مدنية العرب في جزيرة صقلية

العرب في حوض البحر المتوسط وغزو صقلية

قلنا: إن البحر المتوسط غدا لغزوات العرب بحرًا عربيًّا منذ أوائل الفتح كبحر فارس وبحر الظلمات والمحيط الهندي، وغلب المسلمون كما قال ابن خلدون على هذا البحر (يعني بحر الروم أو البحر المتوسط) من جميع جوانبه: «وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه، فلم يكن للأمم النصرانية قِبَل بأساطيلهم بشيء من جوانبه، وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم، فكانت لهم المقامات المعلومات من الفتح والغنائم، وملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل فيه مثل ميورقة ومنورقة ويابسة وسردانية وصقلية وقوصرة ومالطة وإقريطش وقبرص وسائر ممالك الروم والإفرنج.» قال: «والمسلمون خلال ذلك كله قد تغلبوا على الأكثر من لجة هذا البحر، وسارت أساطيلهم فيه جائية ذاهبة، والعساكر الإسلامية تجيز البحر في أساطيلهم من صقلية إلى البر الكبير المقابل لها من العدوة الشمالية، فتوقع بملوك الإفرنج وتثخن في ممالكهم، كما وقع في أيام بني أبي الحسين ملوك صقلية القائمين بدعوة العبيديين، وانحازت أمم النصرانية بأساطيلهم إلى الجانب الشمالي الشرقي من سواحل الإفرنجة والصقالبة وجزائر الرومانية لا يعدونها، وأساطيل المسلمين قد ضريت عليهم ضراء الأسد بفريسته، وقد ملأت الأكثر من بسيط هذا البحر عدة وعددًا، واختلفت في طرقه سلمًا وحربًا، فلم تسبح فيه للنصرانية ألواح.»

وهذا أجمل وصف لحال البحر المتوسط وما آل إليه في الإسلام، وقد غزا العرب جزيرة صقلية أكبر جزائر هذا البحر في خلافة عثمان يوم قضى أسطول معاوية بن أبي سفيان على الأسطول الرومي في لجة الإسكندرية (٦٥٤م) وهي غزوة الصواري (٣٤ﻫ)، وكان قسطنطين بن هرقل في ألف مركب ويُقال في سبعمائة والمسلمون في مائتي مركب ونحوها فانهزم الروم، وغزاها عبد الله بن قيس الفزاري١ من قبل معاوية بن حُدَيج الكندي ففتح وسبى وغنم وذهب إليها عبد الله بن قيس لكشف حالها سنة ٤٥ للهجرة (٦٦٥-٦٦٦م)، ثم وافاها لهذا الغرض غير واحد من القواد في أوقات مختلفة، وكان مما غنم عبد الله بن قيس من صقلية أصنام من ذهب وفضة مكللة بالجواهر، فحملها معاوية بن أبي سفيان من دمشق، وأنفذها إلى البصرة ومنها إلى الهند لتُباع فيها؛ لأنه رأى بيعها قائمة أكثر لثمنها، ولم يبالِ انتقاد المنتقدين له من المسلمين،٢ وأخرج معاوية الخمس من الغنائم ووجهه إلى عثمان وكتب إليه بسلامة المسلمين، وبما كان من أمر صقلية، ففرح الخليفة بذلك، ولم تزل صقلية تغزي في أوقات مختلفة، ويكون المتعهد لغزوها صاحب تونس، غزاها عياش بن أخيل من جماعة موسى بن نصير أواخر المائة الأولى، ومحمد بن يزيد الأنصاري أوائل المائة الثانية، وغزاها وسردانية بعد الثلاثين ومائة عبد الرحمن بن حبيب الفهري، وغزاها ابن الأغلب إلى أن استقر فيها المسلمون سنة ٢١٢ﻫ على يد أسد بن الفرات، أرسله إليها زيادة الله بن الأغلب من تونس في عشرة آلاف مقاتل ومائة سفينة ثم عززها بعشرين ألف مقاتل وأسطول ضخم مؤلف من ثلاثمائة سفينة، ولما تم الفتح كتب زيادة الله إلى المأمون العباسي في بغداد يبشره به، ودام حصار بلرم عاصمة الجزيرة خمس سنين (٢١٥–٢٢٢ﻫ) وغزاها ابن الأغلب في سنة ٢٤٤، وغزاها الواثق العباسي وافتتح مدينة مسينة سنة ٢٢٩ وعبد الله المهدي سنة ٣٠٤؛ لأن أهلها خالفوه فهدم سورها، وفتحها المعز سنة ٣٤٥، وافتتح بعض مدنها علي بن يوسف بن تاشفين بعد سنة ٥١٥.
يقول المؤرخ الإنكليزي سنجر:٣ إن صقلية دانت للعرب بعد أن كانت تحت حكم الإمبراطورية البيزنطية، وسقطت بلرم عام ٨٣١، وكان النصر حليف الهلال الذي امتد سلطانه عام ٨٤٦ إلى رومية نفسها، كما سقطت من قبلها طارانت عام ٨٤٠ وتم امتلاك العرب ولايات جنوبي إيطاليا، كما استسلمت نابل وسالرن، أما مونت كاسينو المشهور بدير الرهبان البندكتيين العظيم الواقع في موقع حصين على بعد ٢٥ ميلًا إلى الداخل و٧٠ ميلًا من سالرن فوقع في قبضة العرب سنة ٨٨٤، وبهذا تم فتح العرب هناك.

العرب في جنوبي إيطاليا

ويطيب لنا أن نقف هنا وقفة قصيرة بعد أن عرفنا استصفاء العرب جزيرة صقلية، ورسوخ أقدامهم فيها أكثر من قرنين، لنعرف إذا كان هممهم في البحر الرومي وقفت عند حد ما فتحوه من الجزر والبلدان والحصون، أم إنهم تعدوها إلى ما وراء ذلك، فالتاريخ يحدثنا أنهم استولوا على عدة ولايات من جنوبي إيطاليا وكانوا يطلقون على أرض إيطاليا البر الطويل أو الأرض الكبيرة، وقد أخذوا قلورية واستولوا على طارنت وبارة وريو وغيرها من بلاد إنكبردة وبوليه وفتحوا جنوة ووصلوا إلى رومية.

