أحيانًا لا يكون النوم مفيدًا

لا بد أنه كان للحارس أذنا كلب حتى يسمع صوت قدمَي «عثمان»؛ فقد كان الشيطان الأسمر يُشبه الثعبان في قدرته على التحرُّك دون أن يحس به أحد … ولكن هكذا حدث … ووقف «عثمان» متسمِّرًا مكانه … كان يمسك بيده مسدَّسًا … وكان مع الحارس مدفع رشاش. ولكن «قيس» تصرَّف في هذه اللحظة الدقيقة … فقد رفع بسرعة وصوَّب بندقيته وأطلق طلقةً واحدةً أصابت ذراع الحارس … فمال على جانبه، وكان هذا كافيًا ليقفز «عثمان» في خِفة الفهد عليه ويُجرِّده من سلاحه … وخرج الشياطين الثلاثة من مخبئهم خلف التل … وأسرعوا إلى الطائرة … ولم يترك «عثمان» الحارس إلا بعد أن أوثقه بحبلٍ من الليف وجده بجوار الطائرة … ثم أسرع يلحق بزملائه.

أدار «خالد» محرِّك الطائرة … واتخذ كلٌّ من الشياطين مكانه … وفي دقائق كانت الطائرة الهليكوبتر تزن فوق الجزيرة الصغيرة … وقال «عثمان» ضاحكًا: أدفع نصف عمري وأرى وجه «كوجانا» الآن.

خالد: هل تحب أن نُحلِّق فوقهم؟

أحمد: دعنا الآن يا «خالد» من الهزار … نُريد أن نُسرع بالهرب من وجه هؤلاء الناس … لقد هزمناهم بضع مرات … ولو وقعنا في أيديهم فإنني أعتقد أنهم سيتسلَّون بتقطيعنا إلى مكعبات صغيرة …

مالت الهليكوبتر في الجو، ثم اندفعت في اتجاه الشرق، وكانت عاصفة صغيرة قد بدأت تهب على المحيط … وأخذت الريح تضرب الطائرة بعنف … ولكن ما يحدث لم يكن شيئًا خطرًا …

مضت الطائرة في اتجاهها … بينما أمسك «أحمد» ببعض الخرائط الموجودة عند قائد الطائرة، وأخذ يتأمَّلها، ثم قال: لقد كنا في جزيرة تُدعى «نبتان»، وقريب منها جزيرتان أخريان هما جزيرة «لنجا» وجزيرة «سنجي كيب»، وكلها جزر بها سُكَّان من صيادي البحر … يعيشون حياةً بسيطة …

قال «خالد»: إن الإصابة التي استطعنا إحداثها في الطائرة تُؤثِّر على سلامتها، لقد استطاعوا إصلاحها … ولكن ليس الإصلاح الكافي … لقد تعجَّلوا ليطاردونا!

قيس: وماذا تقصد بهذا؟

خالد: أقصد أنه إذا اشتدَّت العاصفة فلا بد من الهبوط … فلن تتحمَّل الطائرة قوة الرياح … فهي لا تستطيع الارتفاع عن سطح البحر بأكثر من عشرين مترًا، ومن الممكن أن تصل إلينا دُوامات المياه وتغرق الطائرة في لحظات …

كان حديث «خالد» إنذارًا مبكِّرًا بما سيحدث … فقد زاد اشتداد العاصفة، وأخذت الريح تلعب بالطائرة … ثم تسارعت السحب المنخفضة والغيوم تُغطِّي وجه الشمس، ولم تمضِ ربع ساعة حتى تحوَّل الجو إلى السواد … واشتدَّ تلاطم الأمواج … ونظر الشياطين بعضهم لبعض، وقال «خالد»: يجب أن نهبط! …

لم يكن هناك أفضل من «خالد» لاتخاذ هذا القرار … فهو من أفضل الشياطين في استخدام الطائرات … فقد أخذ دورةً تدريبيةً خاصةً لهذا الغرض … ولهذا فإنه لم ينتظر تعليقًا من أحد … وأخذ يتخذ عدته للهبوط … عند أقرب ساحلٍ يصل إليه …

قال «أحمد» وهو يفرد أمامه الخرائط: إننا على بُعد قليلٍ من جزيرة «لنجا»، تعالَ نهبط فيها.

