السياسة في الشرق والغرب

دول الشرق

ما نزع نازع أيام الأمويين إلى دعوى الخلافة أو الملك إلا ضُرب ضربة قاسية ردته أدراجه، فكانت رقعة ممالكهم مصونة وتزيد اتساعًا على الزمن، وقلما قام قائم على العباسيين إلا وتم له ما أراد من اقتطاع جانب من الملك، وكانت دولة العباسيين أبدًا سائرة إلى الاضمحلال منذ القرن الثالث.

وقد يحتال النازع إلى اقتطاع جزء من الملك العباسي، لأخذ تولية من الخليفة بالبلاد التي طمع فيها، وربما كتب له الخليفة من تلقاء نفسه عهدًا يربطه به ربطًا صوريًّا، قانعًا منه بهدية سنوية أو بإتاوة يجبي الخارج من كورة صغيرة من الكور التي استصفاها أكثر منها. وعلى هذا كان العباسيون أيام ضعفهم يرضون من المتغلب بالمحافظة على الظواهر، ويعدونها طاعة لمن يبعث لهم هدية ويخطب باسمهم ويجبي الخراج لنفسه، وكان الاعتقاد السائد يومئذ أنَّ الخارج على الخلافة إذا لم يبايعه الخليفة لا يجوز أن يُطلق عليه لفظ سلطان «وقد١ أفتى بعض الأئمة أنَّ من أقام نفسه سلطانًا قهرًا بالسيف من غير مبايعة من الخليفة يكون خارجيًّا، ولا يجوز توليته النوَّاب والقضاة، وإن فعل شيئًا من ذلك كان جميع حكمه باطلًا، وعقد الأنكحة باطلًا.» وكان العباسيون يحرصون بالطبع على هذه القاعدة؛ لأن بها بقاء القليل من سلطانهم.
تُعد حكومة عُمان من أول الحكومات التي حاولت الانسلاخ عن العباسيين، وكان أهلها من الخوارج في القرن الثاني، ولإمامهم٢ وزراء وأرباب دولة ولهم خليفة، ثم دعوا أمراءهم بالملوك، ويقول البلاذري:٣ إنه كان للخوارج سلطان في عمان منذ عهد الرشيد، وإنَّ عامله عيسى بن جعفر حارب الشراة٤ فقتلوه، لما خرج إليها بأهل البصرة، وجعلوا يفجرون بالنساء ويظهرون المعازف ويسلبون الناس، فامتنع الخوارج على الخليفة فلم يعطوه طاعة دولتهم، وولوا أمرهم رجلًا منهم، وكانوا يسمون سلطان العباسيين سلطان الجور، وظلت عمان مستقلة بأهلها حتى فتحها المعتضد العباسي، وأقام بها الخطبة له، وانحاز الشراة إلى ناحية لهم تُعرف بنزوة وكان فيها إمامهم وبقية ما لهم وجماعتهم٥ من ذاك العهد.
روى المقدسي٦ أنَّ ولايات بلاد العرب كانت في القرن الرابع متقطعة، أما الحجاز فهو أبدًا لصاحب مصر لأجل الميرة، واليمن لآل زياد، ولابن طرف عثر، وعلى صنعاء أمير، غير أنَّ ابن زياد يحمل إليه أموالًا ليخطب له، وربما أُخرجت عدن من أيديهم، وآل قحطان في الجبال، وهم أقدم ملوك اليمن، والعلوية على صعدة يخطبون لآل زياد وهم أعدل الناس، وعمان للديلم، وهجر للقرامطة، وعلى الأحقاف أمير منهم.
أول من استقل بملك مصر أحمد بن طولون وأولاده، ساعده على استقلاله جيش كان جنده بأمر الخليفة لقتال أحد الخوارج بالشام، فلما استؤصلت الفتنة، وأمنت الغائلة، لم يسرِّح الجيش، فكان به استيلاؤه على مصر والشام وما وراءهما، وأطاع الناس ابن طولون؛ لأنه كان أعدل من كثير من الخلفاء في عهده، يعمر بلاده ويتفقد رعاياه «وكان مع٧ ذلك طائش السيف. قال القضاعي: يُقال إنه أحصى من قتله ابن طولون صبرًا أو مات في حبسه، فكان عددهم ثمانية عشر ألفًا وخلف عشرة آلاف ألف دينار.» وعد استيلاء ابن طولون على الأمر في مصر خروجًا على الخلافة العباسية، وإن كان يخطب لها بادئ بدء، ويبعث إليها ما تيسر من الخراج، ولم يتأتَّ الخلاص من دولته إلا لما قوي العباسيون سنة ٢٩٢ﻫ فقتلوا جميع آل طولون. وخلفتهم الدولة الإخشيدية، وهي كالدولة الطولونية، دولة أعجمية، ولم يطل أمرها كثيرًا حتى حكم مصر عبد زنجي اسمه كافور، إلى أن سقطت في أيدي الفاطميين.

وكثرت الدول في المشرق، وكلها خرجت عن طاعة الدولة العباسية بالفعل، كدولة الحسين بن زيد العلوي بطبرستان (٢٤٠ﻫ)، ومن الدول ما أبقى للعباسيين السكة والخطبة والطاعة الظاهرة كدولة بني زياد في اليمن، وكان مؤسسها محمد بن زياد عاملًا من عمال المأمون أرسله للقضاء على الأعراب فأطفأ نائرتهم، واستقرت قدمه وقدم أعقابه في ذاك القطر إلى سنة ٤٠٧ﻫ، فالزياديون استولوا على اليمن أجمع، ودخلت في طاعتهم حضرموت والشحر وديار كندة، وصار ابن زياد في مرتبة التبابعة، وكان في صنعاء بنو جعفر من حمير بقية الملوك التبابعة مستبدين بها، مقيمين بالدعوة العباسية، ولما بلغ عاملها أبا الجيش إسحاق بن إبراهيم قتل المتوكل وخلع المستعين، واستبداد الموالي على الخلفاء، ركب بالمظلة شأن سلاطين العرب المستبدين، وفي أيامه خرج في اليمن يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي إبراهيم بن طباطبا، بدعوة الزيدية وقد جاء بها من السند، وكان جده القاسم قد فر إليها بعد خروج أخيه محمد مع أبي السرايا فلحق القاسم بالسند وأعقب بها الحسين، ثم ابنه يحيى باليمن سنة ٢٨٨ﻫ، ونزل صعدة، وكان شيعته يسمونه بالإمام، ولُقب يحيى هذا بالهادي إلى الحق، والزيدية ما زالوا إلى اليوم أصحاب اليمن على كثرة ما تعاورها من الدول، وكانوا إذا قوي أعداؤهم عليهم اعتصموا في معاقلهم وجبالهم، فإذا نفس خناقهم امتد سلطانهم إلى السهول والساحل، ويُلقب سلطانهم بأمير المؤمنين وبالإمام.

ومن غريب ما وقع في هذا القطر أنَّ ملوك زبيد كانوا يخطبون للعباسيين، والصليحيين يخطبون للعبديين إلى أواخر المائة الخامسة، وبقي أمر اليمن في تقلقل، الجبال لرجل والسهول لآخر، وعدن لغيرهما، حتى جاء عبد النبي بن مهدي الخارجي من زبيد واستولى على اليمن، وبها يومئذ خمس وعشرون دولة، اكتسحها كلها، وأظهر الصليحيون الدعوة العبيدية أو الفاطمية وملكوا اليمن كله، ونزل الصليحي مؤسس دولتهم صنعاء وأسكن عنده ملوك اليمن الذين غلب عليهم، وهزم بني مطرف ملوك عثر وتهامة، ثم استولى بنو أبي البركات على بني المظفر، ودخل شمس الدولة تورانشاه بن أيوب أخو صلاح الدين سنة ٥٦٦ﻫ، واستولى على الدولة التي كانت باليمن، ونزل زبيد واتخذها كرسيًّا لمملكته، ثم انتقل إلى تعز، وكانت عاصمة الصليحي حصن ذي جبلة منذ سنة ٤٥٨ﻫ، ونزلها وبقيت كرسيًّا لملكه وبنيه ومواليهم بني رسول، وكان السبب في فتح صلاح الدين اليمن أنه كان٨ «أهله خائفين من نور الدين فاتفق رأيهم على تحصيل مملكة غير مصر، بحيث إن قصدهم نور الدين قاتلوه، فإن هزمهم التجئوا إلى تلك المملكة.»
والدولة الرسولية هي دولة عمر بن علي بن رسول، وكان والده علي بن رسول استادار الملك المسعود بن السلطان الملك الكامل، استقر أولًا نائبًا لبني أيوب فما إن هلك حتى استولى ابنه عمر على ما كان عليه أبوه، ولُقب بالملك المنصور، ودام الملك في بنيه مدة طويلة، على اختلاف كان بين أهل هذا البيت على الملك، واليمن بطبيعة أرضها مستعدة لقيام الدول وإذا قامت فيها يدوم أمرها، فقد سمت للخلافة نفس أحمد بن الزبير الغساني — المعروف بالرشيد٩ الأسواني من أهل صعيد مصر، وكان قاضي اليمن للفاطميين ويعدُّ من كبار العلماء — فأجابه قوم إليها ونُقشت له السكة (٥٦٣ﻫ)، وأعظم من هذا أنَّ معز الدين بن سيف الإسلام طغتكين ملك اليمن (٥٩٤ﻫ) ادعى الألوهية نصف نهار، ثم رجع عن ذلك وادَّعى الخلافة ودعا لنفسه وقطع الدعاء من الخطبة لبني العباس، وأكره من كان في مملكته من أهل الذمة على الإسلام.
وكانت الحجاز تتقلب في أيدي بيوت يدعون الشرف ويدينون بالطاعة لصاحب القوة من العباسيين أو الفاطميين، ومنهم١٠ بنو الحسن، ومنهم محمد بن سليمان خلع طاعة العباسيين وخطب لنفسه بالإمامة في سنة إحدى وثلاثمائة، ثم اعترضه القرامطة فخطبوا لعبيد الله المهدي صاحب إفريقية وقلعوا الحجر الأسود وباب الكعبة وحملوهما إلى الأحساء، ثم صولحوا وأُعيدت خطبة العباسيين، ثم خُطب لبني بويه مع الخليفة العباسي، ثم أُعيدت الخطبة للفاطميين متقطعة، فكان الأمراء إذا قطعوا خطبتهم قطعوا عن الحرمين الميرة فيعودون إلى الخطبة باسمهم، ثم خُطب للسلجوقيين وتولى الإمارة الحجازية بنو قتادة وغيرهم، والحالة لا تسر صديقًا في أكثر الأدوار.
وقامت الدولة السامانية في بخارى وما إليها من سنة ٢٦١ﻫ إلى سنة ٣٨٩ﻫ، واشتُهرت في معظم أدوارها بالعدل وحسن السياسة. ثم خلفتها دولة محمود بن سبكتكين في خراسان وخوارزم من سنة ٣٦٦ﻫ إلى أن انقرضت سنة ٥٧٨ﻫ، واتخذت غزنة عاصمتها، وكانت من الدول التي لا بأس بسياستها تتصل مع العباسيين بالسكة والخطبة، ويعترف خليفة بني العباس بسلطانها، وكان في المنصورة من بلاد السند في القرن الرابع سلطان من قريش يخطب للعباسي، والملتان قرب غزنة يخطبون للفاطمي، ولا يحلون ولا يعقدون إلا بأمره، وأبدًا رسلهم وهداياهم كانت تذهب إلى مصر، وكان الخليفة من الخوارج يسكن بناحية وردان مما يلي سجستان ومكران، وهي١١ بلدهم ودارهم في القرن الرابع، ومع أنَّ أهلها من المنحرفين عن علي بن أبي طالب «ويظهرون مذهبهم ولا يتحاشون منه ويفتخرون به عند المعاملة، وليس في الدنيا سوقة أصح منهم معاملة ولا أقل منهم مخاتلة.» ومع أنَّ عليًّا لُعن على منابر الشرق والغرب لم يُلعن على منبرها إلا مرة واحدة، ومن الغريب أنهم امتنعوا على بني أمية حتى زادوا في عهدهم وألا يُلعن على منبرهم أحد.

ومن أهم الدول التي استولت على القسم المهم من بلاد الخلافة العباسية دولة بني بويه من الديلم، وكانوا شيعة أراد مؤسس دولتهم أن يتبسط في نشر التشيع في بغداد والولايات فخوفوه العاقبة فأحجم، وقد امتد حكم البويهيين من بلاد فارس إلى العراق من سنة ٣٢١ إلى ٤٤٨ﻫ، وكان فيهم رجال من أجل الملوك علمًا وسياسةً. وجاء بعدهم السلجوقيون الأتراك وهم من أهل السنة، فاستولوا بعد بني بويه على خراسان، وامتد حكمهم إلى العراق والشام من سنة ٤٣١ﻫ، وخُطب لملكهم العظيم ملكشاه (٤٨٥ﻫ) من حدود الصين إلى آخر الشام، ومن أقاصي بلاد الإسلام في الشمال إلى آخر بلاد اليمن، وخُطب لسنجر بن ملكشاه بن ألب أرسلان بالعراقين وأذربيجان وأران وإرمينية والشام والموصل وديار بكر وربيعة والحرمين، ومؤسس هذه الدولة ألب أرسلان أسر أرمانيوس طاغية الروم (٤٦٣ﻫ)، وكان في مائتي ألف من الروم والفرنج والعرب المتنصرة والروس والكرج في أرجاء خلاط بإرمينية ففدى نفسه بألف ألف وخمسمائة ألف دينار، وأن يطلق كل أسير في مملكته، وهادنه ألب أرسلان خمسين سنة، وكان ملكشاه يأخذ إتاوة من ملك الروم في القسطنطينية، وامتد حكم بيته إلى أرض الروم — أي آسيا الصغرى — وكانت دولتهم عادلة تنفذ شرع الإسلام.

والسلجوقيون هم الذين تلقوا بصدورهم الصدمة الأولى للحروب الصليبية، وكانت الشام والجزيرة وآسيا الصغرى موزعة بين أمراء منهم، فأخذوا يطاولون الأعداء ويصاولونهم، حتى فتح الأتابك زنكي بعض بلاد الشام، وكان من سياسته أن «يراسل فرنج الشام ويحذرهم ملك الروم ويعلمهم أنه إن ملك بالشام حصنًا واحدًا، أخذ البلاد التي بأيديهم منهم، وكان يراسل ملك الروم ويتهدده ويوهمه أنَّ الفرنج معه، فاستشعر كل واحد من الفرنج والروم من صاحبه.»

وجاء ابنه محمود بن زنكي فجمع شمل البلاد الشامية والجزرية، ثم ضم إليها مصر، وكان الملوك١٢ قبله جاهلية حتى جاءت دولته فوقف عند أوامر الشرع ونواهيه، وكانت سيرته أشرف سيرة، وسياسته أنجع سياسة. ثم قامت دولة صلاح الدين يوسف بن أيوب تتولى من دفع عادية الصليبيين ما تولته الدولة النورية ودولة الترك السلجوقيين من قبل، ثم دولة الترك المماليك من بعد، وقد بنت الدولة الصلاحية على أساس الدولة النورية وعملت برجالها.
كان من المعقول أن تعاون بلاد المسلمين كلها من أقصى آسيا إلى أقصى إفريقية لدفع صائل الصليبيين عن بلاد المسلمين، لكن الأمراء والملوك لم يكونوا يهتمون بغير شهواتهم وراحتهم في ملكهم، فقُدر لهذه الدول الصغيرة برقعة ممالكها الكبيرة بعقول القائمين بسياستها، أن تتولى سياسة الإسلام الخارجية، وتقضي على خطط واسعة وضعها البابا في رومية، وقد جند جيوشًا جرارة من كل شعوب أوروبا،١٣ ما خلا الإسبانيين والبرتقاليين لشغلهم بحرب المسلمين في الأندلس، وما خلا الروس؛ لأنهم ليسوا على مذهب البابا فلا سلطان له عليهم.

ولعل ملوك الإسلام لم يكونوا يومئذ يقدرون مدى مضار الحروب الصليبية على الإسلام إذا ظفر المهاجمون من الغربيين. ولقد كُتب التبريز في السياسة والحرب للدولة السلجوقية، وفي مقدِّمتها دولة نور الدين، ثم دولة بني أيوب، صلاح الدين والعادل والكامل والظاهر والأشرف وأمثالهم، فقامت كل واحدة خير قيام بواجب دولة كبيرة على قلة النصير وضعف المادة.

وبطلت مدة قرنين كاملين غزوات المسلمين على الروم وبالعكس، وانحصرت جهود مصر والشام والجزيرة وإرمينية وآسيا الصغرى في معالجة مشكلة دولية كانت أعظم المشاكل الخارجية التي أُصيب بها الإسلام، منذ انبعث من جزيرة العرب، وكان ملوك الصليبيين يرهبون ملوك المسلمين، ويدهشون لأعمالهم في السلم والحرب؛ ذلك لأن الملوك القائمين برد العدو في تلك الأعصار كان رأيهم في الملك يخالف رأي الملوك الآخرين ممن لا شأن لهم إلا أن يقبعوا في أرضهم فقط.

هذه جملة حال الممالك التي نبعت من أرض المملكة العباسية، وبذلك تضاءلت خلافتهم في القاصية والدانية، فلم يبقَ أمام خلفائها إلا خلع الخُلع على الملوك المحدثين، واختراع الألقاب لهم يلقبونهم بها، لقبوا محمود بن سبكتكين الغزنوي بيمين الدولة وأمين الملة،١٤ ولُقب المقتدي ملك المرابطين في الغرب الأقصى بأمير المسلمين، وأخذ نور الدين عمر مؤسس الدولة الرسولية في اليمن لقب سلطان، ومثله كان من ملوك دهلي، وكانوا ينقشون على الدنانير أسماء العباسيين، وظلوا ينقشونها بعد ثلاثين سنة من مهلك المستعصم آخر خلفاء بني العباس في بغداد.١٥

كان عمل هذه الدول داخليًّا محليًّا، وقل أن كانت تتصل بدول غير دول الإسلام، اللهم إلا إذا استثنينا الدولة الحمدانية في الشام والجزيرة، وكانت تحتك بالروم على الدوام، والدولتين النورية والصلاحية ومن بعدها وقبلها من الدول التي خفق لها علم على أرجاء البلاد المتاخمة كالسلجوقيين؛ فإن علاقات هذه الدول بالإفرنج كانت وافرة، وكل دولة تقف موقف الخائف المترقب من جارتها.

كانت علائق الدول الإسلامية بالدول النصرانية موفقة إذا كان القائم بالأمر رجلًا في الجملة، يعمل لملكه لا لشيء آخر من ضروب هواه، فقد رأينا نور الدين وصلاح الدين ومن جاء بعدهما يأسرون ملوكًا وأمراء من الصليبيين، ويفتدونهم بأموال عظيمة يستعينون بها على الجهاد أو على أمر شريف آخر من أنواع القربات، أسر الملك الأوحد (٦٠٧ﻫ) ابن أخي صلاح الدين ملك الكرج ففدى نفسه بمائة ألف دينار، واشترط عليه أن يُطلق أسرى المسلمين، وأن يلزم الصلح ثلاثين سنة، وأن يزوجه ابنته بشرط ألا تفارق دينها.

قلنا: إنَّ الدولة الحمدانية كانت من جملة الدول التي تم لها احتكاك شديد بالروم — وكانت هذه الدولة على صغرها بحيث لم تكن تملك غير القسم الشمالي من بلاد الشام والثغور الشامية والجزرية وديار بكر وديار مضر — من الدول التي يحسب الغريب حسابها ويدين رأسها سيف الدولة الشيعي (٣٥٦ﻫ) بالطاعة للعباسيين، غزا الروم أربعين غزوة له وعليه، وجاء الروم في أيامه ففتحوا بلادًا من بلاده وخربوا عامرها، وكان أخلافه أضعف منه نفسًا فهادنوا الروم، وأدوا إليهم الجزية مدة، ومنهم من استنجد بهم وذل أمامهم ذلًّا ليس بعده ذل، ودام هذا التخبط حتى بيض السلجوقيون وجه الإسلام بأعمالهم الحربية، وقد دامت دولة سيف الدولة أو الدولة الحمدانية سبعين سنة.

