أثر علوم العرب في الغرب

المنصفون والشعوبيون في تقدير الحضارة العربية

في كتَّاب الغربيين أناس يحاولون إلى اليوم أن يقللوا من خدمة العرب للحضارة؛ فمنهم من يزعم أن العرب نقلوا عن القدماء وحرفوا ما نقلوا، ومنهم من يدعي بصورة مجملة أن هذه المدنية التي أبدعها العرب لا تستحق هذه العناية، وأن اليونان والرومان هم أساتذة الغربيين وحدهم، والعرب لا فضل لهم عليهم في شيء. ومنهم من يحاول أن يصغر ما وسعته المماحكة من تأثيرات مدنية العرب، فيقول: إنهم أتقنوا أصنافًا١ من العلم لا تحتاج إلى تفكير كالتاريخ والجغرافيا، وأنهم سقطوا في الكتب السريانية على مواد وافرة فاقتبسوها، دون أن يكون لهم في باب النقد كبير أمر، مدعين أن العربي عاجز عن استخراج شيء من عنده، وأنه نقل واحتذى وقلد وغير الصور، وأنه لم يعرف الشعر القصصي ولا الشعر التمثيلي؛ لأنهما يتطلبان اختراعًا لا وجود له عند العرب، وأن الإسلام الذي هو عصارة العقل العربي قد فلج الأفكار.
هذه بعض منازع الشعوبيين خصوم العرب من الإفرنج، الجاهلين أقدارهم، العاملين على الحط من مدنيتهم، فاستمعوا لما يقوله المنصفون، فقد قال درابر:٢ «من موجب الأسف أن الأدب الأوربي حاول أن ينسينا واجباتنا العلمية نحو المسلمين؛ فقد حان الوقت الذي ينبغي لنا أن نعرفهم. إن قلة الإنصاف المبنية على الأحقاد الدينية، وعلى العنجهية القومية، لا تدوم أبد الدهر.» وفي التاريخ العام:٣ «إذا وجب أن يُذكر لكل واحد قسطه من العمل، لا يسع المنصف أن ينكر أن قسط العرب منه كان أعظم من قسط غيرهم، فلم يكونوا واسطة نقلت إلى الشعوب الجاهلة في إفريقية وآسيا وأوروبا اللاتينية معارف الشرق الأدنى والأقصى وصنائعه واختراعاته، بل أحسنوا استخدام المواد المبعثرة التي كانوا يلتقطونها من كل مكان، ومن مجموع هذه المواد المختلفة التي صبت فتمازجت تمازجًا متجانسًا، أبدعوا مدنية حية مطبوعة بطابع قرائحهم وعقولهم، وهي ذات وحدة خاصة وصفات فائقة.»
هذا مثال من أقوال بعض المنصفين في المدنية العربية، وهناك فئات غير قليلة تتابعهم على آرائهم، أما ذاك الشعوبي فيحاول أن لا يجعل للعرب مزية لاشتغالهم بالتاريخ والجغرافيا؛ لأنهما علمان لا يحتاجان إلى تفكير بزعمه السخيف، وقبله أُعجب كثير من علماء المشرقيات الذين تفهموا هذه الحضارة من كتبها، وأكبروا عمل المقدسي وابن حوقل وياقوت والمسعودي والطبري وابن الأثير والإدريسي وابن خرداذبة والبلاذري واليعقوبي والخوارزمي وابن الفقيه وابن رسته وابن فضلان وقدامة والبلخي والبيروني والبكري وشيخ الربوة وأبي الفداء وابن جبير وابن سعيد وابن سعد وابن فضل الله وابن أبي أصيبعة وابن القفطي وابن خلكان والصفدي وابن الخطيب وابن بسام وابن عساكر وابن طباطبا وابن بشكوال إلى عشرات غيرهم كتبوا في هذين العلمين وكتبهم موجودة مطبوعة لا تحتاج إلا لمن يقرؤها، واستفاد منها الغربيون فوائد جلى ونوَّهوا بها في كل فرصة،٤ وما نظن أمم أوروبا كلها أخرجت في فن التاريخ حتى اليوم كثيرًا من عيار ابن خلدون واضع فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع.

يقول جوتيه: إن الشريف الإدريسي الجغرافي كان أستاذ الجغرافيا الذي علم أوروبا هذا العلم لا بطلميوس، ودام معلمًا لها مدة ثلاثة قرون، ولم يكن لأوروبا مصور للعالم إلا ما رسمه الإدريسي، وهو خلاصة علوم العرب في هذا الفن، ولم يقع الإدريسي في الأغلاط التي وقع فيها بطلميوس في هذا الباب، قال: من دار حول إفريقية؟ فاسكودي جاما، ومن كشف أميركا؟ خريستوف كولمبس، ومن السهل أن يدرك أن هذين الكشفين اللذين فاقا جميع ما تقدمهما قد تما على أيدي بحارة من العرب، وكان تحقيقهما متعذرًا بدون ارتقاء علم الجغرافيا عند العرب، وتم هذان الكشفان العظيمان بعقول العرب وموادهم وأشخاصهم تحت إمرة النصارى، إلى آخر ما قال.

الفنون التي اهتمت العرب بها

أما الشعر القصصي والتمثيلي فلم يزاولهما العرب؛ لأنهم أصحاب بديهة وارتجال،٥ وقد شغلوا بأنفسهم عن النظر فيما عداهم، وهم أشد الناس اختصارًا للقول، والشعر القصصي يحتاج إلى التطويل والتحليل، وحرمتهم طبيعة أرضهم وبساطة دينهم وضيق خيالهم واعتقادهم بوحدانية إلههم كثرة الأساطير، وهي من أغزر مواد الشعر القصصي، فزخرت بحور الشعر العربي بالفخر والحماسة والمدح والهجاء والرثاء والعتاب والغزل والوصف والاعتذار والحكمة، وخلا مع اتساعه وتشعب أغراضه من الملاحم٦ المطولة التي تعلن المفاخر القومية، وتشيد بذكر الأبطال والفروسية كالإلياذة لليونان، والإنبياد للرومان، ومهابهاراتة للهنود، والشاهنامة للفرس.

