إدارة العباسيين

تدابير السفاح والمنصور

داول أبو العباس السفاح بين الكوفة والأنبار والحيرة والهاشمية من المدن، فكان يتنقل فيها، ولم يجعل له عاصمة مستقرة، واتخذ له وزيرًا أبا سلمة الخلال حفص بن سليمان، وسلَّمه الدواوين، وكان يُسمى وزير آل محمد، وأصبحت الوزارة في الدولة العباسية مقررة القواعد والقوانين، وما كانت تُعهد في الدولة الأموية، كان من يستشيرهم الأمويون يُسمون كتابًا ومشيرين على الأغلب، ويُسمى وزيرًا من باب التجوز لا على مثال بني العباس. استوزر السفاح خالد بن برمك بعد أن قتل أبا سلمة الخلال، فجعل خالد له دفاتر في الدواوين من الجلود وكتب فيها وترك الدروج، وكانت كتابة الدواوين في صدر الإسلام أن يجعل ما يكتب فيه صفحًا مدرجة، دام ذلك مدة بني أمية، ولما تصرف جعفر بن يحيى ابن خالد بن برمك في الأمور أيام الرشيد اتخذ الكاغد وتداوله الناس من بعد.١

لم يتفرغ السفاح لوضع أساس ثابت للإدارة لانصرافه جملةً واحدة إلى توطيد دعائم الفتح وقتال الخوارج عليه، وسار في الجملة على نظام الأمويين، وكان أخوه أبو جعفر يتولى لأخيه كل أمر عظيم، وكانت العراق على حظ وافر من ترتيب دواوينها وانتظام شئون إدارته على العهد الأموي، بفضل من وليها من أكبر رجال الإدارة والسياسة من بني أمية. وكذلك الحال في معظم الأقطار، تبدلت دولة بدولة وخليفة بخليفة، ونسج الآخر على منوال الأول اضطرارًا واختيارًا، وقلَّ أن خالفه في ترتيبه ونظمه. خطب السفاح قائمًا، وكانت بنو أمية تخطب قعودًا، فضج الناس وقالوا: أحييت السنة يا ابن عم رسول الله.

كان السفاح جميل العشرة جوادًا بالمال يحب مسامرة الرجال، وكان كثيرًا ما يقول: العجب ممن يترك أن يزداد علمًا ويختار أن يزداد جهلًا، فقال له أبو بكر الهذلي: ما تأويل هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال: يترك مجالسة مثلك ومثل أصحابك ويدخل إلى امرأة وجارية، فلا يزال يسمع سخفًا ويرى نقصًا، فقال له الهذلي: لذلك فضلكم الله على العالمين، وجعل منكم خاتم النبيين.

ومن أثمن ما وصل إلى أبي العباس من ميراث بني أمية بردة الرسول وقضيبه، وكان مروان٢ بن محمد حين أُحيط به في مصر دفعهما إلى خادم له وأمره أن يدفنهما في بعض تلك الرمال، فلما أُخذ الخادم في الأسرى قال: إن قتلتموني ضاع ميراث النبي، فأمنوه على أن يسلم لهم ذلك، وكان للبردة والقضيب شأن، وأي شأن، عند جميع الخلفاء من بعده.
ولِّي المنصور الخلافة وكان أسن من أخيه أبي العباس السفاح، ودبر المملكة في أيامه تدبيرًا حسنًا، أفضى إليه الملك وهو حنيك٣ كما قال عن نفسه، قد حلب هذا الدهر أشطره،٤ وزاحم المشاة في الأسواق، وشاهدهم في المواسم، وغازاهم في المغازي، قال: فوالله ما أحب أن أزداد بهم خبرًا، على أني أحب أن أعلم ما أحدثوا بعدي، مذ تواريت عنهم بهذه الجدارات، وتشاغلت عنهم بأمورهم، مع أني والله ما لمت نفسي أن أكون قد أذكيت عليهم العيون حتى أتتني أخبارهم وهم في منازلهم، وأبو جعفر المنصور في تأسيسه دولة بني العباس كمعاوية في تأسيس دولة بني أمية، مع اعتبار الفرق بين عصريهما، والسر الأعظم في نجاحهما أنهما مُرِّنَا على الإدرة قبل أن تُسند الخلافة إليهما.
ولى المنصور أهله البلدان، وفرق العمالات بين قواد من العرب وقواد من مواليه، فكان ينقل قواد العرب في أعماله لثقته بهم واعتماده عليهم، ثم استعمل مواليه وغلمانه في أعماله، وصرفهم في مهماته، وقدمهم على العرب، فامتثلت ذلك الخلفاء من بعده من ولده، فسقطت قيادات العرب، وزالت رياستها وذهبت مراتبها، فهو الذي «أصَّل٥ الدولة، وضبط المملكة، ورتب القواعد، وأقام الناموس، واخترع أشياء، ولم تكن الوزارة في أيامه طائلة لاستبداده واستغنائه برأيه وكفايته، على أنه كان يشاور في الأمور دائمًا، وإنما كانت هيبته تصغر لها هيبة الوزراء.»
اجتمع للمنصور كثير من الخيل لم يُعرف مثله في جاهلية ولا إسلام، واستجاد الكساء والفرش وعدد الحرب ومؤنها، واصطنع الرجال وقوَّى الثغور، ولُقب بأبي الدوانيق لتشدده في محاسبة العمال والكتَّاب، وجمع سياسته المالية أن يدخر المال قائلًا: «من قل ماله قل رجاله، ومن قال رجاله قوي عليه عدوه، ومن قوي عليه عدوه اتضع ملكه، ومن اتضع ملكه استُبيح حماه.» وذُكر أنه أخذ أموال الناس حتى ما ترك عند أحد فضلًا،٦ وكان يعطي الجزيل والخطير٧ إذا رأى في العطاء فائدة، ويمنع اليسير والخطير إذا كان عطاؤه تضييعًا، فكان كما قال زياد: لو أن عندي ألف بعير وعندي بعير أجرب لقمت عليه قيام من لا يملك غيره، ومن أجل هذا كان يثمر ماله وينظر فيما لا ينظر فيه العوام، ووافق صاحب مطبخه على أن له الرءوس والأكارع والجلود وعليه الحطب والتوابل.

وعَدَ محمد بن عبد الله لما خرج عليه إذا رجع إلى طاعته من قبل أن يقدر عليه أن يعطيه ألف ألف درهم، ويؤمنه على نفسه وولده وإخوته، ومن بايعه وتابعه وشايعه، ويُطلق من في سجنه من أهل بيته وأنصاره، آثر أن يحقن الدماء ويعطي هذا العطاء على أن يبعث البعوث وينفق الأموال، وأنفق ثلاثة وستين ألف ألف درهم على جيش واحد كان مؤلفًا من خمسين ألفًا وجهه إلى إفريقية لقتال الخوارج، بمعنى أن أبا جعفر كان الحزم كله في تدبير ملكه، والحزم كله في جمع المال للشدائد، والإنفاق منه عند الحاجة لقيام الدولة، ويذكرون له في باب الإمساك أخبارًا كثيرة.

يقول المسعودي: إن المنصور٨ كان في الحزم وصواب التدبير وحسن السياسة على ما تجاوز كل وصف، وهو أول من رتب المراتب من الخلفاء٩ وكان لبني أمية بيوت بلا منعة ولا إذن، وإنما كان الناس يقفون على أبوابهم حتى يُؤذن لهم أو يُصرفوا، فلما ولي بنو العباس وبنى المنصور بيته اتخذ في قصره بيوتًا للإذن، فجرى الأمر على ذلك، وكانت أرزاق الكتَّاب في أيامه ثلاثمائة ثلاثمائة، وكذلك كانت في أيام بني أمية، وكان المنصور متقللًا متقشفًا لا يحب البذخ والرفاهية يعد كل ما يأكل ويلبس نعمة عظمى بالقياس إلى حاله قبل الخلافة، فهو شديد في قتال أعدائه، شديد في نظامه وترتيبه، يعرف قيمة الوقت فلا يصرفه إلا فيما ينفع الدولة ويعمل في خدمتها ليله ونهاره، وكان شغله١٠ في صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات والعزل وشحن الثغور والأطراف وأمن السبل والنظر في الخراج والنفقات، ومصلحة معاش الرعية والتلطف بسكونهم، فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته، فإذا صلى العشاء الآخرة جلس ينظر فيما ورد من كتب الثغور والأطراف والآفاق وشاور سماره، وهو على انتباه لكل دقيق وجليل، وكان يقول: ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم، هم أركان الدولة ولا يصلح الملك إلا بهم: أما أحدهم فقاضٍ لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب الشرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية، ثم عض على إصبعه السبابة ثلاث مرات يقول في كل مرة: آه آه، قيل: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة.
استعمل المنصور في ولاياته وأعماله قليلًا من عمال الدولة البائدة، وكثيرًا من أهل بيته ورجالات العرب وبعض الفرس، استوزر ابن عطية الباهلي وهو من صميم العرب كما وزر له أبو أيوب المورياني الخوزي وهو فارسي، وما كان يترك الوزير يعمل برأيه فقط، بل ينهي إليه كل ما يعرض له من أمور الدولة قبل البت فيها. وطريقته في حكم الأمصار طريقة «اللامركزية»، أي طريقة الأمويين والراشدين من قبل، دعاه إلى اتخاذها تباعد ما بين أجزاء المملكة، وبُعد الشقة في نقل الأخبار، على ما كان في عهده من انتظام البريد وحمام الزاجل يطير في المهمات السريعة. كتب المنصور إلى مسلم بن قتيبة يأمره بهدم دور من خرج مع أحد الخوارج وعقر نخلهم، فكتب إليه: بأي ذلك نبدأ؟ أبالنخل أم بالدور؟ فكتب إليه أبو جعفر: «أما بعد، فإني لو أمرتك بإفساد ثمرهم لكتبت إليَّ تستأذن في أيه نبدأ أبالبرَنى أم بالشَّهريز؟»١١ وعزله.
لم ينفتق على المنصور في ملكه الواسع خرق إلا سده؛ لأن جيشه كثير، وآلته تامة، وقوَّاده يعرفون منه أن من سياسته أن يقتل على التهمة، فهم يصدعون بأمره كله، ولا يخرمون منه مادة واحدة، احتل الروم طرابلس الشام، وظهر في الشام رجل من أهل المنيطرة١٢ (١٤٢-١٤٣) سمى نفسه ملكًا، ولبس التاج وأظهر الصليب، واجتمع أنباط أهل جبل لبنان وغيرهم، ثم استفحل أمرهم فظهر عليهم الجيش العباسي، فأمر أمير دمشق بإخراج من بقي في الجبل وتفريقهم في بلاد الشام وكورها، فكان هذا التدبير الإداري مما انتقده الإمام الأوزاعي بشدة؛ لأنه إن كان من نصارى لبنان المعتدي على حقوق السلطان، فإن منهم البريء وليس من الجائز١٣ أن يُجلى عن أرضه ويُعامل الطائع كالعاصي.

كان المنصور في أكثر أموره وسياسته وتدبيره متبعًا في أفعاله لهشام بن عبد الملك لكثرة ما كشفه من أخبار هشام وسيرته، وكان يقول: إنه، أي هشام، فتى القوم أي رجل بني أمية، وقال: الملوك ثلاثة: معاوية وكفاه حجاجه، وعبد الملك وكفاه زياده، وأنا ولا كافي لي. وكان يقول لأهل بيته: إني لأجهل موضعي حتى أحذر منكم؛ لأنه ما فيكم إلا عم وأخ وابن عم وابن أخ، فأنا أراعيكم ببصري وأهتم بكم بنفسي، فالله الله في أنفسكم فصونوا، وفي أموالكم فاحتفظوا بها، وإياكم والإسراف فيوشك أن تصيروا من ولد ولدي إلى من لا يعرف الرجل حتى يقول له من أنت.

كان المنصور آية في الإشراف على عماله وإرادتهم على العدل، يهددهم بالعقوبات إذا ولاهم، وأكثرهم يصححون ويناصحون ويختار أهل البلاء منهم، ولقد وفد عليه قاضي إفريقية، وكان رفيقه في طلب العلم، فسأله كيف رأيت سلطاني من سلطان بني أمية، وكيف ما مررت به من أعمالنا حتى وصلت إلينا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، رأيت أعمالًا سيئة وظلمًا فاشيًا، والله يا أمير المؤمنين ما رأيت في سلطانهم شيئًا من الجور والظلم إلا رأيته في سلطانك، وكنت ظننته لبعد البلاد منك، فجعلت كلما دنوت كان الأمر أعظم، فنكس الخليفة رأسه طويلًا ثم رفعه وقال: كيف لي بالرجال؟ فقال القاضي: أليس عمر بن عبد العزيز كان يقول: إن الوالي بمنزلة السوق يُجلب إليها ما يُنفق فيها، فإن كان برًّا أتوه ببرهم، وإن كان فاجرًا أتوه بفجورهم. ووعظ الأوزاعي المنصور، فقال له إن السلطان أربعة: أمير يظلف١٤ نفسه وعماله، فذلك أجر المجاهد في سبيل الله وصلاته سبعون ألف صلاة، ويد الله بالرحمة على رأسه ترفرف، وأمير رتع ورتع عماله فذلك يحمل أثقاله وأثقالًا مع أثقاله، وأمير يظلف نفسه ويرتع عماله فذاك الذي باع آخرته بدنيا غيره، وأمير يرتع ويظلف عماله فذاك شر الأكياس.

كان المنصور يقول لابنه: يا أبا عبد الله، ليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه، ولكنه الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه. وكتب إليه عامله على إرمينية يخبره أن الجند شغبوا عليه ونهبوا ما في بيت المال فوقَّع في كتابه: «اعتزل عملنا مذمومًا مدحورًا، فلو عقلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينهبوا.» ولقد حدث أن المنصور ولَّى المدينة رياح بن عثمان فخطب أهلها يهددهم ويقول: أنا الأفعى بن الأفعى، أنا ابن عثمان بن حيان وابن عم مسلم بن عقبة المبيد خضراءكم المفني رجالكم، والله لأدعنها بلقعًا لا ينبح فيها كلب، فوثب عليه قوم منهم وكلموه وقالوا: والله يا ابن المجلود حدين لتكفن أو لنكفنك عن أنفسنا، فكتب الوالي إلى المنصور يخبره بسوء طاعة أهل المدينة، فأرسل المنصور إلى رياح رسولًا، وكتب معه كتابًا يقول فيه: وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن لم تنزعوا ليبدلنكم بعد أمنكم خوفًا، وليقطعن البر والبحر عنكم، وليبعثن عليكم رجالًا غلاظ الأكباد بعاد الأرحام. فلما قُرئ عليهم نادوه من كل جانب كذبت يا ابن المجلود حدين، ورموه بالحصا وبادر المقصورة فأغلقها، فدخل عليه أيوب بن سلمة المخزومي فقال: أصلح الله الأمير، إنما تصنع هذا رعاع الناس. وقال بعض من حضر من وجوه بني هاشم: لا نرى هذا، ولكن أرسل إلى وجوه الناس وغيرهم من أهل المدينة فاقرأ عليهم كتاب المنصور، فجمعهم وقرأ عليهم فقالوا: ما أمرتنا فعصيناك ولا دعوتنا فخالفناك، وانفض الأمر بسلام.

وعني المنصور بالعمار في ملكه يعمر الجسور والقنى والآبار، ففشت في أيامه أعمال العمران، وحمل المهندسين من الآفاق إلى العراق خصوصًا لبناء مدينة بغداد، واختار المنصور موقعها بنفسه لإحاطتها بدجلة والفرات بحيث يصعب على أكثر الجيوش تخطيها، ولأن مواد الشام والجزيرة تأتيها بالفرات، ومواد الموصل وما وراءها تُحمل إليها في دجلة، وبنى الرصافة لابنه المهدي ليصير ابنه في مدينة، وعسكر بالجانب الشرقي، ويصير المنصور في مدينة، وعسكر بالجانب الغربي، فلا يشغب الجند.

وحج المنصور آخر حجة وكان موقنًا أنه لا يرجع من حجه، زاعمًا أنه عرف ذلك من المنجمين، فقال لابنه وأشار إلى سفط له فيه دفاتر وعليه قفل لا يفتحه غيره: انظر إلى هذا السفط فاحتفظ به؛ فإن فيه علم آبائك ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، فإن حَزَبَك أمر فانظر في الدفتر الكبير، فإن أصبت فيه ما تريد وإلا ففي الثاني والثالث، حتى تبلغ سبعة، فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة، فإنك واجد فيها ما تريد، وما أظنك تفعل، وانظر هذه المدينة أي بغداد، وإياك أن تستبدل بها غيرها. وقد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كفاك لأرزاق الجند والنفقات والذرية ومصلحة البعوث فاحتفظ بها، فإنك لا تزال عزيزًا ما دام بيت مالك عامرًا، وأوصى ابنه بأهل بيته وأن يحسن إليهم ويقدمهم، ويوطئ الناس أعقابهم، ويوليهم المنابر، وأوصاه بأهل خراسان خيرًا؛ لأنهم أنصاره وشيعته الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولته، وأوصاه أن لا يدخل النساء في أمره، وأن يعد الكراع والرجال والجند ما استطاع، وأن يعد رجالًا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالًا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل، وأن يباشر الأمور بنفسه، وأن يستعمل حسن الظن، ويسيء الظن بعماله وكتابه، وأن لا يبرم أمرًا حتى يفكر فيه، فإن فكر العاقل مرآة تريه حسنه وسيئه، وقال له: يا بني، لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح رعيته إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، وأقدر الناس على العفو أقدرهم على العقوبة، وأعجز الناس من ظلم من هو دونه، واعتبر عمل صاحبك وعلمه باختباره. وقال له أيضًا: إني تركت الناس ثلاثة أصناف: فقير لا يرجو إلا غناك، وخائفًا لا يرجو إلا أمنك، ومسجونًا لا يرى الفرج إلا منك، فإذا وَلِيت فأذقهم طعم الرفاهية، ولا تمدد لهم كل المد.

هذا إجمال ما عمله أبو جعفر المنصور، وما أوصى به ابنه لإتمام ما بدأ به من التراتيب، وقد أبقت الأيام كتابًا لابن المقفع في الصحابة١٥ أي أصحاب الخليفة، كتبه إلى أبي جعفر أورد فيه ما يحتاج إليه الملك من الإصلاح ليسير على قواعد مطردة سليمة من الشوائب، وأدركنا منه بعض المسائل الإدارية التي كانت تشغل الأذهان في ذاك الزمان، بدأه بتذكير الخليفة بجند خراسان فقال: إنهم جند لم يُدرك مثلهم في الإسلام، وفيهم منعة وهم أهل بصر بالطاعة، وفضل عند الناس، وعفاف نفوس وفروج، وكف عن الفساد، وذل للولاة، فرأى أن يكتب لهم أمانًا معروفًا بليغًا وجيزًا محيطًا بكل شيء، بالغًا في الحجة، قاصرًا عن الغلو، يحفظه رؤساؤهم، حتى يقودوا به دهماءهم، وارتأى أن لا يولي أحدًا منهم شيئًا من الخراج، فإن ولاية الخراج مفسدة للمقاتلة، وإن منهم من المجهولين من هو أفضل من قادتهم، فلو التمسوا وصُنعوا١٦ كانوا عدة وقوة، وكان ذلك صلاحًا لمن فوقهم من القادة، ومن دونهم من العامة، وأن يتعهد أدبهم في تعليم الكتاب والتفقُّه في السنة والأمانة والعصمة والمباينة لأهل الهوى، وأن يظهر فيهم من القصد والتواضع واجتناب زي المترفين وشكلهم مثل الذي يأخذ به أمير المؤمنين في أمر نفسه، قال: ولا يزال يطلع من أمر أمير المؤمنين ويخرج منه القول، ما يعرف مقته للإتراف١٧ والإسراف وأهلهما، ومحبته القصد والتواضع ومن أخذ بهما، حتى يعلموا أن معروف أمير المؤمنين محظور عمن يكنزه، بخلًا أن ينفقه سرفًا في العطر واللباس والمغالاة بالنساء والمراتب.
وأشار أن يوقت الخليفة للجند وقتًا يعرفونه في كل ثلاثة أشهر أو أربعة أو ما بدا له أنهم يأخذون فيه، فينقطع الاستبطاء والشكوى، هذا مع كثرة أرزاقهم وكثرة المال الذي يخرج لهم، وأن الجند يحتاجون إلى ما يحتاجون إليه من كثرة الرزق لغلاء السعر، والرأي أن يجعل بعض أرزاقهم طعامًا وبعضه علفًا يعطونه بأعيانه، ورأى أن لا يخفي عن أمير المؤمنين شيئًا من أخبار هذا الجند وحمالاتهم١٨ وباطن أمرهم بخراسان والعسكر والأطراف، وأن يحتقر في ذلك النفقة، ولا يستعين فيه إلا بالثقات النصاح «فإن ترك ذلك وأشباهه أحزم بتاركه من الاستعانة فيه بغير الثقة فيصير جُنَّة للجهالة والكذب.»
ووصى بأهل المصرين (الكوفة والبصرة) قائلًا: إنهم أقرب الناس إلى أن يكونوا شيعة الخليفة ومعينيه، وأن في أهل العراق من الفقه والعفاف والألباب والألسنة شيئًا لا يكاد يشك أنه ليس في جميع من سواهم من أهل القبلة مثله ولا مثل نصفه، وأراده على أن يكتفي بهم، وأنه ما أزرى بأهل العراق إلا أن من ولوا بلادهم كانوا أشرار الولاة، وأعوانهم من أهل أمصارهم كذلك «فحمل جميع أهل العراق على ما ظهر من أولئك الفسول،١٩ وتعلق بذلك أعداؤهم من أهل الشام فنعوه عليهم، ثم كانت هذه الدولة فلم يتعلق من دونكم من الوزراء والعمال إلا بالأقرب فالأقرب، ممن دنا منهم أو وجدوه بسبيل شيء من الأمر، فوقع رجال مواقع شائنة لجميع أهل العراق حيثما وقعوا من صحابة خليفة، أو ولاية عمل أو موضع أمانة أو موطن جهاد، وكان من رأي أهل الفضل أن يُقصدوا حتى يلتمسوا فأبطأ ذلك بهم أن يعرفوا أو ينتفع بهم» «فنزلت الرجال عن منازلها؛ لأن الناس لا يلقون صاحب السلطان إلا متصنعين بأحسن ما يقدرون عليه من الصمت والكلام، غير أن أهل النقص هم أشد تصنعًا، وأحلى ألسنة، وأرفق تلطفًا للوزراء أو تمحلًا لأن يثني عليهم من وراء وراء.» ثم ذكره بإصلاح القضاء وما يصدر عن القضاة من الأحكام المتناقضة، ورجا أن يوحد القضاء ويوضع للقضاة كتاب يرجعون إليه.

وتعرض لأهل الشام وذكره أنهم أشد الناس مئونة وأخوفهم عداوة وبائقة، فمن الرأي أن يختص منهم خاصة ممن يرجو عنده صلاحًا، أو يعرف منه نصيحة أو وفاء، فإن أولئك لا يلبثون أن ينفصلوا عن أصحابهم في الرأي والهوى، ويدخلوا فيما حملوا عليه من أمرهم، ولا يعامل أهل الشام كما عاملوا أهل العراق من جعل فيئهم إلى غيرهم وتنحيتهم عن المنابر والمجالس والأعمال، كما كانوا ينحون عن ذلك من لا يجهلون فضله في السابقة والمواضع، ومنعت منهم المرافق كما كانوا يمنعون الناس أن ينالوا معهم أكلة من الطعام الذي يصنعه أمراؤهم للعامة، ورجاه أن يأخذ منهم أهل القوة والغناء وخفة المئونة والعفة في الطاعة، ولا يفضل أحدًا منهم على أحد إلا على خاصة معلومة، وقال بهذا المعنى في إقامة العذر لأهل الشام على نزواتهم، وأنه لم يخرج الملك من قوم إلا بقيت فيهم بقية يتوثبون بها، ثم كان ذلك التوثب هو سبب استئصالهم وتدويخهم.

وذكره بأصحابه «الذين هم بهاء فنائه، وزينة مجلسه، وألسنة رعيته، والأعوان على رأيه؛ ومواضع كرامته، والخاصة من عامته»، وأبان أنها مراتب طمع فيها الأوغاد «ممن لا ينتهي إلى أدب ذي نباهة ولا حسب معروف، ثم هو مسخوط الرأي، مشهور بالفجور في أهل مصره، قد غبر عامة دهره صانعًا يعمل بيده، فصار يؤذن له على الخليفة قبل كثير من أبناء المهاجرين والأنصار، وقبل قرابة أمير المؤمنين وأهل البيوتات من العرب، ويجري عليه من الرزق الضعف مما يجري على كثير من بني هاشم وغيرهم من سروات قريش، ويخرج له من المعونة على نحو ذلك، لم يضعه بهذا الموضع رعاية رحم، ولا فقه في دين، ولا بلاء في مجاهدة عدو معروفة ماضية متتابعة قديمة، ولا غناء حديث، ولا حاجة إليه في شيء من الأشياء، ولا عدة يستعد بها، وليس بفارس ولا خطيب ولا علامة، إلا أنه خدم كاتبًا أو حاجبًا فأخبر أن الدين لا يقوم إلا به، حتى كتب كيف شاء، ودخل حيث شاء.» ثم ذكره بأمر فتيان أهل بيته وبني أبيه وبني علي وبني العباس ووصفهم بأن فيهم رجالًا لو مُتعوا بجسام الأمور والأعمال سدوا وجوهًا وكانوا عدة لأخرى.

ومن أهم ما ذكره به أمر الأرضين والخراج، قال: فليس للعمال أمر ينتهون إليه ولا يحاسبون عليه، ويحول بينهم وبين الحكم على أهل الأرض بعد ما يتأنقون لها في العمارة، ويرجون لها فضل ما تعمل أيديهم، فسيرة العمال فيهم إحدى ثنتين: إما رجل أخذ بالخرق والعنف من حيث وجد وتتبع الرجال والرساتيق بالمغالاة ممن وجد، وإما رجل صاحب مساحة يستخرج ممن زرع ويترك من لم يزرع، فيعمر من يعمر ويسلم من أخرب، ورجاه على أن يعمل رأيه في التوظيف على الرساتيق والقرى والأرضين وظائف معلومة، وتدوين الدواوين بذلك، وإثبات الأصول حتى لا يُؤخذ رجل إلا بوظيفة قد عرفها وضمنها، ولا يجتهد في عمارة إلا من كان له فضلها ونفعها ليكون في ذلك صلاح للرعية، وعمارة للأرض، وحسم لأبواب الخيانة وغشم العمال، قال: «وهذا رأي مؤنته شديدة، ورجاله قليل، ونفعه متأخر، وليس بعد هذا في أمر الخراج إلا رأي قد رأينا أمير المؤمنين أخذ به، ولم نره من أحد قبله، من تخير العمال وتفقدهم.»

ثم ذكره بجزيرة العرب وأن يختار لولايتها الخيار من أهل بيته وغيرهم؛ لأن ذلك من تمام السيرة العادلة والكلمة الحسنة التي قد رزق أمير المؤمنين وأكرمه بها من الرأي الذي هو بإذن الله حمى ونظام لهذه الأمور كلها في الأمصار والأجناد والثغور والكور، ومما قاله في خاتمة كتابه: «إن بالناس من الاستخراج٢٠ والفساد ما قد علم أمير المؤمنين، وبهم من الحاجة إلى تقويم آدابهم وطرائقهم ما هو أشد من حاجتهم إلى أقواتهم التي يعيشون بها، وأهل كل مصر وجند أو ثغر فقراء إلى أن يكون لهم من أهل الفقه والسنة والسير والنصيحة مؤدبون مقومون، يذكرون ويبصرون بالخطأ، ويعظون عن الجهل، ويمنعون عن البدع، ويحذرون الفتن، ويتفقدون أمور عامة من هم بين أظهرهم حتى لا يخفى عليهم منها مهمٌّ، ثم يستصلحون ذلك ويعالجون ما استنكروا منه بالرأي والرفق والنصح، ويرفعون ما أعياهم إلى ما يرجون قوته عليه، مأمونين على سير ذلك وتحصينه، بصراء بالرأي حين يبدو، أطباء باستئصاله قبل أن يتمكن، وفي كل قوم خواص رجال عندهم على هذا معونة إذا صُنعوا لذلك وتلطف لهم، وأعينوا على رأيهم، وقووا على معاشهم ببعض ما يفرغهم لذلك ويبسطه لهم، وخطر هذا جسيم في أمرين: أحدهما برجوع أهل الفساد إلى الصلاح، وأهل الفرقة إلى الألفة، والأمر الآخر أن لا يتحرك متحرك في أمر من أمور العامة إلا وعين ناصحة ترمقه، ولا يهمس هامس إلا وأذن شفيقة تصيخ نحوه.» قال: «وقد علمنا علمًا لا يخالطه الشك أن العامة قط لم تصلح من قبل أنفسها، ولم يأتها الصلاح إلا من قبل خاصتها، وأن خاصة قط لم تصلح من قبل أنفسها وأنها لم يأتها الصلاح إلا من قبل إمامها»، «فإذا جعل الله فيهم خواص من أهل الدين والعقول ينظرون إليهم ويسمعون منهم، اهتمت خواصهم بأمور عوامهم وأقبلوا عليه بجد ونصح ومثابرة وقوة، جعل الله ذلك صلاحًا لجماعتهم، وسببًا لإصلاح الصلاح من خواصهم، وزيادة فيما أنعم الله به عليهم، وبلاغًا إلى الخير كله، وحاجة الخواص إلى الإمام الذي يصلحهم الله به كحاجة العامة إلى خواصهم وأعظم من ذلك.»

هذه زبدة تقرير ابن المقفع للمنصور وفيه صورة جميلة مما تحتاجه إدارة البلاد من الصلاح، وما يجب القيام به لاستصلاح الجند والرفق بأهل الكوفة والبصرة، والعناية بأهل العراق والعطف على الحجاز واليمن واليمامة واختيار العمال الكفاة والرجوع إلى أهل الرأي، واصطناع أرباب العقل من أهل الشام وإشارة إلى أن بغضهم بني العباس من الأمور الطبيعية؛ لأن الملك كان فيهم فانتقل إلى غيرهم، وعرَّفه الطرق إلى استصلاح العامة واختيار الخاصة من الأصحاب والموالين إلى غير ذلك من الأمور التي يمكن تطبيقها لعمران البلاد، ورفع الحيف عن الخلق والانتفاع بالقوى المفيدة للرعية وأرضهم، ومن أهم ما وقفنا عليه هذا التقرير أن الأمة لم تعدم في إبان مجدها رجالًا يدلونها على مواطن الضعف من سلطانها، ومعالجة الإصلاح بالعقل حتى يبلغ كماله، والأخذ في كل أمر من أمور الدولة بالحزم النافع والمصلحة الشاملة.

إدارة المهدي والهادي والرشيد

سار المهدي بالخلافة على الخطة التي اختطها له أبوه، ينظر في الدقائق من الأمور، ويظهر أبهة الوزارة، لكفاية وزيره أبي عبيد الله بن معاوية بن يسار، فإنه جمع له حاصل المملكة ورتب له الديوان٢١ وقرر القواعد «وكان كاتب الدنيا وأوحد الناس حذقًا وعلمًا وخبرةً.» اخترع أمورًا، منها أنه نقل الخراج إلى المقاسمة، وكان السلطان يأخذ عن الغلات خراجًا مقررًا ولا يقاسم، وجعل الخراج على النخل والشجر، وضُبطت الأمور في أيامه ضبطًا محكمًا، وكان من جملة حظ المهدي أن يكون له وزراء من هذا الطراز العالي، وهو يعتمد عليهم ويضع ثقته في رجال دولته، واستوزر أيضًا يعقوب بن داود فخرج كتاب المهدي إلى الديوان أن أمير المؤمنين آخى يعقوب بن داود، فلم يكن ينفذ شيء من كتب المهدي حتى يرد كتاب الوزير يعقوب معه إلى أمينه بإنفاذه، أي إن الخليفة ووزيره كانا يراقب أحدهما عمل صاحبه لتقرير ما تلزم به المصلحة قبل إمضائه.
ووضع المهدي ديوان الأزمة ولم يكن لبني أمية ذلك، ومعنى ديوان الأزمة أن يكون لكل ديوان زمام وهو رجل يضبطه، وقد كانت الدواوين قبل ذلك مختلطة،٢٢ والسبب في وضع ديوان الأزمة أنه لما جُمعت الدواوين لعمر بن بزيع فكر فإذا هو لا يضبطها إلا بزمام يكون له على كل ديوان، فاتخذ دواوين الأزمة، وولَّى على كل ديوان رجلًا، وأنشأوا ديوانًا سموه ديوان النظر، أي المكاتبات والمراجعات، تسهيلًا على أرباب المصالح، والديوان يُقسم أربعة أقسام:٢٣ ديوان الجيش وفيه الإثبات والعطاء، وديوان الأعمال ويتولى الرسوم والحقوق وديوان العمال ويختص بالتقليد والعزل، وديوان بيت المال ينظر في الدخل والخرج.

كان المهدي أول من جلس للمظالم من بني العباس، يقيم العدل بين المتظالمين، ومشى على إثره الهادي والرشيد والمأمون، وكان المهتدي آخر من جلس للنظر فيها، وبسط المهدي يده في العطاء فأذهب جميع ما خلفه المنصور وهو ستمائة ألف ألف درهم وأربعة عشر ألف ألف دينار، وأجرى المهدي على المجذمين وأهل السجون في جميع الآفاق، وأمر بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن وبغداد ببغال وإبل، ولم يكن هناك بريد قبل ذلك ولا في قطر من الأقطار، وكان وزيره «يرفع إليه النصائح في الأمور الحسنة من أمور الثغور والولايات، وبناء الحصون وتقوية الغزاة، وتزويج العزاب وفكاك الأسرى والمحبسين، والقضاء على الغارمين والصدقة على المتعففين.» واشتد المهدي على الزنادقة فقتل في جملة من قتل ابن وزيره أبي عبد الله بن معاوية فاستوحش كل منهما من صاحبه، فاعتزل الوزير الخدمة.

قال رجل للمهدي عندي نصيحة يا أمير المؤمنين، فقال: لمن نصيحتك هذه؟ لنا أم لعامة المسلمين أم لنفسك؟ قال: لك يا أمير المؤمنين، قال: ليس الساعي بأعظم عورة ولا أقبح حالًا ممن قبل سعايته، ولا تخلو من أن تكون حاسد نعمة فلا نشفي غيظك، أو عدوًّا فلا نعاقب لك عدوك، ثم أقبل على الناس فقال: لا ينصح لنا ناصح إلا بما فيه رضا لله وللمسلمين صلاح، فإنما لنا الأبدان وليس لنا القلوب، ومن استتر عنا لم نكشفه، ومن بادانا طلبنا توبته، ومن أخطأ أقلنا عثرته، فإني أرى التأديب بالصفح أبلغ منه بالعقوبة، والسلامة مع العفو أكثر منها مع العاجلة، والقلوب لا تبقى لوالٍ لا ينعطف إذا استُعطف، ولا يعفو إذا قدر، ولا يغفر إذا ظفر، ولا يرحم إذا استُرحم، وهذا أرقى الأدب في استمالة القلوب وحسن سياسة الناس، ومن وافق إلى تطبيق هذه القواعد على أمته لم يحتج إلى سلاح يخيفهم ولا إلى جند يضبطهم.

وأفضت الخلافة إلى الهادي، والدواوين مدونة مرتبة، فمن ديوان الخراج إلى ديوان الضياع، إلى ديوان الزمام، إلى ديوان التوقيع والتتبع على العمال، إلى ديوان النظر، أي المكاتبات والمراجعات، إلى ديوان الرسائل، إلى ديوان البريد والخرائط، إلى غير ذلك من الدواوين، وجعل الهادي أمور الدولة تسير في قواعدها المرعية على ما تقضي به أحكام الشرع والعقل، ويراه الوزراء والأمراء والقضاة، وكان جبارًا عظيمًا وهو أول من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المرهفة، والأعمدة المشهورة، والقسي الموتورة، فسلكت عماله طريقته، ويمموا منهجه، وكثر السلاح في عصره.

سار الرشيد في إدارته على نهج قويم، وأعاد إلى الخلافة رونقها الذي كان لها على عهد جده المنصور، وما كان بالمسرف ولا بالمبخل، وسمى الناس أيامه «أيام العروس» لنضارتها وكثرة خيرها وخصبها، وكانت دولته٢٤ «من أحسن الدول وأكثرها وقارًا ورونقًا وخيرًا وأوسعها رقعة مملكة: جبى الرشيد معظم الدنيا وكان أحد عماله صاحب مصر» وقلد وزارته يحيى بن خالد وقال له: «قد قلدتك أمر الدولة وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت واعزل من رأيت، وأمضِ الأمور على ما ترى.» ودفع إليه خاتم الخلافة، أما الولايات فقد فوضها إلى أمراء جعل لهم الولاية على جميع أهلها ينظرون٢٥ في تدبير الجيوش والأحكام ويقلدون القضاة والحكام، ويجبون الخراج ويقبضون الصدقات ويقلدون العمال فيها، ويحمون الدين ويقيمون حدوده، ويؤمون في الجمع والجماعات أو يستخلفون عليها، ويسيرون الحج من أعمالهم، فإن كانت أقاليمهم ثغرًا متاخمًا للعدو تولوا جهاده.

وما قسمت أعمال الدولة منذ انتقالها إلى بني العباس تقسيمها في زمن الرشيد؛ ولذلك كان للخليفة وقت ليحج ووقت ليغزو، ووقت ليصطاف ويرتبع في الرقة، ويترك قصر الخلد في بغداد، وما اشتعلت فتنة في أرجاء مملكته إلا أطفأها، ومنها فتنة النزارية واليمانية في الشام أي قيس ويمن، عادوا إلى ما كانوا عليه فقُتل منهم بشر كثير، فأرسل عليهم إبراهيم بن محمد المهدي واليًا، ففكر أن يعمد إلى طرق إدارية لقطع شأفة هذه الغائلة، فرأى أن يلهيهم بقشور، ويتقرب من قلوبهم بما يستميلها، فسار في استقبالهم على قانون من «التشريفات» أو «البروتوكول» أرضاهم به وما تكلف شيئًا؛ فقد أمر حاجبه بإحضار وجوه الحيين، وأمره بتسمية أشرافهم، وأن يقدم من كل حي الأفضل فالأفضل منهم، فأمر بتصيير أعلا الناس من الجانب الأيمن مضريًّا وعن شماله يمانيًّا، ومن دون اليماني مضري ومن دون المضري يماني، حتى لا يلتصق مضري بمضري ولا يماني بيماني، فلما قدم الطعام قال قبل أن يطعم شيئًا: «إن الله عز وجل جعل قريشًا موازين بين العرب، فجعل مضر عمومتها، وجعل يمن خئولتها، وافترض عليها حب العمومة والخئولة، فليس يتعصب قرشي إلا للجهل بالمفترض عليه.» ثم قال: يا «معشر مضر كأني بكم وقد قلتم إذا خرجتم لإخوانكم من يمن قد قدم أميرنا مضر على يمين، وكأني بكم يا يمن قد قلتم وكيف قدمكم علينا، وقد جعل بجانب اليماني مضريًّا وبجانب المضري يمانيًّا، فقلتم يا معشر مضر إن الجانب الأيمن أعلا من الجانب الأيسر، وقد جعلت الأيمن لمضر والأيسر ليمن، وهذا دليل على تقدمته إيانا عليكم، ألا إن مجلسك يا رئيس المضرية في غد من الجانب الأيسر، ومجلسك يا رئيس اليمانية في غد من الجانب الأيمن، وهذان الجانبان يتناوبان بينكما، يكون كل من كان في جهة متحولًا عنها في غده إلى الجانب الآخر.» فانصرف القوم كلهم حامدًا.

وبمثل هذه القوانين الإدارية رجع السلام إلى الشام ست سنين، واستراحت من العصبية الجاهلية وبأو٢٦ القبلية. قال الجاحظ:٢٧ حدثني إبراهيم بن السندي قال: لما كان أبي بالشام واليًا أحب أن يسوي القحطاني والعدناني وقال: لسنا نقدمكم إلا على الطاعة لله عزَّ وجلَّ وللخلفاء، وكلكم أخوة، وليس للنزاري شيء ليس لليماني مثله قال: وكان يتغدى مع جِلة من جِلة الفريقين، ويسوي بينهم في الإذن والمجلس.
ومن عمال الرشيد من أبدع طرقًا جديدة في الإدارة، ولِّي عمر بن مهران مصر فقال هذا لغلامه: لا تقبل من الهدايا إلا ما يدخل في الجراب، لا تقبل دابة ولا جارية ولا غلامًا، فجعل الناس يبعثون بهداياهم فجعل يرد ما كان من الألطاف٢٨ويقبل المال والثياب، ويوقع عليها أسماء من بعث بها، ثم وضع الجباية، وكان بمصر قوم قد اعتادوا المطل وكسر الخراج، فاستأدى من الخراج النجم الأول والنجم الثاني، فلما كان في النجم الثالث وقعت المطالبة والمطل فأحضر أهل الخراج والتجار، فطالبهم فدافعوه وشكوا الضيقة، فأمر بإحضار تلك الهدايا التي بُعث بها إليه، ونظر في الأكياس وأحضر الجهبذ٢٩ فوزن ما فيها وأجزى أثمانها عن أهلها ثم قال: يا قوم، حفظت عليكم هداياكم إلى وقت حاجتكم إليها، فأدوا إلينا مالنا، فأدوا إليه حتى أغلق مال مصر، فانصرف ولا يعلم أنه أغلق مال مصر غيره.٣٠

ولقد كان الرشيد على أشد ما يكون من الانتباه لكل ما دقَّ وجلَّ من شئون الملك، «ومن أشد الملوك بحثًا عن أسرار رعيته وأكثرهم بها عناية وأحزمهم فيها أمرًا»، يصطنع الرجال ويحلم عن مساوئ تغتفر من رجاله، ويسعى في عمران البلاد ويكف الأذى عن الرعية، ويأخذ بأيدي العلماء والباحثين ويجتمع إليهم ويأنس بهم، ولما رأى أن ملكه في خطر محقق من نفوذ آل برمك وزرائه وخاصته، لانصراف الوجوه إليهم لكثرة ما أحسنوا إلى الناس، ولإجماع القاصي والداني على حبهم، حتى ساموا الخليفة أو أربوا عليه في المكانة، أمر بالقبض عليهم ومصادرتهم وقتلهم، وما أراد أن يبوح بسر ما أتاه، فرجم القوم الظنون به؛ وذلك لأنه خافهم على ملكه، وهم فرس لهم قديم يمتون إليه من الإمارة، والفرس يحاولون منذ القرن الأول أن يعيدوا الملك فيهم فارسيًّا ويخرجوه عن صبغته العربية، ونشأت من قتلهم قصة طويلة سداها ولحمتها المبالغة، بل الاختلاق، شغل الرشيد بها الناس عن نفسه وعن سياسة بلاده.