يُطلق اسم لنكبردة Longbardia أو Langobardia،٤ أو لمبارديا Lombardia عند الإيطاليين على عدة مدن: (١) مملكة لنكبردة الإيطالية، أي الدولة التي أنشأها الغزاة من اللنكبرديين التي دامت من سنة ٥٦٨–٧٧٤م، وكانت في أيام عظمتها عبارة عن إيطاليا الشمالية (ما عدا البندقية وإيستريا ونيابة رافنَّا اليونانية، وهي جزء عظيم جدًّا من إيطاليا الوسطى وإيطاليا الجنوبية ما عدا إقليم نابل وقلورية)، (٢) مجموع الدوقات اللنكبردية التي بقيت بعد سقوط مملكة لنكبردة أي دوقيات بنفنتو Benevento  وكابوا Capua   وسلرن Salerne في إيطاليا الجنوبية، (٣) ما يُعرف عند اليونان باسم لابوكليا (بوليه أو أبوليه) وقد عادوا إلى استخلاصها أواخر القرن العاشر، وتبدل اسم لنكبردة في العهد الحديث باسم لمبارديا وهي تتناول الإقليم الذي كان منه نواة مملكة لنكبردة القديمة، وهذا الاسم اليوم يُطلق على مجموع ولايات ميلانو وبركامو وبرشيا وكومو وكريمونا ومانتوفا وبافيا وسوندريو وفاريسي، ويطلق الشريف الإدريسي على هذه الولايات اسم «أنبرضية».
وقد كانت جميع إيطاليا الجنوبية في القرن التاسع من الميلاد داخلة في الإمارة اللنكبردية المعروفة بإمارة بنفنتو الملاصقة من الشمال دوقيتي رومية وسبولتو Spolto، بمعنى أن الحد الشمالي من الإمارة يبتدئ من مصب نهر ترنيو في بحر الأدرياتيك (جون البندقية) واصلًا إلى تراسينا في بحر ترانو أو تيرين تاركًا للإمارة الأرض الشمالية من إيزرينا وكاسينو وسورا، وتتصل الإمارة من الجنوب بمعظم بلاد أبوليه أو بوليه Pouille أو Puglia olpoulia، ويدخل فيها أرض طارنت وبرندزي وبارة Bari وجميع بلاد قلورية٥ الشمالية إلى جنوب أرض كوزنزا، وكانت الأجزاء الجنوبية من أرض أبوليه وقلورية تُعد من مملكة بيزنطية، واحتفظت الثلاث دوقيات الواقعة على بحر تيرانو وهي غايتا ونابل وأمالفي باستقلالها، فلم يكن لإمارة بنفنتو سلطان عليها، وهي مرتبطة بالاسم بمملكة الروم البيزنطية، واضطرت دوقية نابل دفاعًا عن نفسها من مطامع أمراء بنفنتو إلى أن تحالف العرب في صقلية سنة ٨٣٥، وقد دامت هذه المحالفة إلى سنة ٩٠٠م.

وحدثت مذابح عظيمة بين أميرين من أمراء تلك الأرجاء سنة ٨٣٩ فاضطر كلاهما أن يفزع إلى حماية الجيوش العربية، ثم تصافيا في سنة ٨٤٩ على تقسيم الإمارة إلى قسمين: أُطلق على القسم الشرقي منها إمارة بنفنتو، وعلى القسم الثاني الشرقي إمارة سالرن. وتولى المسلمون في بلرم عاصمة جزيرة صقلية غزو البحر من ناحية إيطاليا الشرقية وفي سنة ٨٣٨ احتلوا برندزي، فحاول أمير تلك الجهة أن يدفعهم عنها فما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ثم بلغ المسلمين أنه يعد حملة عظيمة فأحرقوا برندزي وعادوا إلى صقلية على مراكبهم، واحتل عرب صقلية طارانت سنة ٨٤٠م وهي قاعدة بحرية مهمة في بحر الأدرياتيك، ثم خلفهم فيها بعد حين عرب جزيرة أقريطش (كريت ٨٤٢ أو ٨٤٣م).

وخاف البنادقة على تجارتهم ودفعهم إمبراطور الروم تيوفيل إلى حرب العرب؛ فجهزوا أسطولًا مؤلفًا من ستين مركبًا فأقلع إلى صقلية والتقى بالأسطول الإسلامي أمام طارانت فهلك معظم البنادقة وأُسر من ظل حيًّا، وتقدم المسلمون بأسطولهم نحو الجزء الشمالي من بحر الأدرياتيك من نحو دلماسيا فنهبوا وأحرقوا (٨٤٠م) مدينة أوسرو في جزيرة كرسو، واجتازوا البحر في العرض نفسه فأسروا أناسًا من أنكونا، ولما عادوا إلى مستقرهم غنموا عدة سفن للبنادقة، وهذه الغزوات هي التي أشار إليها ابن الأثير في حوادث سنة خمس وعشرين ومائتين فقال: إن أسطول المسلمين سار إلى قلورية وفتحها، ولقوا أسطول صاحب القسطنطينية فهزموه بعد قتال فعاد الأسطول إلى القسطنطينية مهزومًا فكان فتحًا عظيمًا. ويُقصد بقلورية الجزء الذي يُسمى اليوم شبه جزيرة سالانتينا، وهو الجزء الجنوبي من أبوليه، وفيه طارنت وبرندزي.

ودخل العرب في سنة ٨٤١ خليج كارنار وهزموا أسطول البنادقة شر هزيمة بالقرب من جزيرة سانسغو، والظاهر أن قوات العرب في صقلية انضمت هذه المرة إلى قوات عرب أقريطش فاستولوا على بارة وأحرقوا مدينة كابوا، ثم قويت المنافسة بين الأميرين الحاكمين على تلك الأرجاء من الطليان، فلجأ أحدهما إلى العسكر الإسلامي من الإفريقيين، واعتصم الآخر بالمسلمين من أهل أقريطش، وعاد المسلمون فاحتلوا طارنت مرة ثانية في تلك السنة، وتبدلت الحال في سنة ٨٤٩م بين المتنازعين على الإمارة ثم تصالحا واقتسما إمارة بنفنتو مشترطين أن لا يلجأ أحدهما إلى المسلمين، وقتل القائد المسلم وجنده في معسكر ملك فرنسا لويز الثاني سنة ٨٥١، ثم عاد العرب فحاصروا طارنت بأمر العباس بن الفضل الذي أسكن المسلمين في أرض قلورية (٢٢٥ﻫ).