وإذا عُير العرب بفقر خيالهم، فقد اشتغلوا بعلوم أنفع لهم ولمجتمعهم من الشعر القصصي والتمثيلي، اشتغلوا بعلم الفلك حتى قال دلامبر في تاريخ هذا العلم: إننا إذا أحصينا راصدَين أو ثلاثة من الروم رحنا نعد كثيرين من العرب في هذا الفن، مما دل على بعد غورهم في علم الأفلاك. وقال بيكوردين: نشأت مكانة علم الفلك عند العرب من توسع الرياضيين منهم في الحساب؛ لأنهم اخترعوا أساس حساب المثلثات، وحقق العرب طول محيط الأرض، بما كان لهم من الأدوات، وأخذوا ارتفاع القطب ودور كرة الأرض المحيطة بالبر والبحر، وحققوا طول البحر المتوسط الذي قدره بطلميوس ﺑ ١٢ درجة، فأرجعوه إلى ٥٤ أولًا ثم إلى ٤٢ أي إلى الصحيح من مقداره تقريبًا، وجمع المأمون بعض حكماء عصره على صنعة الصورة التي نُسبت إليه، ودُعيت الصورة المأمونية، صوروا فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره وعامره وغامره، ومساكن الأمم والمدن إلى غير ذلك، وهي أحسن مما تقدمها من جغرافية بطلميوس وجغرافية مارينوس، وضع له علماء رسم الأرض — وكانوا سبعين رجلًا من فلاسفة العراق — كتابًا في الجغرافية أعان عمال الدولة على معرفة البلاد والأمم التي أظلتها الراية العباسية، هذا إلى عنايته بالفلك، وفلكيه الفزاري أول من استعمل الأسطرلاب من العرب. وأقاموا المراصد الفلكية في بغداد والرقة ودمشق والقاهرة وسمرقند وقرطبة وفاس، ونظروا في المجسطي لبطلميوس في الفلك وعملوا جداول فلكية مدققة.

اكتشف العرب منابع النيل قبل أن يتصدى الإفرنج لها،٧ وقام في أذهانهم أن في الأرض أقطارًا لم تُعرف، حتى قال أحد عارفيهم قبل كولمبس بقرن ونصف: «لا أمنع أن يكون ما انكشف عنه الماء من الأرض من جهتنا منكشفًا من الجهة الأخرى، وإذا لم أمنع أن يكون منكشفًا من تلك الجهة لا أمنع أن يكون به من الحيوان والنبات والمعادن مثل ما عندنا أو من أنواع وأجناس أخرى.» وسبقت العرب٨ إلى اختراع طريقة الكتابة بالحروف البارزة الخاصة بالعميان، اخترعها علي بن أحمد بن يوسف بن الخضر المشهور بزين الدين الآمدي ٧١٢ﻫ/١٣١٢م، وكان قد فقد بصره في أول عمره، فكان كلما اشترى كتابًا لخزانة كتبه لف ورقة على شكل حرف من الحروف، ولصقها في الكتاب، وكانت هذه الحروف هي التي يستعين بها على معرفة ثمن الكتاب، وكان العميان يؤلفون، ومنهم ابن سيده المرسي صاحب المخصص والمحكم، ومثله عشرات في الأمة على ما ذكر ذلك الصفدي،٩ ومنهم من كان يطبُّ على القارورة فيصفون له داء المريض فيصف له الدواء، مثل ابن الحناط الكفيف الأندلسي.١٠
وسبقت العرب الأوروبيين إلى الطيران، وقد حاوله عباس بن فرناس حكيم الأندلس، وهو أول من استنبط صناعة الزجاج من الحجارة، وأول من فك الموسيقى ووضع الآلة المعروفة بالمثقال ليعرف بها الأوقات على غير مثال، ومثَّل في بيته السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها تمثيلًا يخيل للناظر أنه حقيقة، وكادوا يعرفون في الأندلس الجراثيم، وكانت وقايتهم من الأمراض تكاد تشبه وقاية أهل العصور الحديثة، على ما ذكر ذلك ابن خاتمة في رسالته في الوباء،١١ وسبقوا إلى معرفة مرض النوم وسموه النوام وشرحوا أعراضه، وسبق العرب إلى معرفة الطباعة، فألف أبو بكر القدسي الأندلسي كتابًا في الخواص وصنعة الأمدة وآلة الطبع غريب في معناه،١٢ وكان عبد الرحمن بن بدر من وزراء الناصر ومن أهل المائة الرابعة «ينفرد بالولايات فتُكتب السجلات في داره ثم يبعثها للطبع فتُطبع وتخرج إليه فتُبعث في العمال وينفذون على يديه.» أي إن الأندلسيين عرفوا الطبع لا بالحروف قبل مخترعه المشهور جوتنبرغ الألماني بأربعمائة سنة، ولو اطرد سير العرب في الطباعة لأتقنوها، ولكان فضل هذه المدنية على العالم أضعافًا مضاعفة، ولما فُقدت على الأقل معظم الأسفار التي خطتها أيدي العرب في العلوم المختلفة التي كانت تضمها خزائن الأندلس ودور الحكمة في بغداد.
قال جوتيه: «وللعرب في باب الاختراعات شيء لا بأس به بالنسبة لعصورهم، وقد وجد في كتاب عربي قديم لم يُنقل إلى اللغات الأوربية، أن العرب عرفوا طريقة عمل الجليد الصناعي ولم تعرف أوروبا سر هذه الصناعة إلا في النصف الأول من القرن السادس عشر، وأدخلوا على أوروبا الورق المعمول من القطن والورق الرخيص الثمن، وكان الناس من قبل يكتبون على البردي وهو غالٍ جدًّا، وكانت معامل شاطبة في إسبانيا تصدر بضاعة الورق إلى أوروبا الغربية، بينا كانت أوروبا الشرقية تبتاع ورقها من بلاد الشرق الأدنى مباشرةً، على ما يشهد لذلك اسم الورق الدمشقي «شارتا داما سينا». وصُنع الورق١٣ من الحرير في سنة ٦٥٠م في سمرقند وبخارى، ثم استبدل يوسف بن عمرو سنة ٧٠٦م الحرير بالقطن ومنه الورق الدمشقي الذي ذكره مؤرخو اليونان.»
وقال جوتيه أيضًا: إن العرب علمونا صنع الكتاب وصنع البارود وعمل إبرة السفينة، فعلينا أن نفكر ماذا كانت نهضتنا لو لم يكن من ورائها هذه المخلفات التي وصلتنا من المدنية العربية، عرفت العرب آلة الظل والمرايا المحرقة بالدوائر والمرايا المحرقة بالمقطوع، وقطعوا شوطًا كبيرًا في الميكانيكيات، ولما بعث الرشيد العباسي إلى شارلمان الساعة الدقاقة الكبيرة تعجب منها أهل ديوانه ولم يستطيعوا أن يعرفوا كيفية تركيب آلاتها على ما حقق ذلك سيديليو، ومع ذلك لم يكن في عصر العباسيين أهم من مهنة الفلاحة، أظهر العرب بمهارتهم مزايا فواكه الفرس وأزهار إقليم مازندران؛ وقد أغنوا١٤ العلم ولا سيما علم النبات بمسائل جديدة كثيرة، ومعظم المستحضرات والأدوية المستعملة كالأشربة والدهون والمراهم والغول (الألكحول) واللعوق والسنامكي والراوند والخيار شنبر وجوز القيء هم الذين كشفوها، واستلزمت أصول تداويهم أن يعمدوا إلى استعمال الفتائل وإلى الحجامة في أمراض الصرع، واستعمال الماء البارد في الحمى الدائمة، واتخذ جراحوهم تفتيت حصاة المثانة وقدح العين واستخرجوا منها الجريم العدسي الشفاف ويظهر أنهم عرفوا البنج.