ووضع الرشيد عن أهل السواد العشر الذي كان يُؤخذ منهم بعد النصف، وترك بعض أهل الضياع في فلسطين أرضهم فوجه إليهم أحد كبار قواده فدعا قومًا من أَكَرتها ومزارعيها إلى الرجوع إليها، على أن يخفف عنهم من خراجهم وتلين معاملتهم، فرجعوا فأولئك أصحاب التخافيف، وجاء قوم منهم بعدُ فرُدت عليهم أرضوهم على مثل ما كانوا عليه وهم أصحاب الردود، والرشيد يسد كل خلل في مملكته، ويهتم كل الاهتمام أن يخفف عن الفلاحين، وكان رجاله لا يألونه نصحًا؛ لأنه يهتم لكل ما ينفع، وفي الرسالة التي كتبها له قاضيه أبو يوسف في الخراج نموذج من هذه العناية، ومما قال فيها: وقد بلغني أن عمال الخراج يبعثون رجالًا من قبلهم في الصدقات فيظلمون ويعسفون ويأتون ما لا يحل، وإنما ينبغي أن يتخير للصدقة أهل العفاف والصلاح، فإذا وليتها رجلًا، ووجد من قبله من يوثق بدينه وأمانته، أجريت عليهم من الرزق بقدر ما تجري، ولا تجري عليهم ما يستغرق أكثر الصدقة … ويكون من يولي فقيهًا عالمًا مشاورًا لأهل الرأي مؤتمنًا على الأموال، إني قد أراهم لا يحتاطون فيمن يولون الخراج، إذا لزم الرجل منهم باب أحدهم أيامًا ولاه رقاب المسلمين وجباية خراجهم، ولعله أن لا يكون عرفه بسلامة ناصية ولا بعفاف، ولا باستقامة طريقة ولا بغير ذلك … وتقدم إلى من وليت أن لا يكون عسوفًا لأهل عمله، ولا محتقرًا لهم، ولا مستخفًّا بهم، ولكن يلبس لهم جلبابًا من اللين، يشوبه بطرف من الشدة والاستقصاء، من غير أن يظلموا أو يحملوا ما لا يجب عليهم، واللين للمسلم والغلظة على الفاجر، والعدل على أهل الذمة وإنصاف المظلوم، والشدة على الظالم، والعفو عن الناس … فإن كل ما عمل به والي الخراج من الظلم والعسف فإنه يُحمل على أنه قد أُمر به وقد أُمر بغيره، وإن أحللت بواحد منهم العقوبة الموجعة انتهى غيره واتقى وخاف، وإن لم تفعل هذا بهم تعدوا على أهل الخراج، واجترأوا على ظلمهم وعسفهم وأخذهم بما لا يجب عليهم، وإذا صح عندك من العامل والوالي تعدٍ بظلم أو سعف وخيانة لك في رعيتك، واحتجان شيء من الفيء، أو خبث طعمته، أو سوء سيرته، فحرام عليك استعماله والاستعانة به، وأن تقلده شيئًا من أمر رعيتك أو تشركه في شيء من أمرك، بل عاقبه على ذلك عقوبة تروع غيره فلا يتعرض لمثل ما تعرض له.

وقال: «بلغني عن ولاتك على البريد والأخبار في النواحي تخليط كثير، ومحاباة فيما يحتاج إلى معرفته من أمور الولاة والرعية، وأنهم ربما مالوا مع العمال على الرعية، وستروا أخبارهم وسوء معاملتهم للناس، وربما كتبوا في الولاة والعمال بما لم يفعلوا إذا لم يرضوهم، وهذا، مما ينبغي أن تتفقده، وتأمر باختيار الثقات العدول من أهل كل بلد ومصر فتوليهم البريد والأخبار»، «وينبغي أن لا يُقبل خبر إلا من ثقة عدل، ويجري لهم من الرزق من بيت المال وليدر عليهم وتقدم إليهم في أن لا يستروا عنك خبرًا عن رعيتك ولا عن ولاتك ولا يزيدوا فيما يكتبون به عليه خبرًا، فمن لم يفعل منهم يُنكل به، ومتى لم يكن أصحاب البرد والأخبار في النواحي ثقات عدولًا فلا ينبغي أن يُقبل لهم خبر في قاضٍ ولا والٍ، إنما يُحتاط بصاحب البريد على القاضي والوالي وغيرهما فإذا لم يكن عدلًا فلا يحل ولا يسع استعمال خبره ولا قبوله.»٣١
بمثل هذا اللسان يتلطف أبو يوسف وينصح لخليفته في اختيار عمال الخراج والأمناء على الأخبار لمراقبة العمال والولاة والقضاة. على أن الرشيد أخذ العمال٣٢ والتناء والدهاقين وأصحاب الضياع والمبتاعين للغلات والمقبلين٣٣ وكان عليهم أموال مجتمعة فطولبوا بصنوف من العذاب، وهذا ما دعا بعض الناس في الدولة العباسية إلى أن يقولوا: إن بني أمية٣٤ كانت مصائبهم في أديانهم، وأن جبايتهم وأموالهم سليمة لم يظلموا في العشر والخراج، أما بنو العباس فمع سلامة أديانهم كانت أموالهم فاسدة وجباياتهم بالظلم والغش، وأوضاع كل أمة تثقل وتخف في الميزان بحسب غناء القائمين على تطبيقها، يزنون بالقسطاس المستقيم، أو يُخسرون إذا كالوا أو وزنوا.
ولَّى الرشيد أحدهم بعض أعمال الخراج، فدخل على الرشيد يودعه، وعنده يحيى وجعفر بن يحيى، فقال الرشيد ليحيى: أوصياه، فقال له يحيى: وفِّر وعمِّر، وقال له جعفر: أنصف وانتصف، فقال له الرشيد: اعدل وأحسن. وانتهى إلى علم الرشيد أن عامل الأهواز قد اقتطع مالًا كثيرًا من مال البلد، ولما سأله الرشيد أجاب: وحلفت بأيمان البيعة أني قد نصحت وشكرت الصنيعة، ووفرت وما أسرفت ولا خنت، والله لأصدقنك عن أمري: عمرت البلاد واستقصيت حقوقك من غير ظلم، ووفرت أموالك وفعلت ما يفعله الناصح لسيده، وكنت إذا كان وقت بيع الغلات جمعت التجار، فإذا تقررت العطايا أنفذت البيع وجعلت لي مع التجار فيه حصة، فربما ربحت وربما وَضِعت، إلى أن اجتمع لي من ذلك ومن غيره في عدة سنين عشرة آلاف ألف درهم فاتخذت أزجًا٣٥ كبيرًا عُقد بالجص والآجر كأنه مجلس، وجعلت بين يديه موضعًا أقعد فيه وعبيت البدر شيئًا بعد شيء في الأزج ثم سددته، وهو بحاله ما أشك أن العنكبوت قد نسجت على ما فيه، فخذها وحوِّل وجهك إلى عبدك، فقال الرشيد: بارك الله لك في مالك، فارجع إلى عملك ودارِ رعيتك.

ولما دخل عليه عامله بدمشق يرسف في قيده، قال له الرشيد: وليتك دمشق وهي جنة بها غُدر تتكفأ أمواجها على رياض كالزرابي واردة منها كفايات المؤن إلى بيوت أموالي، فما برح بك التعدي لأرفاقهم فيما أمرتك، حتى جعلتها أجرد من الصخر، وأوحش من القفر، قال: والله يا أمير المؤمنين ما قصدت لغير التوفير من جهة، ولكن وليت أقوامًا ثقل على أعناقهم الحق فتفرقوا إلى ميدان التعدي، ورأوا المراغمة بترك العمارة أوقع بإضرار الملك وأنوه بالشنعة على الولاة، فلا جرم أن أمير المؤمنين قد أخذ لهم بالحظ الأوفر من مساءتي.

وكان الرشيد إذا أحس من عامل له خيانة دبَّر له من صائب رأيه ولطف حيلته ما يدل على بعد نظره وحسن إدارته، وجميل تدينه، وشدة غيرته على مصلحة ملكه، فيمسك أقصر الطرق إلى القضاء على الفتن الملحوظة والغوائل المستجنة، فيضرب على المسيء بسيفه وسنانه، كما يغمر المحسن بإنعامه وإحسانه، أراد مرة أن يعزل علي بن عيسى عن خراسان — وخراسان كثيرًا ما كانت تشغل بال الرشيد كما شغلت بال أسلافه — فدعا هرثمة بن أعين مستخليًا به فقال: إني لم أشاور فيك أحدًا، ولم أطلعه على سرِّي فيك، وقد اضطربت عليَّ ثغور المشرق، وأنكر أهل خراسان أمر علي بن عيسى إذ خالف عهدي ونبذه وراء ظهره، وقد كتب يستمد ويتجيش، وأنا كاتب إليه أخبره أني أمده بك، وأوجه إليه معك من الأموال والسلاح والقوة والعدة ما يطمئن إليه قلبه، وتتطلع إليه نفسه، وأكتب معك كتابًا بخطي فلا تفتضه ولا تطلعن فيه، حتى تصل إلى مدينة نيسابور، فإذا نزلتها فاعمل بما فيه وامتثله ولا تجاوزه إن شاء الله، وأنا موجه معك رجاء الخادم بكتاب أكتبه إلى علي بن عيسى بخطي ليتعرف ما يكون منك ومنه، وهون عليه أمر علي فلا تظهرنه عليه، ولا تعلمنه ما عزمت عليه، وتأهب للمسير وأظهر لخاصتك وعامتك أني أوجهك مددًا لعلي بن عيسى وعونًا له.

ثم كتب إلى علي بن عيسى كتابًا بخطه نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم، يا ابن الزانية، رفعت من قدرك، ونوهت باسمك، وأوطأت سادة العرب عقبك، وجعلت أبناء ملوك العجم خولك وأتباعك، فكان جزائي أن خالفت عهدي، ونبذت وراء ظهرك أمري، حتى عُثت في الأرض، وظلمت الرعية، وأسخطت الله وخليفته، بسوء سيرتك، ورداءة طُعمتك، وظاهر خيانتك، وقد وليت هرثمة ابن أعين مولاي ثغر خراسان وأمرته أن يشدد وطأته عليك، وعلى ولدك وكتابك وعمالك، ولا يترك وراء ظهوركم درهمًا ولا حقًّا لمسلم ولا معاهد إلا أخذكم به، حتى ترده إلى أهله، فإن أبيت ذلك وأباه ولدك وعمالك، فله أن يبسط عليكم العذاب، ويصب عليكم السياط، ويحل بكم ما يحل بمن نكث وغير، وبدل وخالف، وظلم وتعدى وغشم، انتقامًا لله عز وجل بادئًا، ولخليفته ثانيًا، وللمسلمين والمعاهدين ثالثًا، فلا تعرض نفسك للتي لا سوى لها، واخرج مما يلزمك طائعًا أو مكرهًا.»

وكتب عهد هرثمة بخطه ونصه: «هذا ما عهد هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى هرثمة بن أعين حين ولَّاه ثغر خراسان وأعماله وخراجه، أمره بتقوى الله وطاعته، ورعاية أمر الله ومراقبته، وأن يجعل كتاب الله إمامًا في جميع ما هو بسبيله، فيحل حلاله ويحرم حرامه، ويقف عند متشابهه، ويسأل عنه أولي الفقه في دين الله، وأولي العلم بكتاب الله، أو يرده إلى إمامه ليريه الله عز وجل فيه رأيه، ويعزم له على رشده. وأمره أن يستوثق من الفاسق علي بن عيسى وولده وعماله وكتابه، وأن يشد عليهم وطأته، ويحل بهم سطوته، ويستخرج منهم كل مال يصح عليهم من خراج أمير المؤمنين وفيء المسلمين، فإذا استنظف ما عندهم وقِبَلهم من ذلك، نظر في حقوق المسلمين والمعاهدين، وأخذهم بحق كل ذي حق حتى يردوه إليهم، فإن ثبتت قبلهم حقوق لأمير المؤمنين وحقوق المسلمين فدافعوا بها وجحدوها، أن يصب عليهم سوط عذاب الله وأليم نقمته، حتى يبلغ بهم الحال التي إن تخطاها بأدنى أدب، تلفت أنفسهم وبطلت أرواحهم، فإذا خرجوا من حق كل ذي حق فأشخصهم كما تشخص العصاة من خشونة الوطأة، وجشوبة المطعم والمشرب وغلظ الملبس مع الثقات من أصحابه إلى باب أمير المؤمنين إن شاء الله، فاعمل يا أبا حاتم بما عهدت إليك، فإني آثرت الله وديني على هواي وإرادتي، فكذلك فليكن عملك وعليه فليكن أمرك، ودبر في عمال الكور الذين تمر بهم في صعودك ما لا يستوحش معه إلى أمر يريبهم وظن يرعبهم، وابسط من آمال أهل ذلك الثغر ومن أمانهم وعذرهم، ثم اعمل بما يرضي الله منك وخليفته ومن ولاك الله أمره إن شاء الله، هذا عهدي وكتابي بخطي وأنا أشهد الله وملائكته وحملة عرشه وسكان سماواته وكفى بالله شهيدًا، وكتب أمير المؤمنين بخط يده لم يحضره إلا الله وملائكته.»

أمثلة تكشفت بها حقيقة إدارة الرشيد وبعد غوره في تراتيبه، ولقد رُفع إليه أن رجلًا بدمشق من بقايا بني أمية عظيم الجاه واسع الدنيا كثير المال والأملاك مطاعًا في البلد له جماعة وأولاد ومماليك وموالٍ، يركبون الخيل، ويحملون السلاح، ويغزون الروم، وأنه سمح جواد كثير البذل والضيافة، وأنه لا يؤمن منه، فعظم ذلك عليه، فاستدعى منارة صاحب الخلفاء وأمره بالخروج إلى دمشق، وضم إليه مائة غلام وأجله لذهابه ستة وإيابه ستة ويومًا لقعوده، وأمره أن يتفقد دار الرجل وجميع ما فيها وولده وأهله وحاشيته وغلمانه، وما يقولون وقدر النعمة والحال والمحل، فجاءه به في الميعاد المضروب وقص عليه ما سمعه ورآه، فعرف الرشيد أن الرجل محسود على النعمة مكذوب عليه، فأدناه واعتذر عن استدعائه، وقال له: سل ما تحتاج إليه من مصالح جاهك ومعاشك، فقال: عمال أمير المؤمنين منصفون وقد استغنيت بعدله عن مسألته من ماله، وأموري منتظمة وأحوالي مستقيمة، وكذلك أمور أهل البلد بالعدل الشامل في ظل دولة أمير المؤمنين، فأعاده إلى بلده على خير حال، ولم يترك للوشاة سبيلًا إليه.

ولقد توسع الرشيد في توسعة سلطة عماله، شخص الفضل بن يحيى إلى خراسان واليًا عليها فبنى فيها المساجد والرباطات، واتخذ بخراسان جندًا من العجم سماهم العباسية، وجعل ولاءهم لهم، وذكروا أن عدتهم بلغت خمسمائة ألف رجل وأنه قدم منهم بغداد عشرون ألف رجل فسموا ببغداد الكرنبية وخلف الباقي بخراسان على أسمائهم ودفاترهم، وكتب والي إرمينية للرشيد إلى وزيره أن قومًا صاروا إلى سبيل النصح، فذكروا ضياعًا بإرمينية قد عفت ودرست، يرجع منها إلى السلطان مال عظيم، وأني وقفت عن المطالبة حتى أعرف رأيك فكتب إليه: «قرأت هذه الرقعة المذمومة وفهمتها، وسوق السعاية بحمد الله في أيامنا كاسدة، وألسنة السعاة في أيامنا كليلة خاسئة، فإذا قرأت كتابي هذا فاحمل الناس على قانونك، وخذهم بما في ديوانك، فإنَّا لم نولك الناحية لتتبع الرسوم العافية، ولا لإحياء الأعلام الداثرة، وجنبني وتجنب بيت جرير يخاطب الفرزدق:

وكنتَ إذا حللت بدار قومٍ
رحلتَ بخزية وتركت عارًا

وأجرِ أمورك على ما يكسب الدعاء لنا لا علينا، واعلم أنها مدة تنتهي وأيام تنقضي، فإما ذكر جميل، وإما خزي طويل.»

ومما يُعد في توسيع السلطة أن قاضي الرشيد أبا يوسف كان أول من دُعي في الإسلام قاضي القضاة ولم يقع٣٦ هذا الاسم على غيره كما وقع له فيه، فإنه كان قاضي المشرق والمغرب، فهو قاضي القضاة على التحقيق، والقضاة يعينون باقتراحه، وكان القاضي في العواصم لا يتناول أقل من ألف دينار في السنة، وأجرى على قاضي مصر٣٧ مائة وثمانية وستين دينارًا في كل شهر، وهو أول قاضٍ أُجري عليه هذا، وأجروا بعد ذلك على القاضي سبعة دنانير كل يوم، ثم صار أبو الجيش يجري على قاضيه كل شهر ثلاثة آلاف دينار، وكانوا يجرون على القضاة والعمال الأرزاق من بيت المال من جباية الأرض أو من خراجها والجزية.

والرشيد لا يضن بالمال في سبيل الدولة، والمال وحده لا يكفي الخليفة أمر الفتوق التي تحدث إن لم يكن لها من يُوثق بأمانته في تلافي شرها، والرشيد على كثرة بذله المأثور خلف من المال «ما لم يخلف أحد مثله مذ كانت الدنيا»؛ وذلك أنه خلف من الأثاث والعين والورق والجوهر والدواب سوى الضياع والعقار ما قيمته مائة ألف ألف وخمسة وعشرون ألف ألف دينار. قال ابن الأثير: كان الرشيد يطلب العمل بآثار المنصور إلا في بذل المال فإنه لم يرَ خليفة قبله كان أعطى منه للمال، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن ولا يؤخر ذلك.

إدارة الأمين والمأمون

لم يعرف التاريخ شيئًا من التدبير الذي جرى عليه الأمين بعد الرشيد؛ لأنه كان يعبث وقلما يجد، وفرَّق ما في خزائن الدولة من الأموال والأعلاق والذخائر، حتى دالت الخلافة وضاعت بعد الرشيد، ولم يُرزق الأمين وزراء كوزراء أخيه: طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين والحسن بن سهل والفضل بن سهل ثم أحمد بن يوسف وعمرو بن مسعدة وأضرابهم، بل اصطنع من نبذهم أبوه الرشيد، وكان أقصاهم لسوء سيرتهم، فربح المأمون برجاله وعقله، وخسر الأمين برجاله وضعف تدبيره.

وبينا كان المأمون في مرو ينظر في أمور الدولة كان الأمين يوجه «إلى جميع البلدان في طلب الملهين وضمهم إليه، وأجرى لهم الأرزاق ونافس في ابتياع فره الدواب وأخذ الوحوش والسباع والطير وغير ذلك، واحتجب عن إخوته وأهل بيته وقواده واستخف بهم، وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجوهر في خصيانه وجلسائه ومحدثيه … وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته ومواضع خلوته ولهوه … وأمر بعمل خمس حراقات في دجلة على خلقة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس وأنفق في عملها مالًا عظيمًا.»

ولما حصر الأمين وضغطه٣٨ الأمر قال: ويحكم، أما أحد يُستراح إليه! فأتوه برجل من العرب فلما صار إليه قال له: أشر علينا في أمرنا، قال له: يا أمير المؤمنين، قد بطل الرأي اليوم وذهب، ولكن استعمل الأراجيف فإنها من آلة الحرب، فكان يضع له الأخبار فإذا مشى الناس تبينوا بطلانها، فالأمين كان يسف إلى ذلك، وأخوه المأمون يعمد إلى القواد والعظماء والعلماء الأعلام يستشيرهم ويأتمنهم.
وغلط المأمون لأول أمره ثلاث غلطات إدارية: منها أنه لم يأتِ إلى عاصمة ملكه عقيب مقتل أخيه فقضى في الطريق من مرو إلى بغداد سنتين بعد أن أقام بمرو تسع سنين، وكان عليه أن يبادر لجمع القلوب وكسر شوكة المتلاعبين من القواد، وبايع المأمون بولاية عهده إلى علي بن موسى الرضا وهو في خراسان فأخرج الخلافة من آل العباس، حتى أجمعوا على خلافه وبايعوا بالخلافة إبراهيم بن المهدي في بغداد وخلعوا طاعته، ومنها أنه سمع لوشاية وزيره الفضل بن سهل في هرثمة بن أعين الذي كان بحسن تدبيره العامل الأول في القضاء على جيوش أخيه الأمين وإيصال الخلافة للمأمون، وكانت أتت هرثمة كتب المأمون أن يلي الشام والحجاز فأبى وقصد إلى المأمون في خراسان٣٩ «إدلالًا منه عليه لما كان يعرف من نصيحته له ولآبائه وأراد أن يعرف المأمون ما يدبر عليه الفضل بن سهل، وما يكتم عنه من الأخبار وألا يدعه حتى يرده إلى بغداد دار خلافة آبائه وملكهم، ليتوسط سلطانه ويشرف على أطرافه، فعلم الفضل ما يريد فقال للمأمون: إن هرثمة قد أنغل عليك البلاد والعباد وظاهر عليك عدوك»، ولما أدخل هرثمة على المأمون وقد أُشرب قلبه ما أُشرب من ناحيته، ذكر له ما بلغه عنه مما افتراه الفضل، وذهب هرثمة يتكلم ويعتذر ويدفع عن نفسه ما قُرِّف به، فلم يقبل ذلك منه وأمر به فوجئ على أنفه وديس بطنه وسحب من بين يديه ثم قُتل.
وكاد المأمون يغلط غلطة رابعة بتخليه عن طاهر بن الحسين: «الذي أبلى٤٠ في طاعته ما أبلى، وافتتح ما افتتح، وقاد إليه الخلافة مزمومة، حتى إذا وطأ الأمر أُخرج من ذلك كله، وصير في زاوية من الأرض بالرقة، قد حُظرت عليه الأموال حتى ضعف أمره فشغب عليه جنده»، وتُنوسى حتى لا يُستعان به في شيء في الحروب، واستُعين بمن هو دونه أضعافًا، لكن عقل المأمون تدارك هذه الغلطات، وما إن جاء بغداد حتى قبض على قياد الملك قبضة الرجل الحازم، وظهرت مواهبه ونبوغه في السياسة والإدارة، في زمن غلبت الفتنة على قلوب الناس فاستعذبوها، ولا مال له يرضيهم به، وقال يتخوف هائجًا يهيج وبيوت المال فارغة: إن الناس في هذه المدينة على طبقات ثلاث: ظالم ومظلوم، ولا ظالم ولا مظلوم، فأما الظالم فليس يتوقع إلا عفونا وإحساننا، وأما المظلوم فليس يتوقع أن ينتصف إلا بنا، ومن كان لا ظالمًا ولا مظلومًا، فبيته يسعه.
وقيل: إن المأمون بكى لما رأى طاهر بن الحسين، فلما سُئل عن سبب بكائه قال: إني ذكرت محمدًا أخي (الأمين) وما ناله من الذلة فخنقتني العبرة، فاسترحت إلى الإفاضة، ولن يفوت طاهرًا مني ما يكره، فبلغ ذلك طاهرًا فركب إلى أحمد بن أبي خالد فقال له: إن الثناء مني ليس برخيص، وإن المعروف عندي ليس بضائع، فغيبني عن عينه، فسعى له بتولية خراسان، وكان قبل ولايته ندبه الحسن بن سهل للخروج إلى محاربة نصر بن شبث فقال: حاربت خليفة، وسقت الخلافة إلى خليفة، وأُؤمر بمثل هذا، وإنما يجب أن توجه لهذا قائدًا من قوادي، ثم وسد المأمون إلى عبد الله بن طاهر، وهو ابن طاهر بن الحسين، الرقةَ وحرب نصر بن شبث وولاه البلاد التي في طريقه ليكون حكمه نافذًا مهيبًا، مهيأة له أسباب الظفر من كل وجه، وذلك لئلا تتعارض السلطات، ويجمع القائد في العادة بين السلطة العسكرية والسلطة المدنية، وهذا من دقيق سياسة العباسيين، ولما أُسندت إلى عبد الله بن طاهر قيادة الجيش لقتال الخارجي ابن شبث كتب إليه أبوه طاهر بن الحسين كتابًا تنازعه٤١ الناس وكتبوه وتدارسوه وشاع أمره حتى بلغ المأمون فدعا به وقُرئ عليه، فقال: ما أبقى أبو الطيب شيئًا من أمر الدين والدنيا، والتدبير والرأي والسياسة وإصلاح الملك والرعية وحفظ البيضة، وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة، إلا وقد أحكمه وأوصى به، وتقدم وأمر أن يُكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحي الأعمال.
ومما ورد في هذا الكتاب في الإدارة: ولا تتهمن أحدًا من الناس فيما توليه من عملك قبل تكشف أمره بالتهمة، فإن إيقاع التهم بالبداء والظنون السيئة بهم مأثم، واجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك، واطرد عنك سوء الظن بهم وارفضه فيهم، يعنك٤٢ ذلك على اصطناعهم ورياضتهم، ولا يمنعنك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك، أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك، ولتكن المباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرعية، والنظر فيما يقيمها ويصلحها، والنظر في حوائجهم وحمل مئوناتهم آثر عندك مما سوى ذلك، وأقم حدود الله في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه، ولا تعطل ذلك ولا تَهاون به، ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة، فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك، واعتزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانب البدع والشبهات، يسلم لك دينك، وتستقم لك مروءتك، وإذا عاهدت عهدًا ففِ به، وإذا وعدت الخير فأنجزه، واقبل الحسنة وادفع بها، واغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور وأبغض أهله، وأقصِ أهل النميمة، فإن أول فساد أمرك في عاجل الأمور وآجلها٤٣ تقريب الكذوب، والجرأة على الكذب؛ لأن الكذب رأس المآثم، والزور والنميمة خاتمتها؛ لأن النميمة لا يسلم صاحبها وقائلها، ولا يسلم له صاحب، ولا يستقيم لمطيعها أمر، واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنها رأيك، وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك، وأنعم بالعدل سياستهم، وقم بالحق فيهم، وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى، واملك نفسك عند الغضب، وآثر الوفاء والحلم، وإياك والحدة والطيرة والغرور فيما أنت بسبيله، ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تذخر وتكنز، البر والتقوى والمعدلة واستصلاح الرعية، وعمارة بلادهم والتفقد لأمورهم، والحفظ لدمائهم، والإغاثة لملهوفهم، واعلم أن الأموال إذا كثرت وزخرت في الخزائن لا تثمر، وإذا كانت في إصلاح الرعية، وإعطاء حقوقهم وكف المئونة عنهم، نمت وربت، وصلحت بها العامة، وتزينت بها الولاة، وطاب بها الزمان، واعتقد فيها العز والمنعة، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، ووفر منه على أولياء أمير المؤمنين قِبَلك حقوقهم، وأوفِ رعيتك من ذلك حصصهم؛ وتعهد ما يصلح أمورهم ومعايشهم، فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة عليك، واستوجبت المزيد من الله، وكنت بذلك على جباية خراجك، وجمع أموال رعيتك وعملك أقدر، وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك وأطيب نفسًا لكل ما أردت.

وعاد فوضع له قواعد في حكمة الأخلاق لا تصلح بغيرها الولاية، فقال: «ولا تحقرنَّ ذنبًا، ولا تمالئن حاسدًا، ولا ترحمن فاجرًا، ولا تصلنَّ كفورًا، ولا تداهننَّ عدوًّا، ولا تصدقنَّ نمامًا، ولا تأتمننَّ غدارًا، ولا توالينَّ فاسقًا، ولا تبتغينَّ عاديًا، ولا تحمدنَّ مرائيًا، ولا تحقرنَّ إنسانًا، ولا تردنَّ سائلًا فقيرًا، ولا تجبين باطلًا، ولا تلاحظن مضحكًا، ولا تخلفن وعدًا، ولا ترهقن هُجرًا، ولا تظهرن غضبًا، ولا تأتين بذخًا، ولا تمشين مرحًا، ولا تركبن سفهًا، ولا تفطرن في طلب الأخرة، ولا تدفع الأيام عتابًا، ولا تغمض عن الظالم رهبة منه أو مخافة، ولا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا.»

قال: وأكثر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة، ولا تدخلن في مشورتك أهل الذمة والنحل ولا تسمعن لهم قولًا، فإن ضررهم أكثر من منفعتهم، وليس شيء أسرع فسادًا لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشح، واعلم أنك إذا كنت حريصًا كنت كثير الأخذ قليل العطية، وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلًا، فإن رعيتك إنما تعقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عنهم، وتفقد أمور الجند في دواوينهم ومكاتبهم، وأدرر عليهم أرزاقهم، ووسع عليهم في معايشهم، يذهب الله بذلك فاقتهم، فيقوى بك أمرهم، وتزيد به قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصًا وانشراحًا …

ثم ذكر له القضاء وإقامة العدل فيه «لتصلح الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم، وتحسن المعيشة، ويؤدى حق الطاعة»، إلى أن قال، بعد أن عرفه ما يفعل لحقن الدماء وإعطاء الحقوق: وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزًّا ورفعة، ولأهله سعة ومنعة، ولعدوه وعدوهم كبتًا وغيظًا، ولأهل الكفر من معاهديهم ذلًّا وصغارًا، فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم فيه، ولا ترفعن منه شيئًا عن شريف لشرفه ولا عن غني لغناه، ولا عن كاتب لك، ولا عن أحد من خاصتك وحاشيتك، ولا تأخذن منه فوق الاحتمال له، ولا تكلفن أمرًا فيه شطط، واحمل الناس كلهم على مر الحق، فإن ذلك أجمع لألفتهم، وألزم لرضا العامة، واعلم أنك جعلت بولايتك خازنًا وحافظًا وراعيًا، وإنما سُمي أهل عملك رعيتك؛ لأنك راعيهم وقيمهم، تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم، وتنفقه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم، فاستعمل عليهم في كور عملك ذوي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعمل والعلم بالسياسة والعفاف، ووسع عليهم في الرزق فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأُسند إليك، ولا يشغلنك عنه شاغل، ولا يصرفنك عنه صارف، فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك، وحسن الأحدوثة في عملك، وأحرزت به المحبة من رعيتك، وأعنت على الصلاح، فدرت الخيرات ببلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كورك، فكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتباط جندك، وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة، مرضي العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها ذا عدل وقوة وآلة وعدة، فنافس في هذا ولا تقدم عليه شيئًا تحمد مغبة أمرك إن شاء الله.

واجعل في كل كورة من عملك أمينًا يخبرك أخبار عمالك، ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله، معاين لأمره كله، وإن أردت أن تأمره بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك، فإن رأيت السلامة فيه والعافية، ورجوت فيه حسن الدفاع والنصح والصنع، فأمضه وإلا فتوقف عنه، وراجع أهل البصر والعلم به ثم خذ فيه عدته …

وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك، وأكثر مباشرته بنفسك، فإن لغد أمورًا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت، واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، وإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمر يومين، فيشغلك ذلك حين تعرض له، فإذا أمضيت لكل يوم عمله، أرحت نفسك، وبذلك أحكمت أمور سلطانك، وانظر أحرار الناس وذوي الشرف٤٤ منهم ممن تستيقن صفاء طويتهم، وشهدت مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح والمخالصة على أمرك، فاستخلصهم وأحسن إليهم، وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة، فاحتمل مئونتهم، وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم مسًّا، وأفرد نفسك للنظر في أمور الفقراء والمساكين، ومن لا يقدر على رفع مظلمة إليك، والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه، فسل عنه أحفى مسألة، ووكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك، ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك، لتنظر فيها بما يصلح الله به أمرهم، وتعاهد ذوي البأساء ويتاماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقًا من بيت المال.
وأجرِ للأضراء٤٥ من بيت المال، وقدم حملة القرآن منهم، والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دورًا تؤويهم، وقوامًا يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤدِ ذلك إلى سرف في بيت المال. واعلم أن الناس إذا أُعطوا حقوقهم وفضل أمانيهم، لم يرضهم ذلك ولم تطب أنفسهم، دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم، طمعًا في نيل الزيادة، وفضل الرفق منهم، وربما تبرم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه ويشغل فكره وذهنه منها، ما يناله به مئونة ومشقة.

وأكثر الإذن للناس عليك وأبرز للناس وجهك، وسكن لهم حواسك، واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بشرك، ولِن لهم في المسألة والمنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك، وإذا أعطيت فأعطِ بسماحة وطيب نفس، والتمس الصنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان، فإن العطية على ذلك تجارة مربحة … «واعرف ما تجمع عمالك من الأموال وينفقون منها، ولا تجمع حرامًا، ولا تنفق إسرافًا، وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم، وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأمور ومعاليها، وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيبًا فيك لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سر، وإعلامك ما فيه من النقص، فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك.

وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك فوقِّت لكل منهم في كل يوم وقتًا يدخل به عليك بكتبه ومؤامرته، وما عنده من حوائج عمالك وأمور كورك ورعيتك، ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك، وكرر النظر فيه والتدبر له، فما كان موافقًا للحزم والحق فأمضه، واستخر الله فيه، وما كان مخالفًا لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه والمسألة عنه، ولا تمنن على رعيتك ولا على غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير المؤمنين، ولا تضعن المعروف إلا على ذلك …»

أرأيتم هذا الكلام الآخذ بجماع الفؤاد الذي كتب به طاهر بن الحسين إلى ابنه قبل خمسين ومائة وألف سنة في هذا الموضوع الجليل الذي فيه قوام الممالك والشعوب؟ أتظنون أن هذه الأفكار يصدر اليوم أحسن منها عن أكبر عالم إداري عارف بطبائع الناس وما يصلحهم، والممالك وما ينبغي لها؟ وعرفنا من هذا الكتاب مكانة طاهر بن الحسين من قيام الدولة والدفاع عن حوزة الخلافة، وأن المأمون الذي يكون من جملة قوَّاده ورجال دولته هذا العظيم لا بد أن يكون في عمله جدُّ عظيم.

تقدم معنا أن عبد الله بن طاهر نُدب لحرب نصر بن شبث، فلما استأمن هذا وصفت البلاد، جاء الشام فعمل أحسن الأعمال لراحة أهلها واستقراها بلدًا بلدًا، لا يمر ببلد إلا أخذ من رؤساء القبائل والعشائر والصعاليك والزواقيل،٤٦ وهدم الحصون وحيطان المدن، وبسط الأمان للأسود والأبيض والأحمر وضمهم جميعًا، ونظر في مصالح البلدان وحط عن بعضها الخراج، ثم قصد إلى مصر فضرب على أيدي الخوارج فيها، وربطها بالخلافة ربطًا محكمًا، وكان نحو٤٧ الخمسة عشر ألفًا من أهل قرطبة جلوا من الأندلس بعد وقعة الربض في سنة ٢٠٢ فانتهوا إلى الإسكندرية فملكوها مديدة، فلما ورد عبد الله بن طاهر على مصر وصالحهم على التخلي عنها على مال بذله لهم، وخيرهم في النزول حيث شاءوا من جزائر البحر فاختاروا جزيرة إقريطش من البحر الرومي.

وكان من تربية طاهر بن الحسين أن جاء ابنه، كما قال له أحمد بن يوسف الكاتب، موفقًا في الشدة والليان في مواضعهما، ولا يعلم سائس جند ورعية عدل بينهم عدله، ولا عفا بعد القدرة عمن آسفه وأضغنه عفوه، قال: ولقل ما رأينا ابن شرف لم يُلْقِ بيده متكلًا على ما قدمت له أبوته. قال يونس بن عبد الأعلى: أقبل إلينا (في مصر) فتى حدث من المشرق، يعني ابن طاهر، والدنيا عندنا مفتونة، قد غلب على كل ناحية من بلادنا غالب، والناس في بلاء، فأصلح الدنيا وأمَّن البريء وأخاف السقيم واستوثقت له الرعية بالطاعة، ولقد قال المأمون لبعض جلسائه: من أنبل ما تعلمون نبلًا وأعفهم عفة؟ فجالوا بما فتح الله عليهم، وبعضهم مدحه وقرظه، فقال: ذلك والله أبو العباس عبد الله بن طاهر دخل مصر وهي كالعروس الكاملة، فيها خراجها وبها أموالها جمة، ثم خرج عنها فلو شاء الله أن يخرج منها بعشرة آلاف ألف دينار لفعل، ولقد كان لي عليه عين ترعاه، فكتب إليَّ أنه عُرضت عليه أموال لو عُرضت عليَّ أو بعضها لشرهت إليها نفسي، فما علمته خرج من ذلك البلد إلا وهو بالصفة التي قدمها فيها، إلا مائة ثوب وحمارين وأربعة أفراس، فمن رأى أو سمع بمثل هذا الفتى في الإسلام، فالحمد لله الذي جعله غرس يدي وخريج نعمتي.

هكذا كان عدل العمال وشرف أنفسهم، وهكذا كان علمهم وبعد نظرهم في عصر المأمون، فلا يستغرب بعد ذلك ما ذكر من قصة٤٨ تلك المرأة القبطية التي نادت المأمون لما مرَّ بقريتها طاء النمل٤٩ من أرض مصر وسألته أن يقبل قِراها، ليجعل لها الشرف ولعقبها بذلك، وأن لا يشمت بها الأعداء، وبكت بكاءً كثيرًا، فنزل عليها بجيشه ورجاله وكانت ضيافتها من فاخر الطعام ولذيذه، وفي الصباح بعثت إلى المأمون بعشر وصائف مع كل وصيفة طبق، في كل طبق كيس من ذهب، فاستحسن ذلك وأمرها بإعادته، فقالت: لا والله لا أفعل، فتأمل الذهب فإذا به ضرب عام واحد كله، فقال: هذا والله أعجب، وربما عجز بيت مالنا عن مثل ذلك! فقالت: يا أمير المؤمنين لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر بنا، فقال: إن في بعض ما صنعت لكفاية ولا نحب التثقيل عليك، فردِّي مالك بارك الله فيك؛ فأخذت قطعة من الأرض وقالت: يا أمير المؤمنين، هذا — وأشارت إلى الذهب — من هذا — وأشارت إلى الطينة التي تناولتها من الأرض — ثم من عدلك يا أمير المؤمنين، وعندي من هذا شيء كثير، فأمر به فأُخذ منها، وأقطعها عدة ضياع، وأعفاها من بعض خراج أرضها.

وفي الحق إنه لم يُعرف عصر كعصر المأمون وعصر أبيه وأخيه الأمين في استفاضة الأموال في كل طبقة من طبقات الأمة، فقد أنفق الحسن بن سهل على عرس ابنته بوران على المأمون أربعة آلاف ألف دينار، وماتت الخيزران أم الهادي والرشيد (١٧٣) وكانت غلتها ألف ألف وستين ألف ألف درهم، ومات محمد بن سليمان وقبض الرشيد أمواله بالبصرة وغيرها، فكان مبلغها نيفًا وخمسين ألف ألف درهم سوى الضياع والدور والمستغلات، وكان محمد بن سليمان يغل كل يوم مائة ألف درهم، وأنفق جعفر بن يحيى على داره التي ابتناها في دار السلام نحوًا من عشرين ألف ألف درهم، وغنَّى إبراهيم بن المهدي محمدًا صوتًا فأعطاه ثلاثمائة ألف درهم، فقال إبراهيم: يا سيدي قد أمرت لي إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم فقال: وهل هي إلا خراج بعض الكور!

ووقع للمأمون غير مرة أنه كان يخف إلى الأقطار التي تنشب فيها فتنة جديدة لا يعتمد على رجاله، على كثرة الصالحين منهم للعمل، ولما انتقضت أسفل الأرض كلها بمصر، عربها وقبطها، وأخرجوا العمال وخالفوا الطاعة، وكان ذلك لسوء سيرة العمال فيهم، هبط المأمون مصر لعشر خلون من المحرم سنة سبع عشرة ومائتين، وسخط على عامله عيسى بن منصور، وأمر بحل لوائه وأمر بلباس البياض وقال: لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك، حملتم الناس ما لا يطيقون وكتمتموني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد، وقال: ما فتق عليَّ قط فتق في مملكتي إلا وجدت سببه جور العمال. وقال لمن رفع إليه خبرًا في عامل: إني امرؤ أداري عمالي مداراة الخائف، وبالله ما أجد إلى أن أحملهم على المحجة البيضاء سبيلًا، فاعمل على حسب ذلك ولنْ لهم تسلم منهم.

وخص المأمون بالإغضاء عن المساوئ، والتغابي عن التفاهات، وحمل الناس على محمل الخير، وجهد أن يسوق إليهم كل خير، وهذا مع كثرة عنايته بالأخذ بأخبار عماله ورعيته، قيل: إنه كان للمأمون ألف عجوز وسبعمائة يتفقد بها أحوال الناس ومن يحبه ويبغضه ومن يفسد حرم المسلمين، وكان لا يجلس إلى دار الخلافة حتى تأتيه كلها، وكان يدور ليلًا ونهارًا مستترًا، ومع كل هذا كان المأمون أبدًا إلى جانب المسامحة والعفو، وتتجافى نفسه العظيمة عن كل ما تشتم منه رائحة الطمع والإسفاف إلى أموال العمال، وكادت المصادرات والنكبات تبطل في أيامه، ولا ينكب إلا من حاول نقض بنيان الدولة، ولقد رُفع إليه أن عمرو بن مسعدة أحد وزراء دولته، خلف ثمانين ألف ألف درهم، أو نحو ثمانية ملايين دينار، فوقَّع على الرقعة: «هذا قليل لمن اتصل بنا وطالت خدمته لنا، فبارك الله لولده فيه.»

وكأنه استفظع القتل الذي يصيب كل عدو للدولة فبسط جناح الرحمة، وقلل من إهلاك النفوس ما أمكن، وأقام نفسه مقام رجل يعرف الطباع البشرية، وينصف خصومه وأعداءه ويحسن إليهم ولا يسيء. كتب صاحب بريد همدان٥٠ إلى المأمون بخراسان يعلمه أن كاتب البريد المعزول أخبره أن صاحبه وصاحب الخراج كانا تواطآ على إخراج مائتي ألف درهم من بيت المال واقتسماها بينهما، فوقع المأمون: إنا نرى قبول السعاية شرًّا من السعاية، فإن السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس من دل على شيء كمن قبله وأجازه، فانفِ الساعي عنك، فلئن كان في سعايته صادقًا لقد كان في صدقه لئيمًا؛ إذ لم يحفظ الحرمة ولم يستر على أخيه.
وقال المأمون لولده في معنى الوشاة: «يا بني، نزهوا أقداركم وطهروا أحسابكم من دنس الوشاة وتمويه سعايتهم، فكل جانٍ يده في فيه، وليس يشي إليكم إلا أحد الرجلين: ثقة وظنين، أما الثقة فقد قيل: إنه لا يبلغ ولا يسيئن بالوشاية قدره، وأما الظنين فأهل أن يُتهم صدقه، ويُكذب ظنه، ويُرد باطله، وما سعى رجل برجل إليَّ قط إلا انحط٥١ من قدره عندي ما لا يتلافاه أبدًا، فلا تعطوا الوشاة أمانيهم فيمن يشون بهم.» ولئن لم يترك المأمون مجالًا للوشاة يخربون بيوت الناس، ويزيلون نعمتهم، أو يوردونهم موارد الهلكة، فما كان يخفى عليه خبر من الأخبار الخاصة والعامة في القاصية والدانية، حتى إنه لما ضاق صدره من تشدد بعض العلماء في حوار خلق القرآن، كتب إلى عامله بمعايبهم رجلًا رجلًا، وقال: إنه أعلم بما في منازلهم منهم، وخبر في هذه الرسالة عن عيب واحد واحد من الفقهاء وأصحاب الحديث وعن حالتهم وأمورهم التي خفيت أو أكثرها عن القريب والبعيد.