وظلت بارة إمارة إسلامية تواتر غزواتها على الأصقاع المتاخمة، وفي تلك الحقبة في الغالب سار المفرج بن سلام وفتح أربعة وعشرين حصنًا استولى عليها، كما قال البلاذري، وكتب إلى صاحب البريد بمصر يعلمه خبره وأنه لا يرى لنفسه ومن معه من المسلمين صلاة إلا بأن يعقد له الإمام على ناحيته ويوليه إياها ليخرج من حد المتغلبين، وبنى مسجدًا جامعًا، ولعل هذا الفاتح كان من أهل أقريطش لا صلة له مع الآغالبة في إفريقية فعمد إلى الخلافة العباسية في بغداد يراجعها مباشرةً لتصح ولايته، والغالب أن سلطة المفرج بن سلام امتدت إلى سائر بلاد أبوليه، ثم قام الأمير سَعْران وأَخرب إيطاليا الجنوبية ووصلت غاراته إلى جنوبي نابل وسالرن، واشتهر بالإثخان في أهلها إلى أن جاء لويز الثاني ملك فرنسا فنزل إيطاليا وفتح بها سنة ٨٧١ مدينة بارة، وقتل كثيرًا من المسلمين وبذلك انتهت مدة حكم العرب في بارة بعد أن دام تسعًا وعشرين سنة (٨٤٢–٨٧١م)، ولم يخلف المسلمون شيئًا في تلك الأرجاء من آثار علمهم وصنائعهم كما كان منهم في جزيرة صقلية؛ لأن مقامهم فيها لم يطل.

فالعرب أنشأوا والحالة هذه إمارة في بارة، وكان العراك بينهم وبين النصارى من أهل جنوبي إيطاليا على أشده من سنة ٨٧٥ إلى ٩٠٢م، وأنشأوا إمارة صغرى في سنة ٨٨٣م في البلاد الواقعة في مصب نهر كاريكليانو Garigliano في بحر تيرين (شرقي غايتا أو بحر طسقانة قديمًا)، ودامت هذه الدولة إلى سنة ٩١٥م، واستولت العرب على جنوة سنة ٣٢٣ﻫ، ثم رحلوا عنها بعد أن نهبوها، واحتلال المسلمين إقليم قلورية كان متقطعًا، انتقلت عدة أماكن ومقاطعات منها من أيدي العرب إلى أيدي النصارى وبالعكس، ولم يحتل العرب رومية ولا نهبوها بل بلغوا ربضها في سنة ٨٤٦م، ونهبوا بيعتي القديس بطرس والقديس بولس، وكانتا إذ ذاك خارج أسوار المدينة، وانهال عليهم أهل القرى فاضطروا إلى الرجوع عنها، وبنى الحسن بن علي في ريو Reggio مسجدًا كبيرًا وجعل في أحد أركانه مأذنة وشرط على الروم أن لا يمنعوا المسلمين من عمارته وإقامة الصلاة فيه والآذان وأن لا يدخله نصراني، ومن دخله من الأسارى المسلمين فهو آمن سواء كان مرتدًّا أو مقيمًا على دينه، وإن خربوا حجرًا منه هُدمت كنائسهم كلها بصقلية وإفريقية وأن الروم وفوا بهذه الشروط كلها، بيد أن مسجد ريو لم يدم عامرًا غير أربع سنين.

تقويم جزيرة صقلية وعمل العرب فيها

طول هذه الجزيرة بحسب تعريف القدماء سبعة أيام في أربعة أيام، تُدار في خمسة عشر يومًا، ومساحتها السطحية ٢٥٧٤٠ كيلو مترًا مربعًا على اصطلاح المحدثين، وكانت في كل أدوارها مطمح أنظار الفاتحين من الدول البحرية؛ لأنها من أهم منازل الاتصال بين إفريقية وأوروبا وآسيا، وقالوا: إنه كان فيها آخر أيام العرب مائة بلد وثلاثون بلدًا بين مدينة وقلعة غير ما بها من الضياع والمنازل والبقاع، ومن مدنها الخالصة، أطرابنش، مازر، جرجنت، بُثَيرة، سرقوسة، قطانية، بطرنوا، ميقُس، مسينة، رمطة دمنس، قلعة القوارب، قلعة الصراط، قلعة البلوط، قلعة أبي ثور، بطرلية، ثرمة، قرليون، برطفيف، برطنة.

ولما استولى الفاتحون من العرب على صقلية تركوا لأهلها عاداتهم وقوانينهم وحريتهم الدينية المطلقة،٦ واكتفوا منها بجباية قليلة، وكان مقدارها أقل مما كانت عليه على عهد اليونان، وأعفوا منها الرهبان والنساء والأولاد، وحافظوا على جميع الكنائس التي وجدوها لكنهم لم يسمحوا بإنشاء غيرها، على خلاف ما جروا عليه في الأندلس، وعمدوا إلى الزراعة والصنائع فأحيوها، وأدخلوا في الجزيرة أصنافًا من الزراعة لم تكن تعرفها، ومنها البردي والمران، وأقاموا المجاري التي لم تبرح ماثلة للعيان، وعلموا الناس عمل القنى ذات الأنابيب العقف «السيفونات»، وكانت قبلهم غير معروفة، وأنشأوا في الجزيرة مصانع لصنع الورق، ومنها انتشرت صناعة الورق في إيطاليا، وعدنوا مناجم الجزيرة وفيها الذهب والفضة والشب والكحل والزاج والحديد والرصاص والنوشادر، وعلموا أهلها صنع الحرير. وفي مدينة نورمبرج اليوم رداء حرير كان لملوك صقلية، وفيه كتابة بحروف كوفية تاريخها سنة ٥٢٠ مما يدعو إلى الاعتقاد بأن صناعة صبغ الأقمشة انتشرت في أوروبا من صقلية، ومن مصانعهم كانت تصدر الأقمشة٧ المحلاة بالجواهر والطنافس المصورة أنواع الصور، والجلد المدبوغ، والحلي البديع الذي كان يُعمل في مصانع بلرم ومازر، وكان مما يُتنافس فيه، وله الصيت الذائع في قصور الملوك في الشرق والغرب، وكانت التجارة قبل العرب ضئيلة جدًّا في هذه الجزيرة، فأصبحت على عهدهم متشعبة النواحي غزيرة المواد، والعرب يصنعون سفنهم في دور الصناعة في تونس وبعض مواني الجزيرة.