خالد: ليس أمامنا سواها.

ولم يكد «خالد» ينتهي من جملته حتى ارتطمت أطراف دُوامة مائية بالطائرة فترنَّحت … ومالت حتى كادت تنقلب، ولكن «خالد» حافظ على سيطرته على الطائرة … وأعادها إلى توازنها … ولكن ذلك لم يستمرَّ سوى ثوانٍ قليلة، وعادت الطائرة تترنَّح …

وقال «قيس»: إنني أرى ضوءًا على الأرض تحتنا …

خالد: لعلها سفينة مارة بالجزيرة …

قال «عثمان»: هناك قنابل للإضاءة … لقد أطلقوا علينا بعضًا منها …

أخذ «أحمد» يتلفَّت حوله، ثم قال: نعم … هناك مخزن خاص بهذه القنابل. ومال جانبًا، ثم ضغط على زر أمامه … وسمعوا صوت انفجارٍ ضعيف … ثم انتشر الضوء كأنه مظلة على البحر الهائج … وأشار «عثمان» إلى يسار الطائرة وقال: هذا شاطئ الجزيرة …

واستدار «خالد» بالطائرة … وأخذ يُناور ويُداور حتى لا يرتطم بالأمواج، ثم أخذ يهبط تدريجيًّا … وكان الساحل مظلمًا … ولا أثر لضوء هناك … فلا بد أن ما رآه «قيس» كان سفينةً مارة … وقبل أن يتلاشى ضوء القنبلة كانت الطائرة قد هبطت على متسع من الأرض قريب من الشاطئ … وفوجئ الشياطين وهم يُغادرونها بالمطر يهطل بشدة … فأعاد «أحمد» إغلاق باب الطائرة وقال: ليس لنا مأوًى أفضل من الطائرة … إننا لم ننم طول الليل … فلْنحاول النوم في مقاعدنا.

قال «خالد»: على كل حالٍ لن يستمرَّ هذا الطقس طويلًا … ففي البلاد الاستوائية يتبدَّل حال الطقس بين ساعةٍ وأخرى.

جلس الشياطين الأربعة كلٌّ في مقعده … وسرعان ما استسلموا للنوم … لقد تعلَّموا أن يناموا في أي وقت وفي أي مكان … فالمغامر لا بد أن يتعلَّم كيف ينام وفي أية ظروف …

لا يعرف الشياطين كم من الوقت مضى عندما استيقظ أولهم على أغرب مشهد يمكن أن يتوقَّعه … كانت العاصفة قد انتهت … وتوقَّف هطول المطر … وبزغت الشمس، وعندما نظر «قيس» شاهد مجموعةً ضخمةً من الناس تُحيط بالطائرة … أغلق عينَيه غير مصدِّق، ثم فتحهما … لم يكن هناك شك في وجود هؤلاء الناس … كانوا جميعًا قصار القامة أقرب إلى الأقزام … وقد أمسك بعضهم بنوعٍ من الأقواس الكبيرة ذات أسهم حادة … وحمل بعضهم فئوسًا … وبعضهم بنادق قديمة … ولاحظ «قيس» شيئًا أغرب … إنهم ربطوا الطائرة ببعض الحبال الغليظة … وكان واضحًا بينهم رجل عجوز يُدخِّن نوعًا طويلًا من «البايب»، وقد أطلق شعر رأسه ولحيته … وكانوا جميعًا يقفون حوله في احترام …

أيقظ «قيس» بقية الشياطين الذين شاهدوا ما شاهده … وتبادلوا النظرات كعادتهم، وقال «خالد»: من الأفضل أن نُعاود الطيران.