ولقد كان من أهم قوانين إدارة المأمون التوسعة على عماله حتى لا يسرقوا الرعية والسلطان ويضيعوا حقوقهم؛ رفع منزلة الفضل بن سهل وعقد له على الشرق طولًا وعرضًا وجعل عمالته ثلاثة آلاف ألف درهم، وما كان المأمون بالخليفة الذي يتخلى عن خاصة عماله لأدنى سبب، بل يغض الطرف عن مساويهم ويتركهم في بزخ بين الرغبة والرهبة؛ ولذلك استراح واستراح الناس معه، وعلى قدر ما كان يراعي الخاصة يراعي العامة، فقد قال في وصيته للخليفة بعده: ولا تغفل أمر الرعية والعوام؛ فإن الملك بهم وبتعهدك لهم، الله الله فيهم وفي غيرهم من المسلمين، ولا ينتهين إليك أمر فيه صلاح المسلمين ومنفعة إلا قدمته وآثرته على غيره من هواك، وخذ من أقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم في شيء، وأنصف بعضهم من بعض بالحق بينهم، وقرِّبهم وتأنَّ بهم.

وكان المأمون يحرص كل الحرص على الانتفاع برجاله، ويطلق لهم حريتهم في العمل، وممن كان يستمع لمشورتهم أحمد بن أبي داود، وهذا كان أول من افتتح الكلام مع الخلفاء، وكانوا لا يبدؤهم أحد حتى يبدءوه، ولما أسند٥٢ المأمون وصيته عند الموت إلى أخيه المعتصم قال فيها: وأبو عبد الله أحمد بن أبي داود لا يفارقك الشركة في المشورة في كل أمر؛ فإنه موضع ذلك، ولا تتخذن من بعدي وزيرًا. ومن جملة ما أوصى به المأمون أخاه المعتصم في مرضه: خذ بسيرة أخيك في القرآن والإسلام، واعمل في الخلافة إذا طوقكها الله عمل المريد لله، الخائف من عقابه وعذابه، ولا تغتر بالله ومهلته، وكأن قد نزل بك الموت، ومن ذلك عرفنا أن سياسة المأمون ملكه كانت علمًا وعملًا، وهكذا يريد أن يكون عماله، وعظه رجل فأصغى إليه منصتًا فلما فرغ قال: قد سمعت موعظتك فاسأل الله أن ينفعنا بها وربما عملنا، غير أنَّا أحوج إلى المعاونة بالفعال منا إلى المعاونة بالمقال، فقد كثر القائلون وقل الفاعلون.

كان في المأمون شيء من الجاذبية الفطرية يستميل بها القلوب ويجمعها على حبه، ذلك أنه كان يعرف أمزجة أمته فيشغلها في المفيد، ولا لغو ولا لهو في حياته، فكان بإدارته مثال الجد في الخوالف من بني العباس، يفكر في أمر رعيته أكثر من تفكيره في أمور نفسه، كتب إلى عامله على دمشق في التقدم إلى عماله في حسن السيرة وتخفيف المئونة وكف الأذى عن أهل محله، وأن يتقدم إلى عماله في ذلك أشد التقدمة، وأن يكتب إلى عمال الخراج بمثل ذلك، وكتب بهذا إلى جميع عماله في أجناد الشام، واستجلب المأمون لمساحة أرض الشام مساح العراق والأهواز والري، وكان يعدل الخراج إذا شكا منه أهله. كان العلاء بن أيوب لما ولي فارس من قبل المأمون يكتب عهد العمال فيقرؤه من يحضره من أهل ذلك العمل، ويقول: أنتم عيوني عليه فاستوفوه منه، ومن تظلم إليَّ منه فعليَّ إنصافه ونفقته جائيًا وراجعًا، ويأمر العمال أن يقرءوا عهده على أهل عمله في كل جمعة ويقول لهم: هل استوفيتم؟

أصاب أهل مكة سيل جارف مات تحته خلق كثير، فكتب والي الحرمين إلى المأمون يذكر له الحال، فوجه إليه المأمون بالأموال الكثيرة وكتب إلى الوالي: «أما بعد، فقد وصلت شكيتك لأهل حرم الله إلى أمير المؤمنين، فبكاهم بقلب رحمته، وأنجدهم بسيب نعمته، وهو متبع ما أسلف إليهم، بما يخلفه عليهم، عاجلًا وآجلًا، إن أذن الله في تثبيت عزمه على صحة نيته.» قالوا: فصار كتابه هذا آنس لأهل مكة من الأموال التي أنفذها. وكان له في كل بلد حوادث من الإحسان قلما يتسامى إليها أحد من الخلفاء، ذكر المؤرخون أن المأمون لما كان في دمشق أضاق إضاقة شديدة، ثم وافاه المال ثلاثون ألف ألف درهم، فقال ليحيى بن أكثم: أخرج بنا لننظر إلى هذا المال، فخرج وخرج الناس، وكان قد زين الحمل وزخرف، فنظر المأمون منه إلى شيء حسن كثير، فاستعظم الناس ذلك واستبشروا به، فقال المأمون: إن انصرافنا إلى منازلنا بهذا المال وانصراف الناس خائبين لؤم، فأمر كتابه أن يوقع لهذا بألف ألف ولذاك بمثلها ولآخر بأكثر منها حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورجله في الركاب، ثم حول الباقي على عرض الجيش برسم مصالح الجند.

عقد المأمون لأخيه أبي إسحاق على ثغر المغرب، ولابنه العباس على الشام والجزيرة، ولعبد الله بن طاهر على الجند ومحاربة بابك، وفرق فيهم ما لم يفرق مثله أحد مذ كانت الدنيا: أمر لكل واحد منهم بخمسمائة ألف دينار، وما كان المأمون يضن بمال إذا كان فيه صلاح الدولة والرعية، وخمسمائة ألف دينار يأخذها العامل ينفقها في أتباعه ورجاله ومروءته، وكانت نفقة المأمون كل يوم ستة آلاف دينار يصرف أكثرها على الرعية ولا يناله منها إلا جزء طفيف. كتب عمرو بن مسعدة إلى المأمون كتابًا يستعطفه على الجند ونصه: «كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قِبَلي من أجناده وقواده في الطاعة والانقياد على أحسن ما تكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم، واختلت أحوالهم.» فقال المأمون: والله لأقضين حق هذا الكلام، وأمر بإعطائهم ثمانية أشهر، وكتب بعض ولاة الأجناد إلى المأمون: إن الجند شغبوا ونهبوا، فكتب إليه: لو عدلت لم يشغبوا، ولو وفيت لم ينهبوا، وعزله عنهم، وأدرَّ عليهم أرزاقهم.

روى الجاحظ قال: حدثنا أحمد بن أبي داود قال: قال لي المأمون: لا يستطيع الناس أن ينصفوا الملوك من وزرائهم، ولا يستطيعون أن ينظروا بالعدل بين ملوكهم وحماتهم وكفاتهم وبين صنائعهم وبطانتهم، وذلك أنهم يرون ظاهر حرمهم وخدمهم واجتهادهم ونصحهم، ويرون إيقاع الملوك بهم ظاهرًا حتى لا يزال الرجل يقول ما أوقع به إلا رغبةً في ماله أو رغبة في بعض ما لا تجود النفس به، ولعل الحسد والملالة وشهوة الاستبدال اشتركت في ذلك، فلا يستطيع الملك أن يكشف للعامة موضع العورة في الملك، ولا أن يحتج لتلك العقوبة بما يستحق ذلك المريب، ولا يستطيع ترك عقابه لما في ذلك من الفساد على عمله بأن عذره غير مبسوط للعامة ولا معروف عند أكثر الخاصة.

ويتعذر تعداد أفضال المأمون على الأفراد، وحرصه على اختيار رجاله وعنايته بآرائهم وتجاربهم، وغرامه بالعفو والإحسان. قال أحمد بن أبي خالد وزير المأمون لثمامة بن أشرس: كل واحد في هذه الدار، أي في دار الخليفة، له معنى غيرك، فإنه لا معنى لك في دار أمير المؤمنين، فقال له المأمون: إن له معنى في الدار، والحاجة إليه بينة، قال: وما الذي يصلح له؟ قال: أشاوره في مثلك هل تصلح لمن معك أو لا تصلح؟ وثمامة هو من الجماعة الذين كانوا يغشون دار الخلافة٥٣ وهي دار العامة، ومنهم محمد بن الجهم والقاسم بن سيار، وكان هؤلاء الرجال أشبه بالمستشارين بل أشبه بدعاة الدولة، وعنوان الخلافة، هذا إلى ما هناك من شعراء وأدباء وعلماء وفقهاء يختلفون في الأحايين إلى الخليفة فيشاركهم في حديثهم، وينافسهم في صناعتهم، ويفضل عليهم من هباته، فيخرجون وألسنتهم تنطق بحمده، وتدعو بدوام ملكه، ويذكرون للعامة والخاصة ما هو عليه من بُعد النظر في سياسة الملك. قال الجاحظ: كان إبراهيم بن السندي مولى أمير المؤمنين عالمًا بالدولة شديد الحب لأبناء الدعوة، وكان يحوط مواليه ويحفظ أيامهم، ويدعو الناس إلى طاعتهم ويدرسهم مناقبهم، وكان فخم المعاني فخم الألفاظ، لو قلت لسانه كان أردَّ على هذا الملك من عشرة آلاف سيف شهير وسنان طرير لكان ذلك قولًا ومذهبًا.

أُرانا قد خرجنا من وصف إدارة المأمون إلى وصف سيرته، ونحن إلى ذلك مسوقون على الرغم منا، وأنَّى لنا أن نصدر حكمًا صحيحًا على حكومة مطلقة قبل أن نتعرف أخلاق رأسها خليفة كان أو ملكًا أو أميرًا، والرأس هو الكل في مثل هذه الدول، إذا صلح صلح الجسد كله.

الإدارة على عهد المعتصم وأخلافه

إذا ذُكر المعتصم فأول ما يتبادر إلى ذهن قارئ التاريخ الإسلامي أنه الخليفة الذي أشرك الترك في الخلافة العباسية وأبعد العرب عنها، اجتمع له من الأتراك أربعة آلاف فألبسهم أنواع الديباج والمناطق الذهبية، وأبانهم بالزي على سائر جنده، واصطنع قومًا من اليمن وقيس ومضر وسماهم المغاربة، وأعد رجال خراسان من الفراغنة والأشروسنية وغيرهم من الترك، فكانت جيوش المعتصم كثيرة مستعدة للقتال عند أقل إشارة، وكان السعد حليفه في غزواته للروم، قيل: إنه لما فتح٥٤ عمورية كانت عدة عساكره خمسمائة ألف فارس، وعلى مقدمته خمسمائة من الخيول البلق، وكانت الحاميات في الثغور أبدًا على أتم نظام، وارتفاع الثغور الشامية٥٥ نحو المائة ألف دينار٥٦ تُنفق في مصالحها من المراقب والحرس والفواثير والركاضة٥٧ والموكلين بالدروب والمخاوض والحصون وغير ذلك من الأمور والأحوال، وما يحتاج إلى شحنتها من الجنود والصعاليك،٥٨ وتنفق الدولة على مغازي الصوائف والشواتي في البر والبحر في السنة على التقريب مائتي ألف دينار، وعلى المبالغة ثلاثمائة ألف دينار. بيد أن المعتصم لم يكن بالنفقة على شيء أسمح منه بالنفقة على الحرب، وربما كان للمعتصم بعض العذر في ثقته بالأتراك في جيشه، وهم من القديم عُرفوا بالحرب واشتُهروا بالطاعة لقوَّادهم، ولكن هذه الغلطة الإدارية كان وبالها بعدُ على الدولة؛ لأن الأتراك تسللوا إلى الوزارات والقيادات، واستأثروا بالولايات والعمالات، فأصبح لهم بعدُ السلطان الحقيقي على البلاد، وللخلفاء صيغة غير عملية من الحكم.

أراد المعتصم أن يتشبه بأخيه المأمون فسار على أحكامه ونظامه، ومن أين له أن يشبهه بعلمه وحلمه، فقد ذكر واصفوه أنه كان قليل البضاعة من الأدب، وإذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل، وقالوا: إنه كان يحب العمارة ويقول: إن فيها أمورًا محمودة من عمران الأرض التي يحيا بها العالم، وعليها يزكو الخراج، وتكثر الأموال، وتعيش البهائم، وترخص الأسعار، ويكثر الكسب، ويتسع المعاش، ولطالما قال لوزيره محمد بن عبد الملك إذا وجدت موضعًا متى أنفقت فيه عشرة دراهم جاءني بعد سنة أحد عشر درهمًا فلا تؤامرني فيه، وأعطى أهل الشاش ألفي ألف درهم لكري نهر لهم اندفن في صدر الإسلام.

لم يبتدع المعتصم ولا ابنه الواثق شيئًا جديدًا في الإدارة لم يعرفه المأمون والرشيد، بل عاشا وعاشت الخلافة العباسية بعد ذلك بالأساس الذي وضعه المنصور للدولة، ولم يكن لها بعد منتصف القرن الثالث تلك الروعة التي كانت لها في عهد الخلفاء الأول، وقلَّ بعد المأمون الخلفاء النادرون بذكائهم وتجاربهم، فأُصيبت الخلافة بعد عظمائها بفتور، وأعمالهم بقلة الرواء والاتساق، ومن أهم الدواعي إلى هذا الانحطاط فساد الإدارة واختلال أحوال القضاء، وقد نشأ ذلك من شراهة نفوس العمال والوزراء وإضاعة الحقوق، ومن يصادر أو يموت عن عشرات أو مئات الألوف من الدنانير من هذه الطبقة كيف يصح لك أن تحكم عليه بالبراءة من مال السحت والرشا والسرقات، مساوئ ما فشت في أمة إلا ضاع حق سلطانها وحق رعيته.

كانت أهم عقوبة تقع على الظالم من العمال مصادرة الخليفة أو وزيره أو عامله الأكبر، وأصبح العمال في الدولة العباسية صورة عجيبة من استنزاف الأموال، وهم موقنون بأن مصيرهم بما جمعوه إلى المصادرة والقتل، وقل فيهم من كان يكتفي بما قرره له الخليفة أو العامل الأعظم من الجرايات والمشاهرات، وقد تكون على حد الكفاية وأكثر من الكفاية بالنسبة لتلك الأعصر، وما حدث فيها من وفرة الثروة وعوائد الترف والسرف، وللوزراء ومن يلونهم طرق إبليسية في السلب، والأرجح أن أهم موارد الوزراء والولاة كان من نهب جباية الدولة أو بيت مالها، ومن الهدايا التي يضطرون صغار عمالهم إلى تقديمها في كل فرصة، ومن رشا يتناولونها ممن يحاولون أن يستخدموا في أعمال الدولة، إلى غير ذلك من وجوه انتهاب الأموال وإعنات الناس، وكانت هذه الطبقة من الوزراء والكبراء تصوم وتصلي وتتعبد وتتصدق وتغار على الإسلام والدولة، ثم تجوز الاحتيال لأخذ الأموال؛ لأن الأبهة تقتضي التوسع في الإنفاق!

قال عامل مصر لأحد من زاره من وزراء العباسيين في الفسطاط فرأَى جسرًا يحتسب العمال عنه على السلطان ستين ألف دينار في كل سنة، وهو لا يكلف عشرة دنانير: إن جاريه ثلاثة آلاف في الشهر ولا يمكنه وهو عامل مصر أن يكون بغير كتاب ولا عمال ولا كراع ولا جمال ولا إعطاء ولا إفضال، وله حرم وأولاد وأقارب وأهل يحتاج لهم إلى مئونة، ولا يخلو أن يرد عليه زوار بكتب من الرؤساء فتقضي المروءة أن يبرهم ويصلهم، إلى غير ذلك مما يُصانع به، ومنها هدايا سنوية إلى الخليفة وأنجاله والسيدة والقهرمانة وكتابهم وأسبابهم، وبهذا رأينا أن العامل كان مضطرًّا بحسب مصطلح ذلك الزمان إلى أن يسد العجز في موازنته الخاصة من طرق غير مشروعة، وقل العف الجيد الطعمة، وكلما تقدم الزمن وزادت الخلافة العباسية عتقًا بليت الأخلاق في الناس وتبعها تقلقل الإدارة، لفسولة رأي القائمين بالدولة وتشعب أغراضهم.

ولقد كان الخلفاء على الأكثر يتخيرون للولايات والوزارات أكتب الناس وأعلمهم، وللقضاء أقضاهم وأفتاهم، وحظوة الرجل عند قومه قد تكون من بواعث إسناد كبار الأعمال إليه خصوصًا الوزارات والولايات والقيادات، وأَتى زمن بعد المعتصم والوزير أعجم طِمطم لا يفهم ولا يُفهم، وأصبح أنصار الدولة والغُيُر عليها يتأففون ممن لا يحسنون العربية، وإن كان منطويًا على صفات أخرى صالحة في تدبير الملك؛ وذلك لكثرة من دخل في الأعمال من غير العرب، وكان معظم العمال يحاولون أن يجروا الرعية على المعاملات القديمة، ويحملوهم على الرسوم السليمة، ولكن تطلب أنفس الولاة والعمال إلى العبث بحقوق الناس، ليجنوا من ذلك ما تتلمظ له شفاههم من المغانم، كان الباعث على استشراء الفساد في معظم طبقات المجتمع.

ثم أصبح بعض العظماء٥٩ ينفرون من الوزارة؛ لأن خاتمة حياتهم التقتيل، ولأن مصير أموالهم وأموال ذويهم كان في الغالب إلى المصادرة والاغتصاب، ولقد عمت المصادرة سائر رجال الحكومة حتى الرعية، وأصبحت بتوالي الأيام المصدر الرئيسي لتحصيل المال؛ فالعامل يصادر الرعية، والوزير يصادر العمال والخليفة يصادر الوزراء، ويصادر الناس على اختلاف طبقاتهم، حتى أنشأوا للمصادرة ديوانًا خاصًّا مثل سائر دواوين الحكومة؛ فكان المال يُتداول بالمصادرة كما يُتداول بالمتاجرة.
غضب المعتصم على وزيره الفضل بن مروان وأخذ منه عشرة آلاف ألف دينار ثم نفاه، ثروة ضخمة لو فكر الفضل أن يخلع طاعة الخليفة وينشئ بها ملكًا له لما أعجزه ذلك، وغضب الواثق على كتاب الدواوين وسجنهم وأخذ منهم ألفي ألف دينار، وفيهم بعض الوزراء ومن كانوا في منزلتهم، وقلَّ أن كان الوزير ينجو من نكبة إذا طالت أيامه، وأيقن الخليفة أنه اغتنى وعبث بأموال الدولة، أو حفزت الحاجة أحد الخلفاء إلى المال فتفقده في خزائنه فلم يجده، ولم يعهد لوزير أن وزر وزارة واحدة بلا صرف لثلاثة خلفاء متسقين إلا محمد بن عبد الملك الزيات، وانتهى أمره بحرقه في التنور ومصادرة أمواله، وكان من العلم والأدب في الذروة العليا، وكان سلفه في وزارة المعتصم أحمد بن عامر الذي وصفه ووصف نفسه بقوله: «خليفة أمي ووزير عامي.»٦٠
قال الوزير ابن الفرات: تأملت ما صار إلى السلطان من مالي فوجدته عشرة آلاف ألف دينار، وحسبت ما أخذته من الحسين بن عبد الله الجوهري فكان مثل ذلك، فكأنه لم يخسر شيئًا؛ لأنهم كانوا يقبضون بالمصادرة ويدفعون بالمصادرة، وإذا صودر أحدهم على مال لم يكن في وسعه أداؤه كله معجلًا أجَّلوه بالباقي وساعدوه على تحصيله وجمعه. وتعددت أسباب المصادرة وجهاتها حتى أصبح كل صاحب مال أو منصب عرضة لها، وكانت وزارة ابن الفرات ثلاث سنين وثمانية أشهر واثني عشر يومًا٦١ — وولي الوزارة ثلاث مرات — وطولب بأمواله وذخائره فاجتمع منها مع ودائع كانت له سبعة آلاف ألف دينار، فيما حُكي عن الصولي، وكان مشاهدًا ومشرفًا على أخبارهم، قال: وما سمعنا بوزير جلس في الوزارة وهو يملك من العين والورق والضياع والأثاث ما يحيط بعشرة آلاف ألف غير ابن الفرات.
كان الواثق في حلمه وحسن خلقه يشبه عمه المأمون؛ يحب العدل ويعطف على أهل بيته ويتفقد رعيته، حشم٦٢ الأمراء عن الظلم، وكان يجلس لحساب الدواوين بنفسه، وترك جباية أعشار سفن البحر، وكان مالًا عظيمًا، وقيل: إنه سد باب اللهو والغناء أما هو فكان يسمع المغنيات ولا يتبذل ولا يسرف، واشتد على الناس كأبيه وعمه في مسألة خلق القرآن حتى قيل: إنه أمر في سنة ٢٣١، وهي سنة الفداء بين المسلمين والروم، أن يمتحن٦٣ أسارى المسلمين، فمن قال: القرآن مخلوق وأن الله لا يُرى في الآخرة فودي به وأُعطي دينارًا، ومن لم يقل ذلك تُرك في أيدي الروم.

كان لولي العهد في الممالك الثلاث التي قسمها الواثق بين أولاده، أو المملكة العباسية بأجمعها، الصلاة والمعاون، أي الشحنة والشرطة، والقضاء والمظالم والخراج والضياع والغنيمة والصدقات وغير ذلك من حقوق أعمالها، وما في عمل كل واحد منها من البريد والطراز وخزن بيوت الأموال ودور الضرب، يستخلفون على القطر الكبير حربًا وخراجًا، ويفوضون الأمور كلها للعامل يأذن إليه في الحل والعقد بغير استئماز ويخلعون عليه سوادًا، أي إن القطر الواحد بل المصر الواحد يُحكم برأي عامله وجماعة ممن يختارهم لمشورته ومعاونته، فينظر في الأمور بحسب فهمه وما يوحيه إليه المحيط والعادة والعرف، ويطبق الأحكام الشرعية على الكبير والصغير والملِّي والذمي، وينصب العامل الأكبر في الولاية العمال من ذوي الرأي والتدبير والخبرة والعلم بالسياسة، ويشاور الفقهاء وأرباب التجارب، وينفق من المال ما تصلح به الولاية، وما يوسع به على القرَّاء والفقراء وذوي الحاجات، وما تقتضيه من عطاء الجند وتقوية الثغور وشحن المصالح، ثم يبعث بالباقي من الأموال إلى الخليفة، وللخليفة الخطبة والسكة، فإذا كان العامل يحسن عمله، ويعرف مدى التبعة الملقاة عليه، يستسيغ الخراج إن كان ذا قوة، أو آنس من جانب الحضرة ضعفًا، ولا يرجع في العادة إلى استشارة العاصمة إلا في عويص المسائل التي يمكن تأجيلها، وتكون من حقوق الخليفة داخلة في أمهات المسائل الكبرى في الدولة، وقد يجتهد ويرتكب غلطًا فتصرفه العاصمة إن أحسته أو توجعه في العقوبة، كما فعل المنصور لما بلغه ضرب عامله على المدينة عالمها مالك بن أنس فشق ذلك على الخليفة وأهان عامله وصرفه، ولكن كانت كتف مالك قد زالت عن مكانها بالضرب المبرح، فالعامل في الحقيقة هو الملك الفعلي، ولا يسع العاصمة إلا أن تقره على ما يقرر ويدبر في أكثر الحالات، وقد ظهرت مضارُّ هذه الطريقة عندما كانت العاصمة تعجز عن ضبط كل شيء من أمور الولايات لضعف الخلافة ووناء القائم على سدتها، وإذا كان هناك قضاة وولاة وناظرون ومفتشون وكتَّاب وحسَّاب فإن التنفيذ يختلف قوة وضعفًا بحسب كفاية العامل وسلطان الخليفة والوزير.

خلع المتوكل على عبيد الله بن يحيى وأمر أن لا يعرض أحد من أصحاب الدواوين على الخليفة شيئًا، وأن يدفعوا أعمالهم إلى وزيره ليعرضها، وأجرى له في كل شهر عشرة آلاف درهم، لما كان في نفسه من الأتراك واستبدادهم بالأمر، فكان عهده عهد جذب ودفع بين أصحاب الخلافة ومن رفعهم المعتصم على رقاب الناس من الترك، وعلق المتوكل يداوي الأمراض البادية في جسم الدولة بإنفاق المال الذي جمعه المأمون والمعتصم والواثق على نحو ما فعل الأمين؛ وهذا فرَّق ما جمعه السفاح والمنصور والمهدي والرشيد من الأموال، فقال الناس: إن أيام المتوكل كانت في حسنها ونضارتها ورفاهية العيش فيها ورخص أسعارها وحمد الخاص والعام لها ورضاهم عنها أيام سراء لا ضراء. نعم كان هذا الخليفة منفاقًا لا يحسن تدبير خرجه، وله مع هذا عناية خاصة بديوان زمام النفقات، أنفق ما أنفق مما ادخره أجداده في بيوت أمواله، فكان هذا منه تدبيرًا مؤقتًا غير ناجح، وما استطاع أن يداوي ما تجلى من تسلط الأتراك على الدولة في عامة أقطارها وأعمالها.

شدد على أهل الذمة لما أيقن أنهم كانوا يتطلعون إلى دولة الروم ويعملون ما يخالف مصلحة الدولة، وأمر بإجلاء النصارى عن حمص؛ لأنهم كانوا يعينون الثوار من اليمانيين، والثورة لا تكاد تنطفئ كل حين من حمص حتى سُميت الكوفة الصغرى؛ لكثرة قيام أهلها على العمال، كما خصت تونس بالتشغب والقيام على الأمراء والخلاف للولاة.

وجاء المنتصر يقاوم العلويين كأبيه المتوكل ويكتب إلى عامل مصر (٢٤٧) أن لا يُقَبل علوي ضيعة، ولا يركب فرسًا، ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطرافها، وأن يمنعوا من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد، وإن كانت بين العلوي وبين أحد خصومة قُبل قول خصمه فيه ولم يُطالب ببينة؛ ذلك لأن العلويين ما ناموا ساعة عن المطالبة بالملك، فمثل هذا الأمر يضيق عليهم دائرة حركتهم، وإن كان في بعض ما يرمي إليه غير عادل.

إدارة المعتز والمهتدي والمعتمد

تولى المعتز الخلافة فأمر بإحضار جماعة ممن صفت أذهانهم، ورقت طباعهم، ولطف ظنهم، وصحت نحائزهم، وجادت غرائزهم، وكملت عقولهم بالمشورة، وحاول أن يتخلص من الأتراك وكانوا تأصلوا في جسم الدولة وروحها، وكانوا كثروا، وأي كثرة، في العاصمة والولايات، وقُدرت أرزاقهم وأرزاق المغاربة والشاكرية في سنة ٢٥٢ فكان مبلغ ما يحتاجون إليه في السنة مائتي ألف ألف دينار، وذلك خراج المملكة لسنتين، فإذا تأخر عطاؤهم فهناك المؤامرات والمشاغبات وخوف البدوات والنزوات والوثوب بالدولة.

وأُسندت إمارة مصر لأحمد بن طولون (٢٥٤) من الأتراك، واستبد بجميع أعمال مصر لما وسد إليه أمر الأموال، وكان الأمير في مصر من قبل ليس له إلا الجند والشرطة وللعامل النظر في الأموال، وكلاهما يراقب صاحبه، وهما متساويان في المكانة وربما تقدم العامل على الأمير. والأقباط منذ كان الإسلام يتولون النظر في الأموال؛ فتنظر إليهم الأمة نظرها إلى الصل والثعبان، ويراهم صاحب الأمر مختلسين، وكانت جمهرة جيش ابن طولون من المماليك والديالمة يشتريهم كما يشتري الرقيق، وبلغت عدتهم أربعة وعشرين ألف مملوك وأربعين ألفًا من العبيد الزنج ومن العرب وغيرهم. أما ابنه خمارويه فقيل: إن عدة جيشه بلغت أربعمائة ألف فارس، وحسنت حال مصر على عهد ابن طولون ودرَّ خراجها واستفاض عمرانها على كثرة ما سُفك من الدماء، ولما انقرض الطولونيون خلفتهم الدولة الإخشيدية٦٤ فسارت على خطتها في إدارة مصر ولكن ليس المقلِّد كالمقلَّد.

تولى المهتدي (والدنيا كلها مفتونة) فحاول، إعادة الخلافة إلى رونقها، وأمر بإخراج الفتيان والمغنين والمغنيات من سامرَّا ونفاهم إلى بغداد، وأمر بقتل السباع وطرد الكلاب وإبطال الملاهي ورد المظالم، وجلس ليرفعها فُرفعت إليه قصص في الكسور، فسأل عنها فقال وزيره سليمان بن وهب شيئًا في تاريخ الخراج منذ عهد عمر إلى عهد المنصور فأجاب المهتدي: معاذ الله أن ألزم الناس ظلمًا تقدم العمل به ولو تأخر، أَسقِطوه عن الناس، فقال أحدهم: إن أسقط أمير المؤمنين هذا ذهب من أموال السلطان في السنة اثنا عشر ألف ألف درهم، فقال المهتدي: عليَّ أن أقرر حقًّا وأزيل ظلمًا، وإن أجحف ببيت المال.

وكان المهتدي آخر الخلفاء الذين كانوا يتولون بأنفسهم القضاء والمظالم، وربما كانوا يجعلون القضاء والمظالم لقضاتهم كما فعل عمر مع قاضيه أبي إدريس الخولاني وكما فعل المأمون مع يحيى بن أكثم والمعتصم مع أحمد بن أبي داود، وربما كانت تُجعل قيادة الجيوش للقضاة، وكان يحيى بن أكثم يخرج أيام المأمون بالصائفة إلى أرض الروم، وكان تولية هذه الوظائف إنما تكون للخلفاء أو من يجعلون ذلك له من وزير مفوض أو سلطان متغلب.

ولما همَّ الجند بقتل المهتدي خطبهم فقال: أما دين؟ أما حياء؟ كم يكون هذا الخلاف على الخلفاء، والإقدام والجرأة على الله، سواء عليكم من قصد الإبقاء عليكم، ومن كان إذا بلغه مثل هذا عنكم دعا بأرطال الشراب فشربها سرورًا بمكروهكم، وحبًّا ببواركم، ثم ذكر لهم أنه لم يصل إليه من دنياهم شيء وأنه ليس في منازل إخوته وولده فرش أو وصائف أو خدم أو جوارٍ ولا لهم ضياع ولا غلات، وكان حقيقةً مقلًّا من اللباس والفرش والمطعم، وأمر بخراج آنية الذهب والفضة من الخزائن فكُسرت وضُربت دنانير ودراهم، وعمد إلى الصور التي كانت في المجالس فمُحيت.٦٥

وجيء بالمعتمد فقسم المملكة بين ابنه وأخيه الموفق، فغلب أخوه عليه وشُغل هو بلذاته، وكثر دخول الزعانف في القبض على الأعمال والفتن منتشرة؛ ومن أهمها فتنة صاحب الزنج، والموفق يقود العساكر، ويرابط ويرتب الوزراء والأمراء، وقيل: إن المعتمد احتاج إلى ثلاثمائة دينار فلم يجدها فقال:

أليس من العجائب أن مثلي
يرى ما قلَّ ممتنعًا عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعًا
وما من ذاك شيء في يديه
وطالت أيام المعتمد ولم يُؤثر عنها إبداع جديد في الإدارة والسياسة، وكان ديوان الموفق مائة ألف مرتزق، وكان المعتضد حسن الإدارة، عمرت٦٦ مملكته، وكثرت الأموال وضُبطت الثغور، كان قوي السياسة شديدًا على أهل الفساد، وكان ولِّي والدنيا خراب والثغور مهملة، فقام قيامًا مرضيًا فسكنت الفتن، وصلحت البلدان وارتفعت الحروب، ورخصت الأسعار، وهدأ الهيج، وسالمه كل مخالف، ودانت له الأمور، وانفتح له الشرق والغرب، وأُديل له من أكثر المخالفين، وكان سريع٦٧ النهضة عند الحادثة، قليل الفتور، يتفرد بالأمور، ويمضي تدبيره بغير توقف، ولِّي الأمر بضبط وحركة وتجربة، وكف من كان يتوثب ويتشغب من الموالي.

وأمر المعتضد بافتتاح الخراج في النيروز المعتضدي وهو في حزيران من شهور الروم، وذلك للرفق بالناس، وكتب إلى الأقطار برد الفاضل من سهام المواريث على ذوي الأرحام، وإبطال ديوان المواريث، وكان من قبل يلحق كثيرًا من الناس إعنات في مواريثهم، ويتناول على سبيل الظلم من أموالهم، ويتقلد جبايتها أناس يجرون مجرى عمال الخراج، شيء لم يكن في خلافة من الخلافات إلى أن مضى صدر من خلافة المعتمد، فجرى العمل بذلك على سبيل تأول، فأزال المعتضد ذلك وأمر أن يرد على ذوي الأرحام ما أوجب الله ورسوله وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود، وأن تُرد تركة من مات من أهل الذمة ولم يخلف وارثًا على أهل ملته، وأن يصرف جميع عمال المواريث في النواحي ويبطل أمرهم، ويرد النظر في أعمال المواريث إلى الحكام، وكانوا يرتادون القضاة من أهل البلاد نفسها.

وللمعتضد مذهب جميل في سياسة عماله؛ بلغه أن عامله على فارس أظهر أبهة في ولايته، وأنفق ما وقعت له به هيبة في نفوس الرعية، فسأل عن رزقه فقيل له: ألفان وخمسمائة دينار في الشهر، فقال: اجعلوها ثلاثة آلاف ليستعين بها على مروءته.٦٨ وكُتب إليه في عامل عجز في ضمانه وهو مسجون بأنه كان في أيام ولايته يفرق عشرين كرا حنطة في كل شهر على حاشيته والفقراء والمساكين من أهل معرفته، وأنه فرق ذلك في هذا الشهر على عادته، فقال: سرني قيامه بمروءته ومعروفه، وعفاه من أداء مبلغ كان يُطالب به، ورده إلى عمله وأحمد ما كان منه.
سارت الخلافة في طريق سوي على عهد المعتضد لسطوته ومهابته وعفته وإمساكه، فكان مع حرصه على إبقاء سلطانه يخافه عماله ويكفون عن المظالم، واستعمل بعضهم الشدة في حفظ الأمن، بلغ عامله بدمشق٦٩ أن رجلًا أعرابيًّا في أذرعات نتف خصلتين من شعر أحد فرسان الدولة، فطلب الوالي معلمًا يعلم الصبيان وقال له: تخرج إلى اليرموك وأعطيك طيورًا تكون معك فإذا دخلت القرية فقل لهم: إني معلم جئت أطلب المعاش وأعلِّم صبيانكم، فإذا تمكنت من القرية فارصد لي الأعرابي الذي نتف سبال الفارس وخذ خبره واسمه، فإذا رأيته قد وافى أرسل الطيور بخبره، ثم قبض على الأعرابي وقطع رأسه وصلبه وضرب الجندي مائة عصا وأسقط اسمه من الديوان؛ لأنه استخذى للأعرابي حتى فعل بسباله ما فعل.
كان من جميل سيرة المعتضد مع عماله وخوفه البطش بهم إذا جنوا ما يعاقبون عليه، أنه إذا نكب رجلًا من جلة العمال ورؤسائهم وكل به من يحفظه من قبله وشدد الوصية في صيانته، ويظهِر أن هذا التوكيل للمطالبة وزيادتها والتشدد فيها لا ليحفظ نفسه، لئلا يطمع العامل، وكان يقول: هؤلاء أكابر من العمال الذين قامت هيبتهم في نفوس الرعية وعرفوا أقطار البلاد، وهم أركان الدولة وأعضاء الوزارة والمرشحون لها، فإن لم تحفظ نفوسهم فسد الأمر. وهذه هي الغاية في الوقوف على نفسية العمال وحفظهم في أنفسهم، ومع هذه المسامحة واللين لم يرتفع السواد سواد العراق لأحد بعد عمر بن الخطاب بمثل ما ارتفع له أيام المعتضد،٧٠ وجمع تسعة آلاف ألف دينار فاضلة عن جميع النفقات وأراد أن يسبكها نقرة واحدة إذا أتمها عشرة آلاف ألف ويطرحها على باب العامة ليبلغ أصحاب الأطراف أن له عشرة آلاف ألف دينار وهو مستغنٍ عنها «بعد النفقات الراتبة والحادثة، وإطلاق الجاري للأولياء في سائر النواحي وجميع المرتزقة بها وبالحضرة.»

الإدارة على عهد المكتفي والمقتدر وكلام في الوزراء

اكتفى المكتفي بنهج منهج والده المعتضد في الإدارة، وكان وزيره العباس بن الحسن يقول لنوابه بالأعمال: أنا أوقع لكم وأنتم افعلوا ما فيه المصلحة، وقد كان يأخذ الوزير سبعة آلاف دينار في الشهر راتبًا، ومن الكبراء من فادوا بخمسمائة ألف دينار ليصلوا إلى الوزارة، ومنهم من أعطوا المنجمين مائة ألف دينار ليحتالوا على الخليفة ويغيروا خاطره على أحد وزرائه ثم يتوصلون إلى منصب الوزارة، دليل ناصع أن الخلفاء انحطوا والوزراء كذلك.

بيد أن قواعد الدولة لم تتزلزل دفعة واحدة؛ لأن المعتضد ثبت قواعدها، ومن يجيء بعده مهما ارتكب من الأغلاط لا يقضي على عامة التراتيب الموضوعة للخلافة منذ سنين، وقد خلف المكتفي في بيوت الأموال من العين ثمانية آلاف ألف دينار، ومن الوِرق خمسة وعشرين ألف ألف دينار، وفي رواية أنه خلف مائة ألف ألف دينار عينًا وعقارًا وأواني بمثلها.

واستُخلف المقتدر طفلًا، ووالدته وخالته وأم ولد المعتضد تدير الملك، حتى إن هذه السيدة جلست بالرصافة للمظالم تنظر في الكتب يومًا في كل جمعة، فأنكر الناس ذلك واستبشعوه وكثر عيبهم عليه والطعن فيه، ولم يكن في جلوسها أول يوم طائل، وفي اليوم الثاني أحضرت القاضي فحسن أمرها وخرجت التوقيعات عن سداد، فانتفع بذلك المظلومون وسكن الناس إلى ما كانوا نافرين من قعودها ونظرها، فالمقتدر في سنيه الأولى خصوصًا كان يتدبر بآراء النساء والحاشية، والسيدة وقهرماناتها ومن يجري مجراهن من نساء القصر، يتحكمن في كل أمر ويتدخلن في العزل والنصب، وأمروا صاحب الشرطة ببغداد أن يُجلس في كل ربع من الأرباع فقيهًا يسمع من الناس ظلاماتهم، ويعتني بمسائلهم حتى لا يجري على أحد ظلم، وأمروه ألا يكلف الناس ثمن الكاغد الذي تُكتب فيه القصص وأن يقوم به، وألا يأخذ الذين يشخصون مع الناس أكثر من دانقين في أجعالهم.

ورد المقتدر رسوم الخلافة٧١ إلى ما كانت عليه من التوسع في الطعام والشراب وإجراء الوظائف، وكان في داره أحد عشر ألف خادم خصي من الروم والسودان، وزاد في أرزاق بني هاشم وأعاد الرسوم في تفريق الأضاحي على الفقراء والعمال وأصحاب الدواوين والقضاة والجلساء، وأسرف في الأموال فمحق من الذهب ثمانين ألف ألف دينار٧٢ وفرق في خمس وعشرين سنة ما جمعه المنتصر والمهتدي والمعتمد والمعتضد والمكتفي.

قيل: إنه كان بين ابن زبر القاضي وبين علي بن عيسى الوزير عداوة، وعجز ابن زبر عن رضاه فألقى رقعة في ورق المظالم، وفيها أن رجلًا من خراسان رأى في ثلاث ليالٍ متوالية العباس بن عبد المطلب في وسط دار السلام يبني دارًا، فكلما فرغ من موضع تقدم رجل لهدمه، فقال له: يا عم رسول الله من هذا الذي بُليت به؟ فقال: هذا علي بن عيسى كلما بنيت لولدي بناء هدمه، فقُرئت الرقعة على المقتدر فقال: إن هذه الرؤيا صحيحة يُصرف علي بن عيسى ويُقبض عليه، فما جاء آخر النهار حتى وافى ابن زبر ومعه عهده بقضاء مصر ودمشق، فإن صحت هذه القصة كان تصديق المقتدر حيلة القاضي من أغرب ما أُثر من ضعف العقول.

وعلي بن عيسى هذا أكبر وزراء ذاك العهد ومن الأسر العريقة في خدمة الدولة منذ أيام المعتضد٧٣ كان من الثقة والصيانة والصناعة على جانب، عامل المصادرين من الوزراء والعمال بالرفق، وكتب إلى كل واحد من العمال بما جرت العادة به من تشريف أمير المؤمنين إياه بالخلع، ورد أمر الدواوين والمملكة إليه، وأقرهم على مواضعهم، وأمرهم بالجد والاجتهاد في العمارة، وكتب إليهم بإنصاف الرعية والعدل عليها، ورفع صغير المؤن وكبيرها عنها، كما كان يطالب بتوفير حقوق السلطان وتصحيحها وصيانة الأموال وحياطتها، ونظر إلى من تعود اقتطاع الأموال السلطانية وإقامة مروات نفسه فيها، وقصر في العمارة واعتمد غيره، وعمر الثغور والبيمارستانات وأدر الأرزاق لمن ينظر فيها، وأزاح علل المرضى والقوام، وعمر المساجد الجامعة وكتب إلى جميع البلدان بذلك، ووقع إلى العمال وكتب إليهم في أمر المظالم وأمر بأن يُستوفى الخراج بغير محاباة للأقوياء، ولا حيف على الضعفاء، وساس الناس أحسن سياسة، ورسم للعموم الرسوم الجميلة، وأنصف الرعية وأزال السنن الجائزة، ودبر أمر الوزارة والدواوين وسائر أمور المملكة بكفاية تامة وعفاف وتصون حتى أسقط الزيادات في إقطاعات الجند والعمال وغيرهم، لما رأى نفقات السلطان زائدة على دخله زيادة مفرطة تحوج إلى هدم بيوت الأموال وصرفها في نفقات يُستغنى عنها.
وكان يجري على خمسة وأربعين ألف إنسان جرايات تكفيهم، وخدم السلطان سبعين سنة لم يزِل فيها نعمة عن أحد. قال الصولي: ولا أعلم أنه وزر لبني العباس وزير يشبهه في زهده وعفته؛ بلغه أن أسارى المسلمين في الروم ساء حالهم وأن الروم يحاولون تنصيرهم فغمه ذلك، ولما كان يعرف أن الخليفة لا يريد قتال الروم عمد إلى طرق سلمية فندب بطريق أنطاكية وجاثليق القدس أن يكتبا إلى الروم كتابًا يقبحان هذه المعاملة ويتوعدان، فاضطرت دولة الروم أن تحسن معاملة المسلمين، وما عابوا على علي بن عيسى الوزير إلا أنه كان ينظر كثيرًا في جزئيات الأمور فربما شغلته٧٤ عن الكليات.
منع علي بن عيسى من إكراه التناء والزارعين «على٧٥ تضمين غلات بيادرهم بالحزر والتقدير، وإلزامهم حق الأعشار في ضياعهم على التربيع، واستخراج الخراج منهم على أوفر عبرة، قبل إدراك غلاتهم وثمارهم، وإكراه وجوههم على ابتياع الغلات السلطانية بأسعار مسرفة مجحفة»، ولما غلب السجزية على فارس جلا قوم من أرباب الخراج عنها لسوء المعاملة ففض خراجهم على الباقين وكمل بذلك قانون فارس القديم، ولم تزل هذه التكملة تُستوفى على زيادة تارة ونقصان، وجاءه قوم من أجلاء فارس وقالوا: نمنع غلاتنا وتعتاق في الكناديج٧٦ حتى تهلك وتصير هكذا «وطرحوا من أكمامهم حنطة محرقة» ونطالب بتكملة ما وجب عليها فتدعونا الضرورة إلى بيع نفوسنا وشعور نسائنا وأدائها حتى تطلق الغلة وهي على هذه الصورة، «ثم رموا من أكمامهم تينًا يابسًا وخوخًا مقدودًا ولوزًا وفستقًا وبندقًا وغبيراء وعنابًا» وقالوا: وهذا كله خراج لقوم آخرين والبلد فتح عنوة، فإما تساوينا في العدل أو الجور، فأنهى علي بن عيسى ذلك إلى المقتدر بالله، وجمع القضاة والفقهاء ومشايخ الكتَّاب والعمال وجلة القواد في دار الوزارة وقد جعلها ديوانًا، وتناظر الفريقان من أرباب الشجر وأرباب التكملة، فقال أرباب الشجر: هذه أملاك قد أنفقنا عليها أموالنا حتى أنبتت الغروس فيها، وحصل لنا بعض الاستغلال منها، ومتى ألزمت الخراج بطلت قيمتها، وقد كان المهدي أزال المطالبة ورسم الخراج عنها، وقال المطالبون بالتكملة ما شكوا به حالهم فيها واستمرار الظلم عليهم بها، ورجع إلى الفقهاء في ذلك فأفتوا بوجوب الخراج وبطلان التكملة.