ويقول دييل: إن العرب حملوا معهم إلى جزيرة صقلية مظاهر غريبة من فنهم، وقناطرهم العالية الجميلة، ونقوشهم من المقرنصات، وجمال قاشانيهم ذي الميناء، وفسيفساءهم المعمولة من الرخام الملون، وصورهم الجميلة، وبهيج صناعاتهم الصادرة عن علمهم، وهي من الأعمال الخاصة بالمترفين وأرباب النعيم، وكل ذلك لم يضمحل كل الاضمحلال، لما استولى على الجزيرة سادة جدد بعد أمراء المسلمين، فإن مصانع الدور العربي كانت مثالًا يُنسج عليه في إقامة مصانع العهد النورماني، وكان المهندسون والبناءون من العرب الذين عملوا للأمراء وحملوا إلى ملوك النورمانيين علومهم وإرث تقاليدهم، ولكنهم كانوا أسعد ممن سلفهم؛ ذلك لأن الحظ حظهم، فكانت أعمالهم أكثر خلودًا وبقاءً، وقال أيضًا لما سقطت بلرم في أيدي العرب سنة ٨٣١م، لم يكن فيها سوى ثلاثة آلاف نسمة، فلما غدت عاصمة أمراء المسلمين دخلت حالًا في مضمار الفنون، وكانت خلال عدة قرون في درجة عالية من الحضارة لم يُسمع بمثلها.

وقال: إن العرب في صقلية خلفوا اليونان، وفي خلال قرنين كانت لهم حكومة ذات مجد ورقي، وأدخلوا إلى صقلية العنصر الإسلامي الذي زاد كثيرًا في الغرب وفي وسط الجزيرة، فأصبحت نصف صقلية أواخر القرن الحادي عشر من العرب وباقيها من اليونان، قال: ثم سار النورمان في صقلية على سياسة لم يجعلوا بها فارقًا بين الكاثوليك واليونان والمسلمين، على نحو ما فعل النورمان في الشام بعد قليل، عرفوا كيف يقتبسون العادات ويتخلقون بأخلاق رعاياهم، مراعين كلًّا منهم، موزعين فيهم عطاياهم على السواء، وهكذا ظلوا نورمانيين بأصولهم وغدوا بيزنطيين وعربًا بمدنيتهم، وكانوا في وسط القرن الحادي عشر مثالًا جميلًا نادرًا في باب التسامح السياسي وعدم التحزب الديني.

ويُقال على الجملة: إن العرب استولوا على صقلية في زمن كانت تتلألأ فيه مدنيتهم في الشرق والغرب، فنقلوا إليها كل علومهم وصنائعهم وعوائدهم وآدابهم، وكان الرعايا المغلوبون على أمرهم يعيشون كما قال آماري في كتابه «المسلمون في صقلية» في راحة وسرور على عهد حكامها من أمراء المسلمين، وحالتهم أحسن بكثير من حالة إخوانهم الإيطاليين الذين كانوا يرزحون تحت نير اللنجورمانيين، والفرنجة. وقال توفنر:٨ منذ الفتح الإسلامي إلى القرن التاسع عشر لم يبرح الشعب النصراني في صقلية ينتقل من يد غريبة إلى يد مثلها غريبة، وما استطاع أن يحكم نفسه بنفسه، وقد بلغ أعلى درجات حضارته بعد القرن الرابع على عهد حكومة المسلمين غير النصارى وعلى عهد النورمانيين الذين دانوا بالنصرانية حديثًا.

عمران صقلية

ولقد استكثر المسلمون في جميع بلاد صقلية من الجوامع، ومنها ما كان من الطراز الجميل وقد وصف الإدريسي والقزويني وابن حوقل وياقوت ما كان في هذه البلاد، فقالوا: كانت صفة الجامع الأعظم في بلرم «تغرب عن الأذهان لبديع ما فيه من الصنعة والغرائب المفتعلة والمنتخبة والمخترعة، ومن أصناف التصاوير وأجناس التزاويق والكتابات.» وكان في بلرم نيف وثلاثمائة مسجد، وقد كثرت الجوامع في أكثر المدن مثل قطانية، وكان في قرية البيضاء مائتا مسجد، قال ابن حوقل: «ولم أرَ مثل هذه العدة في بلد من البلدان الكبار على ضعف مساحتها ولا سمعت به.» ووصف الإدريسي مدينة بلرم، فقال: «إن بها أحسن المباني التي سارت الركبان بنشر محاسنها، في بنائها ودقائق صناعاتها، وبدائع مخترعاتها، وهي على قسمين قصر وربض، فالقصر هو القصر القديم المشهور فخره في كل بلد وإقليم، وهو في ذاته على ثلاثة أسمطة: فالسماط الأول يشتمل على قصور منيفة ومنازل شامخة شريفة، وكثير من المساجد والفنادق والحمامات، وحوانيت التجار الكبار؛ والسماطان الباقيات فيهما أيضًا قصور سامية ومبانٍ فاخرة عالية.» وكان للمسلمين في القرن الحادي عشر في كل مدينة من مدن صقلية أحياء خاصة ينزلونها، ولهم أسواقهم وحكامهم وحرياتهم، والجوامع مفتحة، والحرية الدينية شاملة، والكنائس تناوح الجوامع.

رجال صقلية

أخرجت صقلية جملة من العلماء والمحَدِّثين والفقهاء والأدباء والأطباء والفلاسفة، وكان في طليعتهم أسد بن الفرات وهو من أصحاب مالك، وأسد بن الحرث صاحب الأسديات في الفقه وكان من أعيان الكتَّاب، والقاضي ميمون بن عمر، وابن حمديس الصقلي الشاعر المبدع صاحب الديوان، وهو القائل عند الجلاء يذكر صقلية:

ذكرت صقلية والأسى
يهيج للنفس تذكارها
فإن كنت أخرجت من جنةٍ
فإني أحدث أخبارها
ولولا ملوحة ماء البكا
ء حسبت دموعي أنهارها
ضحكت ابن عشرين من صبوةٍ
بكيت ابن ستين أوزارها