قيس: هذا مستحيل. الطائرة مربوطة بالحبال … ومعهم بعض البنادق.

خالد: وما العمل؟

أحمد: إنهم يبدون أناسًا مسالمين … ولعلنا أفسدنا هدوء الجزيرة …

عثمان: إذن هيا بنا … إنهم يتحدَّثون وينظرون إلينا …

فتح «أحمد» باب الطائرة ونزل … وتبعه الشياطين الثلاثة … وأخذوا ينظرون إلى الأقزام … وقال «أحمد» باللغة الإنجليزية: كيف حالكم؟

ردَّ الرجل العجوز من بين أسنانه: نحن في خير … كيف وصلتم إلى هنا؟

أحمد: كما ترى … بهذه الطائرة …

الرجل: اسمي … «مون» … من أنتم؟

أحمد: إننا من العرب … وهؤلاء أصدقائي «قيس» و«عثمان» … و«خالد» … وأنا اسمي «أحمد».

الرجل: ولماذا أتيتُم هنا؟

أحمد: كنا نعبر الجزر إلى «سومطرة» … ولكن العاصفة اضطرتنا إلى الهبوط …

الرجل: ومتى تُغادرون الجزيرة؟

أحمد: الآن.

فكَّر الرجل قليلًا … وتبادل النظرات مع من حوله، ثم قال: إننا ندعوكم إلى الغداء.

أحمد: شكرًا لك … ولكننا نُفضِّل الرحيل … فأمامنا عمل في «سومطرة»…

بدت الريبة على وجه الرجل العجوز … وأغمض إحدى عينَيه … ونفث دخانًا كثيرًا من فمه … وأدرك «أحمد» أن من الأفضل قَبول الدعوة فقال: لا بأس … إننا سنكون سعداء بقَبول دعوتك.

كان الشياطين الأربعة يحملون أسلحتهم فقال الرجل: اتركوا هذه الأسلحة هنا.

جمع «خالد» الأسلحة ووضعها في الطائرة … ثم عاد … وسار الرجل وحوله الشياطين وخلفهم بقية الناس … كانوا يتجهون إلى مجموعةٍ من الأكواخ قد دارت حول كوخٍ كبير، لم يشك «أحمد» أنه كوخ الزعيم «مون»، الذي كان يسير مختالًا بينهم، حتى وصلوا إلى الكوخ، والذي فُرشت أمامه مجموعة من الأبسطة المصنوعة من قماش خشن … وأشار لهم بالجلوس، فجلس الأربعة وصفَّق الرجل بيده فأخذ أكثرُ الأقزام يبتعدون … وبقي قليلٌ منهم أشار لهم الزعيم بالجلوس …

قال «أحمد»: إنك تُجيد الحديث بالإنجليزية أيها الزعيم «مون»…

ردَّ «مون»: لقد عشتُ فترةً من حياتي بحَّارًا في السفن الأمريكية … وقد تعلَّمت اللغة من البحَّارة.

أحمد: وأين ذهبت؟

مون: لقد طفتُ بالعالم … وذهبتُ إلى «الإسكندرية»، وإلى ميناء «جدة»، وإلى موانئ أخرى في البلاد العربية.

ابتسم «أحمد» وقال: إنك رجل مجرِّب أيها الزعيم.

أغمض الرجل إحدى عينَيه … وعاد إلى نفث الدخان مرةً أخرى، ثم قال: إنني أُفضِّل أن تقولوا لي ماذا تفعلون هنا؟ … إن جزيرة «سومطرة» في الجانب الآخر من البحر … وأنا بحَّار وأعرف كل شيء …

كانت صدمةً ﻟ «أحمد»، ونظر إلى الشياطين الثلاثة ونظروا له … لقد اتضح أن الزعيم «مون» ليس الرجل الذي يمكن الضحك عليه …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