على هذا المنهج كانت تسير الدولة العباسية، وهكذا حال الدول التي اقتُطعت من الجسم العباسي، والعباسيون راضون بهذا الذل، حتى جاء هولاكو التتري واستولى على بغداد وقتل الخليفة، فانقرضت الخلافة العباسية، وأقامت الدنيا ثلاث سنين ونصف سنة بلا خليفة.١٦ وفي سنة ٦٥٩ﻫ حضر إلى مصر أبو القاسم أحمد بن أمير المؤمنين الظاهر بالله العباسي، وهو عم الخليفة وأخو المستنصر، وكان معتقلًا ثم أُطلق، فخرج الملك الظاهر بيبرس البندقداري للقائه، وخرج الوزراء العلماء، واليهود بتوراتهم والنصارى بإنجيلهم، وأريد العباسي على إثبات نسبه فأثبته، وبايعه الظاهر بيبرس وخطب له على المنابر، وضرب اسمه على السكة، وكُتبت بيعته إلى الآفاق. وبعد أيام ركب الخليفة والسلطان والقاضي والوزير والأمراء إلى خيمة عظيمة، فألبس الخليفة السلطان بيده خلعة سوداء وعمامة سوداء، وجُعل له في عنقه طوق من ذهب، وقيد من ذهب في رجليه، وفوض الأمور إليه «في البلاد الإسلامية وما سيفتحه من بلاد الكفر والبلاد الشامية والديار بكرية والحجازية واليمنية والفراتية وما يتجدد من الفتوحات.» فأحيا بيبرس الخلافة العباسية بعد موتها، على ألا يكون للخليفة عمل غير المراسم، لا ينصب ولا يعزل، ولا يعقد الصلح ولا يعلن الحرب، ولا يجبي مالًا، ولا يصرفه في وجوهه، ولا يعمل شيئًا يدل على سلطانه.

وكأن الظاهر بيبرس بإرجاعه الخلافة العباسية حاول أن يصلح ما ارتكبه من القضاء على آخر فرد من أبناء صلاح الدين. وظلت الشام ومصر والحرمان بعد هذا العهد في أيدي المماليك يتعاورون الحكم عليها، زهاء قرنين ونصف قرن. وفي أيام محمد بن قلاوون امتد حكم المماليك من مصر والشام إلى إفريقية وخُطب لهم في تونس وطرابلس وبرقة ودام حكمهم حتى جاءت الدولة العثمانية، فاستولت على الشام ومصر وبلاد العرب (٩٢٢-٩٢٣ﻫ).

ودولة المماليك البرجية والبحرية، كالدولة الفاطمية قبلها، كان في ملوكها الصالح والطالح، وربما كان الصالح فيها أكثر من أمثالهم في دولة العبيديين الفاطمية، وقد عُمرت البلاد في أيامهم عمرانًا يستغرب تحقيق مثله على خلل بيِّن يطرأ عليها في الفترات، بتبدل الولاة ونشوب الفتن الأهلية من أجل الملك، لكن نوابغ من ملوكهم كانوا يتولون الأمر أحيانًا فيسدون كل خلل، ويأخذون بأيدي أهل البلاد إلى الترقي، ويلقون الهيبة في صدور المجاورين من الشرقيين والغربيين من الإفرنج.

دول الغرب

من أعظم ما فت في عضد الخلافة العباسية قيام دولة الأمويين في الأندلس، ثم إعلانهم الخلافة، وكان عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي لما انتهى به المطاف إلى شمالي إفريقية، وأعانه اليمانيون ففتح الأندلس، وأنشأ بعد ذهاب ملك آبائه في الشرق (١٣٩ﻫ) ملكًا ضخمًا جعل قرطبة عاصمته، أقام دون السنة بعد فتح قرطبة١٧ يدعو لأبي جعفر المنصور إلى أن أفرد نفسه بالدعاء، ولم يتعدَّ التلقب بالأمير، وكذلك سلك الأمراء من ولده سنته في ذلك، وتسمى عبد الرحمن بن محمد الناصر بالخلافة بعد سبعٍ وعشرين سنة من سلطانه بالخليفة، ودُعي بأمير المؤمنين، وذلك لما استفحل أمره، واستبان له ضعف ولد العباس، وانتشار سلطانهم بالمشرق، وكتب إلى العمال كتابًا جاء فيه «وقد رأينا أن تكون الدعوة لنا بأمير المؤمنين، وخروج الكتب عنا وورودها علينا بذلك؛ إذ كل مدعو بهذا الاسم غيرنا منتحلٌ له ودخيلٌ فيه، ومتسم بما لا يستحق، وعلمنا أنَّ التمادي في ترك الواجب لنا من ذلك حق أضعناه، واسمٌ ثابتٌ أسقطناه.» وعبد الرحمن الثالث هذا هو الذي لم يتردد لسلامة ملكه في قتل ابنه عبد الله لاتهامه بمؤامرة على الملك.
ومما مكن لعبد الرحمن الناصر كونه وضع حدًّا للحروب الأهلية١٨ بين العرب والإسبان والبربر، وأمن الحدود، وجعل قوة من أسطوله استولى بها على شمالي إفريقية، وعبد الرحمن الثاني هو الذي أقام أبهة الملك ورتب الرسوم، وكان يشبه الوليد بن عبد الملك في أبهته. قال ابن عذاري: وهو أول من جرى على سنن الخلفاء في الزينة والشكل وترتيب الخدمة، وكسا الخلافة أبهة الجلالة، فشيد القصور وجلب إليها المياه وبنى الرصيف وعمل عليه السقائف، وبنى المساجد الجوامع بالأندلس، وعمل السقاية على الرصيف، وأحدث الطراز، واستنبط عملها، واتخذ السكة بقرطبة وفخم ملكه.

تعاقب على الأندلس منذ فُتحت أيام الأمويين عشرون واليًا كانوا أمراءها وولاة الحرب فيها، يلونها من قِبَل بني أمية في المشرق، أو من قِبَل من يقيمونه بالقيروان أو بمصر، والفتن فيها قائمة لبعد الأندلس عن مقر الخلافة في دمشق، حتى إذا فتحها عبد الرحمن الداخل فتحًا ثانيًا، وصفت له ولأولاده من بعده، ساقوا الإمارة، ثم الإمامة أو الخلافة في أبنائهم على الغالب وترسموا خطا أجدادهم في المشرق حتى إنَّ عبد الرحمن الأموي عهد بالإمارة إلى ابنه هشام لما كان يتوسم فيه من الشهامة والاضطلاع بالأمر، وترك ابنه الأكبر سليمان. ومن ملوك الأمويين في الأندلس من عُرفوا بالسياسة والدهاء والتحلي بفضائل كبار الخلفاء من آبائهم في القرن الأول وثلث الثاني.

وما انقرضت دولة الأمويين في الأندلس١٩ إلا لما تواترت الفتن الأهلية وعجزوا عن أن يأخذوا من أعنة جيوشهم المؤلفة من صعاليك مستأجرة، وقدم المنصور أبو عامر رجال البرابرة وزناته في الأندلس، وأخَّر رجال العرب وأسقطهم عن مراتبهم، فتم له ما أراد من الاستقلال بالملك، وسُمي بالحاجب المنصور، وأمر بالدعاء له على المنابر عقب الدعاء للخليفة، ولم يبقَ لهشام المؤيد من رسوم الخلافة أكثر من الدعاء على المنابر، وكتب اسمه في السكة والطراز، وأُغفل ديوانه مما سوى ذلك. وكان العرب الذين نزلوا الأندلس لأول الفتح من قبائل شتى وفيهم اليمانية والقيسية وفيهم بنو كلاب ومحارب وهوازن وغطفان والأزد وعُقيل وقُشير والجُرمش وغيرهم، ومنهم كانت جمهرة الجيش العربي هناك، فأُبدلوا بعد حين بصقالبة وبربر وغيرهم.
وفي أوائل المائة الخامسة انقرضت خلافة الأمويين في الأندلس، فتقاسم ملوك الطوائف الولايات، وذهب ذاك الوقار الذي يتمتع به في الأغلب من تسلسل فيهم الملك والإمارة كابرًا عن كابر، وما انقطع من الملوك الخالفين مع هذا ظهور رجال تحنكوا بالسياسة وإدارة الملك. قال ابن سعيد مؤرخ الأندلس:٢٠ وكان الضابط فيما يُقال في شأن أهل الأندلس في السلطان أنهم إذا وجدوا فارسًا يبرع الفرسان، أو جوادًا يبرع الأجواد، تهافتوا في نصرته ونصبوه ملكًا من غير تدبر في عاقبة الأمر، وبعد أن يكون الملك في مملكةٍ قد توورثت وتدوولت، يكون في تلك المملكة قائد من قوادها، قد شهرت عنه وقائع في العدو، أو ظهر منه كرم نفس للأجناد ومراعاة، قدموه ملكًا في حصنٍ من الحصون، ورفضوا عيالهم وأولادهم، إن كان لهم ذلك بكرسي الملك، ولم يزالوا في جهادٍ وإتلاف نفس حتى يظفر صاحبهم بطلبه. قال: وأهل المشرق أصوب رأيًا من الأندلسيين في مراعاة نظام الملك، والمحافظة على نصابه، لئلا يدخل الخلل الذي يقضي باختلاف القواعد وفساد التربية وحل الأوضاع.
وذكر صاحب المعجب أنَّ المستكفي بالله محمد بن عبد الرحمن من ملوك الطوائف «كان في غاية السخف وركاكة العقل وسوء التدبير، وزر له رجل حائك يُعرف بأحمد بن خالد، وكان هو المدبر لأمره والمدير لدولته، فقل في دولة يديرها حائك.» وتفرق أهل الأندلس فرقًا،٢١ وتغلب في كل جهةٍ متغلب للسبب الذي علل له ابن سعيد، وتقسموا ألقاب الخلافة، فمنهم من تسمى بالمعتضد، وبعضهم بالمأمون، وآخر بالمستعين والمقتدر والمعتصم والمعتمد والموفق والمتوكل، وفي ذلك يقول ابن رشيق:
مما يزهدني في أرض أندلس
ألقاب مقتدر فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخًا صولة الأسد
لما ولِّي علي بن حمود الناصر بالأندلس تسمى بالخلافة (سنة ٤٠٨ﻫ) وبويع لإدريس بن علي بالخلافة في مالقة (٤٣١ﻫ)، ولما هلك لم يتسمَّ ابنه بالخلافة، ثم بويع للحسن بن يحيى بالخلافة ولُقب بالمستنصر، وهكذا صار خليفة لمالقة وسبتة وطنجة، ثم حدث في الأندلس من دعوى الملك شيء لا يكاد يسبق له نظير، وهو أنَّ رجلًا من العامة، لا عصبية له ولا سابقة، ادعى أنه من نسل بني أمية بعد انقراض دولتهم في الأندلس، وخُطب له على المنابر عشرين سنة، وهو كاذبٌ في دعواه. قال ابن حزم:٢٢ أخلوقة لم يقع في الدهر مثلها، فإنه ظهر رجلٌ يُقال له خلف الحصري بعد عشرين سنة من موت هشام بن عبد الملك المنعوت بالمؤيد، وادعى أنه هشام فبويع وخُطب له على جميع منابر الأندلس في أوقاتٍ شتى، وسفك الدماء، وتصادمت الجيوش في أمره، وأقام المدعي أنه هشام نيفًا وعشرين سنة، والقاضي محمد بن إسماعيل في رتبة الوزير بين يديه والأمر إليه، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن توفي المدعو هشامًا، فاستبد القاضي محمد بالأمر بعده، وكان من أهل العلم والأدب والمعرفة التامة بتدبير الدول، ولم يزل ملكًا مستقلًا إلى أن توفي في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة. ا.ﻫ.
ذاك ما تم في الأندلس من تغلب خلف الحصري وقاضيه، تمَّ لهما الملك بالغلبة وبعصبية ملفقة، وليس الملك — كما قال ابن خلدون٢٣ — لكل عصبية، وإنما الملك على التحقيق لمن يستعبد الرعية ويجبي الأموال، ويبعث البعوث، ويحمي الثغور، ولا تكون فوق يده يدٌ قاهرة، ومن قصرت به عصبيته عن بعضها مثل حماية الثغور، أو جباية الأموال، أو بعث البعوث، فهو ملك ناقص لم تتم حقيقته، كما وقع لكثيرٍ من ملوك البربر في دولة الآغالبة في القيروان، ولملوك العجم صدر الدولة العباسية، ومن قصرت عصبيته أيضًا عن الاستعلاء على جميع العصبيات، والضرب على سائر الأيدي، وكان فوقه حكم غيره، فهو أيضًا ملك ناقص لم تتم حقيقته، وهؤلاء مثل أمراء النواحي ورؤساء الجهات الذين تجمعهم دولة واحدة، وكثيرًا ما يوجد هذا في الدولة المتسعة النطاق مثل صنهاجة مع العبيديين، وزناتة مع الأمويين تارة، والعبيديين أخرى، ومثل ملوك العجم في دولة بني العباس.

وقول ابن خلدون لا يكاد يتخلف، ومسألة خلف الحصري وقاضيه من الشواذ، وكان هذا من هزل الدهر في الأندلس، أيام كان أهل كل إقليم يحاولون أن تكون لهم الغلبة بقاضٍ لهم آثروه، أو قائدٍ أحبوه؛ أو دعي عاونوه، ولقد قال ابن حزم: فضيحة لم يقع في الدهر مثلها: أربعة رجالٍ في مسافة ثلاثة أيام في مثلها، يُسمى كل واحدٍ منهم بأمير المؤمنين، ويُخطب لهم في زمنٍ واحد، أحدهم في إشبيلية، والثاني بالجزيرة الخضراء، والثالث بمالقة، والرابع بسبتة، حتى إذا ضاقت الأرض بما رحبت على الأندلسيين جاءهم من بر العدوة يوسف بن تاشفين اللمتوني ملك المرابطين، فكان أول من دعا للخلافة العباسية على منابر الأندلس والمغرب، وتسمى بأمير المسلمين تأدبًا مع الخليفة، وانتهى ملكه إلى مدينة أفراغه من ناحية شرق الأندلس، وإلى مدينة أشبونة على البحر المحيط من الغرب، وملك بعدوة المغرب من جزائر بني مزغنان إلى طنجة إلى آخر السوس الأقصى إلى جبال الذهب من بلاد السودان.

واختل ملك بني تاشفين بعد الخمسمائة لإهمال السلطان، واشتغاله بالعبادة،٢٤ ولاستيلاء النساء على الأمور «فصارت كل امرأة من أكابر لمتونة ونفوسة مشتملة على كل مفسد وشرير، وقاطع سبيل، وصاحب خمر وماخور.» وانقطعت الدعوة للعباسيين من منابر الأندلس والمغرب بقيام ابن تومرت من المصامدة في بلاد السوس، وفتح الموحدون بقيادة ملكهم عبد المؤمن بن علي الكومي البربري إفريقية سنة ٥٢٨ﻫ، ثم فتحوا الأندلس، وهو أول من تسمى في المغرب بأمير المؤمنين بعد عصر الأمويين، ونادى «في البلاد٢٥ التي ملكها بإخراج النصارى منها، وشرط لمن أسلم منهم بموضعه على أسباب ارتزاقه ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن بقي على رأي أهل ملته، فإما أن يخرج قبل الأجل الذي أجَّله، وإما أن يكون بعد الأجل في حكم السلطان مستهلك النفس والمال.»
ومؤسس دولة الموحدين هو ابن تومرت، سمى نفسه المهدي، وادَّعَى أنه هو المهدي المنتظر وَكَثُر أتباعه، ورأى من بعض جموعه قومًا خافهم، فادعى أنَّ الله أعطاه نورًا، يعرف به أهل الجنة من أهل النار، وجمع الناس إلى رأس جبل، وجعل يقول لكل من يخافه: هذا من أهل النار، فيُلْقى من رأس الشاهق ميتًا، وكل من لا يخافه هذا من أهل الجنة، ويجعله عن يمينه، حتى قتل خلقًا كثيرًا واستقام أمره وأمن على نفسه، وقيل: إنَّ عدَّة الذين قتلهم سبعون ألفًا، وسمى عامة أصحابه الداخلين في طاعته «الموحدين»، ودامت هذه الدولة ثمانين سنة (٤٦٢–٥٤٢ﻫ)، وكان ملوك الموحدين كملوك المرابطين يُخاطبون بأمير المؤمنين، ويحرصون على هذه التسمية، حتى إن صلاح الدين يوسف صاحب مصر والشام لما أرسل إلى أبي يعقوب المنصور سلطان المغرب لعهده من٢٦ الموحدين وخاطبه بسيدنا، نقم عليه المنصور لتجافيه عن خطابه بأمير المؤمنين، وأسرَّها في نفسه، ولم يجبه إلى حاجته، وكانت حاجته طلب مدد أساطيله؛ لتتجول في البحر بين أساطيل الإفرنج، وتحول دون مرامهم بإمداد جيوش النصرانية في ثغور الشام.
دامت دولة الموحدين في الأندلس إلى أن قام بنو الأحمر، واستولوا على غرناطة، وبالقضاء على دولتهم انقضى ملك المسلمين من تلك الديار، أواخر القرن التاسع من الهجرة. وأول من استولى من بني الأحمر أو ملوك بني نصر أمير المسلمين أبو عبد الله محمد بن يوسف الخزرجي الأنصاري،٢٧ تظاهر لأول أمره بطاعة الملوك بالعدوة وإفريقية فخطب لهم زمنًا يسيرًا، ودعا للمستنصر العباسي ببغداد، حاذيًا حذو سميه ابن هود، للهج العامة في وقته بتقلد تلك الدعوة إلى أن نزع عن ذلك كله.
وكان في تلمسان وإفريقية وفاس ملوك مختلفون في تلك الحقة، واعتاد المغرب منذ القرن الثاني أن يخلع الطاعة فيه للخلافة العباسية، قائد من القواد ويؤسس ملكًا، وأول ما كان من ذلك دولة الخوارج الأباضية في أيام المنصور العباسي، وتغلبها على مملكة إفريقية، وكان يسلم بالخلافة على ميمون بن عبد الرحمن بن رستم من فرس العراق٢٨ ورأس الصفرية والواصلية، وتعاقبت مملكة تاهرت بنو ميمون وإخوته، ثم بعث إليهم عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب صاحب إفريقية أخاه الأغلب، فقتل من الرسمية عددًا كثيرًا، وملك بنو رستم تاهرت مائة وثلاثين سنة، ودامت دولتهم إلى سنة ٢٠٢ﻫ، وامتدت دولة إدريس بن عبد الله من السوس الأقصى إلى تلمسان، وكان من جملة قواعد مملكته فاس، وانقرضت سنة ٣٠٧ﻫ، وكانت قامت سنة ١٧٢ﻫ.
وفي النصف الأول من القرن الثالث عندما كانت تاهرت، وما إليها في أيدي ميمون الرسمي٢٩ كان وادي الرمل ووادي الزيتون وقصر الأسود بن الهيثم إلى طرابلس وما وراء ذلك في يد ابن صغير البربري المصمودي، وكانت إيزرج مما يلي تاهرت في يدي إبراهيم بن محمد البربري المعتزلي، وطنجة وفاس في أيدي ولد إدريس بن إدريس بن إدريس، ولا يسلم عليه بالخلافة، وإنما يُقال: «السلام عليك يا ابن رسول الله»، وكان يسلم على الأموي صاحب الأندلس «السلام عليك يا ابن الخلائف»؛ وذلك إنهم لا يرون اسم الخلافة إلا لمن ملك الحرمين.
وكان بنو الأغلب عمالًا للعباسيين في إفريقية فمنحهم الرشيد شبه استقلال في داخليتهم، فأنشأوا لهم دولة في تلك الأصقاع زالت بغلطة سياسية ارتكبها إبراهيم الثاني من بني الأغلب؛ ذلك لإبعاده كثيرًا من الجيوش العربية الداخلة في إفريقية عند افتتاحها ومعظمهم٣٠ من قيس وتميم وفهر وجرير، فتطاولت رقاب كتامة من البربر فسقطت الدولة العربية، ودامت دولة الآغالبة مائة واثنتي عشرة سنة كما دامت دولة بني مدرار في سلجماسة مائتين وستين سنة.
وأعاد إدريس من ولد محمد بن القاسم الإمامة إلى بيته، بعد أن كانت فيه مدة ثم تراجعت وذلك بعد الأربعين وثلاثمائة. وقامت عدة دول في شمالي إفريقية لم يطل أمرها كثيرًا كما قام في الأندلس، مثل دولة بني عبد الواد ويُعرفون ببني زياد، قامت بالمغرب الأوسط؛ أي في بلاد الجزائر أو جزائر بني مزغنان، وذلك عند ضعف دولة الموحدين، وجعلوا قاعدتها تلمسان ودامت من سنة ٦٣٣ إلى ٩٢٣ﻫ، ومثل دولة بني مرين في المغرب الأقصى من سنة ٦١٣–٨٢٣ﻫ، وهم من البربر كزناتة وبني عبد الواد، وقد تلقب بعض ملوكهم بأمير المؤمنين، وخلفتهم الدولة الوطاسية في المغرب، ولما ذاع صيت المستنصر٣١ أحد أمراء الحفصيين بني أبي حفص في الآفاق أرسل إليه أمير مكة وأهل الأندلس بيعتهم بالخلافة سنة ٦٥٧ﻫ، ولُقب من يومئذ بأمير المؤمنين، وكان ملك الحفصيين في تونس يدعي الخلافة ويُلقب بألقاب الخلفاء، ويخاطب بأمير المؤمنين، والحفصيون نسبة إلى أبي حفص أحد العشرة أصحاب ابن تومرت، وهم بقايا الموحدين.