ومن رجال صقلية أبو عرب الصقلي وابن بشرون وابن الفحام والشريف الإدريسي وابن ظفر وابن القطاع صاحب الدرة الخطيرة والمختار من شعراء الجزيرة جزيرة صقلية، أورد فيه مائة وسبعين شاعرًا، والحسن بن يحيى يُعرف بابن الخزاز وهو صاحب تاريخ صقلية، وللجغرافي ابن حوقل كتاب في محاسن أهل صقلية وكان زارها في سنة ٣٦٢ﻫ، ومنهم ابن سابق وعيسى بن عبد المنعم وابنه محمد، وهذا من أهل العلم بالهندسة والنجوم والحكمة، والطبيب أبو سعيد بن إبراهيم صاحب المنجح في التداوي، وابن القوني الكاتب، وأبو عبد الله الصقلي الفيلسوف، وعبد العزيز الأغلبي الكاتب، والمهري والقضاعي والصباغ ومنهم السرقوسي والمازري صاحب التآليف المشهورة والبثيري والكركنتي والشافي والطرابنشي والبلنوبي والسمنطاوي، نسبة إلى مدن في الجزيرة معروفة، هذا إلى عشرات غيرهم كان لهم الفضل على الأمة العربية بتصانيفهم وتحقيقاتهم وصناعاتهم، وما فيهم إلا العالم والأديب والحكيم والمنجم والطبيب والمهندس، وكان لهم يد على الجزيرة بإنهاضها في مادياتها ومعنوياتها.

خروج المسلمين من صقلية واستيلاء النورمانيين عليها

دان معظم أهل صقلية بالإسلام وكثر سكانها حتى قيل: إن٩ أهل وادٍ واحد من أوديتها، وهو وادي مازر بلغ سكانه ألفي ألف ساكن، ولما أخضع النورمانيون صقلية سنة ١٠٩٠م كان فيها أربعة عناصر: الروم والعرب واللنكبرديون (النورمانيون والبروتونيون) واليهود، يتكلم كل عنصر لغته ويخضع لشرائع بلاده، وحاسن الأمراء الذين تولوها من في جوارهم من الحكومات النصرانية، وكان من أمرائها بنو أبي الحسين المشهورين بالكلبيين١٠ اتصلت أيام إمارتهم بها زمنًا طويلًا، وإليهم أشار ابن خلدون وقال: إنهم ملوكها، وكان واليها في أواخر عهد حكم العرب فيها يُدعى البعباع بعث إليه صاحب مصر في بعض الروايات يطلب منه المال، وكان عاجزًا عما طلب منه، فبعث إلى الفرنج ففتح لهم البلد فدخلوه وملكوا الجزيرة، ويعني بالفرنج ملك إيطاليا ولنكبردة وقلورية، وفي رواية أن الاختلاف كان بين عمال الجزيرة، وانفرد كل إنسان ببلد، فاستنصر ابن التمنة١١ المتغلب على سرقوسة وقطانية بالفرنج في مدينة مالطة، وكان ملكها روجر وهون عليه أمر المسلمين فسار الفرنج وابن التمنة إلى البلاد التي بأيدي المسلمين في سنة أربع وأربعين وأربعمائة واستولوا على مواضع كثيرة من الجزيرة، ففارقها حينئذ خلق كثير من أهلها من العلماء والصلحاء، وسار جماعة إلى المعز بن باديس في إفريقية، ولم يثبت بين أيديهما غير قصريانة وجرجنت وحصرهما الفرنج وطال الحصار عليهما حتى فتحهما روجر سنة ٤٨٤ﻫ؛ لانقطاع أمداد المسلمين ولاشتغال كل جهة بما يخصها من الفتن، وساق ابن التمنة إلى هذه الخيانة خلاف وقع بينه وبين أمير قصريانة، فدعا إلى معاونته جيرانه روبير كيسكار وروجر من أبناء تنكريت دي هوتفيل ودوكات يولية وقلورية فجاءوا وعملوا لما فيه مصلحتهم لا مصلحة من دعاهم، وكان من ذلك فتح الجزيرة.
وعقد ملوك صنهاجة، ولا سيما ابن باديس، هدنة مع ملوك النصارى في صقلية وأخذوا يتبادلون الهدايا والأعلاق وكان ذلك في سنة ٥٢٩ﻫ. وقال الإدريسي: إن روجر افتتح غربي بلاد الجزيرة في سنة ٤٥٣ﻫ وما زال يشن الغارات على الباقي حتى أكمل فتحها في ثلاثين عامًا، فنشر في أهلها سيرة العدل وأقرهم على أديانهم وشرائعهم، وأمنهم في أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذراريهم، وكانت المدينة قد بلغت أوجها١٢ في الفتح النورماني، ونجا العرب من الحروب فانصرفوا إلى العلم والآداب، ورأوا من الفاتح الجديد حاميًا لهم ونصيرًا، فأصبحوا في عهده بمأمن ودعة، أما روجر النورماني فقد اتُّهم بأنه دان بالإسلام؛ لأنه حاسن المسلمين، ولم يجعل سبيلًا لرؤساء الدين من قومه إلى التسلط عليهم، فأبقى الحكام والقوَّاد منهم في مناصبهم على ما كانوا عليه في عهد العرب، واستولى المسلمون على أزمة التجارة، وكان كبار رجال المال منهم، ورأى روجر بثقوب ذهنه أن يسير في سياسته مع السواد الأعظم من أهل الجزيرة وهم العرب، وجعل في بلاطه الأطباء والمنجمين وأرباب القرائح من المسلمين، واحتفظ بأصول العرب في الجباية، وكان يحسن العربية ويحبها، والنورمانيون جاءوا لأول أمرهم من بلاد سكاندافيا في شمالي أوروبا وظلوا مجوسًا إلى القرن العاشر للميلاد وفيه انتحلوا النصرانية.
وروجر١٣ هذا هو الذي استقدم الشريف الإدريسي صاحب كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» من بر العدوة ليضع له شيئًا في شكل صورة العالم وبالغ في تعظيمه من وراء الغاية، وصنع له هذا الشكل فأُعجب به، وأراده على أن يبقى في بلاده قائلًا له: «أنت من بيت الخلافة ومتى كنت بين المسلمين عمل ملوكهم على قتلك، ومتى كنت عندي أمنت على نفسك.» فأجابه إلى ذلك، فرتب له كفاية لا تكون إلا للملوك، وطلب إليه أن يحقق أخبار البلاد بالمعاينة، لا بما ينقل من الكتب، فوقع اختيارهما على أناس ألباء فطناء أذكياء، وجهزهم روجر إلى أقاليم الشرق والغرب جنوبًا وشمالًا، وسفر معهم قومًا مصورين ليصوروا ما يشاهدونه عيانًا، وأمرهم بالتقصي والاستيعاب لما لا بد من معرفته، فكان إذا حضر أحد منهم بشكل أثبته الشريف الإدريسي حتى تكامل له ما أراد، وجعله مصنفًا، وهو كتاب نزهة المشتاق.
هكذا كان روجر في معاملته علماء العرب والانتفاع بعلمهم، وقد غادر كثير من العرب الجزيرة في الفتح النورماني قاصدين إلى بر العدوة من إفريقية على السفن الكثيرة التي كانت لهم، ومنهم وهم السواد الأعظم من اختاروا المقام في الجزيرة فطاب لهم بما رأوا من الرعاية والأمنة، حتى إن ابن جبير الرحالة لما مر بالجزيرة سنة ٥٨٠ أي بعد ست وتسعين سنة من خروجها عن حكم العرب، أثنى على غليام صاحبها، وقال: إنه عجيب١٤ في حسن السيرة واستعمال المسلمين، وإنه كثير الثقة بهم، وساكن إليهم في أحواله، والمهم من أشغاله، وله الأطباء والمنجمون وهو شديد الحرص عليهم، وقال: إن زي النصرانيات في مدينة صقلية مثل زي نساء المسلمين يخرجن ملتحفات متنقبات.
وحرص روجر الثاني وابنه وغليام على استعمال المسلمين جريًا على خطة روجر الأول؛ فتركوا لهم حريتهم، ينعمون بضياعهم وأموالهم ومتاجرهم ومصانعهم، وكان هؤلاء الملوك يحسنون العربية ويطربون لشعرها وأدبها، وكان فريدريك الثاني كثير العناية بالعربية وآدابها، وقد ضرب فيها بسهم وافر، وظلت اللغة العربية في الجزيرة اللغة الرسمية، وكان من العرب معلمون وأساتذة وعمال مهرة،١٥ ولا تزال براءات ملوك النورمانيين مكتوبة بالعربية واللاتينية واليونانية، وكانت العربية إحدى اللغات التي تضرب بها نقودهم، وعليها شارتا الإسلام والنصرانية، ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط، بل كان يوضع عليها أيضًا «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، واستمر الأمراء الذين خلفوا النورمانيين على ضرب نقودهم بالعربية زمنًا.

