ما تصنعون خيرًا مما أفهمها، ولكن الوقت قد حان لإعادة النظر في موقفكم بعين الجد والسداد … وتسألونني ما هو المطلب الذي يُراد من جماعتنا، فاعلموا أننا في دور الاستعداد لتنشئة الأحوال التي تمتد بها نظرتنا القومية إلى نطاق أوسع وأكمل، واعلموا أن الرجال الذين يساهمون اليوم بالنصيب الأوفى في السياسة الهندية هم أناس تعلموا في إنجلترا وعادوا إلى بلادنا لخدمتها، فاختلطوا بالبيئات الإنجليزية واتخذوا الأصحاب منها، وليكن واجبكم الأول قبل هذا أن تلتقوا أبناء وطنكم وتعرفوهم حق معرفتهم، فإن مقامكم بإنجلترا هو الفرصة التي تجمعكم بغيركم من أبناء الهند الذين ينتمون إلى جميع أقطارها.

وخاطب الطلاب في كلية عليجرة الهندية؛ وقد مضى أربعون سنة على ذلك الخطاب في إنجلترا فقال:

اجتهدوا أولًا في رياضة أنفسكم على الشعور بالتبعة والواجب، وليكن همكم بناء أخلاقكم فهو خير من الشهادات والإجازات، إن العناء في تحصيل الشهادات والإجازات بغير خلق ضائع، وعليكم أن تربوا في أنفسكم روح الكرامة والاستقامة والقيام بما هو مفروض عليكم، وما نحن دون غيرنا من الأمم مقدار ذرة، وإنما كانت آفتنا من إهمالنا لهذه الصفات ونحن قادرون عليها، وصدقوني عن يقين: إن الباكستان لكم خالصة يوم تتمكن هذه الصفات منكم.

وكان القائد الأعظم يزور كلكتا في شهر مارس (سنة ١٩٤٦) داعيًّا للعصبة الإسلامية؛ فوجه إليه وفد من العمال بعض الاعتراضات على تكوين العصبة وقال له أحدهم: يقول الناس: إن العصبة الإسلامية طائفة من الأغنياء لا محل بينها للفقراء.

فأجابه القائد الأعظم قائلًا في صراحته التي لا التواء فيها: «من هم أولئك القائمون بالعصبة؟ إنهم ليسوا أغنياء، ودستور العصبة، بعد، دستور ديمقراطي، فإن كان في العصبة أغنياء طماعون فهم هناك لضعفكم أنتم وتهاونكم؛ لأنكم لا تختبرون قائدكم قبل اتباعه، وما للزعماء من قوة غير التي يستمدونها من الشعب ومن الفقراء، فعليكم قبل أن تسلموهم زمام القوة أن تختبروهم؛ فمن وجدتموه غير أهل للأمانة فانبذوه.»

قال أحد العلماء: «إن بعض الرؤساء لا يهتمون اهتمامًا فعالًا بشئون الشعب وشكاياته.» فعاد القائد الأعظم يقول: «إذن عليكم أن تخرجوهم، فإنما أنتم الذين تصنعون الزعماء، فإن لم يعرفوا الأمانة فلا تقلدوهم الزعامة، وعاملوني أنا هذه المعاملة، واتخذوا من مستر تشرشل مثلًا تعتبرون به، فإنه على كونه أنجح قادة الحرب قد نبذته أمته.»

شجاعته في معارضة الجماهير

واتفق مرة أن هيئة المؤتمر وهيئة العصبة الإسلامية معًا أجمعتا على سياسة واحدة في مسألة الخلافة، ولم يكن جناح على رأيهم في الخطة التي أجمعوا عليها، فوقف وحده يُعارض المؤتمر والعصبة ومن ورائهما الجموع الثائرة … وكان في الاجتماع نحو خمسة عشر ألفًا يتلهبون حماسة، ويصفقون للمقترحات المعروضة عليهم تصفيق المأخوذين بنشوة عارمة لا يقف في طريقها معترض يبالي بشهرته، بل بحياته، إلا هذا الرجل الفذ العجيب، فإنه لم يوافق ولم يسكت، ووقف وحده ينقد آراء الخطباء وحماسة المجتمعين، وكان في الهند يومئذ مستر ودجوود مندوب حزب العمال، فكتب يقول: «إن الهند ماضية في طريق الحرية؛ لأن فيها رجلًا يستطيع أن يثبت على رأيه في وجه الجموع المخالفة!»

أما مستر جنتر مؤلف الكتب المشهورة عن داخل أوروبا، وآسيا، وأمريكا فقد قال: «إن الرجل حفر قبره بيديه.»