وفي التاريخ العام، وكل هذا المجد في الطب العربي إن لم يبد لنا بأنهم كانوا فيه أرباب نظريات دقيقة، فهم على الأقل أرباب ملاحظة عاقلة، وأرباب تجارب حاذقة، وأطباء عمل على غاية من المهارة. وكان الرازي وابن جابر أول من وضع أساس الكيمياء الحديثة، وحاولا كشف الإكسير الذي يهب الحياة ويعيد الشباب، وكانا يذهبان إلى معرفة حجر الفلاسفة الذي يحول المعادن إلى الذهب، ولم تذهب هذه الأبحاث الوهمية سدًى؛ لأنهم عرفوا بها التقطير والتصعيد والتجميد والحل، وكشفوا الغول من المواد السكرية والنشوية الخاثرة.

ومضى دهر طويل كان فيه شعوب المملكة العربية أول العارفين بالزراعة، وأحسن العمال وأجرأ التجار في العالم القديم، وأصبحت الزراعة التي أخذوها عن أساليب بابل والشام ومصر علمًا حقيقيًّا للعرب، أخذوا نظرياتها من الكتب، ثم وسعوها بتدقيقاتهم وتجاربهم، وكانوا يطبقونها بمهارة ليس بعدها مهارة، وكان رجال الطبقة الأولى منهم لا يستنكفون عن العمل بأيديهم في زراعة الأرض، بينا كان غيرهم يحتقرها ويعدها عملًا مهينًا.

ونهض العرب في فارس والأندلس وصقلية وإفريقية لاستثمار المعادن يستخرجونها من مناجمها، ويحسنون تطريقها والانتفاع بها، واستخرج الأندلسيون من مناجمهم الزئبق والتوتيا والحديد والرصاص والفضة والذهب، واستثمر العرب المناجم التي صارت ملكًا لهم في بلادهم في الشرق والغرب، واستخرجوا الحديد في خراسان والرصاص في كرمان والقار والنفط وطينة الأواني الصينية ورخام طوريس والملح الأندراني والكبريت.

ما كشفه العرب واخترعوه وأقوال أساطين علماء الغرب

قال درابر: ومن عادة العرب أن يراقبوا ويمتحنوا، وقد حسبوا الهندسة والعلوم الرياضية وسائط للقياس، ومما تجدر ملاحظته أنهم لم يستندوا فيما كتبوه في الميكانيكيات والسائلات والبصريات على مجرد النظر، بل اعتمدوا على المراقبة والامتحان، بما كان لديهم من الآلات، وذلك ما هيأ لهم سبيل ابتداع الكيمياء، وقادهم لاختراع أدوات التصفية والتبخير ورفع الأثقال، ودعاهم إلى استعمال الربع والاصطرلاب في علم الهيئة، واستخدام الموازنة في الكيمياء، مما خصوا به دون سواهم، وهيأ لهم صنع جداول للجاذبية النوعية وعلم الهيئة كالتي اصطُنعت في بغداد والأندلس وسمرقند، مما فتح لهم باب تحسين عظيم في قضايا الهندسة وحساب المثلثات واختراع الجبر واستعمال الأرقام في الحساب، وكان هذا كله من نتائج استعمالهم طريقة الاستدلال والامتحان، ولم يقرروا في علم الهيئة لوائح فقط، بل رسموا خرائط النجوم المنظورة في فلكهم أيضًا، مطلقين على ذوات القدر الأعظم أسماء عربية لا تزال تتردد على كراتنا الفلكية، وقد عرفوا حجم الأرض بقياس درجة سطحها، وعينوا الكسوف والخسوف، ووضعوا للشمس والقمر جداول صحيحة وقرروا طول السنة، وأدركوا الاعتدالين، ولاحظوا أمورًا بعثت نورًا باهرًا على نظام العالم، واختص علماء الفلك منهم باختراع الآلات الفلكية لقياس الوقت بالساعات المتنوعة، وكانوا السابقين إلى استعمال الساعة الرقاصة لذلك، وهم الذين أنشأوا في العلوم العملية علم الكيمياء، وكشفوا بعض أجزائها المهمة كالحامض الكبريتيك وحامض الفضة (النتريك) والغول، وهم الذين استخدموا ذلك العلم في المعالجات الطبية، فكانوا أول من نشر تركيب الأدوية والمستحضرات المعدنية.