وأهم الدول التي ظهرت في المغرب وانتشر سلطانها في المشرق وأغصت الدولة العباسية بريقها الدولة الفاطمية، وقد هيأ لها العباسيون دعاية ممتدة النطاق للطعن في نسب مؤسسها، ومن المؤرخين كابن خلدون والمقريزي من صححه، ومنهم وهم الأكثر من زيفوه، والغالب أنَّ أصل ملوكهم من شيعة الإسماعيلية في سَلَمْيَة في الشام هبوا لتأسيس ملك، فما زالوا يتنقلون في ربوع إفريقية حتى قام أبو عبيد الله المهدي سنة ٢٩٧ﻫ، وتسمى بأمير المؤمنين وقتل أبا عبد الله الشيعي داعية ملكه، على نحو ما فعل المنصور العباسي فقتل أبا مسلم الخراساني مؤسس دولته.

وسُميت هذه الدولة بالفاطمية نسبة لفاطمة بنت الرسول، ومن المؤرخين من يُطلق عليها اسم العبيديين نسبة لأبي عبيد الله مؤسسها، وادعت الخلافة، ولُقب ملوكها بأمراء المؤمنين واستولوا على القسم الأعظم من شمالي إفريقية. وبنى عبيد الله أول ملوكهم في إفريقية «القصور ورتب السياسة وأحكم التدبير»، وأمر أن يُدعى له في المنابر وخطب الأعياد بمرسوم، يُقال فيه بعد الصلاة على النبي وعلى أمير المؤمنين علي وفاطمة الزهراء والحسن والحسين، وعلى الأئمة من أولادهم: «اللهم صلَّ على عبدك ووليك وخليفتك القائم بأمر عبادك في بلادك أبي محمد عبيد الله الإمام المهدي بالله أمير المؤمنين، كما صليت على آبائه خلفائك الراشدين المهديين، الذين قضوا بالحق وكانوا به يعدلون، اللهم وكما اصطفيته لولايتك واخترته لخلافتك، وجعلته لدينك عصمة وعمادًا، ولبريتك موئلًا وملاذًا، فانصره على أعدائه المارقين، وافتح له مشارق الأرض ومغاربها كما وعدته، وأيده على العصاة الضالين، إنك أنت الحق المبين.» وكانت أوامر المعز «تُنفذ من أقصى الشام والحجاز إلى السوس الأقصى.» ويقول ابن الخطيب:٣٢ إنَّ المعز لدين الله٣٣ كان أعظم ملوكهم خطرًا، وكان بعيد الصيت، عظيم الجبروت، وقورًا كثير التأني، ذهب بنفسه كل مذهب، حتى زعموا أنه أمر المؤذن أن يقول: أشهد أنَّ لا إله إلا الله وأشهد أنَّ معدًّا رسول الله، وأن مما يشهد لذلك قول شاعره أبي القاسم محمد بن هانئ الأندلسي في القصيدة الشهيرة التي أولها:
أتظن راحا في الشمال شمولًا
أتظنها سكرى تجر ذيولًا

ويقول من أبيات غير متوالية:

أمديرها من حيث دار لطالما
زاحمت تحت لوائه جبريلا
أورثته البرهان والتبيان والـ
ـفرقان والتوراة والإنجيلا
وعلمت من مكنون علم الله ما
لم يؤت في الملكوت ميكائيلا
لو كنت آونة مبشر أمة٣٤
نشرت لمبعثك القرون الأولى
لو كنت نوحًا منذرًا في قومه
ما زادهم بدعائه تضليلا
لله فيك خفية لو أعلمت
أحيا بذكرك قاتل مقتولا
لو كان آتي الخلق ما أوتيته
لم يخلق التشبيه والتمثيلا
والكتب لولا أنها لك شهد
ما فصلت آياتها تفصيلا
لولا حجاب دون علمك حاجز
وجدوا إلى علم الغيوب سبيلا
لو لم تعرفنا بذات نفوسنا
كانت لدينا عالمًا مجهولا
وإذا أحسنا الظن بالمعز — وهو في قوم أكثرهم على خلاف مذهبه يضمرون له ولدولته السوء — نقول: إنَّ هذه مبالغة شاعر كان الأولى بالملك الفاطمي ألا يقره عليها؛ لأن إشاعتها مما يضر بسياسته، وإذا أسأنا الظن نقول: إنه أوعز بعمل هذه الأبيات، أو كان على الأقل لا يرضيه غير هذا اللسان، وهذا الإغراق في مدحه، والمعز هو الذي صحت عزيمته على فتح مصر بعد أن غزتها جيوش دولته غير مرة، وكان فتحها على يد مولاه القائد جوهر الصقلي الذي قطع خطبة بني العباس عن منابر الديار المصرية، ونزع اسمهم من السكة، وعوض عن ذلك باسم مولاه، وأزال الشعار الأسود، وألبس الخطباء الثياب البيض، وأمر بالزيادة عقيب الخطبة «اللهم صلِّ على محمد المصطفى، وعلى علي المرتضى، وعلى فاطمة البتول، وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا، وصلِّ على الأئمة الطاهرين آباء المؤمنين.» وأذن بحي على خير العمل، صيغة الأذان الشيعي، ولما دخل المعز إلى مصر أمر بأن يُنقش على الجدران في مصر القديمة «خير الناس بعد رسول الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.»٣٥

قيل: إنَّ الجيش الفاطمي لما دخل مصر كان مائة ألف، وقيل مائة وأربعين ألف مقاتل، معه ألف وخمسمائة جمل تحمل الذهب فقط، ذكروا أنه كان ثلاثة وعشرين ألف ألف دينار، وهو مبلغ عظيم يدل على اشتطاط الفاطميين في سلب من حكموهم من الأفارقة مدة ليفتحوا بما جبوا مصر ويمتدوا منها إلى الحرمين، ثم يضعون أيديهم على الملك العباسي، واستكثر الفاطميون من العساكر بمصر فكانوا بين كتامة وبربر ومغاربة وروم وصقالبة عددًا عظيمًا، قلَّ لدولة أن جمعت مثله و«تمتاز الدولة العبيدية على من تقدمها في الأمر بكونها تأسست بدعوة الدين، والقائمين بنصرتها هم البربر من قبائل إفريقية.» وأقبل العبيديون في آخر أمرهم على شراء المماليك لاتخاذهم عبيدًا وحراسًا وبطانة، وأصبح جيشهم مؤلفًا من العبيد السود والأمراء المصريين والعربان والأرمن وغيرهم، وكثر النصارى واليهود في خدمة الفاطميين على صورة مستغربة، ثم اضطهد النصارى على عهد الحاكم بأمر الله وخُربت كنائسهم، ثم أُعيدت إلى ما كانت، وأبقى الفاطميون أهل السنة في أعمالهم في البلاد المصرية والشامية والحجازية، ثم راحوا يستعيضون عنهم، ولا سيما عن كبرائهم، بأناس من أهل عصبيتهم الإسماعيلية، فضجت البلاد من مظالمهم، ومن فرضهم مذهبهم على أهل السنة فرضًا، ومن العمال من تظاهروا بالتشيع لتسلم لهم مناصبهم، ومنهم من أبوا فنُحوا عن أعمالهم.

مهد الفاطميون لخلافتهم بالبذل الكثير للشعراء وأرباب الدعاية، وأكثروا من الألقاب الغريبة، يعطونها لمن يرجون الخير منه لسلطانهم، وكان الوزراء في بعض أدوار هذه الدولة٣٦ يُلقبون كألقاب الخلفاء فيهم، وكان ابن مماتي في الأدوار الأخيرة كالمستولي٣٧ على الديار المصرية ليس على يده يد، والمسمون بالخلافة من الفواطم محجوبون ليس لهم غير السكة والخطبة، ومن أظهر الظواهر السياسية في مؤخرات أيام الفاطميين أنهم كانوا يواترون نقل العمال والولاة والوزراء، مخافة أن يتأصل شأنهم في البلاد، وكانوا إذا جاء فيهم مثل المعز على جانب من الثقافة العالية لا تأخذه رحمة بمن يلاحظ أنهم مخالفوه في رأيه، فقد حرق كثيرًا من أعيان مصر وأدبائها بالنار٣٨ — إذا جاء فيهم مثل هذا فقد كان فيهم أضعف الضعاف الفاسدين.
ولقد بالغ بعضهم في عمل الفاطميين، وتابعهم من يأخذون الأمور على ظواهرها، ولو أنصفوا التاريخ لما تحرجوا من التصريح بأن ظلم الفاطميين في شمالي إفريقية أخرجها من أيديهم على أقل سبب، واشتداد عمالهم في إيذاء الناس في صقلية منع من امتداد سلطان المسلمين في جنوبي أوروبا، حتى قال أحد المفكرين في هذا العصر:٣٩ إنه لم يجنِ أحد على الإسلام ما جناه هؤلاء العبيديون الفاطميون. ومما ذكر من مساويهم أنه في عهد أبي عبيد المهدي نصب على ولاية أوروبا؛ أي صقلية، خليل بن إسحاق الطاغية، فقضى في الحكم أربعة أعوام، ارتكب فيها من الجور والفساد ما لم يُسمع بمثله، ومن ظلمه أخذ المسلمون يفرون أفواجًا إلى البلاد النصرانية ويتنصرون، ولما عاد سنة ٣٢٩ﻫ إلى إفريقية كان يفتخر بمظالمه، وحضر مجلسًا فيه وجوه الدولة العبيدية في قصر الإمارة، فقال: إنه قتل في إمارته ألف ألف نسمة، فرد عليه أبو عبد الله المؤدب، وكان من عقلاء الرجال في الدولة الشيعية: «لك يا أبا العباس، في قتل نفس واحدة ما يكفيك.»

وخُطب للفاطميين في الحرمين (٣٦٢ﻫ)، وفي سنة ٣٩٦ خطب بالحرمين للحاكم بأمر الله، وأمر الناس عند ذكره بالقيام وأن يسجدوا له، وكان الرسم أن يلقى الناس الخليفة الفاطمي بتقبيل الأرض، عادةً لهم أخذوها من الفرس والإسلام لا يقرها، وخطب أمير بني عقيل للحاكم الفاطمي بأعماله كلها، وهي الموصل والأنبار والمدائن والكوفة (٤٠١ﻫ) وغيرها، وكان ابتداء الخطبة بالموصل «الحمد لله الذي انجلت بنوره غمرات الغضب، وانهدمت بعظمته أركان النصب.» وخطب البساسيري (٤٥٠ﻫ) بجامع المنصور ببغداد للمستنصر بالله العلوي خليفة مصر، وأمر المؤذن فأذن بحي على خير العمل، ودامت الخطبة له سنة.

امتد ملك الفاطميين منذ قاموا بسجلماسة سنة ٢٩٦ﻫ إلى أن توفي العاضد سنة ٥٦٧ﻫ مائتين واثنتين وسبعين سنة، وظلت المنابر تخطب بأسماء خلفائهم في إفريقية إلى سنة ٤٣٥ﻫ، وفيها نبذت دعوتهم عقبى ثورة الإفريقيين على الشيعة في شمالي إفريقية، وخُطب لبني العباس فيها منذ سنة ٤٣٩ﻫ، واعترف خليفة بغداد بالاستقلال للمعز الذي خلف دولة الفاطميين بإفريقية. وفي أيام الفاطميين قُتل الدوقس عظيم الروم على حصن فامية من بلاد الشام (٣٣٢ﻫ)، وقُتل من عسكره ألوف وأُسر منهم خلق كثير، وكان يعقوب بن كلس أحد كبار وزرائهم أوصى خليفته المعز عند وفاته بأن يسالم الروم ما سالموه، وأن يقنع من الحمدانية بالدعوة والسكة، وألا يبقي على مفرج بن دغفل بن جراح إن عرضت له فيه فرصة.٤٠ وكان المعز نصح لنائبه يوسف بن زيري لما أزمع الرحيل إلى الشرق، بعد أن فُتحت مصر باسمه فقال: إن نسيت شيئًا مما أوصيتك به، فلا تنسَ ثلاثة أشياء: لا ترفع الجباية عن أهل البادية، ولا ترفع السيف عن البربر، ولا تولِّ أحدًا من أهل بيتك، فإنهم يرون أنهم أحق بهذا الأمر منك، واستوصِ بالحضر خيرًا. وكانت أبدًا سياسة الفاطميين مع غير الدول الإسلامية لينة، ويُقال: إنَّ من رجالهم المتأخرين من فاوضوا الصليبيين ليسلموا لهم ملكهم الذي كان في بعض الأدوار بأيدي النساء والمتغلبين من الرؤساء، وكان يُؤتى ببعضهم وهم أطفال يجلسون على سرير الملك، وفي سيرة بعضهم من القبح ما لو قُسم على عدة ملوك لكان فظيعًا، وإن مجد فيهم عمارة اليمني بشعره؛ لكثرة ما أغدقوا٤١ عليه من الأموال والعطايا. قال ابن ظافر جامع أخبار الدولة العلوية بإفريقية ومصر والشام: إنَّ هذه الدولة عظم خطب الاختلاف في أحوال أربابها، وقويت الشناعة بإبطال ما ادعته من انتمائها إلى العترة النبوية. قال وهم أصل القرامطة الذين كان هلاك الدين على أيديهم، وظهر خروجهم على أهل ملة الإسلام وتعديهم. كلام فيه حق وغيره.

•••

لم تخلُ الأندلس وشمالي إفريقية أو الغرب الأقصى والأوسط والأدنى، ومصر واليمن وما إليهما، من ثائر على الخلافة العباسية أو من أمير سموه خليفة، أو من خلفاء لهم بالفعل، كانوا على جانب من القوة واستجماع أدوات الملك أمثال الأمويين في الأندلس، والفاطميين في إفريقية، ثم في مصر، وأمثال رجال دول المرابطين والموحدين والأدارسة وبني مرين والحفصيين، وجاء في بعض العصور عدة خلفاء في الأرض، ومنها خلافة سُنية، وأخرى شيعية، وثالثة خارجية، ورابعة زيدية، والقوة في مجموعها كانت للخوالف من أهل السنة.

كانت دول العرب الأولى إلى أواسط المائة الثامنة على صورتها الاستبدادية تجمع شمل الأمة في الجملة، والخير يأتيها متقطعًا على أيدي الملوك العادلين، وإن لم تكن صفات العدل والحزم والعلم كل حين على مقياس واحد في كل فرد تولى الخلافة أو الملك، والنوابغ قليل عددهم في كل صناعة، فكيف بأصعب الصناعات صناعة الملك، وكان الصالح في القرون الأولى أكثر من الطالح في الملوك والزعماء، وفي القرن الرابع كثر عدد من لا يصلح للملك ولا لإدارة البلاد، وقوي الدخلاء فاستأثروا بالحكم، وبقي القول الفصل لهم في الحياة العامة، ولا حول ولا طول للخلفاء من العرب.

هذا، وعمر الخليفة أو الملك قصير، وندر أن يعمل بسيرته من يخلفه، حتى ابنه الذي رباه وأورثه ملكه، وقلما يكمل الخلف ما بدأ به السلف من عمل، أو جرى عليه من سياسة وتدبير، وفي النادر أن يحافظ الثاني على أوضاع الأول إلا فيما لا غنية عنه، وربما نفع من طالت أيامهم من الملوك على استبداد فيهم؛ لاستقرار الأمر في حياتهم، أكثر من ملوك استوفوا شروط الحكم، وما امتد أجل أحكامهم غير أعوام قليلة.

لو علت سن عمر بن عبد العزيز لدخلت خلافة الأمويين، بل الإسلام والمسلمون، في طور جديد من كل وجه، ولو طال عمر المأمون لم يعلم أحد ما كان يكون من حكمته وحنكته في دولة بني العباس، وما أعاد القادر بالله (٤٢٢ﻫ) جدة الخلافة العباسية وجدد ناموسها، وكان قد طمع فيها الديلم والترك، إلا لأن خلافته أربت على إحدى وأربعين سنة، وما أصبح الخليفة الناصر العباسي مرهوب الجانب في الهند٤٢ ومصر والشام والعراق، وخُطب له ببلاد الأندلس وبلاد الصين، ودانت له السلاطين، إلا لأنه طالت أيامه سبعًا وأربعين سنة ٦٢٢ﻫ، وهكذا يُقال في الناصر الأموي الذي كانت خلافته في الأندلس خمسين سنة ٣٠٠–٣٥٠ﻫ، وقل مثل هذا في المستنصر العبيدي من الفاطميين، وسنجر بن ملكشاه من السلجوقيين، وقلاوون وابنه محمد من المماليك.
قد ينطوي الخليفة أو الملك الذي تدوم خلافته على عيوب تحتمل في جانب الاستقرار الذي تنتفع به الأمة، ومن النادر أن تطول أيام الملك ولا يختلف نظر الناس في الحكم عليه، وتبدو لهم مقاتله وتظهر عيوبه، وإذا كان من نسل عظماء موقرين في الصدور، تنشأ له هيبة فيضم شمل الجماعة، كما كان من الناصر العباسي الذي دعوه أسد بني العباس٤٣ لإحيائه الخلافة، وكانت قد ماتت بموت المعتصم، ثم ماتت بموته.

ذكروا أنَّ العباسيين الأولين صرفوا الملك في وجوه الحق ومذاهبه ما استطاعوا، حتى جاء بنو الرشيد فكان منهم الصالح والطالح، ثم أفضى الأمر إلى بنيهم فأعطوا الملك حقه، وانغمسوا في الدنيا وباطلها، ونبذوا الدين وراء ظهورهم، فتأذن الله بحربهم، وانتزع الأمر من أيدي العرب جملةً وأمكن سواهم منهم، وهذا الرأي لا يصح على إطلاقه في كل الدول التي قامت ثم انقرضت.

تم الملك لبني العباس بجيش خراسان الفارسي، واضمحلت خلافتهم بالجيش التركي، كان الجند الفارسي قوة الخلافة العباسية لأول أمرهم، ومن العنصر التركي بعد ذلك ضعفهم. وفي القرن الرابع كان الجيش العباسي مؤلفًا من المماليك٤٤ الناصرية والبغائية والمسرورية والبكجورية واليانسية والمفلحية والأزكوتكينية والكيغلغية والكنداجية، نسبة لقواد لهم ووزراء من الأعاجم، كانت لهم القوة في الدولة العباسية، فأصبحت الخلافة بتدخل الفرس أولًا وتدخل الترك وغيرهم آخرًا، ألعوبة في أيدي كل من تتم له القوة والغلبة على غيره من الأمراء والخوارج، ولم يكن إلا قليل حتى أصبح سلطان الخلافة الفعلي لا يتعدى بغداد وما جاورها، بل أمسوا وليس لهم حتى في بغداد ولا في قصورهم وشئونهم الخاصة شيء من الاستقلال، يود كل عنصر من عناصر الجيش أن يستأثر بالسلطة دون منافسه من الأجناس الأخرى، وربما لم يكن جميع الترك والفرس ممن تمثلوا الإسلام ظاهرًا وباطنًا، فقد وقعت فتنة بين الأتراك والهاشميين في سنة ٣٨١ فرفع الهاشميون المصاحف على الرماح، فرفع الأتراك الصلبان على الرماح.

فسدت العصبية العربية في القرن الخامس فسادًا ظاهرًا، وفني الجنس العربي في الأجناس الغريبة الأخرى، حتى لا يكاد العربي يُرى في المقامات العالية، وأضعف بنو بوية الديلم، وبنو سلجوق الترك، عصبية الدولة العباسية العربية الفارسية، وانقرضت الدولة الأموية العربية من الأندلس، ولم يبقَ غير أقيال من العرب في المغرب بعد ذهاب الفاطميين من شمالي إفريقية ونزولهم مصر، وأخذ الصليبيون في العشر الأخير من هذا القرن يغزون بلاد المسلمين، فكان هذا العصر عصر تراجع السياسة العربية في كل مكان. وبمقتل العربي مسلم بن قريش صاحب الموصل (سنة ٤٧٨ﻫ) على يد سليمان بن قتلمش التركي — وكانت لمسلم طاعة حلب ورياستها شورى في مشيختها — انقرض الحكم العربي من الشام، أول قطر استصفاه العرب الفاتحون.

ثم دخلت البلاد في دور سياسي آخر، وأصبح الناس يعاونون كل متغلب على الملك، إذا أخلص النية في قتال الصليبيين، فحكم البلاد التركي والكردي والشركسي، وما عاد يخطر في البال إرجاع ملك العرب، فنُسيت معاني القومية العربية، وماتت أو كادت روح العصبية المعروفة للقدماء، ولم يعد الملوك يعتمدون على قيس ويمن أو على إحداهما في قهر أعدائهم وتأييد سلطانهم، وأصبحت الجيوش المقاتلة والقواد والملوك من العناصر مختلفة لا تجمعها إلا كلمة الإسلام.