وتؤاتيه هذه الشجاعة إذ يخاطب الغوغاء وهم في غليان التعصب، كما تؤاتيه إذ يخاطب جمهورًا من أعضاء المؤتمر والعصبة، فمن مواقفه التي يندر جدًّا أن يقدم عليها أحد من الساسة موقفه بين المسلمين والسيخيين في خلافهم على موقع تنازعوه، فقال المسلمون: إنه مسجد قديم، وقال السيخيون: إنه ملك لأجدادهم لا ينزلون عنه، وهاجت الفتنة هياجها وتساءل الناس كيف يواجه الرجل هذه الثورة الجائحة، فإذا به يذهب إلى مكان الاجتماع هادئًا ساكنًا كأنه يذهب إلى مجلس سمر، وتطلع إليه المجتمعون فلم يتكلم ولبث هنيهة يدخن سيجارته حتى فرغ من تدخينها، وبدلًا من أن يعديه هياج الجموع أعدى الجموع هدوءه وسكينته فسكنت جائشتهم، وظلوا يترقبون كيف يبدأ الكلام وما عساه يقول، فلما تكلم كان كلامه آخر شيء توقعوه؛ لأنه لم يتملقهم ولم يجاملهم، بل أخذ في تبكيتهم؛ لأنهم يتعرضون لمسألة دينية بوسائل غير دينية، وليست مما ترضاه عقيدة المسلمين ولا عقيدة السيخيين، ومن عجيب قوته أنه أخجلهم ولم يثرهم بذلك التبكيت، ثم مضى يعرض للمسألة المختلف عليها، ويبين لهم أنها من المسائل التي تعرض على القضاء ليفصل فيها بالحجة والبينة؛ لأنها نزاع على عقار، فإن ثبت أنه مسجد قديم فالمسلمون أولى به، وإن لم يثبت فشأنه شأن كل بقعة يملكها غير المسلمين.

وقد أبت صراحته في كل موقف أن يجامل الهيجة الغالبة في وقت من الأوقات، وإن هانت فيه ظواهر المجاملة، فماذا عليه مثلًا لو لبس كساء الزي الشائع الذي اصطلح عليه جماعة المغزل من البراهمة والمسلمين اقتداء بالمهاتما المبشر بذلك الكساء؟ لقد كان في اجتماع ناجبور الذي سبقت الإشارة إليه نحو خمسة عشر ألفًا يلبسون «الخادي» ولكنه هو وحده حضر الاجتماع بملابسه المعتادة؛ لأنه لم يكن يؤمن بحركة المغزل، فلا يبيح له ضميره أن يلبس «الخادي» ساعة أو سويعات، وهو لا يرى في حركة المغزل حلًّا للقضية الهندية.

والذين خبروا الرجل من قريب يشهدون له بهذه الصراحة المستقيمة التي تشهد بها أقواله وأفعاله، ومنهم إنجليز وبرهميون، ومنهم مسلمون يخاصمونه ولا يقرون سياسته، ومنهم من اتهم غاندي في صراحته ولم يخطر له قط أن يتهم صراحة جناح، قال بيفرلي نيكولاس Beverly Nicholas: «إن الفرق بين جناح والسياسي الهندي هو الفرق بين الجراح والساحر.» وقال الديوان شمان لال: «إنه أحد الرجال القلائل الذي لا يخدم مأربًا شخصيًّا ولا يرمي إلى غاية نفعية. إن نزاهته فوق الشبهات.»

ومع هذه الصراحة يشهدون له بقدرته على الإقناع، وتأتي هذه الشهادة ممن لا يشهدون لشرقي بالرجحان على أساطين الغربيين في أمر من الأمور، قال مونتاجو وزير الهند في الحكومة البريطانية: «إن شلمسفورد حاول أن يناقشه فوقع في كتافه، وإنه لرجل بارع جدًّا، ومن الغبن الصارخ أن رجلًا مثله لا تُتاح له الفرصة لتدبير أمور بلاده.»

قرأت ما قرأت للرجل، وقرأت ما قرأت عنه، فلم أجد ظلًّا واحدًا يخالط ذلك النهار الواضح من صدقه واستقامته في تعبيره: سياسي لا يبطن غير ما يظهر، ولا يعني القليل وهو يجهر بطلب الكثير، ولا يدخر للصفقة الأخيرة مساومة لم يكشفها من الصفقة الأولى، وهو يقود أتباعه بغير خداع ولا تهويل ولا تهوين ولا تنويم، فكيف أفلح في مسعاه وقد أفلح فيه حقًّا غاية ما يُستطاع من الفلاح؟

لا بد من سر في الرجل، أو لا بد من سر في القضية التي تجرد لها، ولعل السر في الرجل والقضية معًا وهو الذي قدرناه ولمسنا شواهده، ولم نزل نلمسها كلما اطلعنا على جديد في سيرة جناح وسيرة الباكستان، وفي الصفحات التالية بيان هذا السر المبين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