وهم قرروا في الميكانيكيات نواميس سقوط الأجسام، وكان لهم رأي جلي من جهة طبيعة الجاذبية، ورأي سديد في القوات الميكانيكية، واصطنعوا في نقل الموائع وموازنتها الجداول الأولى للجاذبية النوعية، وكتبوا مقالات في عوم الأجسام وغرقها في الماء، وأصلحوا في علم البصريات خطأ اليونان بكون الشعاع يصدر من العين ويمس المرئي فيظهره، فقالوا: إن الشعاع يمر من المرئي للعين. وفهموا مساس انعكاس النور أو انكساره، وكشفوا عن طريق الشعاع المنحني في الهواء، وبرهنوا على أنَّا نرى الشمس والقمر قبل الشروق وبعد الغروب. قال: والذي يدهش كثيرًا أن نتصور أشياء نفاخر بأنها من مواليد وقتنا، ثم لا نلبث أن نراهم سبقونا إليها، فتعليمنا الحاضر في النشوء والارتقاء كان يدرس في مدارسهم، وحقًّا إنهم وصلوا به إلى الأشياء الآلية وغير الآلية، فكان المبدأ الرئيسي في الكيمياء عندهم، والمظهر الطبيعي للأجسام المعدنية. ا.ﻫ.

وقال سنيوبوس:١٥ جرى أمراء العرب على قاعدة إسقاء الأرضين بفتح الترع، فحفروا الآبار، وجازوا بالمال الكثير مَن عثروا على ينابيع جديدة، ووضعوا المصطلحات لتوزيع المياه بين الجيران، ونقلوا إلى إسبانيا أسلوب النواعير لتمتح المياه، والسواقي التي توزعها، وإن سهل بَلَنسية الذي جاء كأنه حديقة واحدة، هو من بقايا عمل العرب وعنايتهم بالسقيا، ونظم العرب ديوان المياه الذي كان يُرجع إليه في مسائل الري. ا.ﻫ. وقال ويليام ويلكوكس الذي كان من أعاظم مهندسي الري في هذا العصر: إن عمل الحلفاء في ري العراق في الأيام الماضية يشبه أعمال الري في مصر والولايات المتحدة الأميركية وأوستراليا في هذا العصر. ووصف المقدسي ميناء عكا التي بناها جده أبو بكر البناء المهندس لابن طولون والطرق التي استعملها في هندستها حتى تدخل إليها المراكب آمنة، فعُدت هذه الميناء من العجائب. وذكر سنيوبوس أيضًا أن العرب استعملوا جميع أنواع الزراعة التي وجدوها في مملكتهم وحملوا كثيرًا من النباتات إلى صقلية وإسبانيا وربوها في أوروبا فأحسنوا تربيتها، حتى لتظنها متوطنة متبلدة، وذلك مثل الأرز والزعفران والقنب والمشمس والبرتقال والكباد والنخل والهِليون والبطيخ الأصفر والعنب والعطر والورد الأزرق والأصفر والياسمين، بل والقطن والقصب.
وظفر العرب في الشام وفارس بصناعات قديمة نُقلت إلى جميع البلاد الإسلامية فتكملت، ومنها نشأت صناعة أوروبا الحديثة. ذكر سنيوبوس أنواع هذه الصنائع التي نقلوها من الشرق إلى الغرب ولا سيما إلى الأندلس، قال: عاشت الشعوب في بلاد العرب الواسعة كما كانت الحال على عهد الرومان من أقصى المملكة إلى أقصاها بسلام وراحة، يتقايضون حاصلات أرضهم ومصنوعات معاملهم، ويرحلون إلى الهند والصين يبتاعون مصنوعات الأمم الصناعية ليحملوها إلى الشعوب البربرية في أوروبا، ينقلونها في البر والبحر. وذكر ريسون١٦ أن العرب أحرزوا فضل السبق دون غيرهم في مضمار التجارة، ورقوا الصناعة البحرية، ووضعوا قوانين حقوق الملاحة، واقتبسوا استعمال إبرة السفينة من الصينيين، وضبطوا التجارة بفن مسك الدفاتر أي ضبط، وشرحوا الكفالة وأنشأوا المصارف للفقراء، ووضعوا السفاتج (الكمبيالات) المألوفة وردود التمسك (البروتستو)، وبعثوا الحركة في مصارف الغرب الحديثة. قال: وكنت تراهم حين نزلوا يمهدون السبل، ويعمرون المرافئ والفرض، ويصلحون الفنادق والرباطات، ويرتبون سير القوافل، وكانت المدن الإسلامية أوساطًا تجارية كبرى، وبعد أن ذكر ارتباط المدن الإسلامية وعدد نفوس العواصم منها وعظم حركتها، قال: وإن تعجب فاعجب للعرب كيف نبغ بينهم لأسفارهم المترامية أساتذة جغرافيون هذبوا في وقت قصير كتاب بطلميوس، وكشفوا بلادًا أخرى بغير أقدامهم لم توطأ؛ ووسعوا المصورات للغربيين، وحببوا إليهم التنقل والترحال.
وقال سنيوبوس: وكتب علماء العرب أول كتاب في الجبر، ووصف علماء الجغرافيا منهم البلاد البعيدة التي كانت تختلف إليها القوافل، واستخرجوا من كتب الطب اليوناني الطب التجربي، وهو طب العقاقير والحبوب، وأهم ما غلب على العرب من العلوم علم الكيمياء. وقال ريسون: إن استبحار عمران العرب مع سرعة انتشار سلطتهم في المعمور هيأ لنا إدراك مكانة المدنية العربية، فكانت هذه الحضارة الباهرة في القرون الوسطى مزيجًا من المدنية البيزنطية والفارسية، وقد تم هذا المزيج المدني بأمرين: عشق العرب للتجارة وغرامهم بالاستعمار، وأصبحوا لذكائهم الوقاد، ولما غُرس فيهم من حب الاطلاع على كل شيء، يخوضون غمار العلوم الطبيعية والرياضية، فابتدعوا الكيمياء وبرعوا بها، وطبقوا تلك العلوم على الزراعة والصناعة، ولهم المنة على جميع الأمم بأرقامهم العربية وباستنباطهم فن الجبر والمقابلة، وتهذيبهم الهندسة، وأعمالهم الجميلة الفلكية في أبحاث سمت الشمس، ومعادلة الليل والنهار، والبقع الشمسية، ولقد اصطنعوا الآلات العجيبة الفلكية كالاصطرلاب ونحوه، وكشف كيماويوهم وأطباؤهم عن خواص الغول والنشادر وحامض الأزوت والكبريت والمياه المعدنية، وأدخلوا في كثير من أدويتهم مواد من نبات بلادهم كالكافور والراوند والسنامكي، وهم أسرع الناس لتدوين أنسابهم وملاحمهم وأبطالهم ورواية أشعارهم، والكتابة في فلسفة التاريخ وعلوم الاجتماع، وتوصل العرب إلى إثبات تناسب جيوب الأضلاع لجيوب الزوايا المقابلة لها في أي مثلث كروي، ووضعوا هذه القاعدة أساسًا للطريقة التي سموها الشكل المغني في حل المثلثات الكروية، وعرفوا حامض الكبريت استخرجوه من الزاج بواسطة التقطير، وعرفوا ماء الفضة والقلى، وطرق إذابة الذهب وملح النشادر وحجر الكي والسليماني، وكانوا يطبقون ما كشفوه على الطب والصناعة والحرب،١٧ ويعرفون صنع الصواريخ أخذوا سرها من الروم، وعملوا البارود للمدافع، وربما كان ذلك قبل الصينيين، ولكن كان قبل الأوروبيين على التحقيق، فكانت جيوشهم تستعملها منذ القرن الثالث عشر، وقالوا بكروية الأرض منذ ابتداء نهضتهم. وعُني العرب بصنع القاشاني وغيروا طرق صنعه وأشكاله، واشتُهرت في القرون الوسطى الأواني الزجاجية والمصابيح العربية الملونة التي انتقلت من الشام إلى معامل البندقية ونُسجت هذه على منوالها، وكذلك تعلم البنادقة صنع المرايا وكانت تُصنع في الصور، ومن البندقية انتقلت إلى أوروبا، ونُقل من الشام والعراق إلى الأندلس صنع السيوف الدمشقية والأقمشة، ومنها «الدمقس» نسبة إلى دمشق، «والموسلين» نسبة إلى الموصل وهو الشفوف، ثم عُرفت هذه الأصناف في بلاد الغرب.