وما برح النورمانيون جارين على سنن روجر الأول صاحب صقلية في الاعتماد على العرب، ورعايتهم ظاهرًا وباطنًا، وكذلك كان العرب في إخلاصهم حتى إن القاضي جمال الدين بن واصل قاضي القضاة بحماة الفيلسوف المؤرخ، كان أرسله الظاهر بيبرس سفيرًا إلى الإمبراطور صاحب صقلية في سنة ٦٥٩ﻫ، فقال فيه: إنه كان مصافيًا للمسلمين ويحب العلماء، وإنه بالقرب من البلد الذي كان فيه مدينة تُسمى لوجارة، أهلها كلهم مسلمون من أهل جزيرة صقلية، تُقام فيها الجمعة ويُعلن بشعار الإسلام، وكان أكثر أصحاب الإمبراطور مسلمين ويعلن بالآذان والصلاة في معسكره. وقال: إنه عند توجهه من عند الإمبراطور اتفق البابا خليفة الفرنج وريدا فرنس على قصد الإمبراطور وقتاله، بسبب ميله إلى المسلمين؛ ولذلك كان البابا قد حرمه، وقد غلبه الفرنج وذبحوه، وملكوا أخا ريدافرنس في سنة ٦٦٣.

تنصير بقايا الصقليين

وعلى رواية ابن واصل تكون صقلية قد ظلت في حكم النورمانيين السعيد ١٧٩ سنة كان فيها المسلمون في راحة. ويقول رينالدي: إن التعصب الديني لم يتأخر لحظة واحدة عن الظهور بعد زوال ملك المسلمين من صقلية، فاضطر المسلمون أن ينتحلوا النصرانية فاختلطوا بطبقة الشعب، وهذا ما وقع أيضًا لمدينة لوشيرا «الغالب هي لوجارة»، فقد سمح لهم شارل الثاني بالبقاء في ملكه على أن يتنصروا وعرف أولادهم بعدهم باسم مرانه Marrani وهي كلمة عربية أخذها الطليان عن الإسبان، وكانوا يلقبون بها المسلمين الذين دانوا بالنصرانية في الأندلس، وكذلك كانت مدينة لوشيرا مدينة إسلامية محضة حتى إن كلمة «سكان لوشيرا Lucerini» كانت تؤدي معنى الشرقيين أو المسلمين. ولما استولى ملك سواب على الجزيرة (١١٩٤) بدأ اضطهاد المسلمين اضطهادًا شديدًا يذكر بما لقوه في إسبانيا، فهاجر ألوف إلى إفريقية ولا سيما إلى سواحلها، ومن تخلف منهم كان مستعبدًا استعبادًا حقيقيًّا: يزرع الأرض، ويرعى الماشية، ويعمل الأعمال الشاقة في أملاك الملك.

وعلى هذا، فقد تنصر بقايا المسلمين في الجزيرة، ولم يجلوا عنها على كل حال بفاجعة كفاجعة الأندلس التي مثلها القسس والأساقفة والكرادلة وديوان التحقيق الديني والملك والملكة والشعب، اتفقوا كلهم باطنًا وظاهرًا على إبادة المسلمين، والملك شارل هو الذي خلع الصقليون طاعته، وقتلوا الفرنسيس على بكرة أبيهم يوم ٢١ آذار سنة ١٢٨٢م/٦٨٢ﻫ.