هذا تمثيل للإدارة على ذاك العهد وصورة من أعمال الوزراء، وبأمثال علي بن عيسى وابن الفرات كانت القوة تدخل على ملك بني العباس إذا عراه الضعف ويجبرون نقص الخلفاء، وبمثل الوزير الخاقاني والوزير الخصيبي ترجع القهقرى.

فإن كان علي بن عيسى بعيد النظر في أمور الدولة جد عارف بما يصلحها، عفًّا عن أموال الرعية، ساهرًا على مصلحتهم الحقيقية، فإن ابن الفرات كان نافذًا في عمل الخراج وتدبير البلاد وجباية المال وافتتاح الأطراف، وكلاهما من بلغاء الكتَّاب ومن العارفين بأدب الملك.

وكان للدولة رسوم في تخريج رجال الإدارة، ومما ذكروه أن بادوريا كان يتقلدها جلة العمال، قال ابن الفرات: سمعت أبا العباس أخي يقول: من استقل ببادوريا استقل بديوان الخراج، ومن استقل بديوان الخراج استقل بالوزارة؛ وذلك لأن معاملتها مختلفة وقصبتها الحضرة، والمعاملة فيها مع الوزراء والأمراء والقوَّاد والكتَّاب والأشراف ووجوه الناس، فإذا ضبط اختلاف المعاملات واستوفى على هذه صلح للأمور الكبار.

شُكي إلى ابن الفرات عامل قطربل وإغفاله عمل البزندات٧٧ فوقع إليه: ينبغي أن تراعي العمل قبل الوقت للوقت وفي الوقت للوقت، وكان يقول: العامل في أول سنة أعمى، وفي الثانية أعور، وفي الثالثة بصير، وقال لمن سأله تضمينه الصدقات بفارس: «إنما يرغب في عقد الضمان على تاجر مليٍّ، أو عامل وفيٍّ، أو تانٍ غنيٍّ،٧٨ فأما أصحاب الحروب فعقد الضمان عليهم، ومطالبتهم بالخروج من أموالها، تستدعي منهم العصيان وخلع طاعة السلطان.»

وقرأ كتابًا ورد من صاحب البريد بالموصل أن أبا أحمد الحسن قد قسط في الأعمال، ومدَّ يده إلى المال، وزاد في إظهار المروءة، وركب باللبود الطاهرية، وبين يديه عدة حجاب وخلفه جماعة غلمان، حتى إنه يسير بينهم في موكب، وأنه وصل معه من البغال والجمال والزواريق التي تحمل أثقاله شيء كثير، وهذا إنفاق وتوسع لا يقتضيه الرزق وإنما هو من الأصول، فرمى ابن الفرات بالكتاب وقال لكاتبه: وقِّع عليه يجاب بأنه نفع الرجل من حيث أراد الإضرار به؛ لأنه إذا كان في مثل هذا الصقع عامل ذو وجاهة وتجمل ومروءة، صلح أن يتقلد للسلطان مصر وأجناد الشام متى أنكر من عمالها حالًا.

وكان ابن الفرات يكره السعايات ويقطع الطريق على من يتجرون بالوشايات ويتقربون بها إلى صاحب السلطان، فمن ذلك أنه كان إذا أتاه إنسان بشيء من هذا أهانه، وقد ينادي الآذن علنًا إذا أراد الاستئذان على الوزير: أين فلان الذي قدم كذا في السعاية، ولما جرت فتنة ابن المعتز واستظهر المقتدر٧٩ واستوزر ابن الفرات أُحضرت إليه رقاع جماعة أرباب الدولة، تنطق بميلهم إلى ابن المعتز وانحرافهم عن المقتدر، أشار عليه بعض الحاضرين بأن يفتحها ويطالعها فيعرف بها الصدوق الصديق، فماذا كان من ابن الفرات؟ والوزراء في الغالب يتطلعون إلى عيوب الناس ويتخذون من مثل هذه الوثائق شكائم لبعض من يريدون استتباعهم أو وسائط للنجاة ممن يخالفونهم، كان منه أن أمر بإحضار الكانون وفيه نار فلما أُحضر جعل تلك الرقاع فيه بمحضر من الناس ولم يقف على شيء منها، وقال للحاضرين: هذه رقاع أرباب الدولة، فلو وقفنا عليها تغيرت نياتنا لهم ونياتهم لنا، فإن عاقبناهم أهلكنا رجال الدولة، وكان في ذلك أتم الوهن على المملكة، وإن تركنا كنا قد تركناهم ونياتهم متغيرة وكذلك نياتنا فما ننتفع بهم. وهذا من حكمة الإدارة في سياسة الممالك والإحاطة التامة بمعرفة الطبائع البشرية.
ولما تقلد الوزارة في أول أمره أجرى كلًّا من حجابه وكتَّابه وأصحابه على رسمهم، وأقرهم على ما كانوا يتولونه من أمره لم يستبدل بهم، ولا استزاد فيهم، لاكتفائه بمن كان معه من غيرهم، وكانت أخلاقه وهو وزير، مثله وهو صاحب ديوان، وفي وزارته الثالثة صرف أصحاب الدواوين والعمال والمنفقين وأصحاب البرد والخرائط وأكثر القضاة وبعض أصحاب المعاون، وقلد هذه الأعمال صحابه وذوي عناياته فصار الأول أعداء له وسعاة عليه، وقال الناس: إنه قلد للعناية لا للكفاية، حتى قال الخليفة: أما كان في هؤلاء المتصرفين من يصلح للإقرار٨٠ على عمله؟ وهذه الطريقة مألوفة في الإدارات المستبدة يأتي الوزير فيقلد أصحابه وحملة عرشه الولايات والأعمال، حتى إذا نكب ينكبون بنكبته، فهم يتصرفون بتصرفه ويتعطلون بعطلته.

عزم ابن الفرات يومًا على الصبوح وكان يوم الأحد ومن رسمه أن يجلس للمظالم فيه، ثم انتبه أنه لا يجوز أن يتشاغل بالسرور، ويصرف عن بابه قومًا كثيرين قد قصدوه من نواحٍ بعيدة وأقطار شاسعة مستصرخين متظلمين، فهذا من أمير، وهذا من عامل، وهذا من قاضٍ، ويمضون مغمومين داعين عليه، فأجلس صاحب ديوان المظالم وشخصًا آخر من خاصته، يستدعيان القصص ويوقعان منها ما يجوز توقيعهما فيه، ويفردان ما لا بد من وقوفه عليه ويحضرانه ليوقع فيه، وينصرف أرباب الظلامات مسرورين.

وعرض عليه في وزارته الثالثة وقد جلس للمظالم رجل عُمَري رقعة تتضمن شكوى حاله ورقتها، وأن عليه دينًا قد ضاق ذرعه به، وعلى ظهرها توقيع أحد الوزراء بأن يُقضى دينه من مال الصدقات فقال: يا هذا، إن مال الصدقات لأقوام بأعيانهم لا يتجاوزهم، ولقد رأيت المهتدي بالله، رحمة الله عليه، وقد جلس للمظالم وأمر في مال الصدقات بما جرى هذا المجرى فقال له أهلها: ليس لك يا أمير المؤمنين ذلك، فإن حملتنا على أمرك وإلا حاكمناك إلى قضاتك وفقهائك، فحاكمهم فخاصموه وإن شئت أنت حاكمتك، فقال له العمري: لا حاجة بي إلى المخاصمة، قال: الآن نعم أواسيك وأقضي دينك وفعل، وكان مبلغه خمسمائة دينار.

وكان من رسمه أن يغدو إليه الكتَّاب فيوافقهم على الأعمال ويسلم إلى كل منهم ما يتعلق بديوانه، ويوصيه بما يريد وصاته فيه ثم يروحون إليه بما يعلمونه من أعمالهم فيوافقهم عليها وعلى ما أخرجوه من الخروج وأمضوه من الأمور، ويقيمون إلى بعض الليل، وإذا خف العمل وقد عُرضت عليه في أثنائه الكتب بالنفقات والتسبيبات والإطلاقات والحسبانات، نهض من مجلسه وانصرفت الجماعة بعد قيامه، وكان يقول: أصل العمارة وزيادة الارتفاع حفظ البذور ولن يتم ذلك إلا بالعدل، ويقول: الضمان يهب بالارتفاع كما يذهب الساكن بالعقار، ويقول أيضًا: سبيل العامل أن يؤدب على الزيادة في المساحة كما يؤدب على الاقتطاع منها. ووقع إلى بعض العمال، وقد رفع إليه صاحب الخبر أنه صفع واحدًا من التناء لتقاعده عن أداء الخراج: «في الحبس للتناء مأدبة، فلا تعامل بعدها أحدًا بهذه المعاملة، فأمكِّنه من الاقتصاص منك.» وكان يستظهر في نفقات المصالح ويستكثر من إعداد الآلات على الأماكن التي تخاف الحوادث منها.٨١
الآن وقد رسمنا صورة وزيرين عبقريين بإدارتهما وسياستهما أصبح من الواجب أن نمر مرًّا بسيرة وزيرين آخرين كانا بلاء على الدولة بجهلهما وقلة عنايتهما، عنينا بهما الخاقاني والخصيبي؛ فقد كان الخاقاني مدة وزارته متشاغلًا بخدمة السلطان ومراعاة أعدائه، لا يقرأ الكتب الواردة عليه ولا النافذة، واعتمد على ابنه فقلده خلافته على الأعمال والتنفيذ للأمور، فتشاغل بالشراب، وما كانت الكتب تُقرأ إلا بعد فوات الأمر الذي وردت فيه، وربما وردت الرسائل بالحمول، وكتب فيها سفاتج بمال، فتبقى أيامًا في خزانة الأب وابنه لا تُفض ولا يُعرف حال ما فيها، «وبسط يده وأيدي أولاده وكتابه بالتوقيعات بالصلات والإطلاقات والإقطاعات والتسويغات وتخفيف الطسوق٨٢ والمعاملات، وأخذ المرافق على إضاعة الحقوق وإسقاط الرسوم فسخفت الوزارة، وأخلقت الهيبة، وزادت الحال في اختلال الأعمال ووقوف الأموال، وقصور المواد، وتضاعف الاستحقاقات، واشتداد المطالبات، وشغب الجند شغبًا بعد شغب، وتسحبوا على السلطان تسحبًا بعد تسحب.»

وكان هذا الوزير يقلد في أسبوع واحد الكورة الواحدة عدة من العمال، وذلك لارتفاق أولاده وكتابه من العمال الذين يولونهم، ويتقرب مع هذه الأعمال الجائرة إلى قلوب الخاصة والعامة بأن يمنع خدم السلطان ووجوه القواد أن يترجموا رقاعهم بالتعبد، ويتقرب إلى العامة بأن يصلي معهم في المساجد التي على الطرق، فاتضعت الوزارة بأفعاله وذلت.

ومثله كان الوزير الخصيبي، يواصل شرب النبيذ بالليل، والنوم في النهار، وإذا انتبه يكون مخمورًا لا فضل فيه للعمل، فيرد إلى غيره فض الكتب الواردة من عمال الخراج والمعاون وقراءتها والتوقيع عليها وإخراجها إلى الدواوين، وقراءة الكتب النافذة والإعلام عليها، وكانت تُعمل له جوامع خاصة مختصرة للمهم مما يرد وينفذ فيعرض عليه إذا انتبه، فربما قرأه وربما لم يقرأه، وإذا كثرت الرسائل تُقرأ عليه، وإلى أن ينفذ الجواب تتمرد البثوق وتتسع الفتوق، وتحتمل الغلات الأعراب، وتحدث الحوادث المفسدة لمعنى ذلك الكتاب، وكان أكثر هؤلاء الوزراء يضيعون الأموال ويخربون الملك، ويولُّون بالعناية، ويصانعون على الولايات بالرشوة، تولى المقتدر الخلافة نحو خمس وعشرين سنة فكان الوزراء يديرون الملك فإن كانوا من عيار علي بن عيسى وابن الفرات جرت الأمور على سداد، وإن كانوا من عيار الخصيبي والخاقاني كان البلاء ظلمات فوق ظلمات.

الإدارة على عهد القاهر والراضي ومن بعدهما

أفضت الخلافة إلى القاهر فأظهر في أول أمره من الجود والتقشف والتصون وبعد الهمة والاقتصاد والقناعة ما هابه به الناس، أراد قطع ثوب يلبسه فحمل إليه من داره فقيل له: لو أُخذ لك ثوب من خزائن الكسوة؟ فقال: لا تمسوا لهم شيئًا، وعُرضت عليه صنوف الألوان والحلواء والفواكه التي كانت توضع بين أيدي الخلفاء في كل يوم فاستكثرها وقال في الفاكهة: بكم تُبتاع هذه كل يوم؟ فقيل له: بثلاثين دينارًا، فقال: نقتصر من ذلك على دينار واحد، ومن الطعام على اثني عشر لونًا، وكان يصلح لغيره كل يوم ثلاثون لونًا من حلواء فاقتصر على الكافي له.

ونادى القاهر في بغداد بإبطال المغنيات والخمر والمخانيث وكسر آلات الطرب، على أنه لم يكن يصبر عن الشراب وسماع القينات، وقضى على أن تُباع المغنيات على أنهن سواذج لا يعرفن الغناء ثم وضع من يشتري منهن كل حاذقة في صنعتها فاشترى منهن من أراد بأرخص الأثمان. قال ابن الأثير: «وكان القاهر مستهترًا بالغناء والسماع جعل ذلك طريقًا إلى تحصيل غرضه رخيصًا، نعوذ بالله من هذه الأخلاق التي لا يرضاها عامة الناس.» وقيل: إن السبب في غضبه على إسحاق بن إسماعيل أنه كان أراد اشتراء جارية قبل الخلافة وكانت موصوفة بالجمال والغناء، فزايده إسحاق فيها واشتراها، وأن نصر بن حمدان كان أراد شراء جارية أخرى قبل الخلافة فاشتراها نصر وما زال به بعد الخلافة حتى قتله، وبضروب من مثل هذه السخافة لا تُدار خلافة.

كان القاهر يحب جمع المال وهو أهوج طائش لا يعرف كيف يسير، ويقدم على سفك الدماء فيهاب رهبة منه لا رغبةً فيه، أما خلفه الراضي فأحيا رميم الخلافة وختم الخلفاء في أمور عدة؛ منها أنه آخر خليفة له شعر، وآخر خليفة انفرد بتدبير الجيوش والأموال، وآخر خليفة خطب على منبر في يوم جمعة، وآخر خليفة جالس الجلساء ووصل إليه الندماء، وآخر خليفة كانت نفقته وجوائزه ومطابخه وشرابه ومجالسه وخدمه وحجابه وأموره جارية على ترتيب الخلافة الأولى، وآخر خليفة سافر بزي الخلفاء القدماء، وله فضائل كثيرة.

وفي أيام الراضي بطلت الوزارة من بغداد، وبقي ابن رائق الناظر في الأمور جميعها وتقلب عمال الأطراف عليها ولم يبقَ للراضي غير بغداد وليس له فيها حكم، وفي أيام المتقي عزت الوزارة وصغرت لضعف الدولة وصغر دائرة الخلافة، وكان الخليفة هو الذي يولي أرباب الوظائف من القضاة وغيرهم وتُكتب عنه العهود والتقاليد لا يشاركه في ذلك سلطان، وكان قاضي القضاة ببغداد منذ عهد الرشيد يستخلف على قضاء الأمصار وهؤلاء يستخلفون نوابًا عنهم في أقطارهم، ثم صار القضاء يقلده صاحب المال والجاه منذ القرن الثالث فما بعده، وربما توسط أهل البلد فكتبوا محضرًا بطلب فلان وإسقاط فلان، ويكون العامة مع واحد والخاصة مع آخر، والعامة إذا دخلوا في مسائل أعلى من عقولهم كان الفساد في الأعمال.

وكان من القضاة من يجمع الألوف وعشرات الألوف من الدنانير مدة قضائه وهذا إذا كان قاضي القضاة، والقضاة يولون صغار القضاة في الأقاليم، وهناك ترى النفوس تشره إلى المال ولا يردها عن إتيان ذلك خوف الديان ولا خوف السلطان، أفسد الوزير ابن الفرات القضاة وفرق من جهة ثانية على طلاب الأدب ومن يكتب الحديث وعلى الشعراء مالًا، ولم يفعل ذلك غير مسلمة بن عبد الملك في دولة بني أمية، فقد قيل: إنه أوصى بالثلث من ثلثه لطلاب الأدب، وقال: إنهم مجفوون أو أهل صناعة مجفوة، استتر ابن الفرات في دار أبي الأخوص البصري فحرج، فولي الوزارة فكافأه على جميله بأن قلده القضاء وكان ابن الأخوص بزازًا. واختفى الوزير عبد الله بن وهب (٣٨٨) عند ابن أبي العون التاجر وأراد أن يغنيه فأحضر التجار وسعر مائة ألف كر٨٣ من غلات السلطان بالسواد عليهم، فأباحها ابن أبي عون بنقصان دينار مما قرر به السعر على التجار، وباعه عليهم بسعر قرره معهم وأخرهم بالثمن إلى أن يتسلموا الغلال، وكتب إلى النواحي بتقبيضهم ذلك فحصل لابن أبي عون مائة ألف دينار، وجعله الوزير واسطة لقضاء مصالح الناس بالجعالة العالية، حتى أثرى إثراء عظيمًا من مال السلطان ومال رعيته، أعمال جائرة على الراعي ومن يرعاهم يقوم بها مهرة «بتحلب٨٤ الفيء وقتل النفوس وإخراب البلاد.»

ولقد كان الخليفة إذا مالت نفسه عن الوزير، أو أُريد أن يغضب عليه بإيعاز أحد النافذين في دولته من كبار قواد مملكته، يسلمه إلى يد من يخلفه من الوزراء فيهلكه بالضرب والإهانة، وربما يقتله ويقتل بعض خاصته، أو يقر بما احتجن من أموال الدولة وأموال الناس، ويقبض على أسبابه وعلى عماله، وينالهم بسبب من ولاهم كل ضيم في أنفسهم، وإذا انفصلوا من الخدمة كانت قيمتهم قيمة اللصوص، ولما كانت الوزارة تنتقل بين أيدي بضعة أشخاص على الأغلب في كل دور، كان كل معزول يؤمل الرجوع إلى دست الوزارة، فإذا عاد فهناك الانتقام من كل إهانة وقعت عليه من الوزراء والعمال.

وما حدث شغب في الجيش فأدى إلى قتل عامل أو وزير أو خليفة إلا كان السبب فيه على الأغلب تأخر أرزاق الجند أشهرًا؛ ذلك لأن كل من كانت إليه الجباية يفكر في مصلحته قبل كل مصلحة على الأكثر، وقلما يتعادل دخل الدولة مع خرجها، والإسراف شامل قصر الخليفة فما دونه، لا تعد الدولة المال إلى حين الحاجة المبرمة على ما كان المنصور والرشيد، فقد كان الجند إذا شكا التريث في تقاضي رواتبه يُعطى أشهرًا بل سنة مقدمًا فتضمحل كل ثورة، وينطفئ لهيب الفتنة، «كان الخلفاء المتقدمون يجمعون الأموال ليقمعوا بها أعداء الدين والخوارج وليحفظوا بها الإسلام والمسلمين.»

يعيد الخلفاء إلى الخدمة من الوزراء، من كانوا غضبوا عليهم وسلبوهم، وذلك في الأزمات التي لا يستطيعون حلها، كما فعل مع علي بن عيسى، وأبي الحسن ابن الفرات، ومن كتاب عن المقتدر في شأن ابن الفرات «ولما لم يجد أمير المؤمنين غنًى عنه، ولا للملك بدًّا منه، وكان كتاب الدواوين على اختلاف أقدارهم، وتفاوت ما بين أخطارهم، مقرين برياسته، معترفين بكفايته، متحاكمين إليه إذا اختلفوا، واقفين عند غايته إذا استبقوا، مذعنين بأنه الحول القلب، المحنك المحبب، العالم بدرة المال كيف تُحلب، ووجوهه كيف تُطلب، انتضاه من غمده، فعاد ما عُرف من حده، فنفذ الأعمال كأن لم يغِب عنها، ودبر الأمور كأن لم يخل بها.»

وهم الخلفاء في هذه الحقبة إذا كانوا على انتباه، وبمنجاة من شهواتهم وشرابهم، أن يخزنوا الأموال ويصادروا من طالت أيديهم إليهم من عمالهم، يستأثرون بما جمعوا لأنفسهم، أو لبيت مال الخاصة. حكى ابن مسكويه في معنى تبذير المقتدر للأموال، والتنفير من هذه الطريقة نصيحة ساقها للملوك ومدبري أمر المملكة، لئلا يغتروا بكثرة الأموال فيتركوا تثميرها، ويعدلوا عن التعب به إلى الراحة اليسيرة؛ لأن من كان هذا حاله يبتدر حينئذ ولا يلحق، ويكون مثله مثل البثق الذي ينفجر بمقدار سعة الدرهم ثم يتسع فلا يضبط، وقد ذكر أن المقتدر أتلف نيفًا وسبعين ألف ألف دينار سوى ما أنفقه في موضعه وأخرجه في وجوهه، وهذا أكثر مما جمعه الرشيد وخلفه، ولم يكن في ولد العباس من جمع أكثر مما جمعه الرشيد فإنه خلف ثمانية وأربعين ألف ألف دينار، ولما تقلد المقتدر الخلافة كان في بيت مال الخاصة أربعة عشر ألف ألف دينار، وأخذ من أموال ابن الفرات في مصادرته ومصادرات كتابه وأسبابه أربعة آلاف ألف وأربعمائة ألف دينار، ومن ابن الجصاص الجوهري ألفي ألف دينار، ومن العباس بن الحسن ألفي ألف وثمانمائة ألف ألف دينار، ومن أموال حامد بن العباس ألفي ألف ومائتي ألف دينار، ومن الحسين ومحمد المادرائيين ألف ألف وثلاثمائة ألف دينار، ومن علي بن عيسى وابن الحواري وسائر الكتاب ووجوه العمال المصادرين ألفي ألف دينار، ومن تركة الراسبي خمسمائة ألف دينار، ومن تركة المسمعي ثلاثمائة ألف دينار، وما حصل من أموال أم موسى وأخيها وأختها وأسبابها ألفي ألف دينار، هذا عدا خراج الأقطار وغيره من الموارد الكثيرة، ولقد شغبوا على المقتدر وطلب الجند الزيادة وشتموه ونهبوا القصر الملقب بالثريا وصاحوا: أبطلت حجنا وأخذت أموالنا وجرأت العدو وتنام نوم الجارية! فبذل لهم المال فسكنوا.

وفي ذاك الدور كان في بغداد أنواع من الدواوين منها ديوان المشرق وديوان المغرب، وديوان الضياع الخاصة والمستحدثة، وديوان الضياع الفراتية، وديوان زمام الخراج والضياع العامة، وديوان زمام النفقات والخزائن، وديوان الدار وديوان البر — وهو أشبه بديوان الأحباس — وديوان الصدقات وديوان زمام الجيش، وديوان الحرم وديوان الفص والخاتم وديوان الجهبذ وديوان زمام القواد، وديوان الخاصة وديوان الدار الأصغر الذي تنشأ منه الكتب بالزيادات والنقل.

وأخذت الألقاب تكثر في الرسائل من كل صنف، ووضع الوزير ابن الفرات الألقاب في مخاطبة الملوك والأمراء والوزراء والعمال وفي مكاتبتهم،٨٥ وأنف الملوك ومن بعدهم من الوزراء من ذكرهم بسيدنا، واستقلوا خطابهم بمولانا، فعدل الناس بأولئك إلى الحضرة الشريفة والحضرة العالية والحضرة السامية، وبالوزراء إلى مثل ذلك، ثم كنوا عن الخلفاء بالموقف الأشرف المقدس وذكروه بالمقام الأطهر النبوي، ونقلوا الملك إلى الأشرف والأعظم، وقالوا في الدعاء: نوره الله ونصره الله إلى ما بعد ذلك من المغالاة والمبالغة، وانتهت هذه الحال إلى أن شاركهم فيها الأكابر من أصحاب الأطراف ووقفوا بالوزارة على الحضرة السامية، ثم ألحقوا بها المظفرة والمنصورة مع النسبة إلى الألقاب كالوزيرية والعميدية والكمالية وما جرى هذا المجرى، وداخلهم في ذلك من يتلوهم من خلفائهم وأصحاب الجيوش وأمراء العرب والأكراد.٨٦
كتب الإخشيد إلى عبده كافور الخادم في مصر: ومما يجب أن تقف عليه أطال الله بقاءك، أني لقيت أمير المؤمنين بشاطئ الفرات فأكرمني وكناني، وقال: كيف أنت يا أبا بكر أعزك الله؟ فرح بأن كناه والخليفة لا يكني أحدًا، وكان المعتضد يكني في الخلوات طبيبه وفي الملأ يسميه، وهكذا أصبح الكبير يدهن للصغير والصغير يتقرب من قلب الكبير بالألقاب،٨٧ وصار الصغير يكتب في الكتب عبد فلان وخادمه وصارت عادة تُكتب بها إلى جميع الوزراء، ولقبوا عمالهم أو المتغلبين على بعض أصقاعهم بملك الملوك وذلك بفتوى من العلماء، وأجازها بعضهم وأنكرها آخرون، ولقبوا أحد وزرائهم بسيد الوزراء وصدر الشرق والغرب، وأمر المستكفي أن تُضرب ألقاب بني بويه على الدراهم والدنانير.

الإدارة في العهد العباسي الأخير

بعد أن آضت الخلافة إلى ما آضت إليه من الضعف، وصار الخليفة تابعًا للملك أو المتغلب، لم يبقَ شيء يُقال له: إدارة؛ لأن الخليفة لا يحكم حتى على بيته، بل أصبحت الإدارة إدارة ملوك الأطراف والشأن في السلطان شأنهم، لا تكاد تسمع للخلفاء اسمًا، ذكروا أنه لما ولي المستضيء شملت رحمته من كان في السجن حتى لم يبقَ فيه أحد إلا أفرج عنه، ومن وجد له بخزانته شيئًا عليه اسمه أعاده إليه، وكل من كان في ولاية أعاده إليها، ومن وجد من ملكه شيئًا تحت الاعتراض أَفرج عنه وأعاده إليه.٨٨

وجاء الناصر فملأ القلوب هيبة وفتح البلاد البعيدة وكان رديء السيرة في الرعية مائلًا إلى الظلم والعسف، ففارق أهل البلاد بلادهم وأخذ أموالهم، وكان يفعل أفعالًا متضادة وكان يتشيع ويميل إلى مذهب الإمامية بخلاف آبائه، وطالت خلافته (٤٧) سنة وكان منصرف الهمة إلى رمي البندق والطيور المناسيب ويلبس سراويلات الفتوة، والفتوة أشبه بجمعية فوضوية، فكان الفتيان يغتالون كل من يخالفهم حتى أفتى الفقهاء بعد ذلك العصر بتحريم الفتوة، وأنكروا نسبتها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومن قواعد الفتوة أنه متى قتل الفتى فتى من حزبه سقطت فتوته وعوقب، وإن قتل غير فتى عونًا من الأعوان أو متعلقًا بديوان في بلد الناصر سقطت فتوته بهذا السبب أيضًا، وكتب الناصر منشورًا وسلمه إلى كل واحد من رءوس الأحزاب وألزم الناس إجراء الأمر على ما تضمنه.

ولم يكن٨٩ للناصر وزير وإنما له خديم يُعرف بنائب الوزراء، ويحرض الديوان المحتوي على أموال الخلافة وبين يديه الكتب فينفذ الأمور، وله قيم على جميع الديار العباسية، وأمين على الحرم الباقيات من عهد جده وأبيه، وعلى جميع من تضمه الحرمة الخلافية يُعرف بالصاحب مجد الدين أستاذ الدار، هذا لقبه ويُدعى له إثر الدعاء للخليفة. قال ابن جبير: ورونق هذا الملك إنما هو على الفتيان والأحابيش المجابيب منهم فتى اسمه خالص وهو قائد العسكرية كلها، أبصرناه خارجًا أحد الأيام وبين يديه وخلفه أمراء الأجناد من الأتراك والديلم وسواهم وحوله نحو خمسين سيفًا مسلولة في أيدي رجال قد احتفوا به، وشاهدنا من أمره عجبًا في الدهر.

قال: إن جميع العباسيين معتقلون اعتقالًا جميلًا لا يخرجون ولا يظهرون ولهم المرتبات القائمة بهم.

وجاء الظاهر بعد أبيه الناصر يحسن إلى الرعية كل الإحسان ويحيي سنة العمرين ويبطل عدة مظالم ويسقط المكوس والضرائب، ومن ذلك أنه كان بخزانة الخليفة صنجة زائدة يقبضون بها المال ويعطون بالصنجة التي يتعامل بها الناس، وكانت زيادة الصنجة في كل دينار حبة فخرج توقيع الظاهر بإبطال ذلك وأوَّله: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ وعمل صنجة المخزن قبل صنجة المسلمين، وكانت العادة في زمن أبيه أن يكتب الحراس بأخبار الناس فلما أتته مطالعاتهم قال: أي غرض لنا في معرفة أحوال الناس في بيوتهم؟ فلا يكتب أحد إلينا إلا ما يتعلق بمصالح دولتنا، فقيل له: إن العامة تفسد بذلك ويعظم شرها، فقال: نحن ندعو الله أن يصلحهم، ولما توفي وجد في بيت في داره ألوف رقاع كلها مختومة لم يفتحها فقيل له ليفتحها فقال: لا حاجة لنا بها، فإن فيها كلها سعايات، وجاء بعد الظاهر ولده الأكبر المستنصر صاحب المدرسة المستنصرية والآثار الجليلة في العمران وقالوا: إن أيامه كانت طيبة والدنيا في زمانه ساكنة والخيرات دارة والأعمال عامرة، ثم خلفه المستعصم وهو سابع ثلاثينهم وآخرهم وهو الذي قتله التتر فانقرضت به الخلافة العباسية من بغداد سنة ٦٥٦.

إدارة دول الشرق والغرب

لما وافى عبد الرحمن الداخل الأندلس ألفاها ثغرًا قاصيًا غفلًا من حلية الملك٩٠ فأرهف أهلها «بالطاعة السلطانية وحنكهم بالسيرة الملوكية»، بدأ فدوَّن الدواوين وفرض الأعطيات، وجند الأجناد، وعقد الألوية، وأصَّل أوضاع الدولة، وأقام للملك آلته، على النحو الذي رآه في دار آبائه في الشام، «وأخذ يقعد للعامة ويسمع منهم، وينظر بنفسه فيما بينهم، ويتوصل إليه من أراده من الناس، فيصل الضعيف منهم إلى رفع ظلامته إليه دون مشقة.» وعظمت دولة الأندلس فكبرت الهمم، ورتبت الأحوال والقواعد، وظهرت الهيبة، وكان من شأن الأمويين مراعاة الشرع في كل الأمور، وتعظيم العلماء والعمل بأقوالهم، وإحضارهم في مجالسهم.

كانت الوزارة بالأندلس مشتركة في جماعة يعينهم صاحب الدولة للإعانة والمشاورة ويخصهم بالمجالسة، ويختار منهم شخصًا لمكان النائب المسمى بالوزير فيسميه الحاجب، وكانت هذه المراتب لضبطها عندهم كالمتوارثة في البيوت المعلومة بذلك، ثم صار اسم الوزارة عامًّا لكل من يجالس الملوك ويختص بهم، وصار الوزير الذي ينوب عن الملك يُعْرَف بذي الوزارتين — أي وزارة السيف والقلم — وأكثر ما يكون فاضلًا في علم الأدب، ويدلون بالحجابة على حجابة السلطان عن العامة والخاصة.

ويقول ابن خلدون: إنَّ دولة بني أمية بالأندلس نفوا اسم الوزير في مدلوله أول الدولة، ثم قسموا خطته أصنافًا وأفردوا لكل صنف وزيرًا فجعلوا لحسبان المال وزيرًا، وللترسل وزيرًا، وللنظر في حوائج المتظلمين وزيرًا، وللنظر في أحوال أهل الثغور وزيرًا، وأفردوا للتردد بينهم وبين الخليفة واحدًا منهم ارتفع عنهم بمباشرة السلطان في كل وقت، فارتفع مجلسه من مجلسهم، وخصوه باسم الحاجب، فارتفعت خطة الحاجب ومرتبته على سائر الرتب حتى صار ملوك الطوائف ينتحلون لقبها، ثم كان من دولة الموحدين أتباع دولة الأمويين، فقلدوها في مذاهب السلطان واختاروا اسم الوزير لمن يحجب السلطان في مجلسه، وأرجعوا الدواوين عندهم إلى صنفين من الكُتَّاب: كاتب الرسائل وكاتب الزمام؛ أي كاتب الجهبذة أو كاتب الأشغال الخراجية، وتراقب السلطة العليا ما يصدر من أعمالهم، ويفيدنا تصفح تراجم رجال الأندلس، وتاريخ الرجال تاريخ السياسة، إنَّ القائمين بالحكم من الوزراء والقوَّاد والعظماء والعمال في هذه الديار كانوا أقرب إلى التعفف عن أموال الناس من رجال العباسيين، وكثير من الدول التي قامت في المشرق، وكانت دولة الأندلس إذا تأثلت حال الكاتب فيها نُكب وصودر؛ لأن هذه الزيادة التي حصلت له «إما أنْ يكون قد أخذها بحق أو ظلم، فإن كان أخذها بحق كان متبرعًا بها، لا يستحق لها زيادة على المسمى في جاريه، وإنْ كان ظلمًا وجب ردُّها على من ظلم بها، وكان عدوانًا من العامل يؤخذ بجريرته.»

سار الأمويون في بدء أمرهم في الأندلس بسيرة بعض خلفائهم، وقضوا ألا يكون كاتب الزمام في مملكتهم نصرانيًّا ولا يهوديًّا، ثم دخل النصارى بعد حين في أعمال الدولة يتولون حتى العظام منها، وبنو أمية في إدارتهم بعيدون عن الجمود، يسيرون بما يستلزمه الزمان والمكان، وتهمهم المصالح والمنافع، ولا يتحرجون من الأخذ بجديد، لما خصوا به من عمائق الفطن، وقرائح العقول. وجملة الأمر أنَّ الأمويين ما كانوا بالمبخلين ولا بالمسرفين، ولا بالضعاف الضعف الذي تضيع معه الحقوق وتفسد الأمور، ولا بالأشدَّاء الشدة المفرطة التي تبغضهم إلى من يعملون معهم من الناس من وزراء وأصحاب ولايات.

جعلوا القضاء في الأندلس أعظم الخطط المتعلقة بأمور الدين، ويكون القاضي في المدينة الجليلة، ومسدد الخاصة في المدن الصغيرة، ويُقال لقاضي القضاة قاضي الجماعة، وعمال الإدارة غير القضاة، ويتحتم أنْ يكونوا كلهم عارفين بالشرع، وأصول الحكومة وتراتيبها، وكانت خطة الاحتساب أو الحسبة أشبه بخطة القضاء، وهي تتناول أمور المدن والبياعات والعمائر، وكل ما يضر إهماله بالمجتمع، وما ينفع أتباعه فيه. والحسبة أشبه بأعمال المجالس البلدية والشرطة والصحة بمصطلح هذه الأيام، وكان لهم في أوضاع الاحتساب قوانين يتداولونها ويتدارسونها — كما تتدارس أحكام الفقه — وخطة القضاء وسيطة بين خطة القضاء٩١ والمظالم، تجمع بين نظر شرعي وزجر سلطاني، وكان خلفاء الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم لعموم مصلحتها، ويتولى النظر في الحسبة فقيه في الدين، قائم مع الحق، نزيه النفس، عالي الهمة، معلوم العدالة، ذو أناة وحلم، وتيقظ وفهم، عارف بجزئيات الأمور، وسياسات الجمهور، لا يستفزه طمع، ولا تلحقه هوادة، ولا تأخذه في الله لومة لائم، مع مهابة تمنع من الإدلال عليه، وترهب الجاني لديه.

وقد يكون لخطة صاحب الشرطة النظر في الجرائم وإقامة الحدود، وإذا كان صاحبها عظيم القدر عند السلطان يكون له القتل لمن وجب عليه، دون استئذان السلطان، ولكنه يحد على الزنا وشرب الخمر، وكثير من الأمور الشرعية راجع إليه، ويُعرف صاحب الشرطة عندهم بصاحب المدينة أو صاحب الليل، وهناك خطة أخرى أشبه بخطة الشرطة وهي الطواف بالليل، ويُقال لأربابها أصحاب أرباع في المشرق، ويُعرفون في الأندلس بالدرابين.

هذا إجمال في أوضاع الأندلس ومصطلحها، والأيدي التي كانت تديرها وتنفذها صالحة في الجملة، لصلاح ملوكهم ومعرفتهم الواسعة بمن يصلح لكل عمل؛ فقد كان هشام بن عبد الرحمن متحريًا للعدل يعود المرضى ويشهد الجنائز ويتصدق بالصدقات الكثيرة، «ويبعث بقوم من ثقاته إلى الكور يسألون الناس عن سير عماله، ويخبرونه بحقائقها، فإذا انتهى إليه حيف من أحدهم أوقع به وأسقطه، وأنصف منه ولم يستعمله بعد.» ورأينا الاعتداءات والمصادرات تقل في الأندلس مدة ملك بني أمية فيها؛ لأن التضامن كان على أتمه بين الملك وحاجبه — أي وزيره — يختاره من أشرف الطبقات العربية، وهذا يختار العمال الصالحين والكُتَّاب والحاسبين، وللقضاة إجلال دونه كل إجلال، وقلَّ أن جاء من أصحاب القضاء الساقط في مروءته، الجائر في أحكامه، المصانع على قضائه، وكان من ملوكهم كالحكم من يباشر الأمور بنفسه، أو يسترشد بآراء الفقهاء والعلماء كمن سلف من أجداده، وله عيون يطالعونه بأحوال الناس، وقد شبهوه بالمنصور العباسي، والحكم أول من جند الأجناد، واتخذ العدة والسلاح، واستكثر من المماليك فصار له منهم خمسة آلاف، وكانوا يسمونهم الخرس لعجمة ألسنتهم، وقد جعلوا أفواجًا على باب قصره وجعلهم في المرتزقة، واستكثر من الحشم والحواشي، وارتبط الخيول على بابه.

والحكم هو الذي ضرب سكان الرَّبض، ربض قرطبة، لما تآمروا عليه ضربة قاضية، وأجلى منهم ستين ألفًا هاموا على وجوههم في شمالي إفريقية ومصر، ثم في جزيرة إقريطش،٩٢ وعبد الرحمن الثالث هو الذي أصبحت الأندلس في أيامه أكثر بلاد العالم تمدينًا،٩٣ ووضع على الإسبان جالية٩٤ يؤدونها، وكان فيما شرط٩٥ عليهم اثني عشر ألف صانع يصنعون له في مدينة الزهراء، وكان له اثنا عشر ألف من الخدم بمناطق الذهب، والسيوف المحلاة يركبون لركوبه وينزلون لنزوله، وكان يقسم الجباية أثلاثًا، ثلث للجند، وثلث للبناء، وثلث مدخر، وقيل: إنه خلف في بيوت الأموال خمسة آلاف ألف ألف — ثلاث مرات متكررة٩٦ — وكانت جباية الأندلس يومئذ من الكور والقرى تربى على ستة آلاف ألف، أما أخماس الغنائم فلا يحصيها ديوان.

وتعددت الدواوين في الأندلس منذ أواسط عهد الأمويين فيها، ومن جملتها ديوان الشعراء؛ لكثرة غرامهم بالأدب والشعر واستحسانهم له، ولما ضعف الوازع السياسي في الأمويين ضعفت إدارتهم بضعف القائمين بها، وظلَّ لتراتيبهم شيء من النظام اقتدى به، واتخذه إمامًا كل من دولة المرابطين، ثم الموحدين، ثم دولة بني نصر من بني الأحمر، وكذلك ملوك الطوائف الذين تقاسموا تلك الدولة في بعض أدوارها، واستقل كل متغلب أو أمير أو قاضٍ بولاية أو ولايتين بسط عليهما سلطانه.

يقول ابن خلدون: إنَّ يوسف بن تاشفين صاحب المغرب والأندلس لم يرَ في بلد من بلاده على طول أيامه رسم مكس ولا خراج، لا في حاضرة ولا في بادية، إلا ما أمر الله به، وأوجبه حكم الكتاب والسنة من الزكوات والأعشار وجزيات أهل الذمة وأخماس الغنائم، وقد جبى في ذلك من الأموال على وجهها ما لم يجبه أحد قبله، وقد رد أحكام البلاد إلى القضاة، وأسقط ما دون الأحكام الشرعية، وذكر المؤرخون أنه طلب من أهل البلاد المغربية والأندلسية المعونة بشيء من المال على ما هو في صدده من الجهاد فامتنعوا، وأباحها له بعض الفقهاء والقضاة، وأفتوه أنَّ عمر بن الخطاب كان أضاق ففرض مالًا في زمانه، وأجابه أهل الرأي: إنَّ عمر ما اقتضاها حتى دخل مسجد الرسول وحضر من كان معه من الصحابة، وحلف أنه ليس عنده في بيت مال المسلمين درهم واحد ينفقه عليهم، فإذا فعل ابن تاشفين وحلف أنه ليس في بيت مال المسلمين درهم وجبت معونته.