قرض صلاح الدين الكردي باسم نور الدين التركي دولة الفاطميين العربية في مصر فحكمها نور الدين باسم الإسلام، وحكمها بعده صلاح الدين وآله باسم الإسلام، وقامت بعد في مصر والشام دولة المماليك البحرية ودامت ١٣٠ سنة، ودولة المماليك البرجية وطال عمرها ١٣٥ سنة، وكلتاهما حكم باسم الإسلام لا باسم عناصرهما المنوعة، وجاء من هذه الدول عظماء من الرجال كنور الدين وصلاح الدين، ولم يطل عمر دولتيهما كثيرًا على ما كان فيهما من الخير العظيم؛ وذلك لأن ولاية العهد لم تكن مقررة على قاعدة ثابتة، فنور الدين مثلًا خلف ولدًا صغيرًا ارتضى به خواصُّ أبيه ملكًا، ولكن من الصعب أن يدبر طفل أمر البلاد في أحرج حالاتها السياسية، فأتى صلاح الدين نائب نور الدين في مصر وتولى الأمر في الشام بحكم الطبيعة، ولما هلك تفرق ملكه في أولاده، فاختلفوا واشتد خلافهم؛ لأنه لم يعهد إلى الكفؤ منهم بولاية العهد، ولئن كان فيهم رجال على جانب من الكفاءة، فإن اختلافهم فتح السبيل لعمهم العادل لتولي الملك.

لما مات العزيز بن صلاح الدين ملك مصر خلف ابنًا عمره تسع سنين وأوصى له أبوه بالملك بعده، وسموه الملك المنصور، وتقرر أن يجعل له من يدبر أمره فجعلوا عمه الملك العادل أتابكه إلى أن يتأهل٤٥ للاستقلال بأمور المملكة، فقال الملك العادل: إنه قبيح بي أن أكون «أتابك» صبي مع الشيخوخة والتقدم، والملك ليس هو بالإرث وإنما هو لمن غلب، وإنه كان يجب أن أكون بعد أخي الملك الناصر صلاح الدين، غير أني تركت ذلك إكرامًا لأخي، ورعايةً لحقه. قال: فلما كان من الاختلاف ما قد علمتم خفت أن يخرج الملك عن يدي ويد أولاد أخي فَسُسْتُ الأمر إلى آخره، فما رأيت الحال ينصلح إلا بقيامي فيه، ونهوضي بأعبائه، فلما ملكت هذه البلاد، وطنت نفسي على أتابكية هذا الصبي حتى يبلغ أشده، فرأيت العصبيات باقية، والفتن غير زائلة، فلم آمن أن يطرأ على ما طرأ على الملك الأفضل، ولا آمن أن يجتمع جماعة ويطلبوا إقامة إنسان آخر، وما يعلم ما يكون عاقبة ذلك، والرأي أن يمضي هذا الصبي إلى الكتَّاب، وأقيم له من يؤدبه ويعلمه، فإذا تأهل وبلغ أشده، نظرت في أمره وقمت بمصالحه، فوافقوه على رأيه وحلفوا له، وخلعوا المنصور الطفل وخطبوا للعادل.
كان المعقول ما تم من بيعة العادل، مستشار أخيه صلاح الدين ومؤتمنه، لبعد غوره في سياسة الدولة، أما هو فقد قسم مملكته في أربعة من أولاده، ووقعت مصر للكامل فتولاها نائبًا وملكًا أربعين سنة، وجرى على سُنَّة أبيه وعمه في جهاد الأعداء وأبان عن كفاءة ظاهرة، وكان يخطب له بمكة (مالك مكة وعبيدها، واليمن وزبيدها، ومصر وصعيدها، والشام وصناديدها، والجزيرة ووليدها، سلطان القبلتين، ورب العلامتين، خادم الحرمين الشريفين، الملك الكامل أبو المعالي ناصر الدين محمد خليل أمير المؤمنين)، وكان أولاد٤٦ العادل كالنفس الواحدة باتفاقهم. قال ابن الأثير فيهم «فلا جرم زاد ملكهم، ورأوا من نفاذ الأمر والحكم ما لم يره أبوهم، ولعمري إنهم نعم الملوك، فيهم الحلم والجهاد والذب عن الإسلام.»
وكان ملوك دولتي المماليك أشبه برؤساء عصابات متغلبة، وقد جاء منهم من كانوا يحسنون السياسة، ومنهم من حملوا على رقاب الناس الخصيان والنسوان والصبيان، «ولم٤٧ يكن نظام الوراثة مألوفًا عند المماليك؛ فقد كانوا يعتقدون أنه لا فضل لأحد على الآخر إلا بالمهارة الحربية؛ وكثرة الأتباع والحذق في تدبير المؤامرات.» وما كانت مع هذا دولة المماليك أقل غناءً من كثير من دول الأحرار وأدعياء الشرف.

ولم يُسْمع بعد عصر المماليك بظهور قائم من العرب، حتى قام فخر الدين المعني الثاني في القرن الحادي عشر، فاستولى على لبنان وأكثر الساحل الشامي، يرضي العثمانيين بما أمكن من إتاوة، ويعطي السلطان طاعته، فقتلته الدولة، وقام في القرن التالي في جزيرة العرب عبد الله بن سعود، فاستولى على نجد والحرمين، ثم أخذه العثمانيون أيضًا وقتلوه (١٢٣٣–١٨١٨م) ومزقوا ملكه، وما سُمع بعد ذلك صوت لعربي تحدثه نفسه بالحكم في العراق والشام والجزيرة ومصر وغيرها، وصفت كلها للترك العثمانيين بدون منازع.

سياسة الترك العثمانيين

عشيرة من عشائر الترك جلت من تركستان على عهد جنكيزخان، وضربت في الأرض معرجةً على بلاد فارس، آخذةً إلى سمت الغرب، تنتقل من إقليمٍ إلى إقليم، حتى ألقت رحالها في صميم آسيا الصغرى، وأنشأ رئيسها عثمان بن أرطغول سنة ٦٩٩ﻫ، إمارة صغيرة في أرض الدولة السلجوقية، وكان أُنشئ على أنقاضها في الأناضول ثلاث عشرة دولة كانت إمارته إحداها، كبرت مع الأيام حتى غدت سلطنةً عظيمة، تملك أجمل الأقطار في آسيا وأوروبا وإفريقية، هذا تعريف الدولة العثمانية التي كان رأس مالها يوم نشأتها شجاعة رئيسها وآله، وطاعة مرءوسيها ونجدتهم. وضع العثمانيون — أي المنسوبون لعثمان — أساس مملكتهم في جوار «سكود» و«ابنه كول» أولًا، ثم استولوا على «فبورسا»، واتخذوا هذه قاعدة بلادهم، ولما رأى إمبراطور القسطنطينية «يان كنتاكوزن» قوة هذه الإمارة الإسلامية في جواره، وأن أورخان ثاني ملوكهم فتح «بولاير» و«كليبولي» و«تكفور طاغي» من غرب بلاده، عقد معه صلحًا وزوجه من ابنته تيودورا، وجاء السلطان العثماني إلى «اسكدار» على الشاطئ الآسياوي من فَروق، وهناك زُفت إليه، فكان أول ملك عثماني تزوج من غريبة عن دمه، مخالفةً له في عادها ودينها. وظهر من مجرى الحوادث أنَّ العثمانيين كانوا على اتصالٍ وثيق بالروم، ولهم مع زعمائهم وقوادهم٤٨ صلات كانت تزيد على الأيام استحكامًا، بدأت منذ استولى آل عثمان على بروسا، ولما ضموا إلى إمارتهم إمارة «قرة سي» على عهد أورخان، أنشأوا بحرية تفوق أساطيل الإمارات الأناضولية الأخرى، كما كان لهم جيش بُدئ بتنظيمه على عهد أورخان أيضًا.
كان على العثمانيين أن يستولوا على عشر إمارات تركية صغيرة، قامت في آسيا الصغرى في جوارهم، ولكنهم وجهوا إلى غاية أخرى، وجهوها إلى أرض أوروبا، وبعد الاستيلاء على مفاتح الدردنيل بفتح كليبولي وما إليها فتح ثالث ملوكهم فيلبه وأدرنة ونقل إلى هذه عاصمته، يريد بانتقاله من بروسا أن يؤسس دولة شرقية في أرض الغرب. وساعد السلطان مراد الأول على انتصاره في قارة أوروبا ما كان من التنافس المتبادل٤٩ بين دول البلقان؛ أي بيزنطية ومملكتي البلغار والصرب، وما كان من التطاحن بين حكومتي البندقية وجنوة على التفوق في الشرق، وما كان من غيرة الباباوات لإرجاع الكنيسة اليونانية إلى حجر كنيسة رومية، فكان للعثمانيين أنصار في معسكرات النصارى نفسها. ولما٥٠ رأت دول أوروبا توسع مراد الأول (٧٩١ﻫ) في فتوحه عقدت بينها تحالفًا على العثمانيين، ودخل في هذا الحلف ملوك الصرب والبجناكية (البشناق) والبلغار والأفلاق والبغدان والمجر والبولونيين والتشكيين، وهاجموا العثمانيين في مائتي ألف جندي في صحراء قوصوة،٥١ فارتدوا خاسرين، وقُتل ملك الصرب وغيره من أمرائهم في المعركة، وصفت تلك البلاد لبني عثمان، واتفق بعد قليل من الزمن أن قام تيمورلنك حليف صاحب القسطنطينية، وكانت حكومات النصرانية تحاول منذ قام العثمانيون بفتوحهم الأوربية أن يكون لهن حلفاء من ملوك آسيا؛ لصد غارات بني عثمان، فداهم تيمورلنك بلاد آسيا الصغرى، وقاتل بيلديرم بايزيد رابع ملوكهم، وأسره فمات في أسره بعد أشهر قليلة، وتمزقت مملكة العثمانيين، وكان يُخشى أن تُدرج مع الدول البائدة لولا قيام محمد الأول لضم شتاتها، فعُدَّ بعمله العظيم المؤسس الثاني للدولة العثمانية، وما كان بايزيد أسير تيمورلنك بالملك الذي يُستهان بقوة شكيمته، لُقب بالصاعقة (بيلديرم)؛ لمبادرته إلى الزحف وتسرعه في أعماله، فقد فتح بلاد اليونان وحاصر القسطنطينية عشر سنين، وضرب الجزية على إمبراطورها، مشترطًا عليه أن يخص المسلمين بحي من أحياء القسطنطينية، ويسهل لهم السبل لإنشاء جامع وإقامة قاضٍ يحكم بينهم، فلما زحف تيمور على بلاده أبطل صاحب الروم ما كان تعهد به لبايزيد، وكان خف سجسموند ملك المجر في جيش من المجريين والألمانيين والفرنسيين لرفع الحصار عن القسطنطينية، فانقض عليهم بايزيد انقضاض الصاعقة وهزمهم شر هزيمة في نيكبولي على نهر الطونة (الدانوب).

وسار مراد الثاني على قدم أجداده فتوسعت فتوحه في آسيا الصغرى، وأُسر في أولوباد إمبراطور الروم وحمله إلى أدرنة فصلبه فيها، ولم يبرح يغادي القسطنطينية القتال ويراوحها، ويحاصرها فيضيق حصارها، ثم اعتزل الملك وبويع لابنه محمد بالسلطنة، وكانت الدولة أمام مشاكل خطيرة فخاف رجالها أن يضعف السلطان الفتى عن صد هجمات الأعداء؛ لصغر سنه وقلة تجاربه، فاتفقوا معه على أن يرجع والده إلى السلطنة فعاد من عزلته بعد الإلحاح، وقاتل جيوش التحالف المجري الألماني البجناكي الأفلاقي البغداني فشتت شمله في صحراء قوصوة، ثم عادت جيوش النصرانية فجيشت على العثمانيين جيشًا مؤلفًا من المجريين والبولونيين والتشكيين وغيرهم، قدر بمائة وخمسين ألف جندي، فهزمهم شر هزيمة وقتل كثيرًا من ملوكهم وحكامهم.

ولما جاء سابع ملوكهم محمد الثاني يتولى زمام السلطنة كان أجداده قد فتحوا أمامه السبل للاستيلاء على القسطنطينية بما فتحوه في أطرافها من البلاد، فحاصرها برًّا وبحرًا، وساعدته المدافع التي كان جيشه مجهزًا بها، وكان اختراعها حديث العهد، وبعد معارك دامية قُتل فيها قسطنطين دراكا كيس آخر إمبراطرتها، فتح الترك القسطنطينية (٨٥٧–١٤٥٣م)، ولُقب محمد الثاني بالفاتح، وغدت هذه العاصمة الجميلة عاصمة العثمانيين إلى آخر أيامهم، بعد أن كانت عاصمة الروم نحو ألف سنة، وعُد فتحها مبدأ عهد سياسي جديد أرَّخ به المؤرخون؛ ذلك لأنه قضى على المملكة البيزنطية الشرقية التي طالما صاولت المسلمين منذ عهد الراشدين والأمويين والعباسيين. وبفتح القسطنطينية أصبحت الدولة مرهوبة الجانب موقَّرة السلطان، وتوقع الغرب منها أحداثًا جديدة تنبعث من الشرق الجنوبي في أوروبا، على نحو ما كان من دولة العرب الأندلسية في الجنوب الغربي من تلك القارة، وحسب فتح القسطنطينية٥٢ من أعظم حوادث التاريخ في العالم، وأثر في حالة أوروبا السياسية، وبه كُتب التفوق للأتراك في الشرق قرونًا، وكان منه على اليونان مصيبة كبيرة دامت تأثيراتها إلى عهد الثورة التي قاموا بها في النصف الأول من القرن الماضي، وأوشك هذا الحدث العظيم أن يبدل مجرى التاريخ، واصطلح العلماء على أن جعلوا من أيام شهري نيسان وأيار (أبريل ومايو ١٤٥٣) تاريخًا عظيمًا خُتمت به القرون الوسطى وبدأت العصور الحديثة.

وتوسع الفاتح في فتوحه على البحر الأسود، ففتح مملكة طربزون الرومية في سنة ١٤٦١، واحتل عدة جزر من جزائر البحر المتوسط، وكان يرمي إلى فتح جميع شبه جزيرة البلقان، وخلفه ابنه بايزيد الثاني فما حاد عن خطة التوسع فاستولى على ألبانيا وغيرها، وخرج عليه أخوه «جم» والتجأ إلى قايتباي ملك مصر والشام، فاستاء بايزيد مما عومل به أخوه في بلاد العرب، واتخذ من إيواء مصر أخاه حجة على قتال المماليك في أرجاء أذنة وشمالي الشام، كانت الغلبة في عدة وقائع للمماليك، فاستخلصوا من الترك عدة حصون، وأسروا جماعة من كبار قوادهم، وسبب هزيمة الترك أنَّ الدولة العثمانية كانت منذ عهد محمد الأول إلى أيام بايزيد الثاني تصرف قوتها في قتال أوروبا.

ثم قام تاسع سلاطينهم سليم الأول واستجاش على الشاه الصفوي صاحب العجم، فتغلب عليه في وقعة جالديران، وفتح تبريز وهمدان وأذريبجان والقوقاز، وانقلب فجأة نحو بلاد العرب ففتح في طريقه ديار بكر وما إليها، وقضى على مملكة ذي القدرية في أنحاء مرعش والبستان، وتقدم إلى الشام فالتقى بالغوري ملك مصر في مرج دابق من عمل حلب، والتحم بينهما القتال فكانت الغلبة للسلطان العثماني، وقُتل الغوري في المعركة واختفى أثره، ودخل سليم الشهباء فلقبه الخطيب في خطبة الجمعة مالك الحرمين الشريفين، فقام السلطان من محله، وتقدم إلى الخطيب بقوله: أنا أقل من أن أملك الحرمين الشريفين، ومفخرتي أن أكون لهما خادمًا.

وبهذه الوقعة الفاصلة فُتحت الشام، ومنها سار الفاتح إلى مصر برًّا فاستولى عليها، وأمن ملكها طومان باي آخر ملوك المماليك ثم قتله، وأرسل إليه شريف مكة يبذل له الطاعة، فدخلت الحجاز أيضًا في ملكه، وأضحت مملكته بهذه الأقطار التي افتُتحت توازي بمساحتها ضعفي المملكة التي فتحها أجداده الثمانية. وفي عهد ابنه سليمان القانوني عاشر ملوكهم فُتحت اليمن والحبشة والعراق وطرابلس وبرقة وتونس والجزائر والصحراء الكبرى والسودان، وبفتح العراق أصبح السلطان العثماني بحق «سلطان البرين والبحرين»، وحاول سليمان٥٣ الاستيلاء على الغرب الأقصى وأرسل إلى سلطانها اثني عشر فاتكًا من فتاكه سنة ٩٦٤ فاغتالوه، إلا أنَّ سلطان الأتراك لم ينبسط على تلك البلاد، وغاية ما في الباب أنَّ شريف مراكش اعترف بسلطان العثمانيين٥٤ (١٥٨٠م)، وعلى هذا ضُمت البلاد العربية في آسيا وإفريقية إلى السلطنة العثمانية كما كان دخل فيها بلاد الروم والأفلاق والبغدان والبلغار والبجناكية والمجر والصرب والأرناؤد والقفجاق والقرم واللاز والكرد، فتم دور الفتوح.
أعان العثمانيين على فتوحهم البحرية بعض من تطوعوا في خدمتهم من قرصان البحر،٥٥ وما كُتب قط للدولة تفوق عظيم بأساطيلها، وسارت البحرية٥٦ العثمانية بشجاعة ربابينها أكثر من سيرها بعددها ونظامها، على أنَّ السلطان سليمًا بذل جهودًا كثيرة لترقيتها، وجرى ابنه سليمان على خطته، فارتقت ارتقاءً عظيمًا على عهد سليمان بكثرة مراكبها ومدفعيتها وعدد بحارتها، ولكن الإخفاق كان حليفها أكثر من النجاح، بخلاف الجيش فإن نجاحه كان باهرًا، والتوفيق حليفه في معظم ما خاض غماره من حروب، وفي موقعة لبانتو (إينه بختي)، وفيها حاربت الدولة أساطيل إسبانيا والبندقية وجنوة بإيعاز البابا (١٥٧١م)، وفي الحروب البحرية في البحر الأسود مع روسيا، برهان على هذا الضعف البحري، ولولا أنَّ الدولة تقدمت وفتحت قطعة صالحة من مملكة بيزنطية من غربي الآستانة وفتحت مملكة طربزون على البحر الأسود، لصعب عليها استبقاء هذه العاصمة، وأوروبا لم تفتأ تتابع إرسال أساطيلها عليها لإنقاذ بيزنطية، بل لإنقاذ النصرانية من غارات العثمانيين؛ ولذلك كانت الدولة أبدًا ترعى جمهورية البندقية اتقاء أسطولها، وأصبحت في آخر أيام سليمان الأول بين جارتين عظيمتين يُخشى بأسهما، مملكة النمسا في أوروبا، والدولة الصفوية في آسيا، ولكن الدولة العثمانية أصبحت مؤلفة من ثلاثين مملكة تمتد من جون البنادقة إلى خليج فارس، ومن جبال الكاربات إلى النيل.
كان القصد من ظهور سليم الأول بمظهر جديد لم يظهر فيه أجداده، ونعني به فتح بلاد العرب الذي أكمله ابنه سليمان، جمع شمل المسلمين تحت علمٍ واحد، وإنقاذ الخلافة الإسلامية،٥٧ وكانت أصبحت ولا راعي لها، ولو ساعده الأجل لغدت معظم ممالك آسيا وإفريقية في سلطانه، ولغدت الهند وفارس وتركستان من جملة بلاده، ولاستطاع أن ينقذ أمنيته في جعل اللغة العربية لغة الدولة العثمانية الرسمية، يرضي بذلك جميع العناصر المسلمة ويؤسس مملكة إسلامية لا نظير لها، وينقذ الدولة من غوائل التطاحن مع أوروبا على الدوام، من أجل استبقاء بلاد نصرانية لا رابطة بينها وبين العثمانيين في الدين، ولا في العنصر ولا في المدنية، وكأن الترك بعد أن شبعوا من مغانم البلاد التي افتتحوها في أوروبا سمت بهم هممهم أن يتعرفوا إلى عالم آخر يعيشون بغنائمه مدة.
يقول جايار:٥٨ «كان الإسلام صريحًا في المؤاخاة بين الناس، واسع المدى في فهم معنى الحياة، بدأ به عهد جديد كان فيه للعرب وكثير من شعوب الشرق نحو عشرة قرون، مبعث نهضة ودور فلاح وعظمة وغنى، وبعد أن بلغت المدنية العربية قمة مجدها بتأثير الإسلام السعيد، وبما في تعاليمه من الفضائل، نشأت إمارة صغيرة لعثمان (عثمانجق) تألف منها في أقل من قرنين أعظم مملكة وأوسعها حولًا، امتد سلطانها في أوروبا وآسيا وإفريقية وبفضل «اده بالي» و«جاندارلي» واجتماع الفكر الإسلامي، وقوة جيش عثمان وبايزيد والفاتح وسليم فشل التحالف الذي عقدته عدة ممالك، وأسست دولة امتدت من نهر الدون وبحر أزوف إلى مدينة فينا، ومن مراكش إلى أبواب الهند حيث وضع الإسلام قواعده.»
وقال كرامر:٥٩ إنَّ الفتوح العثمانية السريعة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر لم تكن تشبه فتوح جماعة من البربر، بل كانت تحقيقًا لخطة مرسومة في أذهان عظماء الفاتحين، أمثال بايزيد الأول، ومحمد الثاني، وسليمان الأول، وبعض رجال دولتهم، وكان من أثر الفتح في تلك العصور أن انبعث طراز من المدنية ظهر في مظهره الأخير في القرن السادس عشر.