كان الفلك والرياضيات والعلوم الطبيعية تُقرأ في أوروبا في كتب العرب، ولما كان العرب سادة البحر المتوسط في القرن السابع وما بعده أعطوا الطليان والفرنسيس الألفاظ البحرية، وكان الطب العربي أساس علم الطب عند الفرنسيس أخذوه مع كثير من الألفاظ العربية، والعرب هم الذين أدخلوا إلى مونبيليه منذ سبعمائة سنة، وإلى كثير من مدن فرنسا وإيطاليا، بضائع العلوم المختلفة، جاؤا بها من الأندلس، ودرس بعض الغربيين العلوم المختلفة على علماء العرب. ومن كتب العرب العلمية في العلم الطبيعي والرياضي والفلك والكيمياء ما فُقد أصله العربي وبقيت ترجمته اللاتينية، وجميع المادة الطبية التي أخذها الغربيون من العرب بقيت إلى القرن السابع عشر هي المعول عليها وحدها. قال سنيوبوس: ويتعذر الحكم في تحديد الطرق التي دخل منها إلى أوروبا اختراع من اختراعات الشرق، وفيما إذا كان انتهى إلينا من طريق الصليبيين في فلسطين، أو من طريق التجار الإيطاليين، أو جاءنا من عرب صقلية أو من المغاربة في إسبانيا، بيد أن الحساب يمكن تقديره بما نحن مدينون به للعرب، وإن كان هذا الحساب مما يطول شرحه، فقد أتتنا من العرب: أولًا الحنطة والهليون والقنب والكتان والتوت والزعفران والأرز والنخيل والليمون والبرتقال والبن والقطن وقصب السكر. ثانيًا معظم صناعاتنا في التزين كالأقمشة الدمشقية القطنية والسختيان وأقمشة الحرير المزركشة بالفضة والذهب والشاش الموصلي والشفوف والحبر والمخمل والورق والسكر وعمل الحلويات والمشروبات. ثالثًا مبادئ كثير من علومنا كالجبر وحساب المثلثات والكيمياء والأرقام العربية التي اقتبسها العرب من الهنود فسهل بها الحساب مهما كان صعبًا، ولقد جمعت العرب وقربت جميع الاختراعات والمعارف المأثورة عن العالم القديم في الشرق (كيونان وفارس والهند والصين)، وهم الذين نقلوها إلينا ودخل كثير من الألفاظ في لغاتنا، وهي شاهدة مما نقلناه عنهم، وبواسطة العرب دخل العالم الغربي الذي كان بربريًّا في غمار المدنية، فإذا كان لأفكارنا وصناعاتنا ارتباط بالقديم، فإن جماع الاختراعات التي تجعل الحياة سهلة لطيفة، قد جاءتنا من العرب، وأخذ الأوروبيون من العرب صنع الجوخ في جملة ما أخذوا من الصنائع.

وكان أهل بيزا الإيطاليون ينزلون مدينة بجاية في الجزائر، فتعلموا منها صنع الشمع، ومنها نقلوه إلا بلادهم وإلى أوروبا. وقال سنيوبوس أيضًا: وكان عبد الرحمن الثالث الأموي على اتصال دائم بأمراء إسبانيا وفرنسا وألمانيا وممالك الصقالبة، وكان القصر الملوكي في تولوزة من بلاد فرنسا صورة من صور قصور الخلافة في قرطبة، يتبارى فيه الشعراء وتقوم فيه للآداب سوق، ولما انتقل أحد أمرائهم ليتولى عرش فرنسا سنة ٩٩٩ أدخل ما أخذ عن العرب تبدلًا حقيقيًّا في باريز من حيث الأخلاق واللغة، وكان ملوك فرنسا من أهل السلالة الثالثة يقلدون العرب في كل شيء، وتعلم الفرنسيس أشياء كثيرة في حملة سان لوي الصليبية التي بقيت عدة سنين في الشرق، وفي الحروب الصليبية تعلم الفرنسيس صنع الورق من دمشق بواسطة أسيرين منهم قضيا زمنًا في هذه المدينة، فلما عادا إلى بلادهما نشرا فيها هذه الصناعة المفيدة، وكان لكثير من ملوك أوروبا حرس من العرب إلى عهد قريب، ولا سيما إيطاليا وفرنسا. وذكر سيديليو أن بعض الإفرنج زعموا أن العرب لم يعملوا في تقدم الصنائع شيئًا مع أنهم برعوا في جميع الفنون الصناعية واشتهروا عند سائر الأمم بأنهم دباغون سباكون جلَّاءون للأسلحة نساجون أصناف الأقمشة، ماهرون في الأشغال التي تُصنع بالمنقاش والمقراض، ويؤيد علو كعبهم في هذه الفنون سيوفهم الباترة، ودروعهم الخفيفة الصلبة، وبسطهم ذات الوبر، ومنسوجاتهم من الصوف والحرير والكتان، وما كشمير هذه الأيام إلا نموذجات دالة على تلك الصناعة. ويقول رينو في كتابه الغارة على فرنسا: إن العرب لما آغاروا من الأندلس على جنوبي فرنسا وافتتحوا بقيادة السمح الخولاني وعنبسة الكلبي والحر الثقفي مدائن أربونة وقرقشونة وأفنيون وليون كانوا مجهزين بأسلحة لم يكن للإفرنج مثلها.