ووقف علي بن يوسف بن تاشفين أيضًا مع الشريعة، وآثر أهل الفقه والدين، وكان لا يقطع أمرًا في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء، فكان إذا ولي أحدًا من قضاته كان فيما يعهد إليه أن لا يقطع أمرًا، ولا يبت في حكومته في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء، فعظم أمر الفقهاء في الأندلس، وانصرفت وجوه الناس إليهم، فكثرت لذلك أموالهم واتسعت مكاسبهم.٩٧ ومنذ عهد الأمويين في القرن الثالث كان في الأندلس مجلس شورى الفقهاء يعرضون عليه ما حزبهم من الأمور الشرعية، وأشكل عليهم من الأحكام، فينظر فيها نظرًا بليغًا، وهذا المجلس لم يُعهد له نظير في دولة بني العباس ولا في غيرها.
ولما استولى جهور بن محمد على الدولة العامرية جعل٩٨ ما يُرفع من الأموال السلطانية بأيدي رجال رتبهم لذلك، وهو المشرف عليهم، وصير أهل الأسواق جندًا وجعل أرزاقهم رءوس أموال تكون بأيديهم يأخذون ربحها خاصة، ورءوس الأموال باقية، يأخذون ويراعون في الوقت بعد الوقت كيف حفظهم لها، وفرق السلاح عليهم، وأمرهم أن يجعلوه في الدكاكين والبيوت حتى إذا دهم أمر ليلًا أو نهارًا، كان سلاح كل واحد معه. وكانت أيامه في قرطبة على أحسن نظام وأكمل اتساق، وطريقة ابن جهور هذه من الإبداع في الإسراع بتعبئة الجيش، هي أيضًا من إيجاد الأندلس وما تفردت به من الأوضاع.
واختلفت طرق الإنفاق على الجند في الأندلس فجرت أولًا «على إقطاع٩٩ الأرض للأجناد، فكانوا يستغلونها ويرفقون بالفلاحين فعمرت البلاد وتوفرت الأموال، وتوافرت الأجناد والكراع والسلاح.» ولما رد ابن عامر عطايا الجند مشاهرة وقدم على الأرض جباة يجبونها، أكلوا الرعايا واجتاحوا أموالهم واستضعفوهم، فتهارب الفلاحون وضعفوا عن العمارة، فقلت الجبايات وضعف الأجناد، ولما فتح الملثمون١٠٠ الأندلس ردوا الإقطاعات كما كانت.
واقتبست الغرب الأقصى أوضاع حكومتها على الغالب من جارتها الأندلس. وإذ استولت دولة الغرب في عهد المرابطين وعهد الموحدين على البلاد الأندلسية، تشابهت الإدارة في المملكتين إلى حد غير قليل، قال ابن خلدون: لما جاءت دولة الموحدين لم تتمكن فيها الحضارة الداعية إلى انتحال الألقاب، وتمييز الخطط وتعيينها بالأسماء إلا آخرًا، فلم يكن عندهم من الرتب إلا رتبة الوزير، فكانوا أولًا يخصون بهذا الاسم الكاتب المتصرف المشارك للسلطان في خاص أمره، وله مع ذلك النظر في الحساب والأشغال المالية، ثم صار بعد ذلك اسم الوزير لأهل نسب الدولة من الموحدين، وكان أهل المغرب يسمون صاحب ديوان الإنشاء صاحب «القلم الأعلى». وذكر المراكشي١٠١ أنَّ يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن كان في جميع أيامه وسيره مؤثرًا للعدل متحريًا له، بحسب طاقته وما يقتضيه إقليمه والأمة التي هو فيها، كان في أول أمره أراد الجري على سنن الخلفاء الأول، فمن ذلك أنه كان يتولى الإمامة بنفسه في الصلوات الخمس، وكان يقعد للناس عامة لا يحجبه أحد من صغير أو كبير، يقعد في أيام مخصوصة لمسائل مخصوصة لا ينفذها غيره، ولما ولي ابن بقي كان فيما اشترطه عليه أن يكون قعوده بحيث يسمع حكمه في جميع القضايا، فكان يقعد في موضع بينه وبين أمير المؤمنين ستر من ألواح، وكان قد أمر أن يدخل عليه أمناء الأسواق وأشياخ الحضر في كل شهر، يسألهم عن أسواقهم وأسعارهم وحكامهم، وكان إذا وفد عليه أهل بلد فأول ما يسألهم عنه عمالهم وقضاتهم وولاتهم، فإذا أثنوا خيرًا قال: اعلموا أنكم مسئولون عن هذه الشهادة يوم القيامة، فلا يقولن أحد منكم إلا حقًّا، وربما تلا في بعض المجالس: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ.

وفي أيامه أمر أن يتميز اليهود في المغرب بلباس يختصون به دون غيرهم لشكه في إسلامهم، وكان يقول: لو صح عندي إسلامهم لتركتهم يختلطون بالمسلمين في أنكحتهم وسائر أمورهم، ولو صح عندي كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم، وجعلت أموالهم فيئًا للمسلمين، ولم تنعقد ذمة ليهودي ولا نصراني منذ قام أمر المصامدة، ولا عمرت في جميع بلاد المسلمين بالمغرب بيعة ولا كنيسة، واليهود يظهرون الإسلام، ويصلون في المساجد، ويقرئون أولادهم القرآن، وكان ذلك في الربع الأول من القرن السابع.

كسر١٠٢ عبد المؤمن سنة ٥٥٥ بلاد إفريقية، والمغرب من برقة من جهة الشرق إلى السوس الأقصى في المغرب بأنواع الفراسخ والأميال طولًا وعرضًا، ثم أسقط من التكسير الثلث في الجبال والغياض والأنهار والسباخ والحزون والطرق، وما بقي قسط عليه الخراج وألزم كل قبيلة قسطها من الزرع، فهو أول من أحدث ذلك بالمغرب. وكان حسبان العطاء والخراج مجموعًا لواحد في دولة بني مرين، وصاحب هذه الرتبة هو الذي يصحح الحسبانات كلها، ويرجع إلى ديوانه ونظره معقب بنظر السلطان أو الوزير، وخطه معتبر في صحة الحسبان في الخراج والعطاء.
وكان للأشياخ الكبار من الجند على عهد بني مرين في مراكش الإقطاعات الجارية عليهم، لكل واحد منهم في كل سنة عشرون ألف مثقال من الذهب، يأخذها من قبائل وقرى وضياع وقلاع، ويحصل له من القمح والشعير والحبوب من تلك البلاد نحو عشرين ألف وسق، ولكل واحد من الإقطاع والإحسان في رأس كل سنة حصان بسرجه ولجامه، وسيف ورمح محليان، وبقجة قماش وجوخ، وربما زيد الأكابر على ذلك، وللأشياخ الصغار من الإقطاع والإحسان نصف ما للأشياخ الكبار، ويكون لكل واحد من المقربين إلى السلطان من أشياخ الجند ستون مثقالًا من الذهب في كل شهر، ومن دون ذلك يكون له في الشهر ثلاثون مثقالًا، ثم ما دونها إلى أن يتناهى إلى أقل الطبقات، وهي ستة مثاقيل في كل شهر، وليس لأحد منهم بلد ولا مزدرع، ولقاضي القضاة كل يوم مثقال من الذهب، وله أراضٍ يسيرة يزرع بها ما تجيء بمئونته وعليق دوابه، ولكاتب السر في كل يوم مثقالان من الذهب، وله قريتان يحصل له منهما محصول جيد مع رسوم كثيرة له على البلاد ومنافع وإرفاقات،١٠٣ وجرت العادة أن يركب السلطان بعد العصر في عسكره ويخرج إلى مكان فسيح، فيقف على نَشَر من الأرض وتتطارد الخيل قدامه، وتتطاعن الفرسان وتتداعى الأقران، وتمثل الحرب لديه وتقام صنوفها على سبيل التمرين، حتى كأنها يوم حرب حقيقية، وقيل: إنَّ عسكره ١٤٠ ألفًا، وقيل ٤٠ ألف فارس غير حفظة المدن والسواحل، ويمكنه إذا استجاش لحرب أن يخرج في جموع كثيرة لا تكاد تنحصر.
وأكثر ما كانت الإدارة منتظمة في إفريقية — أي تونس على عهد الآغالبة — ثم العبيديين، ثم ملوك صنهاجة، ثم ملوك الحفصيين، وكان إبراهيم بن الأغلب أول من اتخذ العبيد لحمل سلاحه واستكثر من طبقاتهم، واستغنى عن استعمال الرعية في شيء من أموره، وقلد العبيديون في إفريقية والقيروان١٠٤ الدولتين قبلهم في الخطط الوزارية وغيرها، وكانت الرياسة في دولة بني أبي حفص أولًا، والتقديم لوزير الرأي والمشورة، وكان يخص باسم شيخ الموحدين، وكان له النظر في الولايات والعزل وقود العساكر والحروب، واختص الحسبان والديوان برتبة أخرى، ويُسمى متوليها بصاحب الأشغال، ينظر فيها النظر المطلق في الدخل والخرج، ويحاسب ويستخلص الأموال، ويعاقب على التفريط. وكانت دولة الحفصيين١٠٥ على أسلوب العرب، وعدتهم الرماح والسيوف والنبال، ولم تكن المكاحل؛ أي المدافع ظهرت في مبتدأ أمرهم، وإنما ظهرت في مؤخر أيامهم أيام ألفونس الأحول صاحب قشتالة، وكانت عساكرهم تُدعى بالموحدين سماهم بذلك محمد بن تومرت؛ لأنه وضع لهم توحيدًا بلسان البربر، زعم أنه هو كلمة التوحيد، وكان لهذه الدولة عز١٠٦ وسلطان واتساع ملك، إلا أنَّ الغالب عليها سوء الإدارة؛ لتغلب الفكر البربري على رجالها، فلم يكن في القائمين بها الاستعداد الكافي للإبداع، لبعدها عن الصبغة العربية والحضارة الشرقية، وكان ملوكها يُجِلون العلماء ويحافظون على الشرع، وكان بتونس أربعة من القضاة: قاضي الجماعة، وقاضي الأنكحة، وقاضي المعاملات، وقاضي الأهلة، وقاضي الجماعة عبارة عن قاضي القضاة بالمشرق، وكان بنو أبي حفص يجعلون يوم الخميس لاجتماع القاضي والعلماء في مجالسهم، وتنفذ بين أيديهم الأحكام الشرعية، وتُلقى بين عليهم المسائل المعضلة، تتصرف بين يدي السلطان فلا يقع بين يديه من الأحكام إلا ما هو مشهور. وكانت إدارة إفريقية منذ الفتح بأيدي ولاة ينصبهم الخلفاء، والولاة يشرفون على أمهات الدواوين، وهي: ديوان الجند، وديوان الخراج، وديوان الرسائل، ولكل واحد منها فروع يقوم بها كتاب ومحاسبون، ولما ولي الأغلب بن إبراهيم أحسن إلى الجند، وأجرى الأرزاق الواسعة على عماله فقبض أيديهم عن الناس.
وبينا كان بعض الصنهاجيين يحرصون على تكثير سواد المسلمين أسوة بسائر الدول الإسلامية، حتى إنَّ الحسن بن علي الصنهاجي١٠٧ لما فتح تونس «عرض الإسلام على من بها من الكفار فمن أسلم سلم وإلا قُتل.» كان بعض الملثمين مثل إدريس بن يعقوب أول من أدخل النصارى إلى مراكش واستنصر بهم، ودخل معهم اثنا عشر ألف نصراني (٦٣٠ﻫ) على نحو ما فعل محمد بن سعد المعروف بابن مرذنيش المتغلب على الأندلس قبل نحو قرن، بأن جعل جيشه من الإفرنج١٠٨ اتخذه أجنادًا له وأنصارًا، وذلك حين أحسن اختلاف القواد عليه وتنكر أكثر الرعية له، فقتل بعض قواده، وأقطع الأجناد والقواد الجدد ما كان أولئك القواد يملكونه، وأخرج كثيرًا من أهل مرسية وأسكن النصارى دورهم، ثم بلغت العلاقات بين ملوك المغاربة والإفرنج أن كان أمراء تونس ومراكش يجندون في جيوشهم أبناء الإفرنج، ويأذنون لهم بإقامة شعائر دينهم علنًا في الثكن التي ينزلونها، وعُقدت معاهدات تضمن للفرنج دماءهم وأموالهم، وتبيح لهم أنْ يتحاكموا عند قناصلهم، وأنْ يقيموا شعائر دينهم جهرًا، وكان ملوك الإسلام هم الذين يعطونهم عرصات الأرض اللازمة لبناء الكنائس والمقابر، وهذا كان في القرن الثاني عشر والثالث عشر للميلاد (قاله بونيه موري)، وحدث أنَّ رمضان باي أمير تونس (١١٠٨) بنى لأمه الإيطالية النصرانية كنيسة في تونس١٠٩ الخضراء لما هلكت، فأحدث الأمير المسلم أول معهد ديني نصراني في تلك الديار.

قلنا: إنَّ الرياسة في دولة بني أبي حفص كانت أولًا، والتقديم لوزير الرأي والمشورة، وكان يخص باسم شيخ الموحدين، وقد اختص القلم عندهم أيضًا بمن يجيد الترسل ويؤتمن على الأسرار. وللسلطان قهرمان خاص بداره، وفي أحوال يجريها على قدرها وترتيبها من رزق وعطاء وكسوة ونفقة في المطابخ والاصطبلات وغيرها وخص باسم الحاجب، وكان السلطان في إفريقية إذا جلس للمظالم جلس حوله ثلاثة للرأي والمشورة، وجلس معهم وزير الجند إن كان كبيرًا، وإن لم يكن كبيرًا وقف بإزاء أولئك الثلاثة جلس دونهم عشرة من أكابر أشياخه، وقد يكون هؤلاء الثلاثة من العشرة المذكورين بعد هؤلاء، وهم خمسون نفرًا، فإذا أمر السلطان بأمر بلغه وزير الجند لآخر واقف وراءه، وبلغه الآخر إلى أن يُسمع الأمر السلطاني من خارج الباب، بنقل أناس عن أناس، وتقف جماعة تُسمى بالوقافين بأيديهم السيوف حوله، وهم دون الخمسين المذكورين في الرتبة.

هذا ما نقله ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار على عهد دولة الحفصيين، وذكر أنَّ الجند هم من الموحدين والأندلسيين، ومن قبائل العرب، وقليل ممن هرب وأقام عندهم من مصر، والفرنجة هم خاصة السلطان يُقال لهم العلوج لا يطمئن إلا إليهم، ثم ذكر أرزاقهم وطبقاتهم والإحسانات عليهم والمرتبات والرتب وإحصاء الجيوش، وكان لهذا السلطان ثلاثة وزراء: وزير الجند وهو بمثابة الحاجب بمصر، ووزير المال وهو صاحب الأشغال، ووزير الفصل وهو كاتب السر، ومهما تجدد عند كل واحد منهم أمر يطالبه بالمكاتبة فيما يتعلق بشغله المنوط به، ويجاوبهم بما يراه. قال ابن سعيد والذي يتولى إبلاغ قصص الظلامات إلى هذا السلطان يُسمى صاحب الرقاعات يأخذ براءات المتظلمين؛ أي قصصهم ويعرضها ويخرج بجوابها.

منذ بدأت الخلافة العباسية بالضعف أصبح التاريخ على الجملة تاريخ ملوك الأطراف، أو ملوك الطوائف، أو الأمراء الخاضعين أو المشاكسين، ويستمد كل ملك أو أمير قواعده في إدارة الملك من حاجته ومحيطه، وينسج في ظواهرها على ما أخذه عن بغداد، وقلما يتعدى في الجباية الحد المقرر في الشريعة، ولا يختلف الخروج عنها إلا بقدر قوة السلطان وحاجته وطمعه.

كان ديوان الإنشاء بمصر على مثال ديوان الإنشاء في بغداد،١١٠ أحدثه أحمد بن طولون لما تولى أمر مصر وعظم ملكها، ولم يكن لمصر ديوان إنشاء من قبله، فاتخذ المنشئين وتوالت دواوين الإنشاء بذلك، وكان ابن طولون يقعد للمظالم — كما يقعد الخلفاء — وفي كتابة وجدت على البردي ظهر أنَّ الطولونيين فتشوا مصر تفتيشًا عامًّا من سنة ٢٥٨ إلى سنة ٢٦١. وفي عهد الطولونيين عومل النصارى واليهود معاملة حسنة، واستُخدم كثير من الموظفين من أبناء مصر، وبالغ بنو طولون في عمارة مصر، فاستفادوا مالًا ووفروا الرزق للمصريين، وكانت عدة١١١ العساكر المصرية في أيام أحمد بن طولون اثنى عشر ألف مملوك، وسبعة آلاف حر مرتزق، وأربعين ألف أسود، وكانت عادة الديوان بمصر في أيام بني أمية وبني العباس أربعين ألف فارس.
كان عمل الطولونيين صالحًا من كل وجه خلافًا لبني بويه بالشرق في القرن التالي مثلًا؛ فقد خبط معز الدولة بن بويه في المشرق الناس، واستخرج الأموال من غير وجوهها،١١٢ فأقطع قواده وخواصه وأتراكه الضياع، فصار إليهم أكثر سواد العراق، وزالت أيدي العمال عنه، وبطلت الدواوين وبطلت أزمتها، وجمعت الأعمال كلها في ديوان واحد، فنقص الارتفاع وبطلت العمارة، وسامح الوزراء المقطعين وقبلوا منهم الرشا، وأخذوا المصانعات في بعض، وقبلوا الشفاعات في آخر، فحصلت لهم الإقطاعات بعبر متفاوتة، وأتت الجوائح على التناء١١٣ ورقت أحوالهم، فمن بين هارب جالٍ، وبين مظلوم صابر لا ينصف، وبين مستريح إلى تسليم ضيعته إلى المقطَع ليأمن شره، فبطلت العمارات، وأُغلقت الدواوين، وامحى أثر الكتابة والعمالة، ومات من كان يحسنها، ونشأ قوم لا يعرفونها، ثم تضاعفت النفقات فزادت على الدخل.
وما خلا مع هذا عصر من علماء ينكرون على الملوك ظلمهم الرعية، والظالم لا يرده على الأكثر وعظ واعظ ولا نصح ناصح، وقلما يلين إلا إذا ألانته قوة كأن يخشى ثورة تنشب، أو عدوًّا من بلاده يقرب. لما خرج الظاهر بيبرس البندقداري رأس دولة المماليك إلى قتال التتر بالشام، أخذ فتاوى العلماء بأنه يجوز له أخذ مال من الرعية؛ ليستنصر به على قتال العدو، فكتب له فقهاء الشام بذلك، فقال: هل بقي أحد، فقيل نعم، الشيخ محيي الدين النووي، فطلبه فحضر، فقال: اكتب خطك مع الفقهاء فامتنع، فقال: ما سبب امتناعك، فقال: أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بندقدار وليس لك مال، ثم منَّ الله عليك وجعلك ملكًا، وسمعت أنَّ عندك ألف مملوك كل مملوك له حياصة من ذهب، وعندك مائتا جارية لكل جارية حق من الحلي، فإذا أنفقت ذلك كله وبقيت المماليك بالبنود الصوف بدلًا من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي، أفتيك بأخذ المال من الرعية، فغضب الظاهر من كلامه، وقال: اخرج من بلدي — يعني دمشق — وأنكر فخر الدين بن عساكر على الملك المعظم تضمين المكوس والخمور، فعاقبه بأن انتزع منه المدرسة التقوية والصلاحية بدمشق. وأنكر العلماء على العزيز بن صلاح الدين إعادة المكوس، التي كان أبطلها أبوه وزيادته في شناعتها، ومجاهرته بالمعاصي والمنكرات، وإباحة أرباب الأمر والنهي الخمر والحشيش، وإقامة الضرائب عليها حتى اضطربت الديار المصرية من قلة العدل وكثرة المعاصي والفسوق، والعزيز هذا منع في دمشق استخدام أهل الذمة في شيء من الخدم السلطانية، وأُلزموا لبس الغيار،١١٤ وأين إدارة العزيز من إدارة صلاح الدين بتسامحها ومتانتها؛ فقد ذكر المؤرخون أنه لما عُقد الصلح بين الإفرنج والمسلمين دخل خلق عظيم من الإفرنج إلى القدس للزيارة، فأكرمهم السلطان وقدم لهم الأطعمة وباسطهم.

وبعد، فلم يكن يحول بين الملوك وما يشتهون من الاسترسال في طلب المال من الناس إلا خشية فتاوى أمثال النووي وابن عساكر، ممن يعتقد الشعب صدقهم وصحة يقينهم ويسير إذا دعاه الداعي على رغائبهم، وإذا كان الممتنع عن مماشاة السلطان أو الملك يقصد بما يقول الآخرة أو وجه الله تقف موعظته عند حد الوعظ، لا تتعدى الأقوال، وإذا كان ممن يهتم بالأمور السياسية، ويعرف كيف يصيب الغرض ويبلغ المحز، يثير على السلطان وأصحاب السلطان غارة شعواء، ربما كان فيها زوال أمره وجرأة خصومه عليه. ولا يخلو زمن من حزب مخالف يرى في السياسة المتعبة بعض الحيف أو الخروج عن مقاصد الشرع. وزعماء هؤلاء المخالفين إما أن يقاوموا السلطان ويجاهروه بالعداء وينقدوه لا تأخذهم رهبة ولا رغبة، وإما أن يثيروا من يهوى هواهم يحملونهم على النقد أو الطعن في سياسة الملك، ومنهم من يستعمل الشعراء في الدعوة إلى ما يتطالون إليه من تنبيه الأفكار، يضعون أبياتًا أو آغاني يتناشدها الناس والنساء والأولاد، وفيها صراحة أو شبه صراحة بما يجري في البلاد من الظلم، ومنهم من يكتب إلى السلطان رقاعًا يبسطون له فيها سوء الحال، ويحذرونه قبح المآل عليه وعلى دولته، والسلطان أو الأمير يقابل هذه القوة بمثلها، فيستكثر من الرجال الذين يتخذهم بوق دعاية له، ويحتال بكل حيلة لتحقيق الآمال واستتباع الرجال، فإما أن يغدق المال على من يحاذر مخالفتهم فيعمي أبصارهم وبصائرهم، أو أن يطمعهم في منصب ما كانوا يحلمون بتوليه يشتري به سكوتهم، أو أن يصانعهم على ما يوافق هواهم، فيكون متدينًا مع المتدينين، حرًّا مع الأحرار، يبسم لهذا ويحترم هذا، ويرفع مقامه فيشايعه ويرتضيه، ويحمل مَن وراءه من قومه على مشايعته بدون إعمال فكر ولا نظر. ومن الملوك من كانوا يعمدون في الوصول إلى مآربهم إلى الطرق المشروعة، ولا يطلبون من أمتهم غير المطالب المعقولة التي يقرها جمهور العقلاء.

لما ضاق المسلمون بوطأة الصليبيين عليهم في دمياط كتب الملك المعظم إلى سبط ابن الجوزي الواعظ المشهور، أريد أن تحرض الناس على الجهاد، وتعرفهم ما يجري على إخوانهم أهل دمياط، وإني كشفت ضياع الشام فوجدتها ألفي قرية منها ألف وستمائة أملاك لأهلها وأربعمائة سلطانية، وأريد أن تخرج الدماشقة ليذبوا عن أملاكهم، الأصاغر منهم والأكابر، فأجابوا بالسمع والطاعة، ثم تخلفوا فأخذ الثمن والخمس من أموالهم لتقاعسهم، فما اعترض معترض، ولا نقد ناقد عاقل؛ لأن مطلب السلطان كان ظاهر الفائدة، خاليًا من الشوائب، يقصد من حمل الناس على الحرب غيرته على البلاد وأهلها، ويعرف قومه أنه بعيد عن الإسراف في أموال الرعية لا يجبي مالًا، وفي قصره ألوف وألوف من الجواهر والحلي والذهب على نحو ما فعل الظاهر بيبرس وشق عليه مجاهرة النووي له بالحق. على أنَّ عمل الظاهر في أخذ فتاوى العلماء دليل على أنه لا يخرج عن الشرع، ويحاول تطبيق أعماله عليه، لا يسير سير المستبدين ولو بمراعاة الظواهر، قال ابن إياس: إنَّ الظاهر كان سخيًّا على الرعية باسط اليد، يفرق الغنائم التي تحصل من فتوحاته على الرعية حتى يرغبهم في القتال وقت الحرب، وكان محبًّا للمال كثير المصادرات للرعية لأجل الغزوات والتجاريد، وينفق ذلك على العسكر، ولما وردت الأخبار في سنة سبعمائة بعودة التتر إلى الشام، صدر أمر سلطان مصر من المماليك باستخراج ثلث أموال غالب الأغنياء بمصر والشام؛ لاستخدام المقاتلة وبرز إلى محاربتهم بنفسه، فكان في ذلك النصر، ودفع عادية الأعداء عن البلاد.

كان الإخشيد أول من عمل الرواتب في مصر، وعمل له تقدير يحجز فيه المرتب عن الارتفاع، فأريد على أن يحط من الجرايات والأرزاق، فرأى أصحاب الرواتب الضعفاء وفيهم المستورون وأبناء النعم، فأخذ هذا العجز من كاتبه، أما الخلفاء فاقتنعوا في عصور الضعف أن تضمن الولايات من ديونهم بمال يُحمل إليهم، وكانوا يضيقون فتنفجر الثورات، وأكثر ما يثور الجند لانقطاع أرزاقهم ورواتبهم، وكان الدافع إلى كثير من الثورات الأهلية ظلم العمال وجوع النساء والأطفال، والناس في مثل هذه الأحوال يلبون دعوة من يتقدم أمامهم ليتبعوه، والوزراء والكبراء ينهبون الرعايا من جهة ويطعمونهم من جهة أخرى.

كان الوزير ابن الفرات من أكبر رجال السياسة والإدارة في العباسيين، يسلب ما يسلب بطرق له يعرفها، ومنها أخذ مئات الألوف من الدنانير من ديوان الخاصة؛ أي أموال الخليفة يدبر لاقتنائها طرقًا ملتوية، ومع هذا يجري على خمسة آلاف إنسان ما بين مائة دينار في الشهر إلى خمسة دراهم، وبنى داره بثلاثمائة وخمسين ألف دينار، وكان من المحسن ابنه وخليفته على عماله، وهو على ديوان المصادرات، من الجور والعيث، ما جمع به في آخر وزارة أبيه الثالثة بضعة ملايين دينار، وكان راتب الوزير في هذا العهد خمسة آلاف دينار في الشهر.

ولولاة الأقاليم وأمرائها وملوكها طريقة في أخذ الأموال فيها غرائب، فإن سيف الدولة بن حمدان صاحب الموصل وميافارقين وحلب أراد أن يستصفي غوطة دمشق لنفسه، وكانت لألوف من الناس، فخاف أهل دمشق على غوطتهم، وكتبوا إلى كافور الإخشيدي صاحب مصر، فجاء واستولى على دمشق وأعمالها. وكان سيف الدولة هذا يجوز أخذ ما في أيدي الناس، ويجور ولا يبالي، وأفحش قاضيه أبو الحصين١١٥ في الظلم، فكان إذا مات إنسان أخذ تركته لسيف الدولة، وقال: «كل من هلك فلسيف الدولة ما ترك.» وصادر له تجارًا في بالس (مسكنة) على ألف ألف دينار، واشتد ظلم سيف الدولة وظلم آل بيته على بني حبيب، وهم بنو عم بني حمدان، وكانت منازلهم في نصيبين تضمن منذ أول الإسلام بمائة ألف دينار، حتى اضطروا أن يهاجروا إلى الروم، وكانوا اثني١١٦ عشر ألف فارس فتنصروا بأجمعهم وعادوا إلى بلاد الإسلام، بعد أن قويت نفوسهم بملك الروم يغزون ويفسدون.
كان سيف الدولة يأتي هذا الظلم، ويفضل من جهة على الشعراء فضلًا قلما يُسمع بمثله، وقد ضرب دنانير للصلات في كل دينار، منها عشرة مثاقيل وعليه صورته ورسمه، وأعطى أبا فراس الحمداني لما ارتجل له أبياتًا ضيعة بمنبج تغل ألف دينار، ووصل المتنبي١١٧ بخمسة وثلاثين ألف دينار في مدة أربع سنين، وكان سيف الدولة لا يملك نفسه، كان يأتيه علوي من بعض جبال خراسان كل سنة فيعطيه رسمًا له جاريًا على التأييد، فأتاه وهو في بعض الثغور، فقال للخازن: أطلق له ما في الخزانة فبلغ أربعين ألف دينار، فشاطر الخازن وقبض عشرين ألف دينار، إشفاقًا من خلل يقع في عسكره وهو في الحرب.
وكانت حضرة سيف الدولة في مملكته الصغيرة أعظم من حضرة بني العباس، يتبارى الشعراء في مدحه، وهو لا يستحي أن ينكب قرية أو قرى ليجيز شاعرًا، ويخرب إقليمًا أو يبطل تجارة جسيمة ليعمر قصرًا وتتم له رفاهيته وبذخه، وقد خرب الرِّقة والرافقة من ديار مضر بما حملهما من الكلف والنوائب، وبمصادرة أهلهما١١٨ مرة بعد أخرى، وكان إذا أكل الطعام يحضر على مائدته أربعة وعشرون طبيبًا، وينشئ من القصور ما يعجز عنه الخوالف من بني العباس. قال الأزدي:١١٩ إنَّ سيف الدولة كان معجبًا برأيه، محبًّا للفخر والبذخ، مفرطًا في السخاء والكرم، شديد الاحتمال لمناظريه والعجب بآرائه، سعيدًا مظفرًا بحروبه، جائرًا على رعيته اشتد بكاء الناس عليه ومنه، بكوا عليه لدفاعه عن أرض الإسلام وتوليه غزو الروم، وبكوا منه لظلمه وسوء إدارته.
وبينما كان سيف الدولة يعمل هذا لاستدرار الأموال والإفضال على من يحب، كان كافور صاحب مصر، وهو خصي أسود، يضن بالدانق إلا على مصالح الدولة، ويضن على الشاعر المتنبي نفسه، فلا يقلده ولاية من ولاياته، ويقول: إنَّ من ادعى النبوة مع محمد ألا يدعي الملك مع كافور؟ وكان رسمه أن يستقبل العيد بيوم «تُعد فيه الخلع والحملانات، وأنواع المباز لرابطة جنده وراتبة جيشه.» وقد تقدم إلى سائر دواوينه ألا يعطي دينار ولا درهم إلا بتوقيع يعقوب بن كلس فوقع في كل شيء، ويعقوب هذا منظم المالية في الدولتين الكافورية والفاطمية، وقامت الدولة الفاطمية في إفريقية ومصر لأول أمرها على إدارة وترتيب، ووضع المعز والعزيز من الفاطميين نظامًا دقيقًا في المالية والإدارة،١٢٠ وكان لهما من ابن كلس وزير على ضعفه يفيد الدولة بنصائحه الثمينة. عهد المعز إلى يعقوب بن كلس، وكان يهوديًّا فأسلم، وإلى عسلوج بن الحسن بوضع نظام جديد للضرائب بدل النظام القديم، فوضعا قانونًا لتقدير الأملاك وتحديد الضرائب، ومنع الجباة من الاستطالة والظلم فزاد ريع القطر، قلدهما المعز الخراج والحسبة والسواحل والعشور والجوالي والأحباس والمواريث والشرطتين.
لما فتح جوهر الصقلي مصر باسم مولاه المعز تعهد لأهلها في الكتاب الذي دفعه إليهم بإسقاط الرسوم الجائرة، وأن يجريهم في المواريث على كتاب الله وسنة نبيه، وأن يضع ما كان يؤخذ من تركات موتاهم لبيت المال من غير وصية من المتوفى بها، وقل في الفاطميين العادل العف عن الأموال من الوزراء، فقد ولي الوزارة الحسن بن علي اليازوري بالإكراه، وكان غنيًّا ولا يستبد١٢١ برأيه، ولا يأنف من مشاورة ثقاته وأصفيائه، ومع هذا كان نصيبه القتل (٤٥٠) بوشاية الواشين، ولم يكن١٢٢ بعده من يعادله في كفاءته من الوزراء الفاطميين، فكثرت الدسائس في الجيش والقصر حتى تعاقب على الوزارة أربعون وزيرًا في تسع سنوات.
وزاد هذه الحالة سوءًا ذلك النزاع الذي قام بين عناصر الجيش من الأتراك والسودانيين، واستكثر المعز من الجند بمصر، فكانوا ما بين كتامة وروم وصقالبة وبربر ومغاربة، لا يحصون كثرة حتى قيل لم يطأ الأرض بعد جيوش الإسكندر بن فيلبس الرومي الكبير أكثر من جيوش المعز الفاطمي. واستكثر١٢٣ العزيز من المماليك الديالمة والمصامدة والأتراك المغول. وعُني الفاطميون بالأُسطول، وكان له ديوان خاص حافظ عليه صلاح الدين لما أخذ الملك منهم، وكان عمال الدولة الفاطمية وولاتها موسعًا عليهم في الرزق، ثم كثر صرف أكثر الوزراء والولاة والقضاة أوائل النصف الثاني من القرن الخامس؛١٢٤ لكثرة مخالطة الرعاع للخليفة وتقدم الأراذل، بحيث كان يصل إليه في كل يوم ثمانمائة رقعة فيها المراجعات والسعايات، فاشتبهت عليه الأمور وتناقضت الأحوال، ووقع الاختلاف بين عبيد الدولة، وضعفت قوى الوزراء عن التدبير لقصر مدة كل منهم، وخربت الأعمال لقلة ارتفاعها، وتغلب الرجال على معظمها، مع كثرة النفقات والاستخفاف بالأمور وطغيان الأكابر، وما كان الفاطميون يرون أنجع لاتقاء شر الولاة من المسارعة إلى تبديلهم مخافة أن يشقوا عصا الطاعة، ومن ارتضوا سيرته كابن عمار في طرابلس أنشأ له دولة صغيرة، والغالب أنَّ ما دعاهم لإغماض العين عنه، والتساهل معه في إساغته أموالها، إرادتهم في أن يجعلوا من بلده مركزًا من الدعوة إلى التشيع في الشام، ومن خلفائهم من كانوا على تدين وتصون، ومنهم من كانوا مستهترين مشغوفين باللهو كالظاهر (٤٢٧) فتأنق الناس في أيامه بمصر، واتخذوا المغنيات والرقاصات، وبلغوا من ذلك مبلغًا عظيمًا.

ومع أنَّ من مقتضى مذهب الفاطميين البعد عن أهل الذمة لم يتلكأ بعض خلفائهم من الاعتماد عليهم في إدارة مصر والشام؛ فقد وسد العزيز الفاطمي الأمر لرجل من الأقباط اسمه نسطورس، وقلد أموال الشام ليهودي اسمه منشا، يجمعان الأموال ويوليان أبناء نحلتهما الأعمال، ويعدلان عن الكُتَّاب والمتصرفين من المسلمين، فغضب الناس في مصر والشام، وعمد بعضهم في القاهرة إلى مبخرة من حديد، وألبسها ثياب النساء وزينها بإزار وشعرية، وجعل في يدها قصة على جريدة، وكتب فيها رقعة ليراها العزيز عند مروره، وهي «بالذي أعز جميع النصارى بنسطورس، وأعز جميع اليهود بمنشا، وأذل جميع المسلمين بك إلا ما رحمتهم، وأزلت عنهم هذه المظالم.» فتوسطت ست الملك ابنة العزيز لنسطورس فعفا عنه، بعد أن حمل إلى الخزانة ثلاثمائة ألف دينار، وأعاده العزيز إلى ما كان ناظرًا فيه، وشرط عليه استخدام المسلمين في دواوينه وأعماله، وأما منشا فقُتل ولم يشفع به أحد.

وكانت جبايات الفاطميين فاحشة والفتن متصلة، وعمالهم يبالغون في ارتكاب المظالم، فخربت البلاد وجلا عنها أهلها وتعطلت الزراعة. ومع أنَّ الرواتب والإقطاعات كانت كثيرة بل فاحشة المقدار في الدولة الفاطمية، كانت الرشوة وضياع الحقوق من الأمور المألوفة، كان راتب الوزير الفاطمي في كل شهر خمسة آلاف دينار،١٢٥ ومن يليه من ولد أو أخ من ثلاثمائة دينار إلى مائتي دينار وربما خمسمائة دينار، ثم لحواشيه خمسمائة دينار إلى أربعمائة دينار إلى ثلاثمائة خارجًا عن الإقطاعات، ولأكبر أرباب الأقلام في الشهر مائتان وخمسون دينارًا حبشية، ومن الرواتب والغلة ما إذا بسط وثمن كان نظير ذلك، ثم دون ذلك ودون دونه، ولأعيانهم الرواتب الجارية من اللحم والخبز والعليق والشمع والسكر والكسوة، ونحو ذلك مما هو جارٍ على العلماء وأهل الصلاح من الرواتب والأرضين المؤبدة وما يجري مجراها، يتوارثه الخلف عن السلف، ولا يوجد بمملكة من الممالك، ولا مصر من الأمصار، ويبلغ إقطاع الواحد من أكابر الأمراء مائتي ألف دينار حبشية، وربما زاد على ذلك.

وإقطاع الأمراء في مصر أفحش مما هو في الشام، وكان رزق أحمد بن خيران الملقب بولي الدولة صاحب ديوان الإنشاء ثلاثة آلاف دينار في كل سنة، وله عن كل ما يكتبه من السجلات والعقود، وكتب التقليدات رسوم يستوفيها من كل شيء بحسبه. وقد خلف الأفضل وزير المستنصر والمستعلي والآمر (٥١٥) من العين ستمائة ألف ألف دينار، ومن الفضة مائتين وخمسين أردبًا وسبعين ألف ثوب ديباج أطلس إلى آخر ما خلف. وخلف جوهر القائد من الذهب العين ستمائة ألف ألف دينار، ومن الدراهم أربعة آلاف ألف درهم، ومن اللؤلؤ الكبار واليواقيت أربعة صناديق إلى آخر ما خلف، وإذا كان وزير من وزرائهم يجمع هذا القدر العظيم من النعمة فما يكون في أيدي غيره وأيدي خلفائهم؛ فقد وقع صلاح الدين لما أخذ مصر منهم على كنوز عظيمة في قصورهم، لا يستطيع قلم أن يدوِّنها، وهذا كله ما جُمع من طرق مشروعة، والفلاح كان في شدة بالطبيعة.

وكثر في آخر أمر الفاطميين «القبض والمصادرات واصطفاء الأموال والنفي»، وكانوا إذا صرفوا وزيرًا لا يعيدونه إلى العمل، وكان الوزير ابن البطائحي١٢٦ أول من عمل إحصاء سكان البلاد، وتدوينها في قوائم خاصة سماها ابن ميسر أوراق «التصقيع»، ووضع أوراق السفر للداخل إلى البلاد والخارج منها، ووضع الجواسيس ومنهن النساء يتسقطن أخبار الناس لما ينفع الدولة، وفي أواخر أيامهم كان الوزير يجلس للمظالم بنفسه، ومعه قاضي القطاة والموقع وصاحب ديوان المال، وإذا خلت مصر من وزير صاحب سيف يجلس للنظر في المظالم صاحب الباب، وكان القضاة منذ استولى الفواطم على مصر يقضون بالمذهب الإسماعيلي، وبطل العمل مدة حكمهم بالمذهب الشافعي وغيره؛ أي إنَّ المذهب الإسماعيلي كان مذهب الدولة القائمة، وعنوا عناية خاصة بالدعوة إلى مذهبهم، وكان له دعاة ودعاة دعاة، ولهم ديوان خاص تنفق عليه الدولة نفقات كبيرة، كما تُعنى بديوان الإنشاء واختيار بلغاء الكُتَّاب له ما بين مسلم وذمي.١٢٧
وكان حملة الأقلام أو كُتَّاب الدواوين يتولون الجباية والنفقات على اختلاف فروعها، وهم عبارة١٢٨ عن ثمانية عشر صنفًا، وهم: ناظر ومتولي ديوان ومستوفٍ ومعين وناسخ ومشارف وعامل وكاتب وجهبذ وشاهد ونائب وأمين وماسح ودليل وحائز وخازن وحاشر وضامن، ولكل منهم أمر يتوجه عليه الخطاب فيه. وتتبدل الأسماء بتبدل الدول والمسميات واحدة، وابتليت الدولة الفاطمية بالجود بالألقاب العجيبة على وزرائها وعمالها، يسمون أحدهم «الوزير الأجل الأسعد المكين الحفيظ الأمجد الأمين عميد الخلافة، جلال الوزراء تاج المملكة، وزر الإمامة شرف الملة كفيل الدين» إلخ، ويطلقون على آخر «سيد الوزراء ظهير الأمة عماد الخلصاء فخر الأمة»، وعلى آخر «الوزير الأجل الأوحد، جلال الإسلام ظهير الإمام، قاضي القضاة وداعي الدعاة، شرف المجد خليل أمير المؤمنين وخالصته، ثقة الدولة وسناؤها» إلى غير ذلك من المبالغات الأعجمية التي لا تسمن ولا تغني.

هذه تراتيب الفاطميين، ولا يشفع في هذه الإدارة بسطهم الأيدي في إعطاء الألوف للشعراء والفقهاء والدعاة. وكانت حالة الدولتين الصلاحية والنورية على عكس ذلك؛ كان طغتكين صاحب دمشق، ومن عظماء أمراء السلاجقة (٥٢٢) مثالًا من صاحب الإدارة الحسنة، أعاد إلى الرعية كثيرًا من أملاكهم التي اغتصبها منهم ولاة الجور، وجرت عليها أحكام المقاسمة، وأرجعها إلى خراجها القديم، وأحيا الأرض المعطلة، وباع منها ما كان شاغرًا للناس يعمرونه، وعمرت البلاد بجميل سياسته وحسن تدبيره، وانبسطت الرعية في عمارة الأملاك.

وكان نور الدين زنكي كوالده ينهي أصحابه عن اقتناء الأملاك؛ لأن الإقطاعات تغني عنها، قال: ومتى صارت الأملاك لأصحاب السلطان ظلموا الرعية وغصبوهم أملاكهم، وكان إذا١٢٩ توفي أحد الأجناد وخلف ولدًا أقر الإقطاع عليه، فإن كان الولد كبيرًا استبد بنفسه، وإن كان صغيرًا رتب معه رجلًا يثق به فيتولى أمره إلى أن يكبر، فكان الأجناد يقولون: هذه أملاكنا يرثها الولد عن الوالد فنحن نقاتل عليها، قالوا: وكان ذلك سببًا عظيمًا من الأسباب الموجبة للصبر في المشاهد والحروب، وكان أيضًا يثبت أسماء أجناد كل أمير في ديوانه وسلاحهم خوفًا من حرص بعض الأمراء، وشحه أن يحمله على أن يقتصر على بعض ما هو مقرر عليه من العدد، ويقول: نحن كل وقت في النفير، فإذا لم يكن أجناد الأمراء كافة كاملي العدد والعدة دخل الوهن على الإسلام.
وكان نظام الملك وزير السلجوقيين أول من فرق الإقطاعات على الجند فعمرت البلاد، وكثرت الغلات، واقتدى به من جاء بعده من الملوك، وكانت عادة الخلفاء١٣٠ من بني أمية وبني العباس والفاطميين من لدن عمر بن الخطاب أن تُجبى أموال الخراج، ثم تُفرق من الديوان في الأمراء والعمال والأجناد، ويُقال لذلك في صدر الإسلام العطاء، وغير العجم هذه الرسوم، وأصبح من الأرض ما يوغره أصحابه؛ أي يدفعون عنه قدرًا من المال مرة واحدة فيُعفى من الخراج، أو يلجئونها، والإلجاء أن يلجأ صاحب الأرض إلى بعض الكبراء، فيسجل ضيعته باسمه تعززًا به من عمال الخراج، حتى لا يجوروا عليه فتصبح الضيعة ملكًا لذاك الكبير، وفي دولة السلاجقة كان يُسمى صاحب ديوان الإنشاء أو كاتب السر الطغراوية، والطغراء هي الطرة بالفارسية، وكذلك الحال في بعض دول المشرق.