•••

كان سليم الأول أسر في وقعة مرج دابق الخليفة المتوكل العباسي الذي رافق الغوري من مصر، وكانت الخلافة العباسية انتقلت من بغداد إلى القاهرة بعد مقتل آخر ملوك بني العباس على يد هولاكو، وأمسى الخليفة العباسي في مصر، وليس له من عمل إلا أن يصادق على أعمال الملك، والملك يجري عليه ما يعيش به، دام هذا الترتيب مدة استيلاء المماليك على مصر، فحمل السلطان العثماني هذا الخليفة إلى دار ملكه في الآستانة، وكان أحد أجداد هذا الخليفة منح أحد أجداد الملك العثماني، وهو بيلديرم بايزيد، لقب سلطان، وقيل: إنَّ الخليفة العباسي نزل للسلطان العثماني عن الخلافة في جامع أياصوفيا، وقيل: إنه لم يعرض له بشيء في هذا الشأن، وقيل: إنَّ الخليفة العباسي سُجن في «يدى قله»٦٠ في ظاهر الآستانة، وإنه عاد إلى مصر بعد مهلك السلطان سليم، ولُقب السلطان التركي بلقب الخلافة منذ فتح بلاد العرب، وخفقت رايته على الحرمين الشريفين. ويقول أرنولد من علماء المشرقيات الإنجليز:٦١ إنَّ مراد الأول هو الذي لُقب بالخلافة لما فتح أدرنة وفيلبه، وإنَّ العثمانيين وغيرهم من الملوك كانوا يُخاطبون بالخلافة، وقبل أن ينقل السلطان سليم من مصر الخليفة المتوكل، كان أجداده اعتادوا منذ قرنٍ ونصف أن يُلقبوا بالخلافة، وبعد قرنين لم يبقَ في ملوك الإسلام من يستحق أن يُطلق عليه اسم الخلافة غير سلطان العثمانيين وإمبراطور المغول في الهند؛ وذلك لسعة بلادهما وامتداد سلطانهما، وادعى غيرهما هذا اللقب عن غير استحقاق، ولما سقطت دولة المغول في الهند خلال القرن الثامن عشر أصبح السلطان العثماني أعظم ملوك المسلمين في الأرض، وطلبت كاترينا الثانية في معاهدة «كوجك قينارجة»، التي عُقدت بين تركيا وروسيا أن يكون لدولة القياصرة الحق في حماية الروم الأرثوذكس في بلاد العثمانيين، فاقترح سفراء العثمانيين أن يُذكر في شروط الصلح أنَّ للخليفة العثماني الحق في حماية التتر المسلمين. قال: وقد كثر بعد ذلك التلقب بالخلافة، والظاهر أنَّ عبد الحميد الثاني أرسل دعاة إلى العالم الإسلامي يوطدون له الدعوة إلى الخلافة.
وبينا كانت الشعوب النصرانية إلى آخر القرون الوسطى لا يفتحون بلادهم إلا لمن انتحلوا النصرانية، كان العثمانيون يرعون النصارى في بلادهم، عملًا بطريقة الدول الإسلامية التي تقدمتهم، بيد أنَّ آل عثمان عملوا على نشر الإسلام منذ عهد أورخان؛ ليكثروا سواد المسلمين في بلادهم، ولاسيما في الولايات الأوربية، فكانوا إذا أسروا أولاد النصارى من البجناكية والروم والصرب والبلغار والألبان يربونهم تربية إسلامية، ثم يجندونهم في جيش الإنكشارية،٦٢ ولا يتعرضون لأبناء الروم والأرمن من سكان ساقز ورودس. وانتشر الإسلام في رومانيا وبلغاريا وألبانيا وصربيا واليونان بقبائل من التتر أنزلتهم الدولة في معسكرات أنشأتها في قواعد البلاد الكبرى، أو في الحصون المشهورة، على نحو ما فعل محمد الثاني فأنشأ (سنة ١٤٦٦م) في إيلبصان من بلاد الأرناؤد مستعمرة إسلامية كبرى، وانتشر الإسلام في بلاد الصرب والخروات بعد وقعة قوصوة بإسكان قبائل تركية رحالة فيها، وبطبقات من الجند المسلم رابطت في بلغراد.
ولما فُتحت ألبانيا هاجر من أهلها إلى صقلية وقلورية والبندقية وجنوة ومرسيلية وإسبانيا بضع مئات الألوف من أهلها، وما لبث أن أسلم ثلثا الباقي من أهل البلاد، لما رأوا زعماءهم ومقدميهم يسارعون إلى الإسلام. ولما فُتحت البوسنة والهرسك الفتح الأخير على عهد محمد الثاني٦٣ دخل نصف أهلها في الإسلام، وقيل: إنَّ الإسلام دخل ألبانيا وتراكيا ومقدونية حتى بلغ أوخريدة على يد درويش تتري اسمه «صاري صالتق» من تلاميذ رجل من الصلحاء اسمه حاجي بكتاش، وانتشر الإسلام في بسارابيا ودوبرويجة وفي المجر. ومنذ القرن السادس من الهجرة٦٤ كان في بلاد الهنكر أو هنغاريا أو المجر طوائف من المسلمين أسلموا على أيدي أناس من مسلمي بلغاريا سكنوا بينهم.
لا جرم أنَّ العثمانيين بذلوا جهودًا غير قليلة في ولاياتهم الأوربية لنشر الإسلام بطرق من الدعاية يجيزها الدين، ولا تخالف أصلًا من أصول حرية الأديان، فمزجوا السكان بجاليات كثيرة من التتر استدعوهم من بلاد الترك في آسيا، وسهلوا لهم سبل الهجرة والاستيطان. ودولة حكمت بلادًا بضعة قرون لا بد أن تبقي فيها أثرًا من دينها وعاداتها ولغتها، وكان هذا الأثر ضئيلًا في المجريين والرومانيين والصربيين، وكثيرًا في الألبانيين والبجناكيين والبلغاريين. يقول لاموش:٦٥ إنَّ الأتراك ليسوا متعصبين في ذاتهم، إن لم تهجهم أمور خارجية أو يأتهم أمر صادر من مقام سامٍ، وإذا بدا في تضاعيف تاريخهم أنهم ارتكبوا فظائع ومذابح، فهذا كان للاستيلاء على بعض الحصون خلال حروبهم، أو عندما كانوا يريدون قمع ثورة، أو يحاولون انتقامًا عن فظائع يقابلون بها خصومهم بالمثل، ويندر جدًّا إكراه العثمانيين أحدًا من النصارى على انتحال الإسلام؛ ذلك لأن المسلمين أدركوا أنَّ إخراج غير المسلمين إلى دين الإسلام مخالف لمصلحتهم، فيقل عديد من يؤدون الجزية فيضمحل العاملون الخاضعون لإرادتهم، وبدافع نفسي وقع إسلام جماعات كثيرة من أهل البوسنة وألبانيا وإقريطش، رأوا التمذهب بالإسلام من مصلحتهم، ودان الأشراف وأرباب الأملاك الكبرى ممن أصبحوا «بكوات» فيما بعد، دين الفاتح، وجاراهم أتباعهم في هذا الشأن للاحتفاظ بأملاكهم وامتيازاتهم، وقد أدرك محمد الثاني بما رُزق من بعد نظر في السياسة أنَّ الواجب رعاية النصارى وإدخالهم في أعمال الدولة بقدر ما تسمح به الشريعة الإسلامية، ولم يبقَ من جميع أوضاع الإمبراطورية الشرقية الرومية غير أوضاع رجال الدين يتمتعون بمراتبهم وتراتيبهم، وجعل بطريرك الآستانة مرجعًا للروم في بلاده. ا.ﻫ.
وبعد، فلم يخرج العثمانيون في معاملتهم غير أبناء مذهبهم عن حد ما رسمته الشريعة الإسلامية، وما كان الحكم التركي الذي امتد ظله إلى المجر ظالمًا ولا قاسيًا كما قال كستلو:٦٦ فقد كان العثمانيون يرعون أديان الشعوب المحكومة ويحترمون عاداتها، وظلت تركيا متمسكة بهذه القاعدة إلى القرن العشرين، وما تعمدت قط أن تتمثل العناصر، بل اكتفت بإدارتهم وفرض الضرائب عليهم. قال: ورأينا الشعوب التي خضعت لحكم السلطنة أضاعت قوميتها، وكانت مع هذا أيام استبعادها أسعد حالًا من العصور المضطربة المحاربة أيام استقلالها، وربما لم تربح إلى اليوم من هذا التبدل في الحكم، وهم على كل حال يتألف منهم خطر دائم على أوروبا، وقد خلفت المسألة البلقانية المسألة الشرقية من دون ما فائدة تعود على راحة الغرب. ا.ﻫ.
لم يصل تتريك العناصر التي خضعت لسلطان العثمانيين في البلاد الأوربية إلى أكثر مما بلغه في بلاد العرب، ورأينا أرمن الأناضول تركوا لسانهم وأصبحت التركية لغتهم الوطنية، فسطت اللغة التركية على الأرمن النازلين في السهول؛ لامتزاجهم بالترك منذ عهد السلجوقيين، وسلمت لسكان الجبال في إرمينية لغتهم بعض السلامة، وتترك٦٧ الروم العثمانيون كالأرمن، وتترك أرمن الآستانة في كل مظاهرهم وعاداتهم، حتى ما يميزون عن الأتراك، ولذلك كان غلاة القومية التركية يفضلون الأرمن على العرب المسلمين؛ لأن هؤلاء عصوا على التترك.

استفاد الترك من اتخاذ مدينة القسطنطينية عاصمة لملكهم مدنية جديدة، أخذوا يتقلبون في أوضاعهم؛ ولكنهم أضاعوا بعض صفاتهم في التمسك والتقشف، وكان إليهما يُنسب أكثر نجاحهم ونجاح كثير من الدول التي قامت في المشرق؛ ذلك لأن بيئة فَروق وبيئة بالترف، مذ كان الروم سلاطينها، فهي جنة حُفت بالشهوات، ومن الصعب أن يسلم نازلها من عوامل الافتتان، وإذا قُدر له أن يحتفظ بعاداته ومتانته، فأولاده أو أحفاده يتخلقون بأخلاق البلد الذي نشئوا فيه لا محالة، وقد تبدلت أخلاق العثمانيين باختلاطهم بعناصر غير شرقية، فأصبحت حياتهم تتطلب مطالب جديدة، واعتبر سلاطين آل عثمان أنفسهم ورثاء إمبراطرة بيزنطية فأخذوا بمصطلحاتهم وبكثير من عاداتهم، وتجافوا عن بعض ما كان لهم من عادات، وبخاصة ما كانت تتجلى به أبهة السلطان وبذخه وعزه في مواكبه وقصوره. يقول «أوهسون»: إنه لم يكن يقل عدد من في القصر السلطاني في آخر القرن الثامن عشر عن اثني عشر ألف رجل، فيهم الضابط والخصي الأبيض والأسود والغلام والحاجب وغيرهم.

كان مراد الأول أول ملك عثماني٦٨ رقيت في أيامه المملكة التي وضع عثمان أساسها إلى مستوى أرقى من مستوى إمارة تركمانية؛ أي من الطراز الذي كانت عليه تلك الإمارات في آسيا الصغرى، وكان على جانب من التدين والعدل، وكذلك كان مراد الثاني (٨٥٥ﻫ) وقد وصفه مؤرخو بيزنطية٦٩ وغيرهم من مؤرخي النصارى بأنه ملكٌ عادلٌ حليم، جاءه العلماء من العراق وفارس فانضموا إلى جملته، وأدخلوا في الآداب التركية روحًا جديدًا، وكان أول سلطان عثماني جعل بلاطه مثابةً للشعراء والأدباء والعلماء من المسلمين، وعلى ذلك جرى خلفاؤه ولا سيما محمد الفاتح، فإنه فتح أبواب عاصمته للعلماء والأدباء، يستدعيهم من الأقطار لنشر الثقافة الإسلامية، وكان سليم الأول يحسن عدة لغات، وينظم الشعر بالتركية والعربية والفارسية، وكذلك ابنه سليمان أدرك ما بدأ من تباشير النهضة الغربية الحديثة في إيطاليا وفكر في الاشتراك بها. ويقول «روبرتسون»: إنَّ السلطان سليمان فاق سلاطين الدولة العثمانية بخصاله الحميدة الجليلة ومشروعاته العظيمة وفاقهم أيضًا بنجاحه وظفره بأعدائه، قال: وكفى عصره فخرًا أن ظهر فيه أعظم الملوك الذين ظهروا إلى ذلك العهد في أوروبا، ولو كان السلطان سليمان، والبابا ليون العاشر، والإمبراطور شارلكان، والملك فرنسيس الأول، والملك هنري الثامن قد ظهروا في أعصر مختلفة، لكانت معارف كل واحدٍ منهم تكفي العصر فخارًا، فما بالك وقد ظهروا كلهم كالكواكب الساطعة في القرن السادس عشر، فكان لهذا القرن من الرونق والبهجة ما لم يسبق لغيره من القرون. ا.ﻫ. وكانت لمعظم السلاطين ثقافة شرقية يشاركون في مسائل كثيرة ويثقفون في قصورهم ثقافة دينية وسياسية.

•••

أخذ الضعف يتسرب إلى الدولة في النصف الأخير من أيام سليمان القانوني الطويلة، وقال بعضهم: إنَّ عهد الانحطاط بدأ في دور محمد الثالث (١٠١٢ﻫ) على كثرة ما وفِّق إليه من الفتوح، وعلى ما كان من تعلقه بأحكام الشريعة ومعاقبته على المسكر وتضييقه على الحانات، ومنذ وفاة سليمان القانوني٧٠ (١٥٦٦م) إلى تولي سليم الثالث (١٧٨٧م) الذي حاول إدخال الإصلاح على الدولة، لا نحصي من سبعة عشر سلطانًا سوى محمد الثالث، ومراد الرابع، ومصطفى الثالث كانوا على صفات تؤهلهم للحكومة والسلطنة، وإن كان من هؤلاء الثلاثة من فُطر على قسوةٍ ظاهرة، فقد قتل مراد الرابع صدرين أعظمين خسرو ورجب وكانا من عظماء رجال الدولة، بدون سببٍ معقول، وربما كان هو وبعض آله يقتلون حبًّا بالقتل، واتفق أن اعتبط بعض من كان يُرجى منهم الخير للملكة من السلاطين، وكثير منهم كانوا أطفالًا عندما جلسوا في دست السلطنة، فما كانت سن أحمد الأول وعثمان الثاني أكثر من أربع عشرة سنة، عندما بويعا بالسلطنة، وكان عمر مراد يوم مبايعته اثنتي عشرة سنة، وكان لمحمد الرابع سبع سنين، دع من كان من هؤلاء السلاطين أغبياء، ومثل هذه الطبقة من الملوك تسهل الحكم للنساء والندماء فتقع الفوضى في الجيش، وقد تجلى انحطاط الدولة في القرن الثامن عشر، وإن كُتب لها أن ظفرت بالروس في حرب سنة ١٧١١ و١٧٣٢م.
ولعله يُعد من الأسباب الجوهرية في الانحطاط تغير الدم السلطاني في آل عثمان تغيرًا كبيرًا؛ لكثرة٧١ ما اقتنوا من السراري والجواري النصرانيات، فكان سليم الثاني نصف روسي؛ لأن أمه روسية، ومحمد الثالث نصف بندقي؛ لأن أمة بندقية، وعثمان الثاني ومراد الرابع وإبراهيم الأول أنصاف أروام؛ لأن أمهاتهم روميات، وكثر عدد من تولوا أعمال السلطنة ممن دانوا بالإسلام من نصارى الروم والألبان والصرب والبلغار. وعلى عهد سليم الثاني كان من ثمانية رجال تولوا الصدارة العظمى ستة من المهتدين إلى الإسلام حديثًا، فيهم الجنوي والبجناكي واليوناني والروسي، وكان في المناصب العالية الطلياني والمجري وغيرهما. أصاب العثمانيين في العصور الحديثة ما أصاب العباسيين في العصور الوسطى من تغير الدم العربي فيهم، لما غلوا في الاستكثار من اقتناء الجواري الروميات والفارسيات يستولدونهم أبناء الخلفاء، وبذلك كثر الهجناء وقل الصرحاء.
ويرى مؤرخو الإفرنج أنه جاء من سلاطين آل عثمان منذ القرن الخامس عشر إلى القرن السادس عشر من كانوا عظماء حقًّا، وأنَّ سليمان القانوني كان من طرازهم، لكن خلفاءه استرسلوا في الرذائل والشهوات، فكان سليم الثاني شريبًا خميرًا فلُقب بسليم السكير، وكان مراد الثالث قاتل إخوته الذي قتل ثلاثة عشر أخًا له وعشر نساء حاملات من أبيه، محفوفًا بالندماء والنساء يتأثر بمؤثراتهم، وحاول مراد الرابع وكان نشيطًا حازمًا، أن يقي المملكة من السقوط السريع فلم يفلح.٧٢ وكان ضعف السلطنة محسوسًا على عهد أحمد الأول ومصطفى الأول وعثمان الثاني.
كان مصطفى الأول المعروف بالأبله مجنونًا، وكان مراد الثالث مظهرًا من مظاهر٧٣ الإفراط في كل شيء، ولا سيما في الاسترسال إلى شهواته وفي إدارة الإقطاعات، وفي أيامه ثار الإنكشارية لأول مرة على الديوان العالي، ويمكن أن يُعد عهده عهد الضعف الداخلي في العثمانيين، وقد أعانته أمه وامرأته صفية على شهواته وخلف ١١٨ ولدًا. وكذلك كان السلطان أحمد قتيل الغواني والكئوس، وكذلك إبراهيم الأول الذي أخجل بني عثمان بتهتكه وسوء سيرته، قيل: إنه قتل مائة ألف إنسان، منهم خمسة وعشرون ألفًا بنفسه وأمام عينه، وأوقد ثورة في آسيا الصغرى؛ لأنه أراد أن يغتصب زوجة أحد العظماء لجمالها، وكان يبني كل أسبوع ببكر، وتُقام له الأفراح، ثم ضعفت أعصابه فأخذوا يصفون له المقويات، قال أبو الفاروق٧٤ عند كلامه على السلطان مصطفى وكيف انقطع في قصره عن العالم، وحصر وكده في شهواته: لقد تفرد آل عثمان من القديم بغلبة الشهوات عليهم، وقد وقع لمراد الثالث عارض فأخذ أهل القصر السلطاني يتعلمون أدوية الباه من الشرق والغرب وهو يسيء استعمالها.

وأكد بعض مؤرخي الترك أنَّ من ملوكهم المتأخرين بعد الفاتحين العشرة كانوا على غباءٍ محسوس وإسرافٍ على النفس، لا يحفلون بأمور الدولة والناس، ومنهم من كانوا يعتقدون بالطالع ويخافون من صرعات الجن، ويقربون من يزعم من المشايخ أنهم يتسلطون عليها ويشفون من أمراضها، وكان «جنجي خوجه» يدعي معرفة ذلك، ويبيع المناصب العلمية بالرشاوى (١٠٥٨). على أنَّ بعض المداهنين من المؤرخين ولا سيما المؤرخون الرسميون، لم يتحرجوا من أن يطلقوا على بعضهم صفات التمجيد وسكتوا عما وقع ورأوه فلم يدونوه جبنًا ورياءً، وأغمضوا عن مساوئ لمن دونوا أعمالهم مما تعدى ضرره إلى الملك فوهت أركانه، وسارت البلاد إلى الانحلال بخطًى سريعة، وبقي الشؤم ملازمًا لها منذ ظهر أولئك السلاطين الماجنون المتجننون.

وأجمع مؤرخوهم أنَّ بايزيد الثاني كان من السفاهة على جانب عظيم، فانتشرت المفاسد والمنكرات في أيامه في كل مكان بين الخاص والعام، ونسوا الشرع وعبثوا بأحكام الدين، وكانت تُحمل إلى قصر بايزيد أجمل الفتيات والفتيان من كل أرض، كما تُحمل إليه أطيب المسكرات وألطف المغنين والمغنيات والموسيقيين والموسيقيات والمهرجين والمساخر، ولا شأن للكبراء، وفي طليعتهم صدره الأعظم، إلا أن يأتوه بما ترغب فيه نفسه من الجواري والغلمان.