أثر العرب والعربية في اللغة الإيطالية

أبقى العرب في الجزيرة كثيرًا من عاداتهم، وهي باقية إلى اليوم، وتركوا ألفاظًا كثيرة من لغتهم في اللغة الصقلية والإيطالية، ولا تزال عدة أماكن بصقلية تحمل أسماء عربية، ولا سيما أسماء القلاع والمراسي والشوارع، وتبدأ أسماء القلاع بلفظ «قلتا» أي قلعة، ومنها ما أصبح اليوم مدنًا، مثل: قلعة النساء وقلعة فيمي وقلعة الحسن وقلعة البلوط، وكذلك كلمة مرسى، ومرسى علي، مرسى المينا، منزل الأمير، منزل يوسف، رمل الموز، رمل السلطانة، القنطرة، وادي الطين، رأس القلب، رأس الخنزير، رأس القرن، والقصر من أعظم شوارع بلرم، وفي بلرم الآن قصران جليلان من مباني العرب: اسم أحدهما القبة واسم الآخر قلعة العزيزة، وكان تأثير العرب بعلمهم في هذه الجزيرة أكثر من تأثيرهم بمبانيهم. يقول رينالدي: إن الجزء الأعظم من الكلمات العربية الباقية في الإيطالية التي تفوق الحصر دخلت الإيطالية لا بطريق الاستعمار العربي بل بطريق المدنية التي كثيرًا ما تؤلف بين مظاهر الحياة المختلفة، وقد عدد من هذه الكلمات جانبًا ولا سيما في لغة العلم، ثم قال: إن جنوة اضطرت أن تؤسس سنة ١٢٠٧م مدرسة لتعليم العربية، ويدل على ذلك وجود كلمات عربية في لغة هذه المدينة، وفي اللغات العامية في جميع المدن الإيطالية التي كانت تتجر مع الشرق وصقلية كلمات كثيرة من أصل عربي، دخلت إليها مع التجارة العربية، ولا تزال معاجم لغتهم تحفظ كثيرًا منها. قال وما الهندسة الغوطية إذا أنعمنا النظر إلا الهندسة العربية تقريبًا، ثم أورد أسماء الموازين والمكاييل والألفاظ البحرية التي سرت إلى الطليانية من العربية، وقال: إن آماري «المستشرق الصقلي» أثبت أن صقلية مدينة للعرب، وكذلك إيطاليا مدينة لصقلية، بابتكار الشعر الوطني، بمعنى أنه مذ قلد البلاط الصقلي البلاط الملكي الإسلامي، بدأت العناية بقرض الشعر، تلك العناية التي كانت السبب في نهوض الشعر الإيطالي، قال رينالدي: لم يساعد العرب فقط على إنهاض الشعر الصقلي والإيطالي بل إنهم أمدوا قصصنا بشكلها ومادتها، قلنا: وهذا يؤيد ما ذهب إليه وأثبته بالأدلة المعقولة آسين من رجال المشرقيات في إسبانيا من أن دانتي شاعر الطليان اقتبس موضوع روايته المهزلة الإلهية من رسالة الغفران للمعري.

وفي بلرم أنشأ العرب أول مدرسة للطب، وما عُهد مثلها في جميع أوروبا، بل إن مدارس الطب في الغرب أُنشئت بعد مدرسة صقلية العربية بأعوام، ومنها انتشر الطب في بلاد إيطاليا، وساعد أن الباباوات كانوا رحلوا إلى أفينيون من أرض فرنسا فخلا الجو للعلم العربي، وأخذ يسري إلى كل من استعد للأخذ بمذاهبه من الطليان، هذا مع أن المدنية التي أدخلها العرب إلى جزيرة صقلية كانت أضعف من مدنيتهم في مصر والأندلس، ودلت الآثار أن العرب لما خرجوا من هذه الجزيرة كانت أرقى من اليوم التي دخلوا فيها، فعظم تأثيرهم النافع في صقلية، والتحسين الذي يدخله شعب على شعب هو معيار نفوذ الحضارة التي يحملها الأول إلى الثاني على ما قال لبون.

وتقول آماري: إنه لا يوجد اليوم في صقلية كلها بناء واحد يرد عهده إلى الحكم العربي. ويقول حسن حسني عبد الوهاب:١٦ إن جزيرة صقلية تفاخر، وحق لها الفخر، بأن فيها العزيزة والقبة والفوارة وفي بلرم ومدائنها الباسمة «البيضاء» ومعاملها الغنية ومارر وقلاعها التي كانت مما يذكر بالفخر خلال ثلاثة قرون على لسان الشعراء، كان لهم من الشهرة وسلاسة الشعر ورقته ما كان مثله لمن خلدوا قديمًا اسم قرطبة وإشبيلية وغرناطة.

المقارنة بين صقلية والأندلس

كانت صقلية أزهر الممالك الأوربية في الزمن الذي كان فيه العربي والرومي مرعيًّا جانبهما، مأخوذًا بأيديهما، وكان أثر الرجال الذين ظهروا في جزيرة صقلية أقل بالطبيعة من أمثالهم ممن أنبغتهم الأندلس، والسبب في ذلك ضيق مضطرب هذه الجزيرة، وقصر الزمن الذي دام فيه حكم العرب عليها؛ وهذا لأنها كانت تبعًا لإفريقية يتولى أمرها الآغالبة والعبيديون وغيرهم، وحكم الأندلس أعاظم رجال بني أمية ممن طالت أيامهم، وكانوا وطدوا النفوس على اتخاذها وطنًا أبديًّا لهم لا يلتفتون إلى ما وراءهم إلا بقدر ما ترتبط أمة بأمة بعيدة، متفقة معها في النزعة الدينية والعواطف، وكانوا نقلوا كل ما رأوه وسمعوا به في بلادهم الأصلية من أسباب القوة والعلم والصناعة إلى الأندلس نقلًا صحيحًا وزادوا عليه بثقوب أذهانهم وبما تقتضيه طبائع الأقاليم التي نزلوها.

وإذا جسرنا على الاستنتاج من النتف القليلة التي اتصلت بنا من تاريخ صقلية العربية ندرك أن رجالها في العلم كانوا أقل عددًا أو تأثيرًا من رجال الأندلس، وإنا إذا عددنا في هذه مئات من النابغين، لا نستطيع أن نعد في صقلية عشرات من عيارهم، ومعظمهم من حملة الشريعة والآداب، ويُقال: إن فيها تُرجمت كتب أرسطو وأفلاطون، وليس في صقلية من الملوك والأمراء الذين تولوا أمرها من كانوا بشهرتهم أمثال عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الثالث والحكم ممن أظهروا نبوغًا في حكم الأندلس.