وذكر لبون: «أن خزائن الكتب والمخابر والآلات هي مواد للتعليم والبحث اللازم، ولكنها ليست إلا أدوات، وقيمتها مناط الطريقة التي تُستعمل لها، وقد يتلقف المرء علم غيره وهو عاجز عن أن يفكر بنفسه ويوجد شيئًا، ويكون تلميذًا دون أن يوفق إلى أن يصبح أستاذًا، أما العرب فبعد أن كانوا تلاميذ عاديين، أساتذتهم تآليف اليونان، أدركوا للحال أن التجربة والملاحظة تساويان أكثر من أحسن الكتب، هذه الحقيقة اليوم معروفة لا يُعد العمل بها بدعًا، ولم تكن كذلك في الدهر السالف، فقد ظل علماء القرون الوسطى يشتغلون ألف سنة قبل أن يدركوها، ينسب الناس إلى باكون قاعدة التجربة والملاحظة، وهما الأصل في أساس البحث العلمي الحديث، بيد أن الواجب أن يُعترف اليوم أن هذه الطريقة كلها هي من مبتدعات العرب.» وقال بهذا الرأي جميع العلماء الذين درسوا كتبهم ولا سيما هومبولد، قال: إن العرب بلغوا في العلم العملي درجة لم يكن يعرفها أحد من القدماء. وقال سيديليو: وقد اشتُهرت مدرسة بغداد في أول أمرها بفكرتها العلمية حقيقة، وكان لها السلطان الأكبر على أعمال العرب، فساروا من المعلوم إلى المجهول، واستنبطوا أسرار المحسوسات ليُرجعوا الأسباب إلى مسبباتها، ولا يقبلوا إلا ما أثبتته التجربة، وهذه هي الأصول التي لقنها العلماء، ولقد كان العرب في القرن التاسع متمكنين من هذه الطريقة الخصيبة التي صارت بعد عند المحدثين أداة استعملوها للوصول إلى أجمل ما كشفوه، فكانت التجربة والملاحظة من أسلوب العرب، ودرس الكتب والاكتفاء بترديد رأي المعلم كانت طريقة أوروبا في القرون الوسطى، والفرق ظاهر بين الطريقتين، ولا تقدر طريقة العرب في العلم حق قدرها إلا بالبحث فيها.

ولقد اعتمد العرب على التجارب وسبقوا العالم، وظلوا على سبقهم دهرًا طويلًا، وعرفوا مكانة هذه الطريقة، وليس لليونان في الكيمياء ولا مجرب واحد، ويعد المجربون بالمئات عند العرب، وقد أورثت عادة التجربة أعمالهم العلمية هذا الوضوح والإبداع الذي لا ينتظر أبدًا أنه يسقط عليها عند من لم يدرس الظاهرات إلا في الكتب، ولم يفتهم الإبداع إلا في علم استحال عليهم فيه الرجوع إلى التجارب وهو علم الفلسفة، والأساليب التجريبية التي كُتب لهم فضل السبق فيها قادتهم بالضرورة إلى كشف أمور مهمة وفقوا إليها في ثلاثة أو أربعة قرون، لم يُكتب مثله لليونان في زمن أطول من زمنهم بكثير، وهذه الذخيرة في العلم الماضي التي انتقلت إلى اليونان قبلهم ولم يستخرجوا منها كبير أمر منذ دهر طويل نقلها العرب برمتها مبدلة إلى أخلافهم. ولم يقف عمل العرب عند تثمير العلم بما أوجدوه بل نشروه بواسطة جامعاتهم وكتبهم، فالتأثير الذي أثروه من هذا النظر في أوروبا كان عظيمًا في الحقيقة، وكانوا خلال عدة قرون أساتيذ منفردين، عرفتهم الأمم النصرانية، وإليهم يرجع الفضل في معرفتنا المدنيتين اليونانية واللاتينية، وفي العهد الحديث فقط تجرد تعليم جامعاتنا من الاعتماد على تراجم كتب العرب، وكف عن الأخذ بواسطتهم.

تفنن العرب في الهندسة والتصوير

وللعرب في باب الهندسة الإبداع الذي أقرهم عليه كل عارف، ولم ينازعهم فيه منازع، ولم يخترع العرب أبنية خاصة بهم، بل تجلى في هندستهم حبهم للزخرف واللطف، واخترعوا القوس المقنطر ورسم البيكارين وجعل تفننهم في هندسة القباب والسقوف والمعرشات من الأشجار والأزهار، لجوامعهم وقصورهم بهجة لا يبلى على الدهر جديدها، ودلت كل الدلالة على إيغالهم في حب النقوش والزينة، كأن أبنيتهم ومصانعهم هي قماش من أقمشة الشرق تفنن حائكها في رقشها ونقشها كما قال أحد العارفين من الإفرنج. وعقد لبون فصلًا في تأثير العرب في الصنائع ولا سيما في الهندسة في الغرب وقال: ربما ادعى بعضهم أن الهندسة الغوتية مأخوذة عن العرب، وهذا وَهَم فإننا إذا قابلنا بين كاتدرائية غوتية من القرن الثالث عشر والرابع عشر وبين مسجد من ذينك القرنين نجد اختلافًا بيِّنًا بين الهندستين، ولما كانت الفنون تعبر عن حاجات عصر وعواطف أهله، اختلفت هندسة الغرب عن الهندسة العربية في الشرق، وقد أخذت أوروبا من العرب تفاصيل في الزينة ووجدت على بعض البيع في فرنسا صور حروف عربية منحوتة في الحجر وأكاليل على بعض الحصون تشبه الطراز العربي، وكثير من كنائس فرنسا تأثرت بالهندسة العربية ولا سيما في المدن التي كان لها علائق كثيرة مع الشرق. وقد جلب الصليبيون من الشرق أصول هندسة بيت المؤذن في المنارات والمشربيات والمعرقات والمراصد في الأبراج والزغاليل والأبراج الناتئة والأفاريز ذات الدرابزين، واستخدمت فرنسا كثيرًا من مهندسي الأجانب، وكان فيهم العرب، حتى إن كنيسة «نوتردام دي باري» المشهورة في عاصمة فرنسا عمل فيها مهندسون من العرب. أما تأثير العرب في هندسة إسبانيا فظاهر ظهور الشمس والقمر، إلى أن قال: قد ينقرض شعب وتُحرق كتبه، وتُهدم مصانعه، ولكن التأثير الذي أثره يقاوم أكثر مما يقاوم القلز، وليس في طاقة القوة البشرية أن تأتي عليه، والقرون قد تفعل في القضاء عليه أكثر من ذلك.