ومن أهم العوامل في تراجع أمور السلطنة أنَّ ملوكها بعد أن كانوا ينزلون إلى ساحات الوغى بأنفسهم،٧٥ وكثير منهم ماتوا في الغزو أو في طريق الغزو، أخذوا يعيشون عيش الترف، وثلاثة فقط من ثمانية ملوك ممن حكموا بعد سليمان القانوني حضروا الحروب بأنفسهم. ولما بويع الأطفال بالسلطنة غدا الوزراء والنساء يدبرون شئون الدولة، وأصبح أولاد السلاطين بعد أن كانوا يقودون الجيوش إلى ميادين الحرب، ويدبرون الولايات والإيالات، بعيدين عن حياة العمل ومعاناة السياسة، وكان آخر من دُعي إلى تولي السلطنة وهو يدير الولايات سليم الثاني ومحمد الثالث. وغدا أولياء العهد بعد ذلك يربون في حجور الخصيان والنسوان، منعزلين عن الناس في قصورهم، يعيشون في جو كله نعيم وفتنة، وكان من أثر هذه التربية ألا يظهر أولياء العهد بعد توليهم زمام السلطنة لأحدٍ من الناس، ولا يقيمون العدل ولا يراقبون وزراءهم وحكامهم، وطفق بعض أولياء العهد يشق عصا الطاعة على السلطنة، وعجز السلطان عن مراقبة وزرائه؛ لأنه لم يحسن انتخابهم، ويكون اختيارهم بتأثيرات الموالي والعبيد والنساء، والوزير نفسه عبد من نصبوه.
كان الملك على الأكثر يختار عماله من مماليكه وعبيده، ومنهم البستاني والآذن وحارس الكلاب وسائس الدواب وغلام الحمام، أو من ندمائه ومداحه وخدامه، يدخلون في الإسلام فيكون منهم قواده وولاته ووزراؤه، وإذا رجعنا إلى أصول الصدور العظام٧٦ نشهد أنَّ اثني عشر منهم فقط من ثمانية وأربعين صدرًا كانوا من أصول إسلامية، وباقيهم من أصل رومي وبجناكي وألباني، ممن رأوا في انتحال الإسلام مصلحةً لهم، فدخلوا في الجيش واستأثروا بالإقطاعات. ولقد قال وزير المال يومًا وهو عائد من مجلس الوزراء، وكانت جمهرته من العبدان والمماليك: «أنا آتٍ من سوق العبيد.» وما كان السلاطين أنفسهم غير أبناء إماء تتلاعب بهم أمهاتهم وزوجاتهم في كثيرٍ من الأمور، ويعبثن بأمور الدولة والملة، يقتلن من يرين قتله من أولاد السلاطين، ويبقين على من يشأن، وينصبن الصدور والوزراء والقواد والولاة والمتصرفين، ويستأثرن بأموال الدولة، وكانت تُجبى لإحدى الحظايا جباية الشام كلها لنفقتها وبذخها، وهي السابعة من نساء إبراهيم الأول الذي ارتأى مرةً أنَّ الخزانة نضبت أموالها، فلا يسد العجز فيها إلا المجوهرات التي أهداها أجداده للحرمين، فقال الصدر الأعظم لما سمع بعزم السلطان: لقد سقطت الدولة إلى هذه الدركة بفيلق من الجواري الناقصات من بنات الروس والبولونين والمجريين والفرنسيين، وإبراهيم الأول هو الذي قرر أن يقتل عامة النصارى في مملكته، ولم يقنعه شيخ الإسلام بالعدول عن هذا الرأي إلا لما قال له: إنَّ في قتلهم نقص واردات السلطنة، وإنَّ الجباية تخف إذا قُتل في العاصمة مائتا ألف إنسان.

•••

لما حارب سليم الأول شاه العجم قتل في حدود بلاده أربعين ألف شيعي، فأصبحت للمسلمين دولتان: إحداهما سنية والأخرى شيعية، وكلمة الأولى أنفذ ومكانتها بين الدول أعظم؛ ذلك لأنها تحكم الأماكن المطهرة، وهي أوسع مجالًا وأكثر رجالًا، ومن أجل هذا كانت الدولة العثمانية أبدًا عرضةً لضربات الغربيين على بلادها، لما كانوا يخافون من امتداد سلطانها في الغرب منذ وطئت أقدام جندها قارة أوروبا، فانتبه الغرب بما أُنذر به من غارات العثمانيين على شعوب البلقان، وما أحرزوه من النصر في أكثر وقائعهم، وأيقنوا أنَّ الأتراك إذا تم لهم الاستقرار في البلقان وما إليه، لا يلبثون أن يصلوا إلى غربي أوروبا وشمالها، وهناك الطامة العظمى على دول النصرانية، بل على كنيسة رومية نفسها. واشتد هذا الخوف من العثمانيين لما رأوهم فتحوا بلاد المجر وحكموها مائة وخمسين سنة، وهددوا فينا غير مرة، وكانت وقعة سان جوتار أعظم قتال ظفر فيه النصارى بالترك، لم يُعهد لهم مثله منذ ثلاثمائة سنة على رواية هامر.

كان ملوك أوروبا والباباوات في مقدمتهم، يجمعون شمل الغربيين كلما وهى؛ ليقاوموا تقدم التيار التركي، وما تم لهم التوفيق أو شيءٌ يشبه التوفيق أمام سطوة الدولة لعهد قرنين من تأسيسها، وما حاد الباباوات في إهاجة شعوب النصرانية على الإسلام، عن الخطة التي اختطوها في المقاومة منذ فتح العرب بلاد الأندلس، إلى الحروب الصليبية، إلى ظهور الدولة العثمانية. تساقطت الضربات الصليبية على الإسلام قرونًا، وكان الأتراك آخر من كُتب لهم أن يضربوا ويُضربوا قرونًا بعد ذلك كثيرة.

كانت الحروب سجالًا بين العثمانيين ومن أرادوا غزوهم، ولكن الغلبة الأخيرة كانت أبدًا إلى جانب العثمانيين، وكان العثمانيون يفشلون في بعض حروبهم مع أمراء البلقان وغيرهم لبعد المسافات؛ لأن من الحروب ما يشهرها قوادهم على الحدود لضرورة حافزة، دون أن يستعدوا لها أو يستعينوا بجيشٍ كبير يأتيهم من أنحاء السلطنة، فقد فتح قواد الحدود ألبانيا والمورة من دون أمرٍ أتاهم من السلطان؛ لأنه كان لهم الحق إذا رأوا غِرَّة أن يهاجموا من في جوارهم ويفتحوا بلادهم بدون أمر السلطان؛ أي كان لهم الحق والحرية في أعمالهم؛ لأن للتأخير آفات والبلاد مترامية الأطراف.

فقد فتح الفاتح مثلًا بلاد آل قرمان في آسيا الصغرى بعد حرب أربع سنين، وما ضُمت تلك الإمارة إلى الملك العثماني إلا بعد أن حاربها العثمانيون عشر مرات في مدة مائةٍ وست وستين سنة. وقد صمد العرب في سواحل الحجاز واليمن لحرب البرتقاليين، لما جاءوا مستعمرين أواخر عهد المماليك المصريين، وأوائل حكم العثمانيين، يقصدون الهند وما إليها، فرد الشريف أبو نمى أمير مكة جيش البرتقاليين عن جدة، ورد غيره من الأمراء والشيوخ غارات كثيرة من مثل هذه على أرضهم الداخلة في سلطان العثمانيين، وكانت حروبهم مع البرتقاليين يومًا لهم ويومًا عليهم؛ وذلك لبعد الشقة؛ ولأن الدولة تكاد تحصر جهودها في استبقاء أملاكها في أوروبا.

تعذر على دول الغرب أن يقضين على سلطان العثمانيين، ولكن هؤلاء بلُوا بدولة واحدة تكفي حروبها للقضاء على الدولة العثمانية، ونعني بها دولة قياصرة روسيا، فكانت واقفةً لهم بالمرصاد منذ ضرب الجيش السوري بلاد القرم (سنة ١٥٥٩م)، وكان خان القرم من عمال السلطنة وأهل بلاده من عنصر تتري إسلامي، وزادت غزوات الروس على الترك العثمانيين بقيام بطرس الأكبر، وكان هذا يفكر منذ صغره بعقد تحالف نصراني؛٧٧ لطرد الأتراك من أوروبا، وأوصى دولته ألا تغفل عن حرب الترك، لتنزع الآستانة وبيت المقدس من سلطتها، وفي معظم الحروب التي شهرتها روسيا على تركيا كان الظفر حليف الروس؛ لأن روسيا كانت منذ عهد مصلحها بطرس الأكبر تنظم جيشها بالنظام الأوربي الحديث، والعثمانيون ناموا على ما كان لجيشهم من قوةٍ وسمعة، يغرهم عدده، ولا يعبئون كثيرًا بتنظيمه وعُدده، فقد رأينا بطرس الأكبر يرد بأربعين ألفًا٧٨ جيشًا من الترك مؤلفًا من مائتي ألف على نهر بروت، ورأينا روسيا أيضًا في سنة ١٧٦٨ تقضي بسبعة عشر ألف جندي على جيشٍ تركي لا يقل عن مائة وخمسين ألفًا، والدول إذا أقبلت كثرت العدة وإن أقلت العدد، وإذا أدبرت كثرت العدد وأقلت العدة.
ظهرت منذ القرن الخامس٧٩ عشر في عالم السياسة الأوربية مسألة سموها «المسألة الشرقية»، ومعناها اتقاء الخطر الذي داهم أوروبا من زحف العثمانيين عليها، وتغير وجه هذه المسألة منذ بداية القرن الثامن عشر، فلم تكن المسألة الشرقية مسألة اتقاء خطر، بل كانت مسألة الإبقاء على الأتراك العثمانيين، أو تقسيم بلادهم تبعًا لتفاوت الدول في المنزلة والمصلحة، ومنذ سنة ١٨١٥ كان همُّ رجال السياسة الأوربية أبدًا معالجة المسألة الشرقية، وهي تُعرض كل مرة في شكلٍ غير شكلها، وبعد أن كان النساء في الغرب إذا أردن تخويف أولادهن قلن لهم: «جاء سليمان القانوني» أصبحت أوروبا في القرن التاسع عشر تطلق على المملكة العثمانية كلها وعلى سلطانها اسم «الرجل المريض». وحقيقة إنَّ السلطنة كانت مصابة منذ قرنين بمرضٍ داخلي وخارجي، والسبب في هذه التسمية أنَّ إنجلترا وروسيا عقبى حرب القرم سنة ١٨٥٣ كانتا تطلقان هذا الاسم أثناء المفاوضات السياسية على الدولة، وروسيا تقترح اتخاذ الأسباب لتقسيم إرث الدولة التركية، وإنجلترا تجيب: إنَّ الأوفق أن يُبذل الجهد في شفاء هذا الرجل المريض.

أمست الدولة العثمانية بعد ضعفها لا تكفي غائلة دولةٍ من دول الغرب، إلا إذا استعانت بأخرى عليها، وهذا قلما وقع، ولا تنتفع إلا من انقسامات الدول العظمى، فإذا اتفقت مصلحتها ومصلحة إحداهن ترتاح زمنًا من المشاكل والغوائل في بلادها، ففائدتها كانت إذًا في تخالف الدول، وتباين أغراضهن فقط، وكانت أيام شبابها تنال من دول أوروبا مجتمعات ومنفردات، ولقد قال بعض الباحثين: إن علائق الدولة في القرن الثامن عشر أصبحت ودية مع دول الغرب، ولا سيما مع إنجلترا وفرنسا وهولاندة والسويد والدانيمرك، فكن يتوسطن لها في مسائل الصلح، وكان لفرنسا من ذلك قسط عظيم، وذلك بعد أن أخذت من الدولة عهدًا بامتيازاتها الأجنبية (١٧٤٠م)، وأخذت تحمي الرعايا الكاثوليك في الأرض العثمانية، وقد تعاقدت الدولة بعدُ تعاقدًا يشبه الامتيازات الأجنبية مع الولايات المتحدة والبلجيك والبرتقال وإسبانيا.

ولم ترَ الدولة في سياستها الداخلية أسهل من إلقاء الفتنة بين العناصر غير التركية على الدوام، تضرب العربي بالتركي، والأرمني بالكردي، والصربي بالأرناؤدي، والرومي بالكاثوليكي، والمسلم بالنصراني، والفرق الإسلامية المختلفة بأهل السنة، فكانت حروبها الداخلية أيام ضعفها حروب عناصر وشغب بين أبناء الوطن الواحد، وحروبها الخارجية مع دول قوية كالنمسا وروسيا والبندقية، وتروج سياسة التفرقة أيام الأزمات السياسية، ويتجاهر أهل الدولة في الدعاية إليها، وتحريك العرق الحساس في الغوغاء من الناس.

أرادت الدولة يوم ثورة المورة أن تنتقم من الروم في مملكتها؛ لأن أبناء دينهم في الأرض الأوربية هبوا يطالبون باستقلالهم، فأوعزت إلى والي دمشق أن يقتل المسلمون جميع نصارى الشام من طائفة الروم الأرثوذكس، فاستشار الوالي أعيان دمشق، فأشاروا عليه أن يكتب إلى العاصمة أن ليس في البلاد خائن، وأنَّ النصارى عبيد السلطنة يؤدون الجزية، وبذلك نجا نحو خمسين ألفًا من القتل. ولما أرادت الدولة أن توطد حكمها في الشام أثارت الدروز على النصارى في لبنان، وأهاجت غوغاء المسلمين والدروز على نصارى دمشق وما إليها، وتدخلت الدول في الأمر فحكمت المحكمة العسكرية على بضع مئاتٍ من المسلمين بالقتل والنفي وغرمت الأهلين غرامات فاحشة، وما عاقبت الدروز على أعمالهم في الثورة الأهلية لحماية إنجلترا لهم.

كان من تخالف الرعايا في المذهب، وتباينهم في الأخذ بحظٍ من المدنية، سلسلة من المصائب لا تنتهي إلى حد، وفي ألفاظ التحقير والملق التي كانت تطلقها الدولة في بعض رسائلها الرسمية على غير المسلمين، وفي ألقاب العبودية العجيبة التي تلقب بها موظفيها،٨٠ وتطلقها على سفراء الدول حتى القرن السابع عشر؛ في كل هذا دليل على ذاك الروح الذي تريد الدولة بثه في الناس، وهو روح التعصب والتقزز من كل مخالف، ومثل هذه السياسة العوجاء يُكتب لها النفاق كثيرًا في بلادٍ ضمت أرجاؤها عشرين نحلة ومذهبًا، وأهلها متأخرون في سلم المدنية، وما كان للعقلاء سلطان على أحد لوضع حد لهذا التهور، مخافة ألا تقع نصائحهم موقع الرضا من نفوس السياسيين، ولولا أن حض الإسلام على حماية أهل الذمة، ووصى بهم أحسن توصية، لاضمحل غير المسلمين في كل بلد كانت كثرته الغامرة منهم، ورأينا الغرم في كل فتنة أهلية على السكان، والغنم للدولة على الأكثر.
وفيما عامل به النصارى في البلقان جمهور المسلمين، لما كانت تكتب لهم الغلبة على الدولة، من ضروب الإفناء، وهتك الأعراض وتدمير العروض، برهانٌ جلي على ما كانت تكنه صدور النصارى من الأحقاد على المسلمين؛ بسبب أولئك العمال الذين كانوا يصدعون بأمر ساسة الآستانة، لا يقاد جذوة التعصب بين الطوائف، وما كانت هذه السياسة بالتي تخفى على رجال السياسة في أوروبا، بيد أنَّ الدولة في مؤخر أيامها كانت تسكت الدول النصرانية بإرشاء القويات منهن بامتيازات، تُصان فيها حقوق غير المسلمين أكثر من المسلمين، وهناك رؤساء دين يمتون إلى إحدى الدول العظمى بحق المذهب، ودالة الحسب والنسبة، فطائفة تنتمي إلى روسيا، وأخرى إلى إنجلترا، وغيرها لفرنسا، والمسلمون من بين عناصر السلطنة، ولا سيما العرب منهم، كانوا أشبه بالمنومين أو المخدرين باسم الدين، كأنه لا جناح على الدولة أن تظلمهم؛ لأنهم عبيدها، وكان علماء بغداد لما وافاها التتر أفتوا أنَّ الدولة الكافرة العادلة خير من الدولة المسلمة الظالمة، كانت الدولة في أيام عزها إذا أتاها أحد سفراء الأجانب أيًّا كان يحمل إلى السلطان وإلى وزرائه الهدايا الفاخرة، فلما تراجع أمرها أخذت هي تلطف لأكثر وكلاء الدول وتهاديهم وتتاحفهم، وتتساهل معهم ومع رعاياهم، حتى لقد اعترف ريشاروود٨١ الإنجليزي أنَّ الكنائس كثر عددها جدًّا في بلاد السلطنة، خصوصًا ما كان منها للأجانب، وبرهن على تساهل الدولة العثمانية بإعفائها كل ما يرد إلى بلادها برسم الكنائس والأديار والمستشفيات وغيرها من الضريبة الجمركية، سواءً كان أثاثًا أو لباسًا أو كتبًا أو آلات أو طعامًا أو غيرها. قال وهذا الأمر لا نعلم أنه يوجد في بلادٍ أخرى، وفي الامتيازات الأجنبية من البلاء وغمط حقوق الوطنيين والإغضاء عن ريع الدولة ما لا ينكره عاقل.

•••

زاد في القرن التاسع عشر تدخل الدول العظمى في أمور السلطنة، بطرق سياسية خفيفة الملمس في الظاهر خشنة عند التنفيذ، وما أخذ الملوك فيه من عنان استبدادهم وشهواتهم، ولا حدثتهم أنفسهم أن يدخلوا إصلاحًا حقيقيًّا على أوضاع السلطنة التي صارت إلى البلى، وكانت تتذرع بالمحافظة على الظواهر الصورية، أكثر من التشبث بالجد والعمل النافع، مثال ذلك الجيش حامي حمى المملكة في داخلها وخارجها، فإنه كان أيضًا صوريًّا، فبعد أن قضى محمود الثاني على جيش الإنكشارية الذي كاد يودي بالدولة إلى الاضمحلال، لم يستطع أن ينظم جيشًا يصلح حقيقةً للدفاع والهجوم؛ لأن روح الدولة قام بالفوضى، فصعب عليها أن تعمد إلى النظام، وأرادت من جيشها الجديد أن تتبع فيه أيضًا سياسة إرضاء الغربي، فكان جيشًا غريبًا في تكوينه اسمه النظامي فقط، وهو الفوضى بعينها في تركيبه وتدبيره وتهذيبه، وصفه أحد مدربيه الضابط مولتكه الألماني بقوله: إنه كان على مثال الجيوش الأوربية ولكن معاطفه روسية،٨٢ ونظامه فرنسي، وبنادقه بلجيكية، وعمائم أفراده تركية، وسروجه مجرية، وسيوفه إنجليزية، ومعلميه من كل أمة، وهو مؤلف من جماعة الاحتياط ممن لا حد لخدمتهم، ورؤساؤه من المجندين آنفًا، ومنهم من كانوا بالأمس أعداء، وكأنه مجموعة عناصر ومدنيات.
وهذا الجيش العجيب التركيب هو الذي انهزم المرة بعد المرة أمام جيش محمد علي والي مصر، فتقدم واستولى على الشام وقيلقية، ووصل إلى كوتاهية في صميم أرض آسيا الصغرى، وهدد دار الملك، وأثبت أنَّ قوة الدولة كانت ورمًا لا شحمًا، وأن دعوى قوتها خيال أكثر مما هي حقيقةً، وأي غضاضة على الدولة أن ينهزم جيشها أمام أحد ولاتها، حتى اضطرت أن تعقد مع روسيا معاهدة «خنكار اسكله سي»؛ لتدفع عنها بأس أحد عمالها، فتنجدها باثني عشر ألف جندي؛ لتحميها في عُقر دارها من جيش محمد علي وابنه إبراهيم. وأي ضعفٍ أفظع من أن يقوم تركي من ولاة الدولة في طرابلس الغرب (١١٢٣ﻫ) اسمه أحمد قره مانلي، ويبايع له بإمارة طرابلس على عادة الولاة فيها أيام العثمانيين، ويُسمى بأمير المؤمنين،٨٣ ويستقل وآله بطرابلس قرنًا وربعًا (١٧١١ إلى ١٨٣٥) بمالٍ دفعه إلى أحمد الثالث،٨٤ ولا ينتهي حكمه في ذاك القطر إلا بإيعاز إنجلترا للدولة سرًّا أن تتقدم إلى إرجاع سلطتها على تلك الولاية. وكانت إنجلترا عقدت مع ذاك المتغلب — الذي أُطلق عليه أو أطلق على نفسه لقب أمير المؤمنين في بلاد أمير المؤمنين — معاهدة من دون أخذ رأي الدولة المنتمي إليها، لتأمن على أسطولها من غزوات سفنه وقرصانه (١١٦٤ﻫ)، وتضطر سفنها إذا صادفت سفن القره مانلي في عرض البحر إلى إظهار جوازها لقائد سفنه.
ومثل هذه المعاهدة عقدتها مع طرابلس في عهد آل القره مانلي جمهورية البندقية وجمهورية طسقانة ومملكة نابل ومملكة فرنسا وغيرها من أمم الجنوب. وعقدت الولايات المتحدة الأميركية (١٢٢٠ﻫ) معاهدة، تقضي بأن ترفع طرابلس الرق عن النصارى، وكان لطرابلس جُعل معين تتقاضاه من دولة السويد؛ ذلك لأن الدول البحرية كانت تخاف على تجارتها من غزو قرصان البحر في شمالي إفريقية، وشأن أسطول طرابلس وقرصانه في هذا المعنى شأن أسطول تونس والجزائر ومراكش، وكان فخر الدين٨٥ المعني الثاني أمير جبل لبنان وما إليه عقد قبل أكثر من قرن مع كوسموس الثاني كبير دوجات طسقانة، معاهدة دفاعية هجومية، وذلك في غفلة الدولة العثمانية، واستظهر بأسطول فرديناند الطسقاني فغلب على أكثر سواحل الشام وقهر جيش الدولة (١٠٤٣ﻫ)، ومثل ذلك وقع لباي تونس وهو والٍ عثماني في سنة ١٥٧٧، فعقد معاهدة مع فرنسا،٨٦ وبعد سنة ١٧٤١ عقد بايات تونس عدة معاهدات مع الدول النصرانية باسم تونس فقط.