استفتى نور الدين الفقهاء في أخذ ما يحلُّ له من المال، فأخذ ما أفتوه بحله ولم يتعده إلى غيره، وأسقط كل ما يدخل في شبهة الحرام، فما أبقى سوى الجزية والخراج وما يحصل من قسمة الغلات، وكتب أكثر من منشور بذلك، وأطلق في بلاده المظالم؛ أي القرى التي استصفاها بعضهم بالعنف من أربابها، وأسقط من دواوينه عن المسافرين الضرائب والمكوس، وحرمها على كل متطاول، وأقطع أمراء العرب لئلا يتعرضوا للحاج، وجدد قنى السبل ووقف الكتب الكثيرة، وأجرى على العلماء والقرَّاء، وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف فيما يخصه إلا من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة، ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، وكان يبعث بما يصل إليه من الهدايا، وغيرها إلى القاضي يبيعه ويعمر به المساجد المهجورة ولا يتناول منه شيئًا، ووقف الوقوف الكثيرة بعشرات الألوف من الدنانير على المدارس والجوامع، وعمارة الطرق والجسور، ودور المرضى والبائسين والخانات، وإقامة الأبراج والقلاع ومكاتب الأيتام.

هذه زبدة ما قاله ابن الأثير في سيرة نور الدين، ومما قال: قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا — أي في القرن السادس — فلم أرَ بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين، ولا أكثر تحريًا للعدل والإنصاف منه. وكان نور الدين أول من بنى دار العدل بدمشق، ثم بنى مثلها في مصر، وجلس فيها الملوك منذ عهد صلاح الدين.

أما صلاح الدين فقد سار بسيرة نور الدين، سامح بمئات الألوف من الدنانير، وأعطى عطاء من لا يخاف الفقر، وأجرى كل سنة مبلغًا لا يقل عن مائتي ألف دينار على أرباب العمائم في دولته، وكان يضن كل الضنانة برجاله، أُسر قاضيه الهكاري فافتداه بمبلغ جسيم، وكان يصل كاتبه ووزيره ومشاوره القاضي الفاضل بالألوف، ويضن على أهله وأولاده، والقاضي الفاضل في الحروب الصليبية يشبه بدهائه وإخلاصه وعلمه أكبر ساسة الغرب في عهد نهضته الأخيرة، وهو الذي منع صلاح الدين عن الحج لما أراده، وقال له: إنَّ رفع المظالم من البلاد، والقعود للإفرنج بالمرصاد، على حين تقطر السيوف دمًا، أفضل من حجك فأطاعه.

كان صلاح الدين يجلس في كل يوم اثنين، وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير أو صغير وعجوز وهرمة وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفرًا وحضرًا، على أنه كان في جميع زمانه قابلًا لما يُعرض عليه من القصص، وفي كل يوم يفتح باب العدل، وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل وإما في النهار ويوقع على كل قصة، ولم يرد قاصدًا أبدًا، وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قصته وكشف ظلامته، واقتصر في جباياته على الخراج والعشور على الزراع مما أباحه الشرع. هكذا فعل في مصر لما قضى على دولة الفاطميين، وكانت المكوس فيها فاحشة فأسقطها، وأنواعها كثيرة جدًّا فألغاها، ورجع إلى الزكوات المشروعة والخراج عن الأرض، وكان قبل الفاطميين أيضًا مكوس وضعها أمراء السوء، فأُبطلت كلها في الدولة الصلاحية، ثم كانت بعض تلك الرسوم والمكوس تُعاد إلى سابق حالها، ومنها الشائن كالمكس على المغنيات والفاحشات، وتصدر بالبواقي مساميح أيام العقلاء من الملوك في الدول المختلفة.

هذه بعض سيرة صلاح الدين في مصر وفي الشام، وكذلك كان أخوه أبو بكر بن أيوب سار على طريقته، وأبطل كثيرًا من المظالم والمكوس، وطهر بلاده من الفواحش والخمور والقمار، بيد أنه حدث في عهد بعض أولاده صلاح الدين ما أوجب نقد المؤرخين لهم، قال المقريزي:١٣١ وفي أيام الملك العزيز عُدمت في مصر الأرزاق من جانب الديوان، وتعذرت وجوه المال حتى عم المرتزقة الحرمان، واستُبيح ما كان محظورًا من فتح أبواب التأويلات، وأخذ ما بأيدي الناس بالمصادرات، وصار الإنفاق في السماط السلطاني من هذه الوجوه، قال: وضمن العنب بعصر الخمور، وحُمل من ضمانه شيء إلى العزيز فصنع به آلات الشرب، ووقف الحال فيما يُنفق في دار السلطان، وفيما يُصرف إلى عياله، وفيما يقتات به أولاده، وأفضى الأمر إلى أن يُؤخذ من الأسواق ما لا يوزن له ثمن وما يُغصب من أربابه، وأفضى هذا إلى غلاء أسعار المأكولات، فإن المتعيشين أرباب الدكاكين يزيدون في الأسعار العامة بقدر ما يُؤخذ منهم للسلطان، فاقتضى ذلك النظر في المكاسب الخبيثة وضمن المزر والخمر باثني عشر ألف دينار، وفسح في إظهاره وبيعه في القاعات والحوانيت، ولم يقدر أحد على إنكار ذلك، وصار ما يُؤخذ من هذا السحت يُنفق في طعام السلطان وما يحتاج إليه، وصار مال الثغور والجوالي إلى من لا يبالي من أين أخذ المال.
وما كان مثل هذا الإسفاف يقع في عهد صلاح الدين الذي ملأ بلاده بأعمال الخير في مصر والشام، وأغدق هباته على الطُّرَّاء والتناء،١٣٢ وأدر الأرزاق والمشاهرات على المدرسين والدارسين، وعلى الفقراء والصالحين، وعلى الحجاج والمجاورين، وما كان يطعم إلا المال الحلال، ولا يجوز غير ما جوزه الشرع من الأموال. قال السيوطي:١٣٣ فلقد كان إمامًا عادلًا وسلطانًا كاملًا، لم يلِ مصر بعد الصحابة مثله لا قبله ولا بعده. وقال ابن خلكان:١٣٤ «ولقد فكرت في نفسي في أمور هذا الرجل (صلاح الدين)، وقلت: إنه سعيد في الدنيا والآخرة، فإنه فعل في هذه الدنيا هذه الأفعال المشهورة من الفتوحات الكثيرة وغيرها، ورتب هذه الأوقاف العظيمة، وليس له فيها شيء منسوب إليه في الظاهر.» قال صلاح الدين لأحد خاصته وقد استعداه على جَمَّال: ما عسى أن أصنع لك وللمسلمين قاضٍ يحكم بينهم، والحق الشرعي مبسوط للخاصة والعامة، وأوامره ونواهيه ممتثلة، وإنما أنا عبد الشرع وشحنته، فالحق يقضي لك أو عليك.١٣٥

رأى نور الدين وصلاح الدين أنَّ بلادهما كادت تخلو من علماء ممتازين، فأخذا يستدعيان العلماء من البلاد الإسلامية الأخرى، وكلما سمعا بعالم كبير زينا له نزول بلادهما، وعمرا له المدارس، وحققا له جميع رغائبه ومطالبه، وهما يريان في ذلك منة له عليهما؛ ولذلك كثر العلماء والشعراء في عهديهما، وكان منهم المجود والفهامة. وكان نور الدين متبحرًا في الشرع وألَّف كتابًا في الجهاد، وصلاح الدين لكثرة ما خالط العلماء وأخذ عنهم كان في مجالسه وحديثه كأنه من كبار الفقهاء، يضرب في كل علم من علوم الدين بالسهم الصائب، وهو متفرد في معرفة وقائع الأمم وسير الليالي.

إدارة المماليك

انتظمت دولة المماليك في بعض أدوار العظماء من ملوكها في مصر والشام، وكان أكثرهم مع الشرع لا يقطع أمرًا بغير رأي الفقهاء؛ فالظاهر بيبرس أولهم لم يرضَ أن يأخذ مالًا غير المقرر من بلاده؛ ليحارب التتر إلا لما أخذ خطوط العلماء جميعهم، وأراد أن يقرر القطيعة١٣٦ على البساتين بدمشق، واحتاط عليها وعلى الأملاك والقرى، فنهاه القاضي قائلًا هذا ما يحل،١٣٧ ولا يجوز لأحد أن يتحدث فيه وقام مغضبًا. ولما جاء السلطان مصر أحضر العلماء، وأخرج فتاوى الحنفية باستحقاقها بحكم أنَّ دمشق فتحها عمر بن الخطاب عنوة، ثم قال من كان معه كتاب عتيق أجريناه عليه، وإلا فنحن فتحنا هذه البلاد بسيوفنا، ثم قرر عليهم ما أراد وما سامح به، وتوسع الظاهر في كل شيء، في البناء والنفقة والجيش، قالوا: وكانت العساكر في الديار المصرية في أيام غيره عشرة آلاف فارس فضاعفها أربعة أضعاف، وكانت الملوك قبله مقتصدين في النفقات والعدد وعسكره بالضد من ذلك، وكانت كلف المطبخ الصالحي النجمي ألف رطل لحم بالمصري كل يوم فضاعفها عشر مرات.
كان جند١٣٨ المماليك مختلطًا من الأتراك والشركس والروم والأكراد والتركمان، وغالبهم من المماليك المبتاعين، ولا يقل الفرسان منهم في مصر وحدها عن خمسين ألفًا، ولهم الإقطاعات الكثيرة والجرايات الدارة، والجيوش على قسمين، منهم من هو بحضرة السلطان، ومنهم من هو في أقطار المملكة وبلادها. وسكان بادية كالعرب والتركمان، والمماليك طبقتان:١٣٩ المماليك السلطانية، وهم أعظم الأجناد شأنًا، ومنهم يُؤمر الأمراء رتبة بعد رتبة، وهم في العدة بحسب ما يؤثره السلطان من الكثرة والقلة، والطبقة الثانية أجناد الحلقة، وهم عدد جم وخلق كثير، وأجناد الحلقة هم القائمون أبدًا بسلاحهم يشبهون الحامية، ولكاتب الجيش جريدة بأسماء الأجناد وإقطاعاتهم وخيولهم، ولهم نقباء يعرفون أحوال الأجناد من الحياة والموت والغيبة والحضور.

وفتح أحد ملوكهم باب قبول البدل في الإقطاعات والوظائف، وجعل لذلك ديوانًا؛ وذلك لأنه كان متطلعًا إلى جمع المال، وألزم ديوان الجيش الفلاحين بالفلاحة في الإقطاعات، ومن نزح من دون ثلاث سنين يُعاد إلى قريته قهرًا، فخربت البلاد وكثرت المظالم والمغارم. وكان من ملوكهم من يستكثر لضعفه من الأنصار، ويتسلط على عقول السذج من العربان وأرباب الدعارة، والمماليك يتفننون في أخذ أموال الناس وهتك حرمهم. وحدث بعد الناصر قلاوون بين أجناد الحلقة نزول الواحد منهم عن إقطاعه لآخر بمال أو مقايضة الإقطاعات بغيرها، فكثر الدخيل في الأجناد بذلك، واشترت السوقة والأراذل الإقطاعات حتى صار أكثر أجناد الحلقة أصحاب حرف وصناعات، وخربت بهم أرض إقطاعاتهم.

كان الرسم في دولتي المماليك أن تقبَّل الأرض بين يدي الملك، كأن يحاول الملك الذي كان مملوكًا أن يملك الأحرار، بإذلال الكبير والصغير من رعيته. ويرى الباحث في عهد المماليك ألوانًا من الأحكام والقانون وعمرانًا من جهة، وخرابًا من أخرى، وقلَّ أن جاء منهم رجل لم يطلق المال لإقامة المصانع والمعاهد في بلاده، وإذا رأيناهم من جهة يأخذون من الناس أموالًا في الشدائد، فقد رأينا منهم ملوكًا يبطلون كثيرًا من المكوس والمظالم ينادون في الجوامع برفعها، وينقشون المرسوم العالي في رخام أو على سواري المساجد، ويلعنون فيها من يعود إلى تجديدها.

ولقد أصبحت أحكام مجالس المظالم في دولتهم أحكامًا سياسية؛ أي إنها لا تتقيد بالشريعة فقط، فالأحكام عندهم على قسمين: حكم الشرع وحكم السياسة، وحكم الشرع معلوم، وحكم السياسة القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال، ويرى المقريزي أنها قواعد ورثوها عما سنه لهم جنكيز خان، وكان هذا لا يدين بدين ويحكم العقل في دولته، ففوضوا لقاضي القضاة كل ما يتعلق بالأمور الشرعية، ورجعوا إلى عادات جنكيز والاقتداء بقانونه، فنصبوا الحاجب ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه من عقائدهم، وجعلوا إليه النظر في قضايا الدواوين السلطانية، وكانت من أجل القواعد وأفضلها حتى تحكم القبط في الأموال وخراج الأرضين، فشرعوا في الديوان ما صار لهم به سبيل إلى أكل الأموال بغير حقها.

قال «هذا وستر الحياء يومئذ مسدل، وظل العدل ضافٍ، وجناب الشريعة محترم، وناموس الحشمة مهيب، فلا يكاد أحد يزيغ عن الحق، ولا يخرج عن قضية الحياء، إن لم يكن له وازع من دين كان له ناهٍ من عقل، ثم تقلص ظل العدل وسفرت أوجه الفجور، وكشر الجور عن أنيابه، وقلت المبالاة، وذهب الحياء والحشمة من الناس، حتى فعل من شاء ما يشاء، وتعدت — منذ عهد المحن التي كانت في سنة ست وثمانمائة — الحجاب وهتكوا الحرمة، وتحكموا بالجور تحكمًا خفي فيه نور الهدى وتسلطوا على الناس …»

كانت وظيفة الوزارة أجل رتب أرباب الأقلام؛ لأن متوليها تالي السلطان، وقدم المماليك رتبة النيابة على الوزارة، وولِّي الوزارة أناس من أرباب السيوف، وأناس من أرباب الأقلام، فصار الوزير إذا كان من أرباب الأقلام يُطلق عليه اسم الصاحب، ويُقال لوزير الدولة ناظر النظار أو ناظر المال، وتلي رتبته رتبة الوزارة، والوزير ينظر في المكوس وبعض الدواوين ومصارف المطبخ السلطاني والسواقي، وإليه يرجع ناظر الدولة وشادُّ الدواوين، وناظر بيت المال، وناظر الأهراء ومستوفي الدولة، وناظر الجهات، وموضوع شد الدواوين أن يكون صاحبها رفيقًا للوزير، متحدثًا في استخلاص الأموال، وأهم جميع هذه الوظائف «النيابة»، ويُعبر عن صاحبها بالنائب الكافل، وكافل الممالك الإسلامية، وصاحبها يحكم في كل ما يحكم فيه السلطان، ويعلم في التقاليد والتواقيع والمناشير، وسائر النواب لا يعلم الرجل منهم إلا على ما يتعلق بخاصة نيابته، والنائب يستخدم الجند من غير مشاورة السلطان، ويعين أرباب الوظائف الجليلة كالوزارة وكتابة السر، وهو سلطان مختصر بل هو السلطان الثاني. وهناك وظيفة نائب الغيبة، وهو الذي يتولى الأمر إذا غاب السلطان والنائب الكافل. وأحدثوا في عهد محمد بن قلاوون وظيفة ناظر الخاص ولم تكن تُعرف١٤٠ أولًا، وهي أشبه بناظر الخاصة يتولى خصوصيات الملك ويدبر أموره، وفي أيام قلاوون أُحدثت وظيفة كتابة السر، وكانت هذه الوظيفة قديمًا في ضمن الوزارة، والوزير هو المتصرف في الديوان وتحت يده جماعة من الكُتَّاب، وفيهم رجل كبير يُسمى صاحب ديوان الإنشاء، وصاحب ديوان الرسائل، وذكر ابن خلدون أنَّ أهل هذه الرتبة العالية — أي الوزارة — استنكفوا في دولة الترك بمصر عن اسم الوزارة، وصار صاحب الأحكام والنظر في الجند يُسمى عندهم بالنائب، وبقي اسم الحاجب على مدلوله، واختص اسم الوزير عندهم بالنظر في الجباية.

والولاة هم أصحاب الشرطة، وكان والي مصر أو ملكها منذ عهد ابن طولون يجلس للنظر في المظالم، وإذا ضعفت قوة الدولة يجري نقل الولاة والنواب في الأقاليم بسرعة، حتى قال ابن الوردي منكرًا هذه الطريقة في التبديل وناعيًا على الدولة أثرها في إضعاف البلاد:

هذي أمور عظام
من بعضها القلب ذائب
ما بال قطر يليه
في كل شهرين نائب
كان أرباب الوظائف من الأمراء بعد النيابة والوزارة أمير السلاح والدوادار والحجبة وأمير جاندار والاستادار والمهمندار ونقيب جيوش الولاة. وأمير السلاح١٤١ هو المتولي أرباب السلاح وحمل سلاح السلطان في المجامع العامة، والدوادار مبلغ الرسائل عن السلطان والقصص المقدمة إليه، وربما أخرج المراسيم السلطانية بغير مشاورة كما يخرج نائب السلطنة، ورتبة الحجبة قد تكون جليلة في بعض الأدوار، وكانت تلي رتبة نيابة السلطنة، ويُقال لأكبر الحجبة حاجب الحجاب، وموضوع الحجبة أنَّ متوليها ينصف من الأمراء والجند تارة بنفسه، وتارة بمشاورة السلطان، وطورًا بمشاورة النائب، وكان إليه تقديم من يعرض ومن يرد وعرض الجند، فإن لم يكن نائب السلطنة فإنه هو المشار إليه في الباب، والقائم مقام النواب في كثير من الأمور، ولا يتعدى حكمه النظر في مخاصمات الأجناد واختلافهم في أمور الإقطاعات ونحو ذلك، وأمير جاندار يتسلم باب السلطان ويقدم البريد مع الدوادار وكاتب السر، والاستادار إليه أمر البيوت السلطانية والمطابخ والشراب خانات والحاشية والغلمان، والمهمندار هو الذي يتلقى رسائل الواردين وأمراء العربان وغيرهم ممن يرد من أهل المملكة وغيرها، يخاطب نقيب الجيوش إذا طلب السلطان أو النائب أو حاجب الحجاب أميرًا، أو جنديًّا فيرسل إليه، ثم انحطت رتبته فصار محصورًا في ترويع الخلق وأخذ أموالهم، وأصبح من أدوات الشر في البلاد.
طرأت في آخر دولتهم تغيرات على نظام الدولة وأوضاعها، وأصبحت عدة مباشري١٤٢ الدولة نيفًا وثلاثمائة مباشر ولها مقدم وتحت يده رسل وأعوان، كانت نفقتهم في أيام برقوق خمسين ألف دينار، وكان معلوم الوزير في الشهر مائتين وخمسين دينارًا حبشية مع أرزاق من مأكول وعلوفة تبلغ نظير المعلوم، ثم ما دون ذلك من المعلوم لمن عدا الوزير وما دون دونه. وكان معلوم القضاة والعلماء أكثر من خمسين دينارًا في كل شهر مضافًا إلى ما بأيديهم من المدارس التي يستدرون أوقافها، وبرز المرسوم١٤٣ العالي في بعض السنين بأن كل من انقطع عن وظيفته من الفقهاء والمدرسين والمؤذنين وأرباب وظائف الدين وغمز عليه يستأهل ما يجري عليه؛ أي إنَّ وظائف الدين كانت فعلية قلما يُسوغ أوقافها إلا من يقوم بالفعل بعمله، وأصبحت المدارس والجوامع الموقوف عليها في أواخر عهدهم متعددة الوجوه، وتتألف من ريعها موازنة كبيرة تعتاش بها خلائق؛ بل هي قوة من قوى الدولة تستخدمها على الأكثر فيما ينفع الناس، ويربط بها السلطان أو الأمير العلماء بنفسه حتى لا يشاكسوه فيما يراه مصلحة لدولته، فإذا جسروا على مخالفته عاقبهم بحرمانهم إدراراتها.

وكثرت الدواوين آخر دولة المماليك، وكان أهمها ديوان الإنشاء، ويُقال لناظر الإنشاء كاتب السر وكاتم السر. ومن الدواوين ديوان الجيوش، وديوان الخزانة الشريفة، وديوان المستأجرات والحمايات، وديوان الأحباس — الأوقاف — وديوان الإشراف، وديوان الذخيرة، وديوان المرتجع، وديوان الاستيفاء، وديوان الزكاة، وديوان العمائر، وله علاقة بالمهندسين وأرباب العمائر ويتكلم صاحبها في العمائر السلطانية مما يختار السلطان إحداثه وتجديده من القصور والمنازل والأسوار، ولكل ديوان ناظر ومباشرون.

ويطول المقال إذا أحببنا أن نعرض لتراتيب كل قطر من الأقطار الإسلامية على عهد المماليك؛ فقد كان من مصطلح الدولة اليمانية مثلًا أن يكون لها نائب ووزير وحاجب، وكاتب سر وكاتب جيش، وديوان مال، ووظائف الشاد والولاية يتشبهون بالديار المصرية في أكثر أحوالهم،١٤٤ وكتاب الإنشاء لا يجمعهم رئيس يرأسهم يقرأ ما يرد على السلطان ويجاوب عنه، ويتلقى المراسيم وينفذها، وإنما السلطان إذا دعت حاجته إلى كتابة كتب بعث إلى كل منهم ما يكتبه، فإذا كتب السلطان ما رسم له به بعثه على يد أحد الخصيان فقدمه إليه فيعلم فيه وينفذه، وصاحب اليمن قليل التصدي لإقامة رسوم المواكب والخدمة والاجتماع بولاة الأمور ببابه، فإذا احتاج أحد من أمرائه وجنده إلى مراجعته في أمر كتب إليه قصة يستأمره فيها فيكتب عليها بخطه ما يراه، وكذلك إذا رفعت إليه قصص المظالم، هو الذي يكتب عليها بخطه بما فيه إنصاف المظلوم، وكان شعار سلطان اليمن وردة حمراء في أرض بيضاء أو أبيض فيه وردات حمر كثيرة.
وصف ابن فضل الله١٤٥ إمام الزيدية في اليمن في زمانه، فقال: وهذا الإمام وكل من كان قبله على طريقة ما عَدَوْها، وهي إمارة أعرابية لا كبر في صدورها ولا شمم في عرانينها، وهم على مسكة من التقوى وترد بشعار الزهد، يجلس في ندي قومه كواحد منهم، ويتحدث فيهم ويحكم بينهم سواء عنده المشروف والشريف والقوي والضعيف، وربما اشترى سلعته بيده، ومشى بها في أسواق بلده، لا يغلظ الحجاب، ولا يكل الأمور إلى الوزراء والحجاب، يأخذ من بيت المال قدر بلغته من غير توسع ولا تكثر غير مشبع، هكذا هو وكل من سلف قبله مع عدل شامل وفضل كامل. ا.ﻫ. وقال أيضًا فيهم: وأئمتهم لا يحجبون ولا يحتجبون، ولا يرون التفخيم والتعظيم، والإمام كواحد من شيعته في مأكله ومشربه وملبسه وقيامه وقعوده وركوبه ونزوله وعامة أموره، ويجلس ويجالس، ويعود المرضى ويصلي بالناس وعلى الجنائز، ويشيع الموتى ويحضر دفن بعضهم. قالوا: وهذا الإمام يعتقد في نفسه ويعتقد أشياعه فيه أنه إمام معصوم مفترض الطاعة.

هذه دولة الزيدية في الجبال، أما دولة اليمن في تهامة كالدولة الرسولية مثلًا، فقد وصفها القلقشندي، فقال: إنَّ أوقات ملوكها مقصورة على لذاتهم، والخلوة مع حظاياهم وخاصتهم من الندماء والمطربين، فلا يكاد السلطان يُرى ولا يسمع أحد من أهل اليمن خبرًا له على حقيقته، وأهل خاصته المقربون الخصيان، وله أرباب وظائف للوقوف على أموره، وهو ينحو في أموره منحى صاحب مصر يتسمع أخباره، ويحاول اقتفاء آثاره في أحواله وأوضاع دولته.

إدارة الترك العثمانيين

لما لم يعهد عثمان الأول مؤسس السلطنة العثمانية بولاية العهد لابنه البكر علاء الدين، وعهد بها إلى ابنه الثاني أورخان، تولى الأخ الأكبر أمور الدولة، وكان أول صدر أعظم فيها، ولُقب بلقب «باشا»، ومن عادة الأتراك أن يطلقوا على بكر الأولاد «آغابك»،١٤٦ وأطلقوا على علاء الدين «باش آغا»؛ أي رئيس الأخوة، وتفرغ١٤٧ هذا الصدر الجديد لوضع أنظمة وقوانين للحكومة، فكان واضع أساس إدارتها، فخدم الدولة بأوضاعه خدمة حسنة، وكان والده١٤٨ كلما استفاضت فتوحاته، يقسم البلاد المفتتحة إلى أفضية وألوية، فيتولى القضاء قاضٍ، ويتولى اللواء عامل يُدعى أمير اللواء، ويقسم الأرضين قسمين: قسمًا يجعلها إقطاعًا للجند، وقسمًا يسميه الخاص، يستثمره أبناء الملك والوزراء والأمراء والرجال العظام، وما بقي من الأرض يدعونه الخاص الملكي يُدفع ريعه لخزانة الدولة.

وقف الأتراك العثمانيون في حكومتهم مع حدود الشرع الإسلامي، واتخذوا قضاة يحكمون بين الناس، وأخذوا يعدلون ما وضعوا من قوانين الإدارة بحسب الزمن، ولما كان السلطان مصدر كل تقنين كسائر الحكومات الإسلامية السالفة، كان الوزير يعرض رأيه على الملك فإما أن يقبله، وإما أن ينفيه.

وكان للسلطان وزير واحد في أول الأمر، ثم صار للدولة رئيس وزراء، ثم وزيران وثلاثة وأربعة وخمسة. والصدر أو رئيس الوزراء، هو نائب السلطان ينظر في أمور الدولة، وهناك طبقات «الآغوات»، وهم قواد الجيوش. ومدار الدولة على أقطاب أربعة: الصدر الأعظم وقاضي العسكر، «والدفتردار»؛ أي صاحب السجل وهو وزير المال، «والنشانجي»؛ أي رئيس الرماة وهو وزير الحربية. ويجتمع وزراء السلطنة في الديوان السلطاني تحت قبة لهم، ولذلك دُعوا بوزراء القبة، والصدر الأعظم ينظر في مصالح الناس في داره ويطلقون عليه «باب الباشا» أو «باب الوزير»، ثم أُطلق عليه «الباب العالي»، وبعد زمن أخذوا يطلقون اسم «الباب العالي» على مجموعة دواوين الدولة أو الوزارات، وفي عهد الفاتح أنشأوا يطلقون على المتصرف اسم «بك اللواء»، وعلى الوالي «بك البكوات» «بكلربكي»، وأصبح أهل الزعامة والمقاطعات تحت إدارة المتصرفين والولاة، وقسم الروم إيلي على عهد الفاتح إلى ٣٦ لواء والأناضول مثله،١٤٩ وكانت وارادات الدولة مائة وعشرين مليون دوكًا ذهبًا. قال ابن بطوطة١٥٠ وقد زار آسيا الصغرى على عهد أورخان: إنَّ هذا السلطان أكبر ملوك التركمان وأكثرهم مالًا وبلادًا وعسكرًا، وله من الحصون ما يقارب مائة حصن، وهو في أكثر أوقاته لا يزال يطوف عليها، ويقيم بكل حصن منها أيامًا لإصلاح شئونه وتفقد حاله، ويُقال: إنه لم يقم قط شهرًا كاملًا ببلد ويقاتل الكفار ويحاصرهم.
عاشت إمارة بني عثمان إلى ما بعد أورخان ثاني ملوكها في حالة أشبه بالبداوة، لا يأوي سادتها إلى غير المضارب والخيام،١٥١ ولما فتح ثالث ملوكهم مدينة أدرنة ونقل إليها عاصمته من بروسا؛ أي انتقل من آسيا إلى أوروبا ظلت الأخلاق البدوية مستحكمة في أخلاق الأتراك، وتكاد تكون أوضاع حكومتهم على حالة ابتدائية، وكان رابعهم ييلديرم بايزيد يجلس بكرة النهار١٥٢ في براح متسع، ويقف الناس على البعد منه وهو يراهم، فينظر في ظلاماتهم، ويقضي بينهم فيما هم فيه مختلفون في الحال، وما كان يمكن أحد من التعرض لمال أحد من الرعية حيًّا ولا ميتًا، وإن مات ولا وارث له يُودع ماله عند القاضي، وكل من غزا معه لا يعرض لشيء مما يحصل بيده، وكان الأمن فاشيًا في بلاده حتى ليمرَّ الرجل بالجمل مطروحًا بالبضاعة فلا يتعرض له أحد، وينام الناس١٥٣مفتحة أبوابهم لا يسطو عليهم لص، ولا يريد أحد بأحد سوءًا. قال المقريزي: «وكان يشترط على كل من يخدم بايزيد ألا يكذب ولا يخون، ولكنه يصنع من الشهوات ما أراد، وكان الزنا واللواط وشرب الخمر والحشيش فاشيًا في بلادهم يتظاهرون به.» وفي أيام بايزيد وضع الخراج على الأرضين والعقارات.
كان جيش السلطان العثماني مؤلفًا من مماليك يشبه جند مصر والشام على عهد دولتي المماليك البرجية والبحرية، فأبدع قره خليل جاندارلي١٥٤ وزير السلطان أورخان تأليف جيش الإنكشارية، وسنت الدولة نظام اللقطاء (دوشرمة) القاضي بأن يُؤخذ بعض أولاد النصارى، ويُعنى بتربيتهم وتهذيبهم تهذيبًا إسلاميًّا، حتى إذا بلغوا سن التجنيد يُرسلون إلى الثكنات العسكرية في العاصمة، فكان تأليف هذا الجيش وضعًا حديثًا عظم به سلطان الدولة العثمانية، وبه تهيأت فتوحها؛ وذلك لأن الجيش الإنكشاري كان جيشًا مدربًا تحت الطلب، ليس لدولة من الدول جيش مثله، وكان عدده بادئ بدء ستة آلاف، وقيل ألف جندي، ثم كثر فبلغ مائة ألف وهو يُقسم إلى كتائب، ويُدرب أفراده في الولايات على الكر والفر، ويعيشون عيش الجند والغزاة، ويُستخدم بعضهم في خدمة الولاة، أو في مزارع أرباب الإقطاعات، وفي حوانيت أرباب الصناعات، ويعيش الفرد منهم بمياومات ضئيلة، وهي «إقجه»١٥٥ واحدة في اليوم، تُزاد لمن ثبتت كفاءته في الحرب، وتُصرف لهم مرة في كل ثلاثة أشهر بأبهة وطنطنة، وتوزَّع الإقطاعات على المبرزين من ضباطهم وقوادهم يعيشون بها زمن السلم، وإذا أُعلنت الحرب يجهزون أنفسهم على نفقتهم الخاصة. وأغلب الإنكشارية في الولايات فرسان، وفي العاصمة مشاة، وبلغ هذا الجيش أوج ارتقائه على عهد سليمان القانوني، وكان من سياسته أن يشغله أبدًا بالحرب؛ لتعذر إطلاق رزقه١٥٦ وعطائه أيام السلم باطراد، وما زال جيش الإنكشارية نافعًا في الفتوح حتى دخل فيه على عهد مراد الثالث الرقاصون والمصارعون، وقيل: إنه فسد بدخول المسلمين واليهود والنوَر — الغجر — فأنشأوا يعصون أوامر قوادهم ويعيشون بالنهب والسرقة.
كانت واردات السلطنة تُجبى من الجزية والخراج والأملاك السلطانية، ودخل الجمارك والملاحات وأموال الغنائم، أو التكاليف الشرعية والتكاليف العرفية، وهي كثيرة جدًّا، والإتاوات أو خراج الممالك نصف المستقلة. ووضع محمد١٥٧ الثاني أساس النظام المالي وتعاوره التنظيم والإصلاح على عهد سليم الأول، وسليمان الأول، وأحمد الأول، فكانت حالة المالية حسنة في الجملة، وقد وصفها أحد قناصل البندقية في الآستانة سنة ١٥٧٣م، فقال: إنَّ لوزارة المالية نظامًا منظمًا في الحسبانات، تضع في آخر كل سنة ميزانًا للنفقات والارتفاعات. وبعد قرن من الزمن، قال سياسي آخر: إنَّ النظام في وضع المالية قد حسن وضعه وصنعه في تركيا، من حيث سجلاته وانتظامه حتى لتجد فيه كل دولة ما تتعلمه، وذلك بقطع النظر عن شيء من سوء الاستعمال يتسرب إليه، وكانت سلطة الدفتردار فوق سلطة الوزير الأعظم؛ فقد يرد ما أمر به هذا إن كان أمره غير قانوني. وفي مبتدأ النصف الأول من القرن الثامن عشر بدأ تغير عظيم في إدارة المالية؛ وذلك بدخول طريقة الإقطاعات فبطلت «المركزية»، وقُسمت إدارة المال إلى قسمين: الأناضول والروم إيلي، وأصبحت كل دائرة تدير شئون إدارتها على ما تريد، فانقسمت الأغراض وتجزأت السلطة المالية، وأخذ الإنكشارية يدبرون أعظم مناصب المالية ويتولون الولايات، ويحولون الجزء المهم من أموال الدولة إلى ضامنهم، وكثر العجز في موازنة الدولة أوائل القرن التاسع عشر، ويُروى أنَّ مجلس الوزراء كان مرة منعقدًا ينظر في إصلاح المالية، فقال الصدر لوزير المالية: إنَّ إصلاح مالية الدولة العثمانية لا يتم إلا بإلقاء نفط على وزارتكم العالية لتحرق بموظفيها وسجلاتها وبناياتها، وبالطبع يكون حضرة وزير المالية خارجها، ثم نعود فنبدأ بوضع جديد في المالية، وهذا كان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
قلنا: إنَّ التكاليف العرفية كانت كثيرة جدًّا، وقد أتى زمن بلغت فيه سبعًا وتسعين ضريبة ورسمًا، حتى إنَّ سليم الأول لما فتح الشام وضع مكوسًا على الأحكام الشرعية فتعطلت الحدود، وضرب على المواخير والحانات والمومسات١٥٨ رسومًا يخجل ذكرها، وصادر تجار حلب وسمى ما أخذه منهم مال الأمان، والأنكى أنه ما كان يُحمل إلى خزانة الدولة إلا بعض هذه المغارم، والقسم الآخر يستسيغه الظلمة من العمال، وقد يضيق السلطان فيطالب الرعية بعوارض سنتين أو ثلاث مقدمًا، والمصادرات والغرامات والإتاوات على الغرباء، وخمس الغنائم هي جماع أموال السلطان، وجاء يوم والسلطان العثماني أغنى ملك في عصره، على ما كان أقوى ملك بجيشه وجنده، وقُدر دخله السنوي باثني عشر مليون دوكا،١٥٩ وكان دخل شارلكان أعظم ملوك الغرب لذلك العهد ستة ملايين دوكا. وبعد المائة العاشرة من الهجرة أصبح من الموارد المهمة للدولة ما يُصادر من أموال الوزراء والأمراء وغيرهم.

وقلت الموارد من الغنائم في العصور الأخيرة وكثرت الحروب، ولما نضب ما في خزائن الدولة وجيوب الرعايا حاولت الدولة منذ سنة ١٨٠٨م أن تقترض مالًا من أوروبا، وفاوضت الماليين والسياسيين فلم توفق إلى تحقيق أمنيتها إلا في حرب القرم؛ أي في سنة ١٨٥٤م، وقد أُدخلت الدولة في عداد الدول الأوربية، فأخذت تقترض بالفائدة الفاحشة، ولما أعلنت الدولة إفلاسها بعجزها عن تأدية النجوم المستحقة من رأس المال ورباه، ترك أرباب الديون لها خمسة وثمانين مليون ليرة عثمانية، وسرعان ما نسيت الدولة معرة إفلاسها فعادت إلى ما كانت عليه من الإسراف، وعلى ملوكها تحمل أكبر تبعة، وكان عبد الحميد الثاني يمزج حاجاته الخاصة باحتياجات المملكة ويبالغ في الإنفاق، إلا أنه يحاول ألا يستدين من الغرب ما أمكن.

والواقع أنَّ الإسراف بعد محمد الفاتح أصبح محسوسًا في جميع الطبقات التركية، واستلزمت الحياة الجديدة التي دخل الأتراك في طورها إنفاقًا وبذخًا، وكثر التشبه بالكبراء وأرباب النعم والرفاهية، فبدأت الرشوة تفشو حتى أصبحت مما لا يكاد يُنكر على من يأخذها في العصور المقبلة، يُسفُّ إليها الصدور العظام كما يتناولها أصغر موظف في الدولة. وكثرت المصادرات لأقل سبب، فأنشأ من يملكون النقدين، الذهب والفضة، يدفنون في بطون الأرض ومخابئ الأبنية ما يخشون عليه المصادرة، ويخفون أمره حتى عن عيالهم، وقلما كان يظهر أحد بمظهر نعمة وسعة إلا وتختلق الأسباب لمصادرته — سواء أكان تاجرًا أم مزارعًا — وكان أكثر ما يُصاب بالمصادرات الأروام واليهود لاشتغالهم بالصرافة والربا، أما مصادرة الوزراء وغيرهم فكانت العلاج الوحيد لهم، إن كان ينجع في الفاسد علاج، فقد صودر أحد آغوات البنات (قيزلر آغاسي) في سراي عثمان الثاني على مليونين ونصف مليون ليرة عثمانية، وخلف «جنجي خوجه» خمسين مليون قرش ذهبًا، كان جمعها في خمس سنين من الرشاوى والهدايا والإنعامات، وأمثال هذين الرجلين عشرات في كل دور من أدوار السلطنة العثمانية «فأشبه الأتراك١٦٠ الرومان في الإكثار من المصادرات، وكان الرومان يقتلون الناس لهذا الغرض، وكثر القتل في بعض أدوارهم ففُقدت الثروة في رومية، وكذلك فعل رجال الدولة العثمانية قديمًا، كانوا يهلكون الناس ليصادروهم، وكان ذلك من الدواعي إلى الاستكثار من الوقوف والأحباس لتخوف الكبراء على ثروتهم، وربما عُد ذلك من العوامل في فقر البلاد العثمانية.»
يقول جودت:١٦١ إنَّ أسلاف السلاطين العثمانيين العظام كانوا يخرجون مع عساكرهم زمن الحرب إلى أكثر الغزوات، فإذا عادوا إلى مقر السلطنة لا يمكثون فيه مدة طويلة، فينصبون أحد الوزراء قائم مقام على الآستانة، ويحيلون وظيفة ضبط البلدة إلى ناظر «الضبطية»، وهو آغا الإنكشارية الثاني، ثم ينقلبون مع رجال الدولة والعلماء والوزراء ومستشاري السلطنة وبطانتها إلى أرجاء أدرنة وينيشهر يتجولون فيها، ويقضون أوقاتهم تارةً في الصيد والقنص، وهما من التمارين الحربية، ويتوفرون آونة على معاناة الأعمال العسكرية كرمي الأهداف بالرصاص والسهام، فكان أركان السلطنة وسائر عمالها بمثابة قوة سيارة خفيفة المئونة في أيام السلم، يشبهون القبائل الرحالة، لا أرب لهم في الرفاهية ودواعيها، والرفاهية تستدعي النفقات الطائلة، فلذلك كانت إدراراتهم تزيد على نفقاتهم.

قال: ومما يروى أنَّ أحمد باشا صهر رستم باشا تقلد منصب الوزير الرابع في حرب سكتوار، ثم أُسندت إليه الصدارة العظمى، ولما تقلد الوزارة أول مرة لم يكن يملك من ألبسة الأبهة غير فروتين، يتجمل بإحداهما في الديوان، ويلبس الثانية في بيته، مع أنه كان يملك خمسمائة مملوك بالعدة الكاملة، وكان جماع الوزراء على هذا المنوال، وفي ضياع كل واحد منهم مائة قطار من البغار ومائة من الجمال، فإذا سار أحدهم إلى وجه يستغني عن شراء جمل أو حصان، وتتيسر له أسباب الرحلة في ثلاثة أيام. ثم انتقلت الدولة من البداوة إلى الحضارة، وأصبح الملوك يقيمون في دار الخلافة حتى اطمأنوا إلى الراحة، واقتدى بهم في هذا الشأن رجال الدولة، فعمروا القصور الشامخة والمباني العظيمة في الآستانة، وجملوها بأنواع الزينة والزخارف والأثاث الثمين، فسرى داء التقليد إلى العامة، وزادت نفقات أرباب المناصب والعمال زيادة فاحشة عن مشاهراتهم، فاضطروا إلى تناول الرشوة، وغدا أرباب الإقطاعات والزعامات يلزِّمون أرضهم بأجور باهظة، ويتقاضى الملتزمون الفقراء من الناس ما لا طاقة لهم بتحمله من المظالم والمغارم، ليتأثلوا ما يسد نهمتهم وتربح به تجارتهم، مما أهاب بمعظم الأهلين إلى الهجرة من أوطانهم، وارتحل الرعايا وأهل الذمة منهم إلى الديار الأجنبية، ونزل كثير من الناس عاصمة الملك واستوطنوها، وتكاثروا فيها حتى غصت بهم وضاقت على اتساعها، وكثر انتشار الحريق، وفسد الهواء بكثرة الزحام وانتشرت الأمراض والعلل الوافدة، وعزت المؤن والغلات، فأكرهت الحكومة على ابتياعها واشتط الباعة في أسعارها، فكان ذلك داعيًا إلى خراب البلاد. ا.ﻫ.