وقال أيضًا: إن من ألقى نظرة على المساجد والقصور وعلى غيرها من الآثار العربية من منقولها وغير منقولها يشهد أنها نسجت على غير مثال، وأن الإبداع فيها ظاهر محسوس، وإذا رجعنا إلى أوائل عهد المدنية العربية أيام كانت في أوجها نجد تقليد الصنائع الفارسية والرومية ظاهرًا فيها، وكل شعب يقتبس عمن سبقه صنائعه، وهذا يصدق على كل الأمم، وكان الناس إلى عهد قريب يعتقدون أن الفنون اليونانية قامت على غير مثال، ثم أدى البحث إلى أن هذه الفنون أخذت عمن سلفها من الأشوريين والمصريين، فالعرب واليونان والرومان والفينيقيون واليهود وغيرهم أو جميع الأمم قد انتفعت من الماضي، وكل شعب أخذ عن غيره وزاد من عنده ما وسعته الزيادة؛ ولذا لا ينبغي أن يزعم الناس أن العرب لم يكن لهم فن فيه إبداع؛ لأنهم اقتبسوا الأصول الأولى من أعمالهم من الأمم التي تقدمتهم، ويُعرف الإبداع الحقيقي في أمة من السرعة التي بها تحول المواد التي بين يديها فتجعلها وفق حاجاتها وتُنشئ فنًّا جديدًا، وما من شعب فاق العرب في هذا الباب فإن فكر الإيجاد عندهم قد تجلى في مصانعهم الأولى مثل مسجد قرطبة، ولم يلبثوا أن ألقوا في روع الفنانين الأجانب أنهم كانوا يعمدون إلى طرق جديدة فيها الحذق والمهارة بأكملهما، فقد كانت سواري المعابد القديمة التي بين أيدي العرب من القصر بحيث لا تتناسب مع عظمة الأبنية واتساعها، فقاموا هم ينشئون في أسفلها قواعد وغطوها بقناطر وضعت على غاية من الحذق، ولو كان الترك مكان العرب ما خطر لعقولهم الغليظة مثل هذا الفكر، وكان من أمر الشعوب التي خلفت العرب في البلاد التي خضعت لسلطانهم أن رأوا مصانع قديمة سبقت العرب، فما استطاعوا أن يدبروها تدبيرًا جديدًا، فظل التقليد باديًا في أصولها وفروعها، أما في المصانع العربية كقصور إسبانيا وجوامع القاهرة، فإن المواد الأصلية قد استحالت إلى ترتيبات بلغ من جدتها أن يتعذر أن يُقال: من أين جاءت.

قال: ومن ألقى نظرة على الأعمال الأدبية والفنية التي تمت على أيدي العرب، يتجلى له أنهم حاولوا أبدًا أن يزينوا الطبيعة، وطابعهم الذي يبدو في الفن العربي هو التخيل والبهاء والضياء والتزيد في الزينة والدقة، فالعرب عنصر شعر، وأي شاعر لا ينطوي على فنان، اغتنموا بحيث تم لهم تحقيق جميع هذه الأحلام فأولدوا هذه القصور البديعة التي تبدو للعيان كأنها تضاريس من الرخام المرصع بالذهب والأحجار الثمينة، وما من شعب حاز مثل هذه العجائب، وما من شعب سيدانيهم في حيازتها، ومن العبث أن تتطلب مضاهاتها من الدور الذي دخلت فيه الإنسانية اليوم، فأصبحت لا تعرف من الصنائع إلا المبتذلة والمقصود منها النفع فقط وهي شاحبة باردة.

وقال في مناسبة أخرى:١٨ إن العرب لما أنشأوا في القرن السابع هذه المملكة الضخمة بفتحهم معظم بلاد العالم القديم اليوناني والروماني لم يلبث سلطانهم أن امتد من إسبانيا إلى أواسط آسيا مشاطئًا أرض شمالي إفريقية بأسرها، رأوا أنفسهم أمام هندسة مقررة ثابتة وهي الهندسة اليونانية فاقتبسوها لأول أمرهم على علاتها لإقامة جوامعهم في إسبانيا ومصر والشام، ويدل المسجد الأقصى في القدس وجامع عمرو بن العاص في مصر وغير ذلك من المصانع على هذا الاحتذاء، ولم يطل هذا العهد كثيرًا حتى شُوهدت المصانع تختلف باختلاف القطر والعصر، وبلغ من عظم هذه التبدلات أنك لا ترى أدنى أثر للتشابه بين بناء قام أوائل الفتح مثل جامع عمرو في القاهرة ٧٤٢م، وجامع قايتباي ١٤٦٨م من آخر الدور العربي التركي.
وقال ميجون:١٩ لا ننكر على العرب بأن لهم الحظ الأوفر من هذه المدنية وهم واضعو أسسها، وقد أفرغوا هذه العناصر المختلفة في قالب متجانس متناسب فأوجدوا منها مدنية مطبوعة بطابع عظمتهم وسلامة ذوقهم. ولم يمضِ قرن على فتوح العرب وبسط سلطانهم على الشرق وإفريقية الشمالية وإسبانيا، حتى تبدل النظام الاجتماعي في البلاد المغلوبة، وحل موضعها دين وإدارة وعادات وأخلاق جديدة، وهكذا يُقال في صناعاتهم وفنونهم وكثير من احتياجاتهم، وإن توحيد تلك البلاد من بحر الظلمات إلى المحيط الهندي، وإخضاعها لسلطان واحد، ونظام شامل، والعناية بالجندية، وإقبال المسلمين على أداء فريضة الحج، كل ذلك سهل سبل التعارف بين المؤمنين، وجعل كل واحد منهم يحمل إلى بلاده ما استحسنه في البلدان الأخرى؛ ولذلك رأينا التأثيرات الشرقية في أقدم بناء إسلامي في الغرب كالجامع الكبير في قرطبة وجامع سيدي عقبة في القيروان، مغربية بطرز بنائها، مشرقية بزخارفها.
وعلى الجملة فإن خاصة الإفرنج استفادوا، بملابستهم العرب في صقلية والأندلس، الاطلاع على علوم العرب ومدنيتهم، واختلاط الإفرنج في الحروب الصليبية استفاد منه خاصتهم وعامتهم على السواء، وكان من جملة فوائد الحروب الصليبية٢٠ أن اقتبس الإفرنج عادات الشرقيين فاستعملوا الحمامات والألبسة المسترسلة الفضفاضة، ونظموا خيالة مسلحين على الطريقة الإسلامية، قال لبون: إن النضال الذي ناضله الصليبيون في حملاتهم الأولى كان نضال عالم لم يزل على توحشه مع مدنية من أرقى المدنيات التي حفظ التاريخ ذكراها.