وعلى هذا بدأت دول برأسها تنفصل بطرق مختلفة عن الدولة العثمانية، وإن كان ظاهرها أنها تابعة لها، ولو ظلت الدولة وحدها تصاول روسيا فقط لقضت هذه عليها، واستولت على المضايق، وخرجت إلى البحر المتوسط، ولكن ذلك لم يكن من مصلحة إنجلترا، فكانت هذه منذ اتحدت روسيا والنمسا (١٧٨٧) على تقسيم البلاد العثمانية في أرض أوروبا، تسعى بما أوتيته من دهاء سياسي لفصم عرا كل اتحاد ينتهي بضرب الدولة العثمانية الضربة القاضية، وكانت أوروبا في هذه الحقبة ترى بقاء السلطنة العثمانية ضروريًّا للتوازن السياسي، ولما رأت بريطانيا العظمى أنَّ معاهدة «خنكار اسكله سي» بين العثمانيين والروسيين تقضي بجعل السلطنة العثمانية تحت حماية روسيا، سعت مع الدول الأخرى إلى حل المسألة الشرقية بالطرق السلمية. واتفق الدول ما عدا فرنسا ألَّا تتجدد هذه المعاهدة بين العثمانيين والروسيين، وأن السلطان إذا اقتضت له معاونة لسلامة بلاده تعاونه الدول على أن تبقى المضايق والدردنيل تحت إشرافهن، ولما طلبت روسيا أن تحمي الروم الأرثوذكس في بلاد السلطنة، على ما كانت فرنسا منذ القديم حامية الكاثوليك فيها، نشبت حرب القرم، وحطمت روسيا أسطول تركيا في البحر الأسود، وكادت فيالقها تصل إلى الآستانة، فأرسل الإنجليز والفرنسيس والطليان أسطولًا وجيشًا لمعاونة الدولة العثمانية، فظفرت هذه بالروس (١٨٥٦) مع الدول المحالفة لها، ودفعت بريطانيا نفقات الحرب، وضمنت للسلطنة استقلالها.

رأينا مما تقدم أنَّ الدول كانت إذا بدا لهن مأرب يساعدن الدولة، ويتحببن إليها، على ما كان من نابوليون لما حملها على حرب روسيا قبل أن يغزوها بجيشه في أرضها، وكما فعل غليوم الألماني في العهد الحديث، فإنه ما زال يتقرب منها حتى جرها في الحرب العامة إلى القتال في صفوف حلفائه، ففقدت نصف أملاكها وأقفرت بلادها، وقُتل مئات الألوف من أبنائها، وما منعت سياسة الدول واختلافاتهن من معاونة اليونانيين والرومانيين والبلغاريين والصربيين على استقلالهن، وأن يرسل بعضهن لتلك الإمارات رجالًا ومالًا وعتادًا؛ لأن البلقانيين شعوب نصرانية، يجب فصلهم عن دولة الخلافة، وأردن أن يعملن مثل ذلك للأرمن، لولا أنهم كانوا متفرقين في كثير من الولايات، لا يؤلفون جمهرةً كبيرة في قطرٍ واحد.

بعد أن أخفق العثمانيون في الحرب التي انتهت بصلح أدرنة، وبه انسلخت رومانيا عن تركيا، واستقلت الصرب بدفع خراج معين للسلطنة، واعترفت الدول باستقلال اليونان، أصبحت هذه الإمارات بحكم مذهبها تحت وصاية روسيا، وأصبح الحق لدولة القياصرة أن تدخل المضايق والخليج إلى الآستانة، وعندئذ لقب الإمبراطور نقولا الروسي الدولة العثمانية بالرجل المريض (١٨٢٩). ولا تفتأ إنجلترا تقول: لا بأس بالعمل على شفاء الرجل المريض، والواقع أنَّ ثلاثة أرباع مصائب الدولة أتتها على يد روسيا، كأن هذه الدولة جاءت في العصور الحديثة تنتقم من الأتراك عما نالها من مصائب إخوانهم التتر أو المغول، من غزو بلاد الروس في العصور الوسطى.

وكانت تركيا في كل نازلة سياسية وقعت فيها تتذرع بما لا ينتج من الاحتجاج، أو تهدد بالجامعة الإسلامية، وكل احتجاج يعقبه استسلام واستكانة للأمر الواقع، احتجت على احتلال إنجلترا مصر (١٨٨٢)، وعلى ضم الروم إيلي الشرقي إلى بلغاريا (١٨٨٥)، وعلى المراقبة الإدارية على مقدونية، وعلى ضم البوسنة والهرسك إلى النمسا، وعلى ضم كريت إلى اليونان، وما أجدى احتجاجها ولا قلامة ظفر، والدول ذوات الشأن يعملن ما يصلحهن، ويتفق مع مصالحهن، ولما حاربت الدولة العثمانية حكومة اليونان تقدمت الدول، فأعلنت أنَّ الغالب لا ينال من المغلوب شيئًا من أرضه، فخرجت الدولة ظافرة، ولم تجنِ ثمرة انتصارها، أما التهديد بالجامعة الإسلامية فلم يأتِ الدولة العثمانية بفائدة أيضًا، وربما عاد بضررٍ على المسلمين الذين قُضي على بلادهم أن تحتلها فرنسا أو إنجلترا أو إيطاليا أو هولاندا أو روسيا، فتشتد الدول المحتلة لبلادهم في الضغط عليهم، وإحصاء أنفاسهم عليهم كلما كانت تردد تلك النغمة، على أنَّ المسلمين تختلف أغراضهم في قطرٍ عن آخر، والناس أرغب في السلام منهم في الخصام، إذا لم تَسُقْهم يد جبارة إلى الحرب، ولم يكن لهم منها مغنم عظيم، لا يُعرِّضون حياتهم وراحتهم للخطر ليجيبوا داعي الجامعة الإسلامية.

كانت خسارة الدولة في كل حربٍ حاربتها في القرن التاسع عشر كبيرة في المال والرجال والبلاد، حتى اضطرت إلى فتح أبواب الاستدانة من أوروبا بالفائدة الفاحشة، ولا تفتأ تحمل ما خسرته من الضرائب والمكوس من ولاياتها المفقودة على ولاياتها الموجودة، بدأت بالاقتراض في حرب القرم، وما مضت أعوامٌ قليلة حتى عجزت عن وفاء ديونها، وأعلنت إفلاسها (١٨٧٦م)، فبدأ استعبادها الاقتصادي، وظلت على ذلك إلى آخر أيامها، وكيف لا تختل ماليتها والفوضى عامة شاملة في عامة فروع الإدارة، والسلطان يأخذ ما يشاء، ويترك ما يشاء من مال الدولة بدون حساب. بدد السلطان عبد المجيد أموال السلطنة، وكان السراري والجواري والمقربون في القصر السلطاني يحكمون في مقدرات البلاد بدون علمٍ ولا تجربة ولا إخلاص، ولما زوج هذا السلطان ابنته أنفق على جهازها وعرسها مليوني ليرة فرنسية ذهبية. وآلى عبد العزيز من بعده أن يمسك عن الإسراف لأول سلطنته، ثم عاد إليه على صورة بشعة،٨٧ وتعهد أن يكتفي بزوجة واحدة، فأصبح في الحرم بعد مدة تسعمائة امرأة وثلاثة آلاف خادم ووصيفة، وكانت تمد في قصره كل يوم خمسمائة مائدة، ويجلس إلى كل واحدةٍ منها اثنا عشر شخصًا، فشقيت الدولة بإدارته، وأصبح لا ينفذ أمرًا للوزراء فتآمروا عليه، وأخذ هو يفاوض روسيا سرًّا لتحميه، ويتذرع بنقل ثروته إلى البلاد الأجنبية، فتمكن رجال الدولة من خلعه بفتوى من شيخ الإسلام — كما كان رجال الدولة خلعوا إبراهيم الخليع بفتوى أيضًا — أثبتوا عليه العته والجهل بالأمور السياسية، والإسراف في أموال الدولة، بما لا تستطيع تحمله لينفقه في شهواته، وأنه أخل بعمله في أمور الدين والدنيا، فساق الملك والدولة إلى الخراب.

وما كان عبد الحميد الثاني أقل إسرافًا في المال من أبيه وعمه، فإنه اقتطع ألوفًا من القرى من أيدي مالكيها، وجعلها ملكًا خاصًّا له، تدر عليه مليوني ليرة عثمانية ذهبية كل عام، ومنها كان ينفق كل يوم البدر على جواسيسه ومقربيه والصحف الأجنبية وبعض من يعتقد فيهم له النفع من ساسة الغربيين وسماسرتهم، وتصرف في قصره مئات الألوف من الدنانير على البذخ والزينة والأطعمة، كان جيشه جائعًا وضباطه وعماله وصغار موظفيه لا يقبضون من رواتبهم سوى أشهر معدودة في السنة. ولما زار الإمبراطور غليوم الثاني بلاد السلطنة العثمانية أهدى عبد الحميد للإمبراطورة تاجًا قُوِّم بنصف مليون جنيه عثماني، فقال الإمبراطور: إنَّ الأتراك مجانين، ولو عقل عبد الحميد لأهدى الإمبراطورة تذكارًا منه فيه خطه أو شارته، وصرف هذا المبلغ الجسيم على التاج المهدى إلينا في ابتياع بارجة حربية يصون بها سواحل ملكه. فعبد الحميد كان — والأمر على ما ذُكر — صورة من أعظم الملوك المستبدين، وكان من يرضى عنه يغدق عليه من الأموال والرتب والأوسمة ما يعمي به بصره وبصيرته، وفوق هذا يغضي عنه في كل ما تطمح إليه نفسه من مال الدولة والملة، وبلغ من حجره على الأفكار والحرية طورًا مضحكًا مبكيًا، ومن جوده بالرتب والمراتب وشارات التشريف ومظاهر الأبهة ما لم يُعْهد من قبل ولا من بعد؛ فقد يرقي طفلًا لأحد مقربيه في الرتب العسكرية، ويصل به إلى رتبة المشيرية — أرقى مناصب الدولة في الجندية — وهو غلامٌ يافع، ويشرف بأوسمته المومسات والمهرجين والمتجسسين.

كان عبد الحميد تعهد للوزير مدحت لما نصبه سلطانًا أن يؤسس حكومة دستورية نيابية، وما لبث أن أحرق فيما قيل دار مدحت، ليحرق فيه سند تعهده، ثم قتله في الطائف؛ لأنه خلع عبد العزيز الذي قيل إنه انتحر، وقيل إنه نُحر. يقول لاموش:٨٨ إنَّ عبد الحميد كان على دهاء ومكر ونشاطٍ للعمل، ولو قُدر له أن يعمل إلى جنبه وزير من مثل مدحت لأعاد إلى السلطنة بهاءها، ولكن عبد الحميد كان يكره الرجال العقلاء، ولا ثقة له إلا بمن يدلس عليه، وأعدى عدوه من ينصح له شأن كل مستبدٍ جبار، وكان رجال المابين في عهد من أخبث الرجال.

•••

كان رجال الدولة على مثل اليقين أنَّ السلطنة إذا لم يدخلها الإصلاح على مثال الدول الغربية يُقضى عليها لا محالة، فنهض في القرن الماضي جماعة من كبار الموظفين في العاصمة، ثم تبعهم بعض علماء٨٩ الدين يفكرون في الطرق التي تؤدي إلى إنقاذ الدولة وقبول مدنية الغرب، وانتشرت هذه الأفكار في الولايات، ولا سيما بين الأتراك في آسيا الصغرى وعرب الولايات العربية، وأيقن العثمانيون المسلمون أنَّ الحاجة ماسة إلى الإصلاح، لما شاهدوا أنَّ معظم بلاد الإسلام استولى عليها الدخلاء، فانضم جمهور المطالبين من الأتراك إلى جمهور من العرب. وحالت الأحوال ومضت الأعوام، وبعد أن كانت هذه الأفكار تجول في صدور أفراد أصبح يرددها الخاصة وكثير من العامة، وعلى أثر ذلك نشأت جمعية الاتحاد والترقي مؤلفةً من معظم عناصر السلطنة، على أن يكون الأتراك أرباب الكلمة النافذة وحدهم في المملكة العثمانية، وأثارت الجمعية الجيش في الروم إيلي، فخاف عبد الحميد الثاني، وأعاد في سنة ١٩٠٨ القانون الأساسي الذي كان أبطله أوائل حكمه (١٨٧٦)، وأراد أن يعيد حكومته الاستبدادية بعد قليل، فأنشأ جمعية ارتجاعية سماها الجمعية المحمدية، قامت بفتنة في العاصمة، وقَتَلَت أناسًا من الأحرار الومنورين، فانتهى الأمر بخلعه، وجيء بأخيه رشاد باسم محمد الخامس، وكان فيه شيءٌ من بله السلاطين، فأصبح ألعوبة بأيدي الاتحاديين الذين كانوا قبضوا على زمام السلطنة منذ أبعدوا عبد الحميد من المُلك. ولما قضى محمد الخامس نحبه جيء بأخيه وحيد الدين باسم محمد السادس، فارتمى في أحضان دول الحلفاء أواخر الحرب العالمية، فأخذت الحمية الوطنية بعض رجال الدولة، وألفوا في آسيا الصغرى جيشًا قضوا به على الجيش اليوناني الذي كان احتل بإيعاز من بعض الحلفاء معظم ولايات أدرنة وأزمير وبروسا، وضربوا اليونان في وقعة سقارية (١٩٢٢م) ضربةً دامية، ووضعوا السيف في أروام السلطنة ما خلا الآستانة، ويومئذ صار لتركيا صوت يُسمع في السياسة، وكان دول الحلفاء قرروا تقسيم آسيا الصغرى إلى مناطق نفوذ بينهن أو بين إنجلترا وإيطاليا وفرنسا واليونان. ولما رأى محمد السادس ما ارتكبه من الجرم الفظيع، غادر عاصمة السلطنة على بارجة إنجليزية، ونادى المجلس الوطني التركي بعبد المجيد خليفة، ولم يلبث غير قليل حتى قرر المجلس الوطني إسقاط الخلافة العثمانية (١٩٢٣) وطرد جميع آل عثمان من البلاد العثمانية، ونادى بمصطفى كمال، صاحب الأعمال الحربية التي حفظت على الأتراك استقلالهم، رئيسًا للجمهورية التركية.

لما نشبت الحرب العالمية الكبرى في سنة ١٩١٤، انضمت تركيا إلى ألمانيا والنمسا والمجر فخرجت هذه الكتلة من الحرب مغلوبة، وقيل إنه كان من الحلفاء وفيهن إنجلترا وفرنسا أن قطعوا لشريف مكة الحسين بن علي عهدًا (١٩١٦) تكون به بلاد العرب مستقلة فمشى في صفوفهم، والتحق به جماعة من أبناء العرب العثمانيين من جنود وضباط، فنادى به الحلفاء ملكًا على الحجاز، وقام بثورته حتى دخل الحلفاء الشام. وكان بعض المنورين من أبناء العرب، ولا سيما بعض رجال الجندية والإدارة، ألَّفوا في أواخر العصر الحميدي جمعيات سرية لتطالب الدولة العثمانية بإصلاح حال العرب أو لتنزع يد العرب من طاعة الترك، وساروا على مثال الأتراك في التغالي بحب الجنسية والقومية، ولم يكن لهذه الفكرة من أثر قبل سنين قليلة في غير قليلٍ من الرءوس المفكرة في العرب. وجاهر الأتراك الاتحاديون بتتريك العناصر منذ قبضوا على زمام الملك، وهذه الخطة من الخيالات التي لم تتم للأتراك أيام عزتهم، فصعب تحقيقها وهم في دور انحطاطهم، وما أورثت المجاهرة بها غير تمزيق أجزاء القلوب، وتأريث نار البغضاء بين العناصر، ولا سيما بين التركي والعربي، وانتبه العرب إلى ما يُراد بهم، وعلَّمهم غلاة القومية التركية ما لم يكونوا يحتفلون به كثيرًا من التناغي بالقومية، فزاد عدد المبغضين للحكم العثماني. وكذلك فعل الألبان في السلطنة فأنشأوا الجمعيات السرية وتناغوا بتعلم لسانهم وتاريخهم على نحو ما كان من الأرمن والصرب والبلغار والرومان واليونان.

خرجت الدولة في حرب سنة ١٩١٣ مع البلقانيين من أرض الروم إيلي بعد أن حكمته خمسمائة سنة وكانت افتتحته في خمسين، فاقتطعت منها ولايات أدرنة وقوصوة وأشقودرة ويانيا ومناستر وسلانيك، كبرت بها رقعة دول البلقان. وكانت إيطاليا في السنة التي قبلها (١٩١٢) استخلصت طرابلس وبرقة (ليبيا) من أيدي العثمانيين وضمت إليها الجزائر الاثنتي عشرة (دودكانيز) كما ضمت اليونان جزائر أخرى في البحر المتوسط، وضمت إنجلترا جزيرة قبرص سنة ١٢٩٥ﻫ.٩٠

واستولت تركيا في آخر الحرب العالمية على قارص وأردهان وباطوم، وكانت روسيا سلختها عنها منذ سنين، كما توسعت في حدودها في أوروبا، فاستعادت من اليونان تراكيا الشرقية على نهر المريج، ومحطة أدرنة، وجزيرتي إمروز وتنيدوس (بوزجه أطه). أما سائر البلاد العثمانية العربية فكان نصيبها مختلفًا، انسلخت كلها عن جسم السلطنة، كأن الصلح الذي ارتضى به الحلفاء كان بأخذهم لها، وكأن تركيا استعادت الأرض التركية من بلاد الدولة العثمانية المنقطعة بحد الحسام، أو فتحتها فتحًا ثانيًا.

كانت مصر تعتبر في عرف السياسة عثمانية؛ لأنها ظلت إلى أواخر الحرب العالمية تدفع خراجًا مقطوعًا كل سنة للسلطنة العثمانية، فقطعته إنجلترا في الحرب الكبرى، وأعلنت حمايتها على مصر، وبعد الحرب ثار المصريون على المحتلين من الإنجليز، فاعترفت إنجلترا لمصر باستقلالها، ثم فصلت عنها السودان، وهو الجزء المتمم لها، وما برح جيش الاحتلال إلى الآن في القطر المصري، وسلطان إنجلترا ما زال نافذًا فيها. واليمن استقل بها إمام الزيدية ما عدا السواحل على المحيط الهندي وخليج فارس، فإن إنجلترا كانت احتلتها، ومنها ما حكمته مباشرةً كعدن، ومنها ما عاهدت عليه أمراءه وسلاطينه، وحمتهم ووسعت عليهم، فكانوا عمالها مثل لجج والنواحي السبع (الصبيحة والحواشب والقطيب وأبين والضالع واليافع والعلوي)، وحضرموت وعمان ومسقط والبحرين والكويت، وكانت الدولة التركية تنازلت لبريطانيا العظمى في سنة ١٩١٣ عن حقوقها في مرافئ الكويت وقطر والبحرين ومسقط وعُمان، على أن تتعهد بريطانيا بإنارة الخليج الفارسي وخفارته.