ومهما قيل في وضع أنظمة للدولة في فجر حياتها، فإن قوانينها كانت على حالة ابتدائية ساذجة مستوحاة من حياة أشبه ببدوية ساذجة، وهذه القوانين كثرت بعد ذلك، ثم تعقدت بطول الزمن. وضع محمد الفاتح قانونًا للروم لما قضى على آخر سلاطينهم في القسطنطينية، رأوا فيه١٦٢ فرقًا كبيرًا بين ما كانوا يُعاملون به، وما أحسن به معاملتهم، فارتاحوا من مشاكلهم واختلافاتهم القديمة، وغض أخلافه من السلاطين الطرف عن بطريرك الروم، فكان بما خوله من الحقوق أشبه بحكومة وسط حكومة، وظل وجماعته ممتعين بخير حال نحو خمسمائة سنة، وهم مستقلون بالفعل ولا يتقاضاهم استقلالهم جندًا ولا مالًا،١٦٣ كل هذا أصابهم من فضل الفاتح وتسامحه وتسامح أبنائه وأحفاده، وفي عهده بدأ الجبايات والمكوس والجمارك تُعطى بصورة تلزيم مقابل مبلغ معين، كان الالتزام لسنة واحدة أولًا، ثم صار الالتزام مدى الحياة، يستأجر المسلمون الأرض وغيرها، والنصارى تحت أيديهم يعملون فيربحون ثمراتها.
لما فتح العثمانيون بلاد العرب وألقوا بمقاليد إدارتها إلى أيدي المتغلبين من أهلها مقابل إتاوة تُؤدى كل عام في دار الملك، تركوا الإدارة في مصر والشام للمماليك أو المتغلبة من أمراء البر، فنهجوا بها النهج الذي نهجته الدولة قبلهم، تقطع الدولة الأقاليم الواسعة بمال تستوفيه كل سنة من المتغلبين وأرباب العصبيات، أو تضع الولايات في المزاد فيقلدها من رسا عليهم ضمان الولاية، وتعهد بمال أكثر من غيره، واكتفت الدولة بإرسال والٍ إلى الشام، وآخر إلى مصر لمدة سنة على الأكثر، ولا يتولى ولاية مصر وهي أهم ولايات السلطنة١٦٤ إلا «باشاوات»، يؤدون إلى رجال الدولة إتاوة كبيرة من المال تختلف بين أربعمائة إلى خمسمائة ألف ريال، وتتجدد ولايته سنة أخرى بإرسال هدايا إلى العاصمة، تربى على مائة ألف ريال مشفوعة بالخراج السنوي وقدره ستمائة ألف ريال، وهدايا من السكر والبن والأرز والشراب والحلواء والغلال، مما لا تقل قيمته عن ستمائة ألف ريال، وهذا عدا نفقات قافلة الحج المصري ونفقات الجنود في مصر، وفي مقابل هذه النفقات يتصرف الوالي في الدخل، ويحصل منه كل سنة بعد وفاء نفقات الجند أكثر من عشرين مليون فرنك، وإليه تؤول تركات المتوفين بلا عقب، ويكثر دخله من هذه الناحية إذا وقع وباء في البلاد. قال ماييه:١٦٥ وقد يبلغ دخل الوالي في يوم واحد من أيام الوباء من مائتي ألف إلى ثلاثمائة ألف ريال، لهلاك من يمتلكون القرى؛ ذلك لأن قوانين الحكومة تقضي برجوع ملكية المزارع إلى الخليفة بعد وفاة أصحابها. وفي تقرير لأحد قناصل البندقية أنَّ منصب الوالي عند العثمانيين كان يكلف في الآستانة من ٨٠ إلى ١٠٠ ألف دوكا، ومنصب الدفتردار يُباع من ٤٠ إلى ١٥٠ ألف دوكا، ومنصب القاضي يساوي أقل من هذه القيمة.١٦٦
كانت إدارة الحكومة المدنية والمالية في مصر بيد المماليك، وإليهم توزيع الأعطيات والأرزاق على الجنود، فأصبح هؤلاء تبعًا لهم بحكم الروابط المدنية، ثم صار رؤساء «الوجاقات»،١٦٧ وأغلب ضباطها من المماليك فانحصرت السلطة العسكرية والمدنية في أيديهم، واتصل ضباط الوجاقات وأفرادها بالمماليك بأواصر المصاهرة ولحمة القربى، فأصبحوا من حزبهم وأهلهم وعشيرتهم وأتباعهم، بعد أن كانوا مستعدين لحربهم وإخضاعهم، فاضمحلَّت سلطة الولاة العثمانيين، وعظم نفوذ البكوات المماليك واسترجعوا على الزمن سلطة الحكم التي كانت للسلاطين البحرية والشراكسة، والأمة في ذلك طعمة للملتزمين والغاشمين من الموظفين، فانصرفت عن الزراعة وتعطلت الأعمال، وهبطت قيمة الأرض فقلت الجباية، وخولت طريقة التلزيم للملتزمين سلطة مطلقة على الفلاحين، يفرضون على أملاكهم ما شاءوا وشاءت أهواؤهم من الضرائب والإتاوات، والملتزم حر بنقل الفلاح ونزع يده عن الأرض، ونظام الالتزام يشبه نطام الإقطاعات الذي رزحت أوروبا تحته قرونًا، وكانت أموال الرعايا وأعراضهم وأرواحهم مباحة لصاحب المقاطعة، وإذا زاد نفوذه ينزع إلى الثورة، فيبدأ بمنع الخراج عن الدولة، وتضطر إلى إرسال حملة عليه، ويبقى السكان بين نارين، نار الثائر ونار القائمين بكبح جماحه، وكم من فتنة أوقدها العمال ليشغلوا الناس والدولة، وتبقى لهم الحكومة يستمتعون بها مُديدة.
والقاعدة في إدارة العثمانيين أن يكذب الوالي على من نصبه على الأكثر، ويكذب على من يحتفون به، ويلقي التفرقة بين أرباب النفوذ والمتغلبين، وبين أبناء العناصر والأديان، ويتفنن في طلب المال لتسديد حسابه مع الآستانة، ولا يتولى الولاية إلا من تروق الآستانة شروطه من بين من دخل من الطالبين لها في سوق المزايدة، ويسارع إلى تبديل العمال حتى يتم لرجال العاصمة ما يطمعون فيه من المال، ومن يوقن أنه مهدد كل حين بالعزل، وعليه إتاوة يجب عليه دفعها، وهدايا ورشاوى لا بد من تقديمها، لا يتوفر في الغالب على غير نهب الرعية وسرقة أموال الدولة. يقول جودت١٦٨ في حوادث سنة ١٢٠٠ﻫ: «إنَّ وظيفة جابي المال في حلب كانت منذ أربعين سنة مطمح أنظار الموظفين في الدولة؛ لأنها تعود عليهم بثروات طائلة، إذا حملوها إلى الآستانة ينالون بها رتبة الوزارة ورتبة ميرمران، جرى ذلك لأحمد باشا (الجزار)، فأخذ العلم والطوخ١٦٩ واشتهر شهرة عظيمة، وما برحت هذه الوظيفة تُباع وتُشترى بالمزاد، وكثيرًا ما كانت الدولة ترسل مفتشين يشاركون في المغنم هؤلاء المرتشين من الجباة.»١٧٠

وأعظم سبب في شيوع الرشوة أنَّ الموظفين والعمال يعفون على الغالب من العقوبات مهما أجرموا، لا يُعاقبون بأكثر من أن يُنقلوا من ولاية إلى أخرى، فيمثلون في الثانية ما مثلوه في الأولى، وما قامت ثورة أهلية في السلطنة إلا كان العمال السبب فيها، ومن تُكتب له حظوة عند الناس من العمال لحصافته وشرف نفسه قد يكون من المبعدين، وتختار الدولة المتوسطين في إدارتهم ومعلوماتهم على الأكثر أو من يتبالهون وينافقون، وتحاذر وزراءها في دار الملك، فتقصيهم إلى الولايات عند أقل شبهة، أو لمجرد شهوة السلطان، أو لوشاية الواشين وتصادرهم وتعذبهم، ومن يعرفون أنَّ مصيرهم إلى مثل هذه الحال لا يتذممون من شقاء الناس ولا يرحمونهم، ويتناسون أنَّ الحكم أمانة في عنق صاحب الشرف.

ومن القواعد التي لا تتخلف كثيرًا في دار الملك أنَّ كل رجل تحدث له بعض قوة، وتنطوي نفسه على شيء من حب المغامرة، يستجيش له أناسًا من الغوغاء، ويؤلف له حزبًا يستغويه بالوعود الخلابة، فلا يلبث أن يستولي على الأمر، ويشرد سلفه أو يقتله وبعض كبار حاشيته، تشتد شكيمة القوى مدة فيحكم ويتبسط في سلطانه، حتى يقوم أقوى منه فيسقطه ويتبوأ مكانه، ويخرب ما عمله سلفه من أعمال، وينهج غير نهجه في الإدارة، ولا شأن له غير ابتزاز الأموال وإسكات الناس عن الخوض في أمور الدولة، ومن جرؤ على أمر بمعروف ونهي عن منكر يُشرَّد ويُضطهد، ويُتهم بعظائم ما دارت له في خَلَد، وقد تكون دعوته لإزالة شر أو لبث فكرة يكون من أثرها إصلاح سلطانهم، فيتهمونه بالجنون أو المروق من الدين، أو بدعوى النبوة أو الألوهية، أو أنه يدعو إلى أن يكون النساء مشتركات بين الناس، ويحلل ما حرم الله إلى غير ذلك من الأكاذيب؛ ليصرفوا أذهان العامة والخاصة عن حقيقته، حتى لا يأسف الخلق عليه، ولا ينصروه إن أمكنهم نصره.

قالوا: إنَّ سليمان القانوني أصلح إدارة المملكة، ووضع قواعد لإدارة الدولة في داخليتها، وكان١٧١ أجداده وضعوا أساس هذه الأصول فكملت في عهده، ووضع قوانين لتنظيم إقطاعات الجند وملكية الأرضين ونظام الشرطة وقانون العقوبات، وقوانين للانتفاع من العناصر غير المسلمة في الدولة كقانون اللقطاء، وبه أصبحت الوظائف السامية في الدولة تُسند إلى من دانوا بالإسلام حديثًا، وفي أيامه نبغ محمد الصوقللي، وخير الدين بربروس، والعالم ابن كمال، والمهندس سنان، وأن كل واحد منهم عمل في محيطه الخاص، ولكنهم لم يوحدوا جهودهم وما وجهوها إلى هدف واحد. قالوا هذا وما نخال أنه ظهر أثر محسوس في الولايات العربية بإصلاحه، وكأن من حكموا هذه الأحكام خدعتهم قوانين جميلة سُطرت على الورق فقط.

تقدم معنا أنَّ جيش الإنكشارية بدأ انحطاطه من عهد مراد الثالث، وقد رأيناه في عهده الأخير أعظم عابث في الولايات بحياة الرعية، يقتل بعضه بعضًا ويقتتل مع الطبقات العسكرية التي أُنشئت بعدُ مثل السكبان والقبوقولي والدالاتية، وكم من فتنة حدثت بين هذه الطبقات من الحاميات، وكان معظم ضرره أيام السلم يتناول أبناء الأمة، ويسلب قرارها، ويبتز أموالها، ويسطو على النساء والولدان فزاد بجبروته في شقاء البلاد، ويُضاف إلى ذلك أنَّ معظم الموظفين والضباط لا يقبضون رواتبهم كل شهر، وإذا قبضوها لا تقوم بحاجتهم، فيرجعون أبدًا على جيوب ضعاف السكان يسددون منها العجز، وليس للدولة موازنة ثابتة تعرف بها دخلها من خرجها، إن جاءتها أموال ومغانم في بعض السنين أسرفت فيها، فإذا أحست الضائقة تمسك عن دفع مشاهرات عمالها والإنفاق على جندها فينهالون على الخلق، ويكاد يكون معظم أموال الجباية خاصًّا بحاشية السلطان وقصره يحمل منها إلى خزانته ما يحب ويهوى.

شعر كثير من المنورين في دار الملك بسوء حال الدولة وأيقنوا أنها إذا لم تصلح إدارتها يتداعى هذا الملك العظيم، وكان معظم من يهتمون لذلك من طبقات العمال والموظفين، وما برحوا يقدرون ويعملون حتى نشرت الدولة في سنة (١٢٥٥ﻫ/١٨٣٩م) خطة «كلخانة» في الإصلاحات، حمل السلطان عليها رجالُ الدولة، وقيل جاءهم الإيعاز بها من بعض الدول الحريصة على بقائها، وهذا الخط عبارة عن إعلان١٧٢ من السلطان يذكر فيه أنه وطد العزم على إنقاذ أعراض عامة رعاياه وأموالهم، وأن يبطل تلزيم الجباية، وأن يكون التجنيد في الجيش على طريقة منظمة، وأن يُحاكم المجرمون جهرة في محاكم معينة، وأن يكون جميع الرعية — أهل الإسلام والملل الأخرى — أحرارًا أمام القانون، من غير استثناء، وقد ورد في أوله أنَّ سبب نجاح الدولة العثمانية في القديم إنما هو رعايتها أحكام القرآن، وجاء في آخره أنه يُراد من هذا القانون القضاء على العادات القديمة.

نشأت صعوبات جمة من تطبيق القانون الجديد المنقول عن القوانين الفرنسية، والمقصود منه أولًا إرضاء الدول الأوربية التي اشتد تدخلها في خصوصيات السلطنة بحق وبلا حق؛ ذلك لأن قانون أمة وهو زبدة تاريخها ومحيطها وعاداتها ومصطلحاتها، يصعب تطبيقه على أمة أخرى ليس لها مثل نزعاتها ومدنيتها، ورب قانون لأمة راقية يتعذر إنفاذه في أمة منحطة ويضر في كيانها أكثر مما ينفعه، وخاصة إذا كانت منوعة الشعوب والمدنيات واللغات والأجواء كالعثمانيين؛ فلقد حاذر غير المسلمين مساواتهم بالمسلمين في هذا القانون الجديد، لئلا يفقدوا جانبًا مما كانوا يتمتعون به من الحقوق منذ عهد الفاتح، ومنها إعفاؤهم من الخدمة العسكرية، وإمتاع كنائسهم بحق الاشتراع لطوائفهم، وإطلاق حريتهم في تنظيم شئونهم الملية، فكثر الاعتراض من كل جانب، وكان النصارى بعد عهد الإصلاحات يتمتعون بكل ما فيها من مرافق ويبعدون عما فيها من متاعب؛ لأن الدول عاونتهم على مطالبهم، وقالت للدولة أنت وشأنك مع المسلمين. قال ريشاروود: «أما اعتراض المعترض بأن المساواة بين الطوائف غير كاملة ما دام النصارى لم يشتركوا في الجندية العثمانية، فجوابنا عنه: أنَّ الذنب في ذلك على النصارى أنفسهم عليه لا على الباب العالي؛ إذ النصارى مع حرصهم على نيل كل الحقوق لم يقبلوا أن يدخلوا تحت ما يقابلها من الواجبات.»

كان للأجانب من قانون الامتيازات الأجنبية أعظم وسيلة لتدخل وكلاء الدول في أمور الدولة بحجة النظر في حقوق رعاياهم. وقد دعا إلى تمتع الغرباء في بلاد السلطنة العثمانية بهذه الامتيازات اعتياد الحكومات١٧٣ الإسلامية منذ القديم التساهل مع النصارى في بلادها، فأجازت لهم عدم اتباع الأحكام المرعية، وتركتهم يتقاضون في أحوال مخصوصة بحسب قواعد دينهم والمعمول به من قوانينهم، فأصبحت هذه العادة قانونًا نافذًا مع الزمن، وبكثرة الاختلاط وتمكن العلائق أضحى هذا التسامح حقًّا لهم لا يحتمل النزاع، ومن هذه الامتيازات ما بُني على معاهدة كمعاهدة صلاح الدين مع الجمهورية بيزا (٥٦٩–١١٧٢)، وبها مُنحت عدة امتيازات خاصة بالتقاضي، ومعاهدة قايتباي (١٤٨٨م) مع الفلورنتيين الطليان، وقد جاء فيها أنه إذا حدث خلاف بين الفلورنتية أنفسهم، فليس لقضاة المسلمين وحكامهم أن ينظروا في مسائلهم، والحكم في ذلك لقنصل الفلورنتيين، يحكم في هذه الحالة بما يناسب القوانين الفلورنتية، وجرى التوسع في العمل بهذه المعاهدات، حتى عمت جميع رعايا الدول النصرانية، ثم أُهمل العمل بها مدة، فلما جاءت الدولة العثمانية عقدت معاهدة تجارية بين سليمان الأول وفرنسوا الأول ملك فرنسا في سنة ١٥٣٥؛ لضمان أرواح الفرنسيس وتجارتهم، وكان البنادقة عقدوا مثل هذه المعاهدة، فأصبحت لهم امتيازات وحقوق مكتسبة، وعقدت معاهدة بين محمود الأول ولويس الخامس عشر ملك فرنسا في سنة ١٧٤٠م، وبها غدت فرنسا صاحبة الشأن الأول في حماية رعاياها وجميع من يلتجئون إليها من الأجانب. وجرت الدول على سياسة فرنسا في عقد مثل هذه المعاهدات ولا سيما روسيا، وأخذت الامتيازات تزداد شيئًا فشيئًا بمساعي الدول من جهة، وبإهمال الحكومات الشرقية من جهة أخرى، وبإقرارها بعض عادات كانت خارجة عن نصوص المعاهدات.
وعلى هذا عاق قانون الامتيازات الأجنبية تطبيق الإصلاحات التي أزمع رجال الدولة القيام بها، لمكان الغرباء ممتعين بامتيازات دون غيرهم؛ ولأن النصارى من أهل البلاد يريدون ألا يسري عليهم من أحكام القانون الجديد إلا ما يروقهم ويتفق وراحتهم، وهذا مما ينافي وجهة نظر الإصلاح المطلوب منه حصر كل سلطة بالدولة،١٧٤ ونتجت من قانون «التنظيمات الخيرية» أعظم المشاكل المعقدة، فأنشأت الدول تتدخل في أمور السلطنة، ومن جملتهن المقام البابوي في رومية، يريد إمتاع المدارس الكاثوليكية ورهبانها بامتيازات تحميهم وتهيئ لهم أسباب التبشير بدينه.

كان من الإصلاحات التي قام بها الوزير رشيد بعد سنة ١٢٥٥ﻫ، وضع أصول جديدة لإدارة الولايات على قاعدة المركزية، ثم توسعت بعد حين وجرى تعديلها والعمل بها إلى آخر أيام السلطنة، وأُنشئت القوانين العدلية — الحقانية — ومنها قانون التجارة، وأُسست المحاكم ومنها المحاكم المختلطة، للاختلال المشهود في المحاكم الأهلية، ونقل قانون الجزاء إلى التركية، ووضعت مجلة الأحكام العدلية مأخوذة من كتب المذهب الحفني مذهب الدولة، ثم أُنشئت وزارة المعارف والجامعة (١٨٤٥)، ثم المدارس المنوعة المقاصد في دار الملك، ولم تثمر هذه الإصلاحات إلا في أواخر القرن التاسع عشر، وجنى من ثمرتها الأتراك أكثر من العنصر العربي.

وبهذه القوانين والإصلاحات وإن لم تنفذ كلها دخلت السلطنة في عداد الأمم الممدينة، وزاد توغل الأجانب في البلاد وإشرافهم على سير الحكومة فيها، وتيسر لهم نيل امتيازات لشركات من رعاياهم استولت على اقتصاديات البلاد وطرق مواصلاتها، وأنشأوا يبشرون فيها بالنصرانية ويحببون إلى المتعلمين لغاتهم، فزاد بذلك التباين بين المسلمين وغيرهم، وكثر بغض العناصر غير المسلمة للعناصر المسلمة، وكان من هذا التعليم بلاء على الأرمن خاصة، وكان الروم والبلغار والصرب والرومان باكروا الاستقلال في ولاياتهم، وكان تعليم أفراد منهم من العوامل المفيدة في تحقيق أمانيهم القومية، ومهما قيل في الداعي لتسلل أصابع الدول الغربية إلى المسائل العثمانية وفي اشتطاطها عليها في الأحايين، فإنه مما لا جدال فيه أنَّ الإدارة العثمانية كانت في معظم أدوارها مختلة على ما اعترف بذلك علماء الاجتماع والتاريخ والسياسة من الترك أنفسهم، وظهر في القرن الماضي الفرق بين إدارة بلاد الغرب وإدارة العثمانيين، وكانت مساحة بلاد الدولة لا تقل عن نصف أوروبا بعد القرنين السادس عشر والسابع عشر، وتجلى البون الشاسع بين أمة جامدة أو مجموعة شعوب جامدة مشتتة أهواؤهم، لا وازع يضم شملهم، وبين أمم متوحدة تتحرك وتتكلم وتعاود نُظُمها بالحذف والإثبات، وتسير مع العقل في إقامة بنيان ممالكها.

كان منشأ كل وهن دخل في جسم السلطنة، وعبث بكيان سكانها من تبلبل الإدارة في ولاياتها، وكانت البلاد ولا سيما مصر والشام في عهد المماليك البحرية والبرجية أرقى مما صارت إليه في عهد العثمانيين؛ لأن البلاد كانت مجموعة الشمل في الجملة، وكان التركي يعيش ببقايا مدنيات الدول السالفة، فأكل من ثمراتها حتى نفدت، وهلك لما أتى على الأخضر واليابس، وما حدثته نفسه أن يحدث غرسًا، ولا أن يطرح زوانًا وعوسجًا. والدولة ما فكرت في غير الاحتفاظ بحقوق سيادتها، وما خطر لها أن تحنو على رعاياها فتعطيهم بعض ما تأخذه منهم، وبدخول الأتراك العثمانيين في بلاد العرب نامت هذه نومة غير هادئة، واستشرى فيها الفساد وكثرت المغارم، واشتطَّ سلطان المتغلبين وعيث البادية، فزادت مساحة القفار من البلاد زيادة فاحشة، وخلت القرى من سكانها، وهام مئات الألوف على وجوههم في أقطار الأرض، يطلبون الرزق ويفرون من الظلم، وكانت الدولة إذا غضبت على أحد أرباب المقاطعات ترسل عليه حملة يكون أول عمل لها في التأديب قطع أشجار المقاطعة وتخريب بيوت سكانها، فزادت البلاد بهذا التدبير للتدمير خرابًا فوق خرابها؛ فقد كان مثلًا في أعمال حلب ثلاثة آلاف ومائتا قرية تدفع الخراج قبل استيلاء العثمانيين، فنزل عددها إلى أربعمائة في عهدهم، وكان في غوطة دمشق١٧٥ أواخر عهد المماليك ثلاثمائة وخمسون قرية لا تزال أكثر دمنها ظاهرة وبعض أسمائها متعارفة، ولما غادر الترك البلاد كان في الغوطة نحو ستين قرية فقط، وهكذا يُقال في عامة الأقطار.

أدرك عظماء السلطنة عاقبة هذه الأمراض على الدولة، وكانوا يزعمون كلما تذرعوا بالإصلاح أنَّ الصدمات تأتيهم من الداخل والخارج، والحقيقة أنهم كانوا عاجزين عجزًا مطلقًا، وكسالى لا يحبون التعب. عرف رجال الدولة في العهد الأخير أمثال رشيد وعالي وفؤاد ومدحت وكامل وسعيد مواطنَ الداء، ولكنهم ما وفقوا قط إلى وصف الدواء الناجع، وكان الوزير رشيد كثيرًا ما يردد قوله: إنَّ المملكة العثمانية إما أن تصلح نفسها وإما أن تنقرض، وكيف لا نقول بعجزها، والقضاء كان كالسلع يوضع في السوق، فمن دفع الثمن الأعلى تولاه، ولو كان فيه جميع العيوب الشرعية، أسسوا منذ سنة ١٢٧٢ﻫ في العاصمة مدرسة للنواب — أي القضاة — ولكنهم ظلوا إلى آخر أيامهم يوسدون القضاء إلى الأميين والساقطين، وكيف يقيم العدل بين الناس من دفع ثمن قضائه، والقضاء إلى عهد قريب كان مرجع كل شيء.

والظاهر أنَّ العقلاء من رجال العثمانيين في كل عصر أمثال جاندارلي وأوره نوس وميخال أوغلي، ثم صوقوللي وكوبرلي ونظرائهم حتى الذين أدركناهم من الوزراء، كان همهم الأعظم موجهًا في الأعم الأغلب إلى سياسة الدولة، ودفع صائل الغربي عنها أيام الضعف، والتوسع في فتح بلاد جديدة أيام القوة، وقلما كانوا يهتمون بتطهير المملكة من أهل الفساد، ولا ينفذون من ناموس الإدارة ما يخففون به فقر البلاد وبؤسها، فتركوا الأهلين يعملون ما شاءوا إذا أدوا ما عليهم لخزانتها. وليس من شك أنَّ مصر والشام وسائر بلاد العرب كانت في الفتح العثماني قد ضعفت تجارتها لاستئثار البرتقاليين بتجارة الهند،١٧٦ فأصبحت هذه البلاد بمعزل عن حركة الأسواق وقل سكانها، وكان فتح سليم الأول نافعًا لها كما قالت معلمة الإسلام من الوجهتين الدينية والسياسية؛ لأنه أنشأ دولة سنية قوية أمام دولة الفرس الشيعية، فتراجع التشيع أمام التسنن. ونحن نقول: إنَّ البلاد شاركت في حظ مملكة لا تبطل حروبها وفتنها، وولاتها لا يعرفون ما يصلحها، فتراجعت تراجعها، وانحلت أوضاعها علاوة على ما كانت مُنيت به من الانحلال.

مثال من عجز الدولة وأنَّ نسبة الإخفاق إلى معاكسات الأجانب غير صحيحة دائمًا، أنها كانت إذا أعلنت حربًا أو أرادت إطفاء فتنة داخلية، يموت من جندها ورعاياها بالأمراض والإهمال أكثر ممن يموت بالسيف والنار؛ وذلك لأنها كانت ترسل ابن البلاد الباردة إلى البلاد الحارة والعكس بالعكس، فيهلك الخلائق بالألوف، يهلكون بقلة التدبير والبصيرة، والمملكة لا طرق لها، وليس للجند مآكل مغذية كافية ولا ألبسة دافئة، ولا شيء من أسباب الصحة مما تُحفظ به حياة الآدميين، شُوهد ذلك في معظم أدوار السلطنة، وما استطاع قائد ولا صدر ولا والٍ أن يُدخل الإصلاح المطلوب على هذا الخلل الممكن تلافيه، وأنت ترى أنه يحتاج إلى عقل يميز ويقدر، وأيدٍ تحب أن تعمل أكثر من احتياجه إلى المال، وندر جدًّا من عمال السلطنة من كان ينظر لمصلحتها الحقيقية، كما عز من لم يكن هدفه من عمله غير جمع المال يعمر به على الأقل قصرًا في أرباض العاصمة، ويترك لأسرته ثروة.

كان الفلاحون إذا ضاقت بهم الحال في قريتهم، واشتط عليهم المتغلبون وأرباب المقاطعات، يهجرونها إلى قرية بعيدة في إقليم آخر، ففُقد الاستقرار، وقد تتعطل الزراعات سنة وربما سنين، ولا يداوي أرباب القرى ما يقعون فيه إلا باستعمال السياط وضبط الفرش والماعون، وأحيانًا ضبط النساء والأولاد، وجاء زمان والفلاحون ينزلون برضاهم عن أرضهم إلى الكبراء؛ لأنهم لا يستغلون منها ما يفي بالضرائب الموضوعة عليها؛ بل أتى دهر وأرباب النفوذ إذا غضبوا على إنسان يأتون بشاهدين يشهدان عليه أنه عبدهم فيسترقونه، وجاء زمن وأعراب البادية يتقاضون حتى من المدن «خوة» أو مالًا سنويًّا، ولهم على كل قرية مبلغ أو إتاوة سنوية، وإلا رعوا الزروع وقطعوا الأشجار وخربوا المساكن وقتلوا الأنفس.

أما ظلم الولاة فهو القاعدة المطردة في الغالب، ومنهم من كانوا يقتلون المارة يتصيدونهم في الطرق، كما كان يتصيد الإنكشارية الأبرياء من الناس ليجربوا بنادقهم، وقد وقع لوالي حلب أنه كان يغتال كل يوم في الشوارع بضعة رجال من أبناء السبيل، ولما سُئل عن الداعي إلى القتل قال: إنه يحب إلقاء الرهبة في النفوس، ويريد بعمله أن يجعل للحكومة هيبة ووقارًا! وظلم الملوك قد يصل إلى أبلغ من هذا، فقد قتل السلطان سليم أهل الرملة (رملة فلسطين) بأجمعهم، وأصدر ابنه سليمان أمره بقتل أهل حلب عن آخرهم، فحال الصدر الأعظم دون إنفاذ هذه الإرادة الخرقاء، واكتفوا بقتل من غضب عليهم السلطان. وعجيب مع هذه الإدارة الحمقاء أن يبقى إنسان في الأرض العثمانية يزرع ويصنع ويتجر.١٧٧
أما مصر قبل أن يستقل بها محمد علي فكانت حالتها الإدارية مختلة، ومن أحب أن يتعرف حقيقتها كما هي، فعنده منها قدر كافٍ في تاريخ الجبرتي،١٧٨ يرى فيه صورة بشعة من بلاد هي على الدوام عرضة لفتن الصناجق والآغوات والبلوكات وجميع الوجاقات، والفتن بين الفقارية والقاسمية يُقتل فيها الناس وتُحرق دورهم، وتُصادر أموالهم حتى أصبح دم الإنسان كفاء دم كلب أو هر، وعمت «الرشا والتحيل على مصادرة بعض الأغنياء في أموالهم» «حتى صارت سُنة مقررة وطريقة مسلوكة ليست منكرة، وكذلك المصالحة على تركات الأغنياء التي لها وارث»، ويقبضون «على كثير من مساتير الناس والتجار والمتسببين» يحبسونهم ويصادرونهم ويسلبون ما بأيديهم، وتتواتر المصادرات والمظالم من الأمراء، وانتشار أتباعهم في النواحي لجبي الأموال من القرى والبلدان وإحداث أنواع المظالم، ويسمونها مال الجهات ودفع المظالم والفردة حتى أهلكوا الفلاحين، وضاق ذرعهم واشتد كربهم، «وطفشوا» من بلادهم فحولوا الطلب على الملتزمين، وبعثوا لهم المعينين إلى بيوتهم، فاحتاج مساتير الناس لبيع أمتعتهم ودورهم ومواشيهم بسبب ذلك، مع ما هم فيه من المصادرات الخارجة عن ذلك، وتتبُّع من يُشم فيه رائحة الغنى، فيُؤخذ ويُحبس ويُكلف أضعاف ما يقدر عليه، وتوالي طلب السلف من تجار البن والبهار عن المكوسات المستقبلة، ولما تحقق التجار عدم الرد عوضوا خساراتهم من زيادة الأسعار، ثم مدوا أيديهم إلى المواريث، فإذا مات الميت أحاطوا بموجوده — سواء كان له وارث أو لا — وصار بيت المال من جملة المناصب التي يتولاها شرار الناس بجملة من المال يقوم بدفعه كل شهر، ولا يعارض فيما يفعل في الجزئيات، وأما الكليات فيختص بها الأمير، فحل بالناس ما لا يوصف من أنواع البلاء، إلا من تداركه الله برحمته واختلس شيئًا من حقه، فإن اشتهروا عليه عوقب على استخراجه. وفسدت النيات، وتغيرت القلوب، ونفرت الطباع، وكثر الحسد والحقد في الناس بعضهم لبعض، فيتتبع الشخص عورة أخيه، ويدلي بها إلى الظالم، حتى خرب الإقليم، وانقطعت الطرق، وعربدت أولاد الحرام، وفُقد الأمن، ومُنعت السبل إلا بالخفارة، وركوب الغرر، وجلت الفلاحون من بلادهم من الشراقي والظلم، وانتشروا في المدينة بنسائهم وأولادهم يصيحون من الجوع، ويأكلون ما يتساقط في الطرقات من قشور البطيخ وغيره، فلا يجد الزبال شيئًا يكنسه من ذلك.

قال هذا الجبرتي في حوادث سنة ثمانٍ وتسعين ومائة وألف وختمه بقوله: «وضاع الناس بين صلحهم وغبنهم، وخروج طائفة ورجوع الأخرى، ومن خرج إلى جهة قبض أموالها وغلالها، وإذا سُئل المستقر في شيء تعلل بما ذُكر، ومحصل هذه الأفاعيل بحسب الظن الغالب، إنها حيل على سلب الأموال والبلاد.» وقال في حوادث سنة سبع ومائتين وألف: «استهل المحرم بيوم الخميس والأمر في شدة من الغلاء وتتابع المظالم وخراب البلاد وشتات أهلها، وانتشارهم بالمدينة حتى ملئوا الأسواق والأزقة رجالًا ونساءً وأطفالًا، يبكون ويصيحون ليلًا ونهارًا من الجوع، ويموت من الناس في كل يوم جملة كثيرة من الجوع.» وقال في حوادث سنة تسع ومائتين وألف: «لم يقع بها شيء من الحوادث الخارجية سوى جور الأمراء وتتابع مظالمهم، واتخذ مراد بك أمير الإنكشارية الجيزة سكنًا وزاد في عمارته واستولى على غالب بلاد الجيزة، بعضها بالثمن القليل، وبعضها غصبًا، وبعضها معاوضة.» وقال في حوادث سنة عشر ومائتين وألف: «لم يقع بها شيء من الحوادث التي يُعتنى بتقييدها سوى مثل ما تقدم من جور الأمراء والمظالم.» وكانت الفتن بين الإنكشارية في الريف والعاصمة متصلة، وقد تستولي طائفة على الوجه البحري وأخرى على الوجه القبلي، فتتحاربان وينضم الهوارة والعربان إلى أحد الفريقين والناس بينهما في أمر مريج «من الظلم والفجور والفسق بأهل الريف والعسف بهم وتكليفهم الكلف الشاقة.»

وإذا شئت الوقوف على حالة القضاء فاقرأ الصفحة التالية من تاريخ الجبرتي بالنص الذي كتبه في ماجريات سنة ١٢٣١ﻫ، قال: «حصلت جمعية ببيت البكري وحضر المشايخ وخلافهم، وذلك بأمر باطني من صاحب الدولة (محمد علي)، وتذاكروا ما يفعله قاضي العسكر من الجور، والطمع في أخذ أموال الناس والمحاصيل، وذلك أنَّ القضاة الذين يأتون من باب السلطنة كانت لهم عوائد وقوانين قديمة لا يتعدونها في أيام الأمراء المصريين، فلما استولت هؤلاء الأروام — الترك — على الممالك والقاضي منهم، فحش أمرهم وزاد طمعهم، وابتدعوا بدعًا وابتكروا حيلًا لسلب أموال الناس والأيتام والأرامل، وكلما ورد قاضٍ ورأى ما ابتكره الذي كان قبله أحدث هو الآخر أشياء يمتاز بها عن سلفه، حتى فحش الأمر وتعدى ذلك لقضايا أكابر الدولة وكتخدا بك بل الباشا، وصارت ذريعة وأمرًا محتمًا، لا يحتشمون منه ولا يراعون خليلًا ولا كبيرًا ولا جليلًا، وكان المعتاد القديم أنه إذا ورد القاضي في أول السنة التوتية التزم بالقسمة بين المميزين من رجال المحكمة بقدر معلوم يقوم بدفعه للقاضي، وكذلك تقرير الوظائف كانت بالفراغ أو المحلول، وله شهريات على باقي المحاكم الخارجة كالصالحية، وباب سعادة، والخرق، وباب الشعرية، وباب زويلة، وباب الفتوح، وطيلون، وقناطر السباع، وبلاق، ومصر القديمة ونحو ذلك، وله عوائد وإطلاقات وغلال من الميري، وليس له غير ذلك إلا معلوم الإمضاء، وهو خمسة أنصاف فضة، فإذا احتاج الناس في قضاياهم ومواريثهم أحضروا شاهدًا من المحكمة القريبة منهم، فيقضي فيها بما يقضيه ويعطونه أجرته، وهو يكتب التوثيق أو حجة المبايعة أو التوريث، ويجمع العدة من الأوراق في كل جمعة أو شهر، ثم يمضيها من القاضي، ويدفع له معلوم القضاء لا غير، وأما القضايا لمثل العلماء والأمراء فبالمسامحة والإكرام، وكان القضاة يخشون صولة الفقهاء، وقت كونهم يصدعون بالحق ولا يداهنون فيه، فلما تغيرت الأحوال وتحكمت الأتراك وقضاتها، ابتدعوا بدعًا شتى، منها إبطال نواب المحاكم، وإبطال القضاة الثلاثة بخلاف مذهب الحنفي، وأن تكون جميع الدعاوي بين يديه ويدي نائبه، وبعد الانفصال يأمرهم بالذهاب إلى كتخداه لدفع المحصول، فيطلب منه المقادير الخارجة عن المعقول، وذلك خلاف الرشوات الخفية، والمصالحات السرية، وأصناف التقرير والقسمة لنفسه، ولا يلتزم بها أحد من الشهود كما كان في السابق، وإذا دُعي بعض الشهود لكتابة توثيق أو مبايعة أو تركة فلا يذهب إلا بعد أن يأذن له القاضي، ويصحبه «بجوقة دار» ليباشر القضية وله نصيب أيضًا، وزاد طمع هؤلاء «الجخدارية» حتى لا يرضون بالقليل كما كانوا في أول الأمر، وتخلف منهم أشخاص بمصر عن مخدوميهم، وصاروا عند المتولي لما انفتح لهم هذا الباب.

وإذا ضبط تركة من التركات وبلغت مقدارًا، أخرجوا للقاضي العشر من ذلك ومعلوم الكاتب والجوخدار والرسول، ثم التجهيز والتكفين والمصرف والديوان، وما بقي بعد ذلك يُقسم بين الورثة، فيتفق أنَّ الوارث واليتيم لا يبقى له شيء، ويأخذ من أرباب الديون عشر ديونهم أيضًا، ويأخذ من محاليل وظائف التقارير معلوم سنتين أو ثلاث، وقد كان يصالح عليها بأدنى شيء وإلا إكرامًا، وابتدع بعضهم الفحص عن وظائف القبانية والموازين وطلب تقاريرهم القديمة، ومن أين تلقوها، وتعلل عليهم بعدم صلاحية المقرر، وفيها من هو باسم النساء ولسن أهلًا لذلك، وجمع من هذا النوع مقدارًا عظيمًا من المال، ثم محاسبات نظار الأوقاف، والعزل والتولية فيهم والمصالحات على ذلك، وقرر على نصارى الأقباط والأروام قدرًا عظيمًا في كل سنة بحجة المحاسبة على الديور والكنائس، ومما هو زائد الشناعة أيضًا أنه إذا ادعى مبطل على إنسان دعوى لا أصل لها، بأن قال ادعى عليه بكذا وكذا من المال وغيره كتب المقيد ذلك القول، حقًّا كان أو باطلًا، معقولًا أو غير معقول، ثم يظهر بطلان الدعوى أو صحة بعضها، فيطالب الخصم بمحصول القدر الذي ادعاه المدعي، أو سطره الكاتب، يدفعه المدعى عليه للقاضي على دور النصف الواحد، أو يحبس حتى يوفيه، وذلك خلاف ما يُؤخذ من الخصم الآخر، وحصل نظيرها لبعض من هو ملتجئ لكتخدا بك فحبس على المحصول، فأرسل الكتخدا يترجى في إطلاقه والمصالحة عن بعضه فأبى، فعند ذلك حنق الكتخدا وأرسل من أعوانه من استخرجه من الحبس. ومن الزيادات في نغمة الطنبور كتابة الإعلامات، وهو أنه إذا حضر عند القاضي دعوى بقاصد من عند الكتخدا أو الباشا يرجع به مع القاصد تقييدًا أو إثباتًا، فعند ذلك لا يكتب له ذلك الإعلام إلا بما عسى لا يرضيه، إلا أن يسلخ من جلده طاقًا أو طاقين، وقد حكمت عليه الصورة وتابع الباشا أو الكتخدا ملازم له يستعجله، ويساعد كتخدا القاضي عليه، ويسليه على ذلك الظفر والنصرة على الخصم، مع أنَّ الفرنسيين الذين كانوا لا يتدينون بدين لما قلدوا الشيخ أحمد العريشي القضاء بين المسلمين بالمحكمة، حددوا له حدًّا في أخذ المحاصيل لا يتعداه، بأن يأخذ على المائة اثنين فقط، له منها جزء وللكُتَّاب جزء، فلما زاد الحال وتعدى إلى أهل الدولة رتبوا هذه الجمعية، فلما تكاملوا بمجلس بيت البكري، كتبوا عرض محضر، ذكروا فيه بعض هذه الأحداث والتمسوا من ولي الأمر رفعها، ورجوا من المراحم أن يجري القاضي، ويسلك في الناس طريقًا من إحدى الطرق الثلاث، أما الطريقة التي كان عليها القضاة في زمن الأمراء المصريين، وأما الطريقة التي كانت في زمن الفرنسيين، أو الطريقة التي كانت أيام مجيء الوزير، وهي الأقرب والأوفق، وقد اخترناها ورضيناها بالنسبة لما هم عليه الآن من الجور، وتمموا العرض محضرًا، وأطلعوا عليه الباشا، فأرسله إلى القاضي، فامتثل الأمر، وسجل بالسجل على مضض منه، ولم تسعه المخالفة.» ا.ﻫ.

ونحن إذا اضطررنا إلى ذكر هذه الحوادث فلكي ندل بها على تلك الإدارة، ولا تفهم سوء حالتها إلا بما تحيف البلاد من شرور القائمين عليها، وإذا ذكرنا الأشخاص فلنستدل على أعمالهم، فقد ذكر التاريخ أنَّ الوزير سنانًا فاتح اليمن وتونس ووالي الشام ومصر، وقد تولى الصدارة غير مرة خلف ثروة أقل ما يُقال فيها: إنها مجموعة ثروة قسم عظيم من الولايات العربية،١٧٩ إذا وجد بعضها في أحد متاحف الغرب عُد غنيًّا بما في تركته من غرائب. وهذا الفاتح هو الذي أمر بقتل أمراء اليمن ومشايخها، وكانوا جاءوه من بعيد للسلام عليه، فغرس الأحقاد في صدور اليمانيين على الترك قرونًا، وهكذا يُقال في أحمد الجزار والي الشام وعكا: فإنه لم يبقِ على ثروة ولم يعفُ عن إنسان، ولو شئنا أن نعدد أمثالهما لما ضن التاريخ العثماني علينا بمئات سودوا صحيفته، وأكثرهم يقف الوقوف على الجوامع والمدارس، فقد قيل: إنَّ سنانًا قام بأعمال خيرية قُدِّر المنفق عليها بمليوني جنيه ذهب بسكة زماننا منها جامع بدمشق، والجزار عمَّر جامعًا بديعًا في عكا.
قال ريشاروود:١٨٠ كان الولاة لعجزهم وضعف قوتهم يضطرون إلى الاتفاق مع أعيان البلد على تنفيذ أغراضهم، ويشاركونهم في دسائسهم وجرائمهم وسرقاتهم، ولم يكن بين موظفي الحكومة أحد يحق له أن يكاتب الحكومة المركزية إلا هؤلاء الولاة، وبديهي أنهم لا ينبئون الباب العالي بحقيقة الحالة الإدارية، ولذلك كانت الحكومة المركزية تجهل أحوال الولايات كل الجهل، وقال: إنه سادت المحاكم حالات رديئة مثل استماع شهادة الزور وتناول الرشوة وعمت الفوضى كل مصالح الحكومة، حتى صارت واردات الدولة مأكلًا للمختلسين.

وما كانت إدارة بقية بلاد العرب بأحسن مما كانت في الشام ومصر، ولا أكثرها من القوانين والتراتيب الإدارية، فالحجاز يحكمه أشراف مكة مع والٍ للدولة يتقاسمان المغانم فيئن الناس من الظلم، واليمن تتنازعها سلطتان سلطة بني عثمان في تهامة، وسلطة أئمة الزيدية في الجبال، والأتراك أبدًا هناك في حالة حرب واحتلال مؤقت، والدولة تنفي إلى اليمن كما تنفي إلى طرابلس الغرب من تغضب عليهم، وبالنظر لبعدها ما كان يرضى بالتوظف فيها إلا من ضاقت سبل الأعمال أمامه، فكان اليمانيون من هاتين الطبقتين في مصيبة، والبلاد تحكم بقواعد العشائر وعاداتهم ليس فيها طرق ولا مدارس ولا مصانع كسائر الولايات، وأخرب البلاد ما يشب فيها من حروب وغوائل دامت إلى أن عقدت الدولة مع إمام الزيدية في سنة ١٣٢٩ﻫ، معاهدة اعترفت به وبمذهبه وسلطته اعترافًا رسميًّا، وسواحل اليمن كانت أبدًا في فوضى، ولم ينتشر الأمن في ربوعها إلا لما ارتبطت بحكومة الهند الإنجليزية، فأصبح لكل إمارة وناحية إدارة خاصة بها، ونجد لا شأن لقبائلها البدوية إلا أن تتقاتل، وكان الأمن مفقودًا فيها كسائر البوادي، وأقر آل سعود وبعدهم آل الرشيد الأمن في ربوعها لما حكموها، وكان العراق بأيدي الولاة في الظاهر، وأيدي متزعمة القبائل في الحقيقة، حتى أصبح بعد عمرانه القديم بادية إلا قليلًا، لولا بقع من مجموعات سكان تنزل أرجاء بغداد والبصرة والحلة والموصل وغيرها، وسلطة الدولة لا تكاد تتعدى الحواضر شأنها في كثير من الولايات العربية، والقاصية بأيدي أرباب الزعامات والإقطاعات، وأخذت بعض الولايات التي تولاها عظماء من رجال السلطنة في العهد الأخير تؤسس فيها قواعد الإدارة، وتكثر فيها مراكز الحكومة من أقضية وألوية، فقد أسسوا لواءين في جنوب الشام وشرقها: «لواء الكرك» و«لواء الزور»، فدخل عرب البادية في حياة الزراعة وخف اعتداؤهم بعضهم على بعض، وبطل الغزو أو كاد لاستلاب المواشي. ولما أُنشئت السكة الحجازية بين دمشق والمدينة بدأ الأمن يستتب والبادية تحس طعم السكنى، وعُمرت على بعض جانبي الخط قرى ومزارع.