قال لركيه في كتابه الفن والتاريخ: ورث العرب فيما ورثوا عن الأمم التي دخلت في حوزتهم الفنون والصنائع، وأخذوا يحذقونها ويبرعون فيها في مدارس المورثين؛ إذ لم يكن في استطاعتهم أن يرتجلوا فنًّا كما ارتجلوا لهم ملكًا، ومع ذلك لم يمضِ زمن طويل حتى نبغ فيهم البناءون والحفارون والمصورون والنقاشون، دون أن يروا في شيء من ذلك مخالفة لنصوص كتابهم، أو معارضة لشريعة نبيهم، ولم يقفوا عند حد الحذق والبراعة بل تعدوه إلى التفنن والإبداع فنقحوا وصححوا وحذفوا وأضافوا، ثم اخترعوا وابتكروا، حتى طبعوا تلك الفنون بالطابع العربي، وصبغوها بالصبغة الإسلامية، حرصًا على شخصيتهم أن تفنى، وعلى نبوغهم وعبقريتهم أن يذهبا، فأصبح الروح العربي بارزًا واضحًا يندمج فيه غيره، ولا يندمج في شيء، ولهذا خلقت العرب لها فنًّا يوافق ذوقها، ويسير مع طبعها، وسرعان ما انتشر في أرجاء تلك المملكة الواسعة انتشار الكهرباء. ا.ﻫ.

قالوا: وقد خضعت الفنون الإسلامية لنواميس الطبيعة الإقليمية فاصطبغت في كل قطر بصبغته الخاصة، وكانت في عامة أحوالها من أندلسي ومغربي وصقلي ومصري وشامي وعراقي وفارسي وهندي ومغولي إسلامية أصلية كريمة نبيلة، تنطق بما للإسلام من إباء ونجدة وشهامة ونخوة إلخ.

هذا ما لقفه العرب وثقفوه، بل هذا مجمل ما اخترعوه وكشفوه، استفادوا منه وأفادوا أهل المدنية الحديثة، عملوا فيه وحدهم بعقولهم وتجاربهم، وتواضعوا على ما لم تشاركهم فيه أمة لا كما كان شأن العلم في عصره الحديث، كثرت فيه الأيدي العاملة حتى استحال في بعض ما اخترع وكشف أن يعزى إلى أمة بعينها، أبرزت العرب علمها العملي في زمن قصير، فظهر وبهر، وعم البدو والحضر، كل ذلك من دون دعوة ولا إعلان ولا تبجح ولا منة، نقلوه إلى الغرب حلالًا طيبًا، وما منوا على أهله، ولا سألوهم ثمن ما أعطوهم، واليوم طُويت صحفهم العلمية، وأصبحت مغانيهم كأن لم تغنَ بالأمس، وقام الشعوبيون أعداؤهم يصغرون من شأنهم، ويبخسونهم أشياءهم، ويتناولونهم بالنقد والتنقيص، وما حقهم لو أنصفوا إلا الحمد والثناء.

١  الإسلام ونفس المسلم لسرفيه Servier: L’ Islam et la psychologie du Musulman.
٢  تاريخ الارتقاء العقلي في أوروبا.
٣  التاريخ العام للافيس ورامبو Lavisse et Rambaud: Histoire générale.
٤  أدبيات الجغرافيا والتاريخ واللغة عند العرب لجويدي.
٥  تاريخ الأدب العربي لأحمد حسن الزيات.
٦  راجع في مدخل الشاهنامة للفردوسي مبحثًا في الملاحم لعبد الوهاب عزام مصحح الشاهنامة المعلق عليها والمقدم لها.
٧  مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري.
٨  من مقالتين لأحمد تيمور وأحمد زكي في مجلس المقتبس م٦.
٩  نكت الهميان في نكت العميان للصلاح الصفدي.
١٠  مجلسة المقتبس م١.
١١  بحث للمؤلف في رأي ابن خاتمة في الوباء، نُشر في المجلد اﻟ ٢٨ من مجلة المقتطف.
١٢  الإحاطة في أخبار غرناطة للسان الدين بن الخطيب.
١٣  تاريخ العرب لسيديليو.
١٤  التاريخ العام للافيس ورامبو.
١٥  تاريخ الحضارة لشارل سنيوبوس Charles Seignobos: Histoire de la Civilisation.
١٦  العرب والتجارة لريسون، تعريب عز الدين التنوخي مجلة المقتبس م٧.
١٧  تاريخ الطب عند العرب لأسعد الحكيم (مجلة المجمع العلمي العربي المجلد السادس).
١٨  القوانين النفسية في نشوء الشعوب لجستاف لبون G. Le Bon: Lois Psychologiques de l’évolution des peuples.
١٩  مجلة المجمع العلمي العربي م٥.
٢٠  التاريخ العام لمكسيم بتي، وتاريخ الحضارة لسنيوبوس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