وليس في العلماء الذين قادوا الأفكار فيها أمثال ابن رشد وابن زهر وابن باجة وابن الخطيب وأضرابهم، وهناك دواعٍ أخرى في هذا التفوق في الأندلس، وهذه على بعدها من مواطن العروبة، هاجر إليها ألوف من صميم العرب وسكنوها وعمروها، وأثر في أنسالهم هواؤها، فجاء منهم غربيون شرقيون على أجمل مثال في الشعوب العاملة الذكية. أما صقلية فكان اعتمادها على أناس من العرب وكثير من البربر، وكانت الجزيرة مهاجرًا للاتين الذين جلوا من إفريقية يوم فتح العرب لها، ثم جاءها العرب فاتحين في صقلية، فامتزجوا بأهلها، فلم يكونوا في الحقيقة أمة صقلية كما تكونت أمة أندلسية، وإن كان المسلمون في صقلية كثرة غامرة في أيام حكمهم وبعد زوال سلطانهم عنها.

آثار العرب في صقلية بعد قرون من رحيلهم

وتفيدنا الآثار التي وجدت في المقابر وغيرها١٧ أن اللغة العربية بقيت شائعة في الجزيرة إلى أواخر القرن التاسع للهجرة، يؤيد ذلك شواهد القبور التي عُثر عليها حديثًا علماء العاديات، فقد وجدت قبرية باسم القائد الأجل أبي النصر بن القائد أبي المسرور الجالخيري من سنة ٨٧٣ﻫ، وشاهدة لآخر اسمه القسنطيني القاضي من سنة ٨٩٤ﻫ، وثالثة من سنة ٨٥٩، وشواهد كثيرة من القرن السابع والسادس من الهجرة، وأغربها قبرية نصرانية كُتبت بالعربية بعد خروج العرب من الجزيرة بستين سنة استُعمل فيها التاريخ الهجري، وهي «توفيت أنة أم القسيس أكريزنت قسيس الحضرة المالكة الملكية العالية العلية المعظمة السنية القديسية البهية المعتزة بالله الملزوزة بقدرته المنصورة بقوته مالكة ينطالية ولنكبردة وقلورية وصقلية وإفريقية معزة إمام رومية الناصرة للملة النصرانية صرمد الله مملكتها يوم الجمعة والعشر العشرين من أوسة سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ودُفنت بالجامع الأعظم، ثم نقلها ولدها بالمستجد إلى هذه الكنيسة صنت مخايله يوم الجمعة أول ساعة العشاء: العشرين مائة سنة — أربع وأربعين وخمسمائة وبنى على قبرها هذه الكنيسة وسماها صنت أنة على اسم أمه (مر) يم … ودعا لها بالرحمة آمين آمين آمين.»

وهذا يدل على أن العربية استحكمت ملكتها في السكان حتى إن نصاراهم استخدموها لغة التخاطب والكتابة بعد خروج العرب بمدة طويلة، وأرخوا بالتاريخ الهجري، ولا عجب أن حاسن روجر النورماني فاتح الجزيرة وخلفاؤه جمهور المسلمين فلقوا منهم كل رعاية، ولقي الفاتحون من المسلمين كل نصح في الخدمة؛ فقد روى مؤرِّخونا أن رجار مات قبل التسعين والأربعمائة وملك بعده ولده رجار فسلك طريق ملوك المسلمين من الجنائب والحجاب والسلاحية والجاندارية وغير ذلك، وخالف عادة الفرنج فإنهم لا يعرفون شيئًا منه وجعل له ديوان المظالم يُرفع إليه شكوى المظلومين فينصفهم ولو من ولده، وأكرم المسلمين وقربهم ومنع عنهم الفرنج فأحبوه.

١  معلمة الإسلام — مادة صقلية، والمكتبة الصقلية لآماري، وأعمال الأعلام للسان الدين بن الخطيب، وأحسن التقاسيم للمقدسي، والخلاصة النقية في أمراء إفريقية للباجي، وبالفرنسية استيلاء المسلمين على صقلية لحسن حسني عبد الوهاب، وبلرم وصقلية لشارل دييل.
٢  يعد عمل معاوية في بيع الأصنام قائمة من الارتقاء الفكري في العرب، فقد ذكر التاريخ أن من جملة الغنائم التي وقعت في أيدي الفاتحين قطف كسرى، فلم تعتدل قسمته مع سعد بن أبي وقاص وأرسل به إلى عمر، فقال: «أشيروا عليَّ في هذا القطف، فأجمع ملاؤهم على أن يكون له فأبى، فقام عليٌّ حين رأى عمر يأبى قبول البساط، فقال: لم تجعل علمك جهلًا، ويقينك شكًّا، إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيت، أو لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، قال: صدقتني، فقطعه فقسمه بين الناس فأصاب عليًّا قطعة منه، فباعها بعشرين ألفًا، وما هي بأجود تلك القطع، وكان هذا القطف ستين ذراعًا في ستين ذراعًا بساطًا واحدًا مقدار جريب، فيه طرق كالصور، وفصوص كالأنهار، وخلال ذلك كالدر وفي حافاته كالأرض المزروعة، والأرض المبقلة بالنبات في الربيع من الحرير على قضبان الذهب ونواره بالذهب والفضة وأشباه ذلك.»
٣  مجلة الهلال، المجلد الحادي والأربعون.
٤  معظم هذه المعلومات عن احتلال العرب جنوبي إيطاليا تفضل بها صديقنا كارلو نالينو أحد علماء المشرقيات في إيطاليا.
٥  قلورية: بكسر القاف وفتح اللام وإسكان الواو وكسر الراء والياء، ومنهم من يشدد الياء كما ضبطها ياقوت. ومن جغرافي العرب من سموها قلفرية وهي Calabre.
٦  حضارة العرب لجستاف لبون، ومحاضرة لويجي رينالدي (المقتطف م٥٩).
٧  الاستيلاء الإسلامي على صقلية لحسن حسني عبد الوهاب.
٨  فلسفة التمدن لتوفنر.
٩  معلمة الإسلام.
١٠  تاريخ تونس لحسن حسني عبد الوهاب.
١١  تاريخ أبي الفداء.
١٢  معلمة الإسلام.
١٣  الوافي بالوفيات للصفدي.
١٤  رحلة ابن جبير.
١٥  لويجي رينالدي (مجلة المقتطف م٥٩).
١٦  استيلاء المسلمين على صقلية لحسن حسني عبد الوهاب H. H. Abdul-Wahab: La Domination musulmane en Sicile.
١٧  وثائق في تاريخ صقلية لآماري (بالإيطالية) Amari: Documenti alla storia di Sicilia.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