وفي الحق أنَّ الدولة أنشأت، بعد تنظيم الولايات، ترسل ولاة ومتصرفين لا بأس باقتدارهم، ومنهم من كانوا يحاولون الإصلاح ما أمكنهم ويقرون العدل بعض الشيء، ويؤمنون السبل بالقليل من القوات التي كانت لهم من الجند والدرك والشرطة، ومنهم من أنشأ مدارس وطرقًا كما فعل الوزير مدحت في العراق والشام، وقد كتب من دمشق في إصلاح الإدارة إلى الآستانة يقول: إنَّ الأوامر التي تصدر من الآستانة إلى الشام محصورة في طلب المال والجند فقط، وبذلك بطل العمل بالقانون والأصول المتبعة، وفُتحت أبواب سوء الاستعمال، وما عدا بعض رجال من الموظفين أصبح كبار العمال، وصغارهم لا يلتفتون إلى غير مصالحهم فطرأ على المعاملات خلل، وبسوء تأثير ذلك فسدت أخلاق الناس، وكثر القتل والنهب والغارة على الأموال والعروض في كل مكان، واختل الأمن كل الاختلال، قال: وإذا ألقينا نظرة على واردات الدولة رأينا الخراج والأموال قد نزل ارتفاعها إلى النصف، وخربت مسائل الأعشار البلاد، وقل البدل العسكري — الجزية — كتب هذا قبل نحو ستين سنة والدولة آخذة في تقليد الغربيين في إدارة بلادها.

أما سائر الولايات والألوية المستقلة كبرقة وطرابلس وتونس وما إليها، فقد كان سلطان الترك فيه اسميًّا، وكانت تقنع منها بخراج معين، وتقيم بها حامية، وتوسد أمهات الوظائف الكبرى إلى الأتراك شأنها في كل ولاية، ومنذ استولت على طرابلس بعد سنة ٩٧٢ﻫ وقعت في أيدي جيشها الإنكشاري،١٨١ فاختل نظامها واستبدوا بالحكم ومدوا أيديهم إلى ما في أيدي الناس، وفرضوا على الأهالي ضرائب مما لا قبل لهم به، وكثر طغيانهم حتى اضطر كثير من رؤساء القبائل إلى الثورة عليهم في أزمان متتالية تخلصًا من حكمهم الجائر، وكان القضاة إذا مات الميت أرسلوا للوارث وطالبوه بدفع سدس ماله وسموا ذلك «فريضة»، وربما أفحش المقدر للأموال المورثة فقدرها بأكثر مما تساوي فيخرج بذلك الوارث من إرثه، وقد يمهل الوالي المعوزين من الفلاحين في أداء ما عليهم من الإتاوات، حتى إذا أدوا ما عليهم باعهم من قائد آخر وسلطه عليهم، ويزيدون في العشور حتى ليجعلون الكيلة توازي ثلاثًا من الكيلات المقررة لقسمة الحبوب، وهكذا في خَرْص الزيتون والنخيل، ومَن نقص من شجره شيء ولو النصف لا تُسمع شكواه ويُلزم بأداء ما كان يدفع على شجره قديمًا، وقد يجعلون خراج الأرض على الجماجم، ومنذ سقطت تونس (٩٣٥ﻫ) في أيدي العثمانيين أخذ العمال يتوارثونها، وظلت كأنها مستقلة تنجد الدولة في بعض أيام حروبها العظيمة بشيء من المراكب والجند، وفي تواريخ تونس أنه كان من هؤلاء العمال، ثم من أمرائها الحاليين من يعنون قليلًا بتحسين الإدارة والجباية ويعمرون ما تشتد الحاجة إليه من المعالم، ونبغ فيها أواخر القرن الماضي الوزير خير الدين فأحيا مصانعها وزراعتها، ونشر محمد باي الثاني (١٢٧٦ﻫ) قانونًا دعاه عهد الأمان،١٨٢ أطلق فيه حرية التدين للسكان على اختلاف مذاهبهم، وساوى بينهم في الحقوق العامة، وكفل للتونسيين حرياتهم وأموالهم وأعراضهم.
وكان الآغا في تونس على عهد الحكم التركي المباشر يجلس في الديوان ويقوم أكبر الشواش١٨٣ بين يديه والترجمان بإزاء الآغا، فإذا أخذوا مراتبهم قام خطيبهم فدعا للسلطان والعسكر وقُرئت الفاتحة، ثم يخرج مناديهم عند الباب يقول: من له دعوى فليدخل، فإذا دخل قابله الترجمان وتعرض القضية، فإن كانت من الأمور الشرعية ردوها إلى الشرع، وإن كانت قانونية فعلوا بآرائهم وبما جرت العادة به بينهم. ولما ظهرت رتبة المفتي في المائة التاسعة، أصبحت أرفع من درجة القاضي، وإذا أشكل أمر على القاضي بعث إلى المفتي يسأله، والقضاة أتراك يجيئونها من بلاد الترك والغالب عليهم العجمة، فاحتاجوا إلى نائب يكون بين يدي القاضي، يكون بمثابة قاضي الخصومات، والقاضي التركي مقام قاضي الجماعة.

هذا ما قاله صاحب المؤنس، وهذه العجمة الغالبة على قضاة الترك التي أشار إليها كانت سببًا عظيمًا من أسباب سوء الإدارة، وسوء التفاهم بين الحاكم والمحكوم منذ الزمن الأطول، وكيف يفهم القاضي أو الوالي أقوال المتقاضين والشاكين إذا كان أعجميًّا، بل كيف يفهم مع عجمته الحكم الشرعي من كتب العرب، والشريعة عربية، وهل للوالي أو الشاويش أن يؤثر في نفوس من يتولى أمرهم إذا لم يستطع التفاهم معهم، بل أن يخطبهم إذا دعت الحال، وأنَّى لابن العرب أن يفهم كلام التركي في زمن ضعفت فيه أيضًا ملكته في لغته! ولذلك خرجت الدولة العثمانية من بلاد العرب، ومنها ما حكمته ثلاثة قرون، ومنها ما حكمته أربعة، وهي لا تعرف روح البلاد ولا روح أهلها.

وفي معلمة الإسلام١٨٤ أنه كان من فتح الترك شمالي إفريقية وضع حد لتوسع دول النصارى فيها، وإنقاذ المسلمين في أرجائها من توسع الإسبان في استيلائهم على بعض بلدانها (١٦١٥م)، فأسس الترك مملكة تناولت بلاد الغرب الأوسط وتولاها «بكلربك» من قبل الدولة العثمانية، ولم يبقَ غير مدينة وهران بيد الإسبان، ولم تتناول سلطة الأتراك الفعلية في الجزائر غير محيط من الأرض، لا تتجاوز مساحته خمسة وسبعين ألف كيلو متر مربع، أو سدس بلاد الجزائر، وظل الباقي في أيدي أناس من المتغلبة، ومن القبائل المستقلة، ومنها ما يُدفع خراجًا للسلطنة، فلم يبقَ أمام الترك غير اتباع سياسة «فرِّق تَسُد» بين القبائل والمتزعمين والبيوت المتغلبة، وكذلك كانت سياستهم مع الخاضعين لسلطانهم مباشرةً. دام الحال على ذلك النحو ثلاثة قرون، والقتل يفشو في البادية والحاضرة، على مثال سائر الولايات العثمانية، ومن الولاة من كانوا يعينون من الآستانة إلى ثلاثين سنة، تعضد سلطانهم خمسة آلاف جندي إنكشاري، ثم تغلَّب بعض آغواتهم على الحكم، فلم يبقَ للوالي المعين من دار السلطنة غير سلطة اسمية، وكان عهد الآغوات عهد اضطراب وفتن ويلقى عامة هؤلاء الآغوات حتفهم بأيدي جند الإنكشارية، ولما ضايقت الدول البحرية الأوربية الجزائر لحملها على منع قرصان البحر من الإتجار بالرقيق، وكانت تجارته من أعظم أسباب غنى الجزائريين مدة ثلاثة قرون، بل من أهم موارد الحكومة في هذه الولاية، عاد الولاة يظلمون الرعايا في اقتضاء الجباية، أو يلقون أنفسهم في أحضان اليهود، يقترضون منهم الأموال ليصرفوها في إدارة البلاد. وكثيرًا ما كانت الفتن تنتشر بين السكان لكثرة المغارم والمظالم، ومن سنة ١٦٧٢ إلى سنة ١٨٣٠ قُتل بيد الجند العثماني من الدايات أو الولاة في الجزائر ثمانية عشر واليًا، وكان الجند هم الذين يختارون الوالي في العهد الأخير، ويتمتع بسلطة واسعة ويعينه مجلس أو ديوان مؤلف من خمسة وزراء، يتولون مسائل المال والجندية والبحرية، وأملاك الدولة وغير ذلك. ودام هذا التخبط حتى جاء الفرنسيس واستولوا على الجزائر سنة ١٨٣٠ وجعلوها مستعمرة لهم، وهكذا بقي الفرق محسوسًا بين الأرياف وقواعد البلاد، وبين الأرجاء التي حكمتها الدولة بعض الشيء، والأصقاع التي نجت من سيطرة عمالها، كأن القرى والدساكر من غير هذا العالم، ومن قرن لا يُعد في هذه القرون.

وبعد فمهما قيل في فساد الإدارة العثمانية منذ القرن العاشر إلى الثالث عشر من الهجرة، فإن فجر القرن الرابع عشر انبلج عن إجماع الحاكم والمحكوم على قبح هذه الإدارة وإرادة الإفاقة من كابوسها صيانة للبلاد، ورأينا الدولة في آخر أيامها ترسل مفتشين لكشف أحوال عمالها في المالية والداخلية والقضاء والحربية وغيرها، ورأينا منهم طبقة صالحة في الجملة إذا بحثوا سقطوا لا محالة على الخلل المتسرب إلى الأوضاع الحكومية، وكانوا يضعون التقارير النافعة لما شاهدوا وحققوا، لكن التنفيذ كان قليلًا، وندر أن يُؤخذ عامل مجرم بما يُقرر فيه، وغاية ما يناله من عقوبة أن يُنقل إلى ناحية أخرى، أو يُترك مدة بلا عمل ويُلقى الستار على جنايته أو جريمته، وكان من الصعب إذا كان للموظف حامٍ يحميه إنزال العقوبة به ولو كان قاتلًا. أما سرقة مال الدولة وتعريق لحم الملة فهذا مما لا يؤبه له كثيرًا، وعلى هذا كان الناس في هذه الإمبراطورية العظمى بين ظالم ومظلوم، ينفذ فيها القانون على فقراء الرعية غالبًا، وقد يُستثنى من أحكامه من كان له شافع من ثروة وجاه وقرابة ونسبٍ.

قال لاموش:١٨٥ لئن كان في تنظيم الإدارة في المملكة العثمانية عيب فاحش الظهور لهو في صور التنفيذ لا في الأصول، ومنشأ النقص هو السلطة المطلقة الذاتية، التي يتمتع بها الحكام فمن بعدهم، وبيع المناصب وجباية الضرائب، وشيوع الاختلاس في أموال الدولة، وفشو الرشوة، وإذا قيست إدارة العثمانيين بإدارة معظم الممالك الأوربية في ذلك العهد، رُؤي في الإدارة العثمانية ترتيب وسلطة ثابتة هي أتم مما كان من نوعها عند غيرهم، وبهذه المركزية وبالإدارة المطردة كُتب للملكة العثمانية، على ما كان لها من المشاكل الخارجية، أن تبلغ درجة عالية من القوة، وأن تحتفظ بها إلى آخر القرن التاسع عشر، وما منع الإسلام سلاطين العثمانيين من رعاية النصارى في المملكة، لما عُرف من أن فتحهم الروم إيلي والآستانة، ثم فتح بلاد المجر قد زاد في عديد رعاياهم من النصارى، ومنهم العنصر المنتج العامل في الزراعة والتجارة والمال، ومنهم يُجبى قسم عظيم من ارتفاع الدولة. وقال أيضًا: من سوء طالع تركيا أنَّ جزءًا عظيمًا من القوانين الجديدة، لما عاقت العوائق عن تطبيقها، ظلت مكتوبة في الورق، فقيل بعد ذلك: إنه كان لتركيا قوانين جيدة ولديها من ضروبها شيء كثير، ولكن يعوزها التطبيق فقط. وقال جلال نوري:١٨٦ إنا لنرى، والأسف ملء قلوبنا، أنَّ جنسنا التركي ليس على استعداد كبير للإدارة؛ فقد وضعت أسس ترتيبات مهمة على عهد أورخان ومراد خداوندكار، فحالت قلة أهليتنا لها دون الاحتفاظ بها، وكان عجزنا في الإدارة محققًا، ولنا أن نقول: إنَّ المسألة الشرقية بمعناها الحقيقي هي مسألة إدارة، أو بتعبير أصح مسألة قلة إدارة، ولولا فساد الإدارة ما وجدت روسيا، ومن لهن علاقة بالشرق من الدول سبيلًا إلى الدولة العثمانية ينفذن منه إلى إثارة العناصر المختلفة في السلطنة، وكل ما أصابنا ناشئ من خلل الإدارة، وباختلال إدارتنا قامت في العهد الأخير بعض العناصر العثمانية فنزعت إلى الاستقلال، ودفعت إلى تأليف إدارات مستقلة، وإنشاء حكومات قامت على السلطان القومي، وما احتفظت أمة قط بوحدتها وحياتها إلا بحسن إدارتها.
١  مروج الذهب للمسعودي.
٢  البيان والتبيين للجاحظ.
٣  الحنيك والمحنك والمحنك والمحتنك والحنك: هو المجرب البصير بالأمور.
٤  يُقال للرجل المجرب للأمور: قد حلب الدهر أشطره، أي قد قاسى الشدائد والرخاء وتصرف في الفقر والغنى، وأشطره خلوفه أو أخلاف من أخلاف الناقة، وحلب فلان الدهر أشطره أي مر به خيره وشره.
٥  الفخري لابن الطقطقي.
٦  تاريخ اليعقوبي.
٧  مروج الذهب للمسعودي.
٨  مروج الذهب للمسعودي.
٩  لطائف المعارف للثعالبي.
١٠  تاريخ ابن الأثير.
١١  البرني: تمر أصفر مدور وهو أجود التمر واحدته برنية. والشهريز: ضرب من التمر في نواحي البصرة.
١٢  تاريخ ابن عساكر.
١٣  فتوح البلدان للبلاذري.
١٤  يكف نفسه.
١٥  رسائل البلغاء، نشرها المؤلف.
١٦  أحسن إليهم.
١٧  أترف الرجل: أعطاه شهوته.
١٨  الحمالة: كسحابة الدية والغرامة التي يحملها قوم عن قوم.
١٩  الفسل: من الرجال الرذل الذي لا مروءة له، ج أفسل وفسول.
٢٠  الاستخراج والاختراج: الاستنباط.
٢١  الفخري لابن الطقطقي.
٢٢  النجوم الزاهرة لابن تغري بردي.
٢٣  الأحكام السلطانية للماوردي.
٢٤  الفخري لابن الطقطقي.
٢٥  الأحكام السلطانية للماوردي.
٢٦  البأو: الكبر.
٢٧  الحيوان للجاحظ.
٢٨  الألطاف: الهدايا واحدها لطف، وألطفه بكذا أتحفه به وبره، وتكون في الغالب من المأكول والمشروب والمشموم.
٢٩  الصراف أو قابض المال.
٣٠  تاريخ الطبري.
٣١  الخراج لأبي يوسف.
٣٢  تاريخ اليعقوبي.
٣٣  المقبلون ملتزمو الجباية من الولاة، والدهاقين التجار أو رؤساء الأقاليم، والتناء السكان جمع تانئ.
٣٤  نشوار المحاضرة للتنوخي.
٣٥  بيت يُبنى طويلًا.
٣٦  النجوم الزاهرة لابن تغري بردي.
٣٧  أخبار الولاة والقضاة للكندي.
٣٨  تاريخ الطبري.
٣٩  تاريخ الطبري.
٤٠  تاريخ الطبري.
٤١  تاريخ الطبري.
٤٢  رواية ابن الأثير: يغنيك ذلك عن اصطناعهم.
٤٣  رواية الأثير: فساد أمورك في عاجلها وآجلها.
٤٤  هذه رواية الطبري، وفي رواية ابن الساعي: ذوي السن.
٤٥  رواية ابن الساعي «الأضراب» بدل الأضراء.
٤٦  الزواقيل: اللصوص.
٤٧  الحلة السيراء لابن الأبار.
٤٨  خطط المقريزي.
٤٩  طاء النمل: يُقال لها اليوم: طنامل (بضم الطاء وتشديد النون) وهي مركز أجا من الدقهلية.
٥٠  المحاسن والمساوئ للبيهقي.
٥١  أخلاق الملوك للجاحظ.
٥٢  وفيات الأعيان لابن خلكان.
٥٣  مناقب الترك وعامة جند الخلافة للجاحظ.
٥٤  التيسير والاعتبار للأسدي (مخطوط).
٥٥  الثغور الشامية هي: طرسوس وأذنة والمصيصة والإسكندرونة وأولاس وعين زربة والكنيسة السوداء والهارونية وبياس. ومن ثغور الجزيرة مرعش وأنطاكية وبغراس.
٥٦  الخراج لقدامة.
٥٧  الفواثير: الكشافة. الركاضة: البريديون.
٥٨  الصعاليك: الجند غير المنظم.
٥٩  عصر المأمون لأحمد فريد رفاعي.
٦٠  وفيات الأعيان لابن خلكان.
٦١  دول الإسلام للذهبي.
٦٢  تاريخ الطبري.
٦٣  صلة تاريخ الطبري لعريب.
٦٤  كان يُطلق هذا الاسم (الإخشيد) على ملوك فرغانة، وهو لفظ فارسي معناه ملك الملوك، كما يُطلق على ملوك الفرس الساسانية لقب شاهنشاه (ملك الملوك) وكسرى، وعلى ملك الروم باسيل وهو قيصر، وعلى ملوك الإسكندرية بطلميوس، واليمن تبع، والترك والخرز والقرغز خاقان، والترك الغزية حنوتة، والصين بغبور، والهند بلهرا، وقنوج رابي، والحبشة النجاشي، والنوبة كابيل، وجزائر البحر الشرقي مهراج. وجبال طبرستان أصفهبذ، ودنباوند مصمغان، وغرجستان شار، وسرخس زاذويه، ونسا وأبيورد بهمنه، وكش نيدون، وأشروسنة أفشين، والشاش تدن، ومرو ماهويه، ونيسابور كنبار، وسمرقند طوخون، والسرير الحجاج، ودهستان صول، وجرجان أناهبذ، والصقالبة قبار، وملوك السريانيين نمروذ، والقبط فرعون، وباميان شيرياميان، ومصر العزيز، وكابل كابل شاه، والترمذ ترمذ شاه، وخوارزم خوارزم شاه، وشروان شروان شاه، وبخارا بخارا خداه، وكوز كان كوز كانان خداه (ذكر ذلك البيروني في الآثار الباقية).
٦٥  مروج الذهب للمسعودي.
٦٦  تاريخ ابن الطقطقي.
٦٧  التنبيه والإشراف للمسعودي.
٦٨  نشوار المحاضرة للتنوخي.
٦٩  تاريخ دمشق لابن عساكر.
٧٠  تاريخ الوزراء للصابي.
٧١  صلة تاريخ الطبري لعريب.
٧٢  لطائف المعارف للثعالبي.
٧٣  تجارب الأمم لابن مسكويه.
٧٤  الفخري لابن الطقطقي.
٧٥  تاريخ الوزراء للصابي.
٧٦  واحدها كندوج: وهي الخزانة الصغيرة تُجعل فيها الحبوب وهي معربة.
٧٧  الجسور.
٧٨  الملي الغني، وتان قاطن.
٧٩  الفخري لابن الطقطقي.
٨٠  تاريخ الوزراء للصابي.
٨١  تاريخ الوزراء للصابي.
٨٢  الطسق: مكيال أو شبه ضريبة معلومة.
٨٣  نشوار المحاضرة للتنوخي.
٨٤  أدب الكاتب لابن قتيبة.
٨٥  تاريخ الوزراء للصابي.
٨٦  قال البيروني: وبنو العباس لما لقبوا أعوانهم بالألقاب الكاذبة وسووا فيها بين الموالي والمعادي، ونسبوهم إلى الدولة بأسرهم، ضاعت دولتهم، فإنهم أفرطوا في ذلك حتى أصبح القائم بحضرتهم لا فرق بينه وبين غيرهم فثنوا له التلقيب، ورغب في مثل ذلك غيرهم، وكان الراغب ينجح حاجته بالبذل، وتنزاح علته بالإدلاء، فاحتيج ثانيًا إلى الفرق بين هؤلاء وبين المختص بحضرتهم، فثلثوا له التلقيب وألحقوا به الشاهانشاهية، وبلغ الأمر غايته من التكليف والتثقيل، حتى إن الذاكر لهم يمل ذكرهم قبل أن يبتدئ به، والكاتب يفنى زمانًا وأسطرًا، والخاطب لهم على خطر من فوت وقت الصلاة. ثم ذكر أسماء الملقبين بالألقاب الصادرة عن حضرة الخلافة بين ولي الدولة وعميدها وناصرها وسعدها وسيفها وعمادها ومعزها وركنها وعزها وعمدتها وسندها وظهيرها ومؤيدها وإعزازها وشمس المعالي وولي الدولة وعضدها وتاج الملة وفخر الدولة وفلك الأمة وصمصام الدولة وشمس الملة وشرف الدولة وركن الأمة ومجد الملة وكهف الأمة ويمين الدولة وأمين الملة وبهاء الدولة وضياء الملة وغياث الأمة وناصر الدولة حسامها ومعينها وسنانها ونصيرها. قال: وذلك وزراء الخلافة قد لقبوا بالأذواء، كذي اليمينين وذي الرئاستين وذي الكفايتين وذي السيفين وذي القلمين وأمثال ذلك، وتشبه بهم آل بويه لما كانت الدولة منتقلة إليهم، وبالغوا فيه واستغرقهم الكذب، فسموا وزراءهم بكافي الكفاة والكافي الأوحد وأوحد الكفاة، ولم ترغب السامانية ولاة خراسان في هذه الألقاب بل اكتفوا بالتكنية، وكانوا يذكرون في حياتهم بالملك المؤيد الموفق والمنصور والمعظم والمنتصر وبعد وفاتهم بالحميد والشهيد والسعيد والسديد والرضي وأمثال ذلك، ولكنهم لقبوا قواد جيوشهم بناصر الدولة وعمادها وحسامها وعميدها وسيفها وسنانها ومعينها ونصيرها اقتداءً بأفعال الخلفاء، وكذلك فعل بغراخان لما خرج في سنة اثنين وثمانين وثلاثمائة من تلقيب نفسه بشهاب الدولة، وجاوز نفر منهم هذا الحد فسموا أنفسهم بأمير العالم وسيد الأمراء فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا وأظهر لهم ولغيرهم عجزهم. ا.ﻫ.
وأول من لقب بالدين في الإسلام بهاء الدولة بن بويه ركن الدين وذلك في القرن الرابع وسرت هذه الألقاب إلى العامة والخاصة ولم تخلُ منها إلا الأندلس؛ لأن دولتهم بقيت على عربيتها وبقي الأمر كما قال القلقشندي على التلقيب بالإضافة إلى الدولة إلى أيام القادر فافتتح التلقيب بالإضافة إلى الدين، وكان أول من لُقب بالإضافة إليه أبو نصر بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه فصار لقبه بهاء الدولة ونظام الدين. ودرج على هذه الألقاب الترك كما يقول ابن الحاج في المدخل: فإنهم لما تغلبوا على الخلافة سموا هذا شمس الدولة وهذا ناصر الدولة وهذا نجم الدولة إلى غير ذلك، فتشوفت نفوس بعض العوام ممن ليس له علم بتلك الأسماء لما فيها من التعظيم والفخر، فلم يجدوا سبيلًا إليها لعدم دخولهم في الدولة، فرجعوا إلى أمر الدين فكانوا أول ما حدثت عندهم هذه الأسماء إذ ولد لأحدهم مولود لا يقدر أن يكنيه بفلان الدين إلا بأمر يخرج من السلطنة، فكانوا يعظمون على ذلك الأموال حتى يُسمى ولد أحدهم بفلان الدين، فلما أن طال المدى وصار الأمر إلى الترك لم يبقَ لهم بالتسمية بالدولة معنى؛ إذ إنها قد حصلت لهم فانتقلوا إلى الدين، ثم فشا الأمر وزاد حتى رجعوا يسمون أولادهم بغير ما يعطونه على ذلك، ثم انتقل إليه بعض من لا علم عنده، ثم صار الأمر متعارفًا متعاهدًا حتى أنس به العلماء فتواطأوا عليه. انتهى.
وجاء في رسالة معرفة الحلى والكنى والأسماء والألقاب: اعلم أن الكنى المشروعة في الإسلام أن يكنى الرجل بولده أو ولد غيره وكذلك المرأة تكنى بولدها أو ولد غيرها، والكنية ما فيها لفظ أب كأبي زيد أو أم كأم كلثوم، والأدب أن لا يكني نفسه في كتاب أو غيره إلا إن كان أشهر من الاسم أو لا يُعرف إلا بها. وقال الزمخشري: لم تكن الكنى لشيء من الأمم إلا للعرب خاصة وهي من مفاخرها، والكنية إعظام وما كان يؤهل لها إلا ذو شرف من قومه والذين دعاهم إلى التكنية الإجلال عن التصريح بالاسم بالكناية عنه، ثم ترقوا عن الكنى إلى الألقاب، وأما اللقب فهو غير خاص بالعرب، واللقب ما أشعر بمدح أو ذم والعمدة فيه الاستعمال، ثم إن كان اللقب يتأذى به صاحبه كالأعرج والأعمش ونحو ذلك حُرم النداء به للإيذاء، وإن كان لا يُعرف إلا به جاز، ولا بأس باللقب الحسن إلا ما توسع فيه الناس حتى سموا السفلة بفلان الدين وقد وضعوا لمن اسمه محمد جميع الألقاب، فإن كان من المتعممين لُقب بشمس الدين وبدر الدين ونور الدين وشرف الدين ونحو ذلك، وإن كان من الجند فبناصر الدين وما أشبه ذلك، وقد يقع في الجند من يلقب بشمس الدين ونحوه، لكن ما ذكر هو الأغلب، ووضعوا لمن اسمه أحمد من المتعممين شهاب الدين ومحيي الدين وشارك في ذلك الجند أيضًا، ووضعوا لمن اسمه أبو بكر من المتعممين عز الدين وهو أحسن ما يُلقب به وشاع فيه سراج الدين ويُلقب بفتح الدين ونحوه ومن الجند زين الدين وعز الدين ووضعوا لمن اسمه عثمان من المتعممين فخر الدين ونور الدين وهو أحسن ما لُقب به، ومن الجند فخر الدين أيضًا ووضعوا لمن اسمه علي من المتعممين علاء الدين وعماد الدين، ومن الجند سيف الدين وهو أحسن ما لقب به وشاع فيه نور الدين علي ووضعوا لمن اسمه عبد الله شمس الدين وعفيف الدين وشارك الجند في ذلك أيضًا ووضعوا لمن اسمه يوسف أمين الدين وصلاح الدين، وأحسن ما يكنى به أبو المحاسن وشاع فيه جمال الدين ووضعوا لمن اسمه إبراهيم برهان الدين ووضعوا لداود علم الدين وموفق الدين وسليمان علم الدين وموسى وعيسى شرف الدين وحسن بدر الدين وحسام الدين وحسين وجعفر كريم الدين وإسماعيل عماد الدين وخليل غرس الدين وحمزة عز الدين وزكريا محيي الدين ونبيه الدين وإسحاق مجد الدين ويعقوب تاج الدين وقاسم شرف الدين.
٨٧  طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة.
٨٨  معجم الأدباء لياقوت.
٨٩  رحلة ابن جبير.
٩٠  نفح الطيب للمقري.
٩١  آداب الحسبة للسقطي المالقي.
٩٢  تم فتح جزيرة إقريطش (كريت) على أيدي العرب في القرن الثاني، وكانوا بدءوا بفتحها على عهد معاوية بن أبي سفيان، وآخر من نزلها من جلوا من الأندلس على عهد الحكم بن هشام الأموي عقب وقعة الربض (١٩٨ﻫ)، وكانوا نزلوا الإسكندرية، فأجلاهم منها عبد الله بن طاهر العباسي على مال أداه إليهم، ونقلهم إلى جزيرة إقريطش فعمروها وملَّكوا عليها رجلًا منهم، وغزوا ما حولها من جزائر القسطنطينية، وما زال صاحب الروم يمكر بهم حتى كانت سنة خمسين وثلاثمائة فملكها من المسلمين، ثم حمل بعضهم إلى القسطنطينية وأدخلهم في النصرانية بالقوة، ولما عادوا إلى الجزيرة مُنعوا من الدخول إلى بيوتهم، وقيل لهم: أنتم نصارى وهؤلاء مسلمون فإن دخلوا في دين الملك اجتمعتم وإنْ أبوا ملكناهم، فتنصر الباقون في يوم واحد، ثم مات الآباء وبقي الأولاد على أشد ما يكون في دين النصرانية والبغض في المسلمين (قاله النويري في نهاية الأرب).
٩٣  معلمة الإسلام، عبد الرحمن الثالث.
٩٤  الجالية ج الجوالي، ما يُؤخذ من أهل الذمة من الجزية المقررة على رقابهم كل سنة.
٩٥  أخبار ملوك الأندلس للنويري.
٩٦  مقدمة ابن خلدون.
٩٧  المعجب للمراكشي.
٩٨  أخبار ملوك الأندلس للنويري.
٩٩  سراج الملوك للطرطوشي.
١٠٠  يُقال للمرابطين الملثمون؛ قيل لأنهم كانوا يتلثمون على عادة العرب فلما ملكوا ضيقوا لثامهم ليتميزوا به، وقيل: إنَّ قبيلة لمتونة خرجوا مغيرين على عدو لهم، وألبسوا نساءهم لبس الرجال ولثموهن، فقصد بعض أعدائهم بيوتهم فرأوا النساء ملثمات فظنوهن رجالًا، فلم يقدروا عليهن، واتفق وصول رجالهم في ذلك التاريخ فأوقعوا بهم فتبركوا باللثام، وجعلوه سنة من ذلك التاريخ فقيل لهم الملثمون (أبو الفداء).
١٠١  المعجب للمراكشي.
١٠٢  الاستقصا للسلاوي.
١٠٣  صبح الأعشى للقلقشندي.
١٠٤  مقدمة ابن خلدون.
١٠٥  المؤنس لابن أبي دينار.
١٠٦  تاريخ تونس لعبد الوهاب.
١٠٧  الخلاصة النقية للباجي.
١٠٨  المعجب للمراكشي.
١٠٩  شهيرات النساء لعبد الوهاب.
١١٠  معلمة الإسلام، الطولونيون.
١١١  التيسير والاعتبار للأسدي.
١١٢  تجارب الأمم لمسكويه.
١١٣  التناء: جمع تانئ وهو القاطن والساكن، من تنأ بالبلد تنوءًا إذا قطنه.
١١٤  الغيار كالزنار، هو لبس الذميين في القرون الوسطى.
١١٥  القديم والحديث للمؤلف.
١١٦  المسالك والممالك لابن حوقل.
١١٧  خزانة الأدب للبغدادي.
١١٨  المسالك والممالك لابن حوقل.
١١٩  أخبار الدول المنقطعة للأزدي (مخطوط).
١٢٠  معلمة الإسلام.
١٢١  الإشارة إلى من نال الوزارة للصيرفي.
١٢٢  تاريخ العصور الوسطى لحسن إبراهيم حسن، وأحمد صادق الطنطاوي.
١٢٣  تاريخ مصر لابن أياس.
١٢٤  الخطط للمقريزي.
١٢٥  مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري.
١٢٦  الإشارة لابن الصيرفي.
١٢٧  ابن فضل الله العمري.
١٢٨  قوانين الدواوين لابن مماتي.
١٢٩  كتاب الروضتين لأبي شامة.
١٣٠  الخطط للمقريزي.
١٣١  السلوك للمقريزي.
١٣٢  رحلة ابن جبير.
١٣٣  حسن المحاضرة للسيوطي.
١٣٤  وفيات الأعيان لابن خلكان.
١٣٥  رحلة ابن جبير.
١٣٦  أقطعه قطيعة؛ أي طائفة من أرض الخراج.
١٣٧  فوات الوفيات للصلاح الكتبي.
١٣٨  خطط المقريزي.
١٣٩  صبح الأعشى للقلقشندي.
١٤٠  فوات الوفيات للكتبي.
١٤١  صبح الأعشى للقلقشندي، والخطط للمقريزي.
١٤٢  زبدة كشف الممالك للظاهري.
١٤٣  تاريخ أبي الفداء.
١٤٤  صبح الأعشى للقلقشندي.
١٤٥  التعريف بالمصطلح الشريف لابن فضل الله العمري.
١٤٦  معنى الآغا بالتركية العظيم أو الآمر أو الرئيس، وهو عنوان شرف جُعل بأخرة لقبًا للرجل الأمي الذي لا يكتب ولا يقرأ، وخصوا كلمة «أفندي»، وهي رومية الأصل بمن يقرءون ويكتبون ويطلقونها على العلماء وأرباب الأقلام. ومعنى الأفندي الصاحب والمالك والمولى والسيد والمتعلم، ومعنى «بك» العظيم أو الرئيس أو المقدم، و«بكلربك» هو رئيس البكوات، وهي رتبة ملكية تكون بين رتبة الوزارة ورتبة أمير الأمراء، وأصل لقب «باشا» «باش آغا»؛ أي رئيس الرؤساء تُطلق على أرباب الأقلام والسيف في مراتب معينة في القوانين الجندية والملكية، ولما أُصلحت الأمور العسكرية والملكية والعلمية في زمن السلطان أورخان ومن خلفه من السلاطين، أُحدثت بعض رتب خاصة بالمناصب لا يتجاوز عددها الأربعة، ولا يتجاوز أربابها السبعين أو الثمانين، وكانت رتبة الوزارة توجه إلى الصدر الأعظم وعلى صاحب الخاتم وناظر المالية، وكان لقب «صاحب السعادة» «سعادتلو» خاصًّا بالسلطان إلى عهد سليمان القانوني، ويخاطب الصدور العظام رجال الدولة بلقب «صاحب العزة» «عزتلو»، ولا تُمنح الرتب إلا مقابل خدمة … وفي سنة ١٢٤٨ﻫ أُدخل بعض التغيير في الرتب والألقاب، ثم كثرت الرتب والأوسمة حتى أصبحت أشبه بالهزل على عهد عبد الحميد الثاني، وألغى الدستور هذه السخافات.
١٤٧  قاموس الأعلام لشمس الدين سامي.
١٤٨  عثمانلي تاريخي، أحمد راسم.
١٤٩  الأناضول «محرفة عن أناطولي»، وكان الروم يطلقونها على شبه جزيرة «آسيا الصغرى»، ومعنى الأناطولي بلسانهم البلاد الشرقية؛ لأن آسيا الصغرى تقع إلى شرقي بلادهم، و«روم إيلي» كلمة أطلقها العثمانيون على القسم الذي فتحوه في أوروبا من الممالك، وكانت حدود الروم إيلي تختلف بتقدم الفتوح وتراجعها، وأغلب الجغرافيين على أنَّ الروم إيلي هي ما يُعرف اليوم بشبه جزيرة البلقان.
١٥٠  تحفة النظار لابن بطوطة.
١٥١  صبح الأعشى للقلقشندي.
١٥٢  الخطط للمقريزي.
١٥٣  قاموس الأعلام لشمس الدين سامي.
١٥٤  خطط الشام للمؤلف، م٤.
١٥٥  الإقجة: نقد صغير تساوي كل ثلاث قطع منه بارة، وكل أربعين بارة قرشًا، كان أول من ابتدعه بايزيد الأول (٧٩٢ﻫ).
١٥٦  معلمة الإسلام، مادة سليمان القانوني.
١٥٧  باكورة تاريخية وفنية في الديون العمومية العثمانية لأديب الروماني A. Roumani: Essai historique et technique sur la dette publique ottomane.
١٥٨  أعيان المائة العاشرة للنجم الغزي (مخطوط).
١٥٩  الدوكا: نقد ذهبي إسباني قيمته نحو عشرة إلى اثني عشر فرنكًا ذهبيًّا.
١٦٠  مقدرات تاريخية لجلال نوري.
١٦١  تاريخ جودت.
١٦٢  التاريخ العام للافيس ورامبو.
١٦٣  معلمة الإسلام، محمد الثاني.
١٦٤  تاريخ الحركة القومية للرافعي.
١٦٥  مالية مصر لعمر طوسون.
١٦٦  تاريخ الحركة القومية للرافعي.
١٦٧  طبقات العسكر.
١٦٨  تاريخ جودت.
١٦٩  الطوخ: ذنب حصان يُعلق من أسفله في رأس عصا طولها نحو ثلاثة أذرع، وشعره مسدول عليها، تعطي الدولة واليها ثلاثة أطواخ إذا ارتحل، فيرسل الطوخ الواحد قبل سفره بيوم إلى محل نزوله؛ ليستعد الناس لاستقباله، ويُهيأ له ما يلزمه من المآكل والعلف والدواب بلا ثمن، أما الطوخان الباقيان فيحملان أمام الوزير في السفر.
١٧٠  كاتب هذا القول كان من وزراء عبد الحميد الثاني الذين تطوعوا لتنفيذ إرادته بالحق والباطل، وهو من أعظم المرتشين اللصوص على نحو ما كان عشرات مثله في العصر الحميدي، ومنهم من جمع ملايين من الجنيهات العثمانية الذهبية في سنين قليلة.
١٧١  معلمة الإسلام، مادة سليمان.
١٧٢  معلمة الإسلام، مادة تنظيمات.
١٧٣  نظام القضاء والإدارة لأحمد قمحة.
١٧٤  معلمة الإسلام، تنظيمات.
١٧٥  زبدة كشف الممالك للظاهري.
١٧٦  معلمة الإسلام، سليم الأول.
١٧٧  زبدة كشف الممالك للظاهري.
١٧٨  عجائب الآثار في التراجم والأخبار.
١٧٩  ورد في كتاب «الباشات والقضاة للمقار» ما يأتي:
إنَّ تركة الوزير سنان كان فيها مائة وستون مصحفًا، مرصعًا بالدر والجواهر، وثلاثون طستًا، وإبريقًا من الذهب مرصعة بالدر والياقوت، وخمسة صناديق زبرجد عليها خمسة أقفال من الذهب مرصعات بالجوهر، وفي داخل كل صندوق منها مائتا مثقال من الإكسير، كل مثقال منها على ألف قنطار من الحديد، يستحيل ذهبًا خالصًا وشطرنج بيادقه البيض ماس، وبيادقه السود لعل، ومائتا مرآة مرصعة بالدر والياقوت، واثنان وثلاثون زوجًا من الركابات ذهبًا مرصعة بالدر والياقوت، وستون «رختًا» من الذهب مرصعة بالجوهر ومثلها سلاسل ذهبية، وأربعمائة رخت فضة مطلية بالذهب، ومائة وستون رشمة ذهب، وأربعمائة رشمة فضة، ومائة وستون سرجًا مرصعة بالدر والياقوت، ومائة وستون عباءة مكللة باللؤلؤ الرطب، ومائة وستون سكينًا ذهبًا مرصعات بالدر واليواقيت، وثلاثمائة وأربعون تاجًا مرصعة بالجواهر، ومائتان وستون «حمايليا» مرصعة بالدر والجواهر، ومائة وستون خنجرًا ذهبًا مرصعة بالماس، ومائتان وثلاثون زنارًا من الجوهر، ومائتان وستون «بازوند» مرصعة بالجواهر، وخمسة وثلاثون صندوق كتب مرصعة باليواقيت والمعدن، وسفرة صحون وثلاث صوانٍ من ذهب وجميعها مرصعة، وعشر طاسات بأغطية وتحتها صوانيها، وعشر مباخر وعشرة قماقم ذهب مرصعة بالدر والجوهر، وخمسة وستون خاتمًا من الماس، ومائة وأربعة وأربعون خاتمًا من الياقوت الأحمر، ومائتا خاتم من لعل، ومثلها من الياقوت الأصفر والأزرق والزمرد الخالص، وسبعون وسادة كل واحدة بمائتي دينار، ومائتان وستون وسادة مرصعة بالجواهر، وستون قفلًا ومفتاحًا مرصعات بقطع ماس في كل قفل منها نحو ألف دينار، وقبضة ماس مقدار كف الإنسان لا نظير لها، وأربعة شماعدين من ذهب، وتحتها سفرها مرصعة بالجواهر قوموها بمائة ألف دينار، ومائة وخمسون خلعة صراصر كل واحدة منها تساوي مائة دينار، وثلاثمائة فروة سمور قيمة كل واحدة منها خمسمائة دينار، وأربعمائة فروة وشق قيمة كل واحدة ثلاثمائة دينار، وأربعمائة فروة ناقة وغيرها قومت كل واحدة بسبعين دينار، وثمانية أباريق كبيرة من نحاس أصفر في جوف كل إبريق منها مائة ألف دينار، وستة وسبعون كيسًا في كل كيس ثلاثة آلاف دينار، وثلاثة وثلاثون كيسًا في كل كيس منها اثنا عشر ألف دينار، وثلاثمائة شمامة من العنبر إلى غير ذلك من الأمتعة والعود الخالص المختوم، وثمانية آلاف جمل، وألف بغل، وتسعمائة فرس وحصان لركوبه خاصة بسرج حرير، وما عدا الصيني والنحاس والبندق المجوهر والدروع والقامات والسناجق المذهبة وعدة «الشكار» مع طاساتها الذهب، وأشياء كثيرة لا يمكن حصرها.
وأمثال سنان كثير ممن جمعوا الأموال من دماء الأمة، ومنهم الوزير رستم الذي ولي الصدارة خمس عشرة مرة، وكان من وزراء سليمان القانوني، قال فيه مؤرخو الترك: إنه زاد في أموال الدولة وما قصر أن يغتني أيضًا، فكان يملك ٨١٥ مزرعة و٤٧٦ طاحونًا و١٧٠٠ مملوك و٢٩٠٠ حصان و١١٠٦ جمال، ومن الحلي والجواهر ما لا يُقدر بمال وبعضه مما قُدر بأحد عشر مليونًا وربع مليون دوكا ذهب، ومن النقد مليوني دوكا ذهب، عدا ما صرفه على الأعمال الخيرية من جوامع ومدارس عمرها في فروق وروسجق وحماة.
١٨٠  الإسلام والإصلاح تقرير لريشاروود.
١٨١  التذكار فيمن ملك طرابلس وما كان بها من الأخبار لابن غلبون.
١٨٢  تاريخ تونس لحسن حسني عبد الوهاب.
١٨٣  المؤنس في أخبار إفريقية وتونس.
١٨٤  معلمة الإسلام، مادة الجزائر.
١٨٥  تاريخ تركيا للاموش (بالفرنسية).
١٨٦  تاريخ تدنيات عثمانية لجلال نوري (بالتركية).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