وقضى عبد العزيز بن سعود على إمارة آل رشيد في نجد، ثم استخلص الحجاز من ملكها الجديد الحسين بن علي حليف الإنجليز بالأمس، وجعل من نجد والحجاز، وما إليها مملكةً واحدة، وكان الإنجليز جعلوا فيصل بن الحسين ابن ملك الحجاز ملكًا على العراق عقبى خروجه من الشام، وكانوا فيها بايعوه ملكًا، فلم يرضَ الحلفاء عن هذه المبايعة، وبعد مدة أعلن الإنجليز انتهاء ما سموه بالانتداب على العراق، وجعلوا من بلاد الرافدين حكومة ذات سيادة محالفة لهم وضامنة لإنجلترا، أو في قسط من حقوقها.

وقُسمت الشام بين إنجلترا وفرنسا، فانتدبت إنجلترا على فلسطين وعبر الأردن، جعلت من الأولى وطنًا قوميًّا لليهود، وأنشأت في الثانية إمارة صغيرة نصبت عليها عبد الله بن الحسين، وهو ابن الملك حسين بن علي، وأنشأت فرنسا من سائر بلاد الشام خمس دول جعلت تحت انتدابها، وهي سورية الداخلية أو المدن الأربع، دمشق وحلب وحماة وحمص، جعلت بأخرة جمهورية، واستقل لواء الإسكندرونة في داخليته، وإن كان في ظاهره من أعمال سورية، بدعوى أنه يكثر فيه العنصر التركي، وجعل جبل لبنان جمهورية بضم بلاد كثيرة إليه من الشرق والشمال والجنوب ما كانت في دور من الأدوار تُعد من لبنان، وحكمت فرنسا بلاد العلويين أو النصيرية، وجبل دروز حوران حكمًا مباشرًا؛ أي إنَّ القطر الشامي بفضل الحلفاء قُسم إلى سبع دول استقل كلٌّ منها عن الآخر، والانتداب أو الإشراف أو الحماية لإنجلترا وفرنسا، فكانت صفقة الشام بذلك خاسرة، ومن الغريب أن تجتمع بعد الحرب في بلاد النصرانية في أوروبا جميع البلاد المتشاكلة بعناصرها، وتتفرق بلاد العرب العثمانيين المجتمعة هذا التفريق، والأغرب أن تستقل العراق والحجاز واليمن ونجد، وأهلها أقل من الشاميين مدنية وكفاءة، وتنتدب على الشام دولتان عظيمتان ليعلما أهلها أصول حكم أنفسهم باسم ما سموه الانتداب، وهو أنفق ما جاءت به سياسة الحرب العظمى؛ لأنه حماية مستترة — كما قال أحد علماء القانون٩١ من الإفرنج — وأغرب من هذا وذاك أن يُفتح جنوب الشام أو فلسطين لليهود من أمم الأرض، ينهالون عليها بعلمهم وأموالهم، ويكثرون سواد أبناء نحلتهم في وطنهم القومي الجديد، ويُفتح قلب الشام وجنوبها وشمالها لجاليات كثيرة من الأرمن والشركس والأكراد والأشوريين والسريانيين، يزيدون فقر أهل البلاد فقرًا، ومجموعة طوائفها كثافة، وأمورها السياسية بلبلة.
يقول يونغ:٩٢ «وهكذا احتل الغرب البلاد الإسلامية احتلالًا تدريجيًّا، وكانت الحروب المتوالية التي شُهرت على الدولة العثمانية، المتولي الخلافة عليها خليفة العثمانيين، تعتبر لأسبابٍ شتى حروبًا دينية. قال: وعلى هذا المنوال يؤخرون حدود الإسلام؛ ليسهل استبعاد بلاد متجزئة غير مرهوبة الجانب، والخلاف يعبث بسكانها، بدسائس كثيرة ومصالح شخصية. قال: وبعد الحرب أجهز الغرب على الشرق.»

•••

رجع الأتراك أصحاب هذه الإمبراطورية الكبرى إلى عشهم الذي كانوا منه درجوا قبل ستمائة سنة وهو آسيا الصغرى، استقلوا بها جمهورية تركية صرفة وأجلوا بقايا الأرمن والروم من بلادهم، حتى لا يكاد يُرى منهم أحد الآن في ولاياتهم ما خلا مدينة الآستانة، واستعاضوا عن الروم العثمانيين بأتراك من بلاد اليونان وغيرها من البلاد البلقانية، بادلوا عليهم حكوماتها، وأسكنوهم الأرض التي خلت بجلاء الأرمن والروم، وتشرد بقايا الأرمن في أرجاء الأرض، وأصاب الشام منهم أكبر حصة، وأخذ الأتراك يتركون الأكراد والشركس واللاز المتخلفين من العناصر المسلمة في أرضهم، ونقلوا عاصمتهم إلى أنقرة في أواسط بلادهم، وقلبوا الآستانة ولاية فذهب عزها الذي كان لها قرونًا في العهد البيزنطي والعثماني، وبقي الإسلام بدون خليفة، ولم يتقدم سوى الحسين بن علي فتقلدها أشهرًا، وبايعته بعض الشام والعراق والحجاز، ثم خسر ملكه في الحجاز ونُفي إلى جزيرة قبرص، ثم قضى نحبه. وهكذا قر الأتراك في أرضهم بعد أن أتعبوا العالم، وأتعبوا الشعوب المحكومة قرونًا، كثرت أيام بؤسها، وقلت أيام نعيمها.

وعاد العرب المسلمون في السلطنة العثمانية، وقد خابت آمالهم وأحلامهم في الاستقلال والوحدة العربية، وكانوا يتوقعون خيرًا هذه المرة أيضًا من إنجلترا، ورجوا بعد الحرب العامة أن يحقق الإنجليز وعودهم المعسولة بتأليف مملكة عربية تضم جزيرة العرب والعراق والشام، ولكن البريطانيين لا يسعهم إلا أن يفوا بما عاهدوا عليه فرنسا معاهدة سرية زمن الحرب، قسموا بموجبها البلاد العربية بحسب مصلحتهم، قبل أن يصلوا إليها، وإنجلترا لا ترضى الآن على ما يظهر عن تأليف دولة عربية ذات سيادة في طريق هندها، وهذه هي المرة الثالثة التي خاب فيها أمل عرب السلطنة العثمانية بتأسيس مملكة عربية مستقلة، وفيها كانت إنجلترا السبب المباشر على ما يظهر، كانت أول مرة في عهد عبد الله بن سعود في القرن الماضي أيام استولى على نجد والحجاز، وتقرب من أطراف الشام والعراق، فهاجت إنجلترا الدولة العثمانية عليه حتى أرسلت جيشًا من مصر ضربه ضربة قاضية، فقُضي على العرب بأيدي العرب. والمرة الثانية كانت يوم استيلاء محمد علي والي مصر على الشام، وما وراءها من أرض قيليقية، وفي هذه النوبة أيضًا كان الأمل قويًّا بإنشاء مملكة عربية بزعامة مصر، فقاتلت إنجلترا بأسطولها جيش محمد علي في الشام وأخرجته منها، كما كانت أخرجت نابليون من مصر في سنة ١٨٠٢، وعادت بعد ثمانين سنة (سنة ١٨٨٢م) فاحتلتها.

ويسأل القارئ بعد إلماعنا إلى حالة الدولة العثمانية في أدوارها المختلفة عن الأسباب التي أدت إلى ذاك العلو، وانتهت بهذا السقوط، وقد أوردنا بعض هذه العوامل في الصفحات الماضية، ونريد أن نقول هنا: إنَّ انحطاط الدولة بدأ بإسراف الجنود السلطانية في العصيان، والعبث بما يعلو عن مستوى عقولهم من شئون السياسة، وكم من صدرٍ أعظم ومن ملكٍ قُتل بمكايدهم ومؤامرتهم، وما دخل الجند في الأمور المدنية إلا دخل الفساد. ثم إنَّ العلماء كانوا في عهد الفتوح والعظمة يسيطرون على ملوك العثمانيين، وكان منهم في العهد الماضي رجال أعلام سلمت نفوسهم من المفاسد ينكرون المنكر، ويدعون إلى المعروف، ومَن يردُّ جماح المَلك المستبد إذا لم تكن أمامه قوة يخافها ما دام أعظم عظيم في الدولة عبده وابن عبده، وله الحق كل ساعة أن يصدر إشارته بقطع عنقه أو حمله إليه في قصره يعذبه.

كان سليم الجبار يحاذر أن يقع في غضب مفتيه «زنبيللي علي»، وسليم هذا طالما قتل وزراءه من دون سبب، وكان الأمر بالقتل إلى شفتيه أقرب من الشمال إلى اليمين، ولما أحدث ابنه سليمان الألقاب والرتب العلمية، وأمال على العلماء الدنيا، على ما لم يكن لهم به عهد، أمسوا يتنافسون في الإملاء للظالمين من السلاطين، ويقلبون سيئات الملوك حسنات، لا يأخذون على أيديهم فيما يرتكبون من الكبائر، ولا يردونهم إلى صراط الحق في مسائل الدولة. قال ضيا: وسهل على سليمان ومن بعده من السلاطين بهذا العطف الظاهر على العلماء، أن يستصدروا فتاوى بقتل الأبرياء ممن تغضب عليهم الدولة. ويقول أبو الفاروق:٩٣ إنَّ هؤلاء العلماء، وسماهم «بالمزايدين» على الأحكام الشرعية، أصبحوا يفسرون الأحكام للمتغلبين على السلطان على ما يشاءون وتشاء أهواؤهم، وسماهم الجرارين أيضًا؛ أي طلاب الصدقات، فقال: إنهم كانوا من جملة الأسباب إلى تداعي أركان السلطنة، وهم كتائب من المداح جاء كثيرٌ منهم من فارس يستوكفون الأكف فاستأثروا بالزوايا، وانهالت عليهم عطايا السلاطين، وأعان على هذا الانحطاط أناس من الروم، زعموا أنهم انتحلوا الإسلام، مثل ميخال وأوره نوس من أمراء الروم، وغدوا بمالهم من المكانة في المقامات العالية يؤثرون فيها بأفكارهم ومنازعهم.
ولما رأى بايزيد أنَّ القضاء أمسى ألعوبة في أيدي تلك الطبقة الفاسدة ممن تسموا باسم العلماء، وقد أصبحت مثارًا للفساد والرشوة وضياع الحقوق، جلب منهم ثمانين قاضيًا إلى ينيشهر وأراد قتلهم، لولا أن توسط الصدر في الكف عنهم واستتابهم. قال أبو الفاروق: وما الحيلة في مملكةٍ وضع أساسها على أسوار بيزنطية، واتخذت مادتها من فارس، والمملكتان في الفساد «كزندين في وعاء».٩٤
يقول ريشاروود:٩٥ «إنَّ الراسخين في العلم من المسلمين لا ينكرون أنَّ هذه الفوضى في المملكة العثمانية ناشئة من تسهيل العلماء على السلاطين المستبدين ما تشاؤه أهواؤهم، ومن إغضائهم عن أعمالهم مهما كانت.» وكانت المناصب الدينية توجه في بدء أمر العثمانيين للكفاة من الرجال في الجملة، وذلك بالامتحان أو بالقدم، فغدت تُسند بالشفاعات وبالرشاوى إلى الجهلة، ويُصرف رجال القضاء من الخدمة بدون سبب. وبانحطاط القضاء انحطت الدولة، وغدت المناصب الشرعية تُباع وتُشرى وتُورَّث وتُوهب، فتولى الحكم بشريعة الرسول الأميون والجهلة والسفلة من طبقات المجتمع.
كانت الدولة متماسكة الأجزاء، والتوفيق حليفها لما كانت وحدات قوتها منظومة العقد بجندها وضباطها وأمرائها، وعتادها يفوق عتاد مَن تحاربهم، وسلاطينها ورجال الأمر فيها لا يفكرون في غير مصلحة الدولة. ولما كان لها مدافع٩٦ تستعملها قبل معظم الدول ظفرت في وقعتي جالديران ومرج دابق بالفرس، والمماليك في آسيا، وبملوك البلقان ودول المغرب المتفقة عليها في أوروبا، حتى إذا تفسخ جيشها، وجمدت على طرائقها القديمة في الحرب، مجتزئة بما كان عندها من سلاح، تراجعت عظمتها، واضمحل سلطانها، ولما انتهى جلب الغنائم من البلاد المفتتحة وضعفت مواردها، زاد السلب في رعاياها فاعتلت أمورها، وفسد جمهورها.

بهر الدولة اتساع ما انضوى إلى علمها من الأقطار والأمصار، فما فكرت في توحيد البلاد، ولا تعرفت إلى حقيقة ما ينهضها، ولا ربت رعاياها تربيةً مشتركة، ولا سارت في تعليمهم على سياسة معينة، تضمن لها ولهم المستقبل، وكان همها مصروفًا إلى الساعة التي هي فيها، وتكتفي من الناس أن يظهروا الطاعة والمشايعة، ويؤدوا الضرائب والمغارم، وكان أعدى عدوها من ينشر في قومه فكرًا جديدًا، ولو كان ظاهره وباطنه الخير لها ولبلادها؛ ذلك لأنها كانت ترى العلم أداة ضارة بكيانها، وتذهب إلى أنَّ سلطانها يزول يوم يتعلم رعاياها. وما كان النصارى بما مُتعوا به من امتيازات منذ عهد الفتح، وبما كان لهم من حماية الدول النصرانية في القرون الأخيرة، يعدمون مبشرين ومعلمين يفتحون لهم في القاصية والدانية مدارس وكتاتيب، حتى ارتقى بطول الزمن مستواهم العقلي، ولقنوا معنى الحياة الحرة، واستعدوا للجلاد في ميادينها، فكان من ذلك ضرر غير قليل على مجموع الدولة، والسواد الأعظم من أهلها، وبينما كانت الجندية في العصر الأخير إجبارية على المسلمين دون غيرهم، كان المسلمون ينقرضون في حروبها المتوالية، والنصارى يرتعون في دعة ينمون ويسعدون، ولا يطلب منهم غير جزية ضئيلة. تغافلت الدولة عن تقليد الغرب في مادياته، فقلما أهمتها مشاركته في نهضته الرائعة، وكان غنيها يُصادر، وعالمها يُضطهد، وماهنها يُمتهن، فقُضي على حركة العقول والأيدي، وأنى تقوم لدولةٍ قائمة إذا كانت بلادها فقيرة وشعوبها جاهلة؟ ولقد كانت الدولة تحس ضعفها عقبى هزائمها، وسرعان ما كانت تنسى أسباب محنتها، وكانت إلى أخريات أيامها تحول دون تعلم العرب المسلمين، وهم النصف الذي لا يُستهان به في السلطنة، ومن الإنصاف أن يُقال: إنها لم تعلم الأتراك أيضًا، اكتفت بتلقينهم قشورًا من العلم يُراد منها صوغ عمال وأرباب ولايات، فأصبحت الطبقة المتعلمة مستهلكة غير مستحصلة، وما كان لفقيرٍ مقيد أن يرتقي نشاطه إلى أكثر من تحصيل قوت يومه.

واعتقد الناس أن لا شرف إلا مما أتى في قبل السلطان، وأنَّ من لم يشرفه برتبة أو مرتبة أو وسام فلا شأن له في المجتمع العثماني، ففسدت الأخلاق في سبيل الحصول على هذه المظاهر الخلابة، وشُغل الناس بالتافهات، وقصارى الدولة أن ترى رعاياها يطلقون الجد، وبعطفها على الدجالين من مشايخ الطرق زاد المسلمون زهدًا في العمل والخنوع لأصحاب السلطان، فعلموهم أنَّ ما هم فيه هو السعادة في الدارين، وأنَّ علم أوروبا كفر وهراء وسخرية. جهل المسلمون حتى أمسوا لا يتوقعون الخير إلا من الحكومة، وكان معظم عمالها، وهم أرقى طبقة متعلمة في الأمة، على جانبٍ عظيم من الفساد، يتطلعون أبدًا إلى ما بأيدي الناس من دون خشية ولا رحمة.

انتظم عَلَم الترك العثمانيين البلاد التي احتلوها في الجنوب الشرقي في أوروبا نحو خمسمائة سنة فأثروا فيها تأثيرًا قليلًا، وقاوموا جيوشًا غربية ما كان لها من النظام ما كان لهم لأول أمرهم، وما حملوا إلى أهل الأرض التي دخلوها حضارة أنيقة طريفة، فكان سلطانهم قائمًا على الغلب لا على العلم والصناعات، واستصفى العرب جزيرة الأندلس وصقلية وما إليهما في الجنوب الغربي من أوروبا، وعلى ما فرقهم في أكثر الأدوار من الخلاف الداخلي، وما عانوه من حرب أعدائهم في الشمال يعاونهم على الأكثر جيوش الإفرنج وغيرهم، فإنهم أثروا في تلك البلاد أثرًا عظيمًا بعلمهم وصناعاتهم وأخلاقهم وعاداتهم، أثروا في الإسبانيين والبرتقاليين والكتلانيين والفرنسيين والنورميين والإيطاليين في لغتهم وآدابهم وصنائعهم، ومضى أربعمائة سنة على خروجهم من الأندلس، وأثرهم ماثل للعيان في الأوضاع والمصانع، على شدة الكراهة التي بدت ممن احتلوا أرضهم، وعلى محاربتهم بعد كل ما يدل على آثار أعدائهم في تلك الديار.٩٧
كان إضعاف قوة العناصر من أعظم العوامل في تهيئة الأسباب لكل خلل في الدولة والأمة، وإذا أضفنا إلى ذلك تدخل النساء في أمور السلطنة في القصر السلطاني، ومن يتبعهن من طبقات الحاشية والغاشية ندرك سرًّا من أسرار هذا الضعف؛ فقد أفاض التاريخ أن خُرَّم (روكسلان) البولونية زوج سليمان القانوني لعبت بأقدار المملكة زمنًا، تعلن الحرب وتعقد الصلح، وسعت بقتل ابن ضرتها ليكون عرش السلطنة لابنها، وعصا شقيقه فهرب إلى فارس فدفع السلطان لشاه العجم أربعمائة ألف دينار؛٩٨ ليعيد إليه ابنه، فما إن حُمل إليه حتى قتله وخمسة من أولاده، وكانت هذه السلطانة السبب في إهلاك إبراهيم وأحمد من الصدور العظام٩٩ أيضًا، ومثلها «كوسم والدة» التي لعبت بأقدار المملكة نحو خمسين سنة، وما انتهت من تدخلها إلا بقتلها، فالنسوان والغلمان كان لهم مدخل عظيم في تقويض بنيان السلطنة.
وهل أعظم من أن يقتل الجواري من أولاد السلاطين من يردن قتله، وقد يكون في القتلى من أبناء الملوك الدراكة الحصيف، على حين لا يكون من يبقون على حياتهم غير أشباه الرجال، والسلاطين منذ عهد الفاتح، وقبل بايزيد، رخص لهم بقانون وضعوه لولاية العهد أن يكون لأولاد الفاتح وأحفاده ممن يجلسون على العرش العثماني، الحق أن يقتلوا إخوتهم حبًّا بإقرار الراحة في الناس. يقول أبو الفاروق: بدأت سيئة قتل الإخوة من عهد بايزيد الأول وسود الفاتح صحيفته بمثل هذا المنكر، فنشأت من ذلك سلسلة من الفجائع، ورأى الزمان لهذا النوع من القتل مبررًا، فوضع في قالب الحرص على سلامة الأمن العام، وما رأوا غير هذا التدبير للقضاء على النزاع إلى السلطنة، وجرت مثل تلك الفظائع في فارس والحكومات الأوربية، غدت هذه السُّنة السيئة معمولًا بها، وقلما خلا ملك من ارتكاب هذا القتل الفظيع، ومنهم من اتُّهم بقتل أبيه، وأصبح قتل السلطان إخوته وأولاده وأحفاده وبناته والحاملات من نساء السلاطين مما لا يُستنكر، وظلت هذه العادة القبيحة من قتل أولاد السلاطين جاريًا حكمها إلى عهد محمد الرابع (١٠٩٩ﻫ)، وكان حاول قتل شقيقه فمنعته والدته، وحال المفتي الأعظم بينه وبين القتل، أورد له كلام الله وخوَّفه من عذابه. وبذلك انقضى دور قتل أبناء الملوك الذي دام أكثر من ثلاثمائة سنة، وأخذ كل سلطان بعد ذلك يراقب أولياء العهد مراقبةً شديدة، ويقيمهم بمعزلٍ عن الناس لا يختلطون بهم، وكان يتولى العرش السلطاني أكبر أولاد السلاطين إلى عهد أحمد الأول، فجاد هذا عن القانون بنصب أخيه مصطفى، وأصبح من القواعد المعمول بها إلى آخر أيام العثمانيين أن يتولى العرش أكبر الأسرة المالكة سنًّا أو أقربهم من الجد الأول، وكان العثمانيون قبل اتساع سلطانهم يولون الأرشد من أبنائهم، وإن كان أصغرهم سنًّا، ويرجحون من كانت أمه من أسرة نبيلة لا من السراري والجواري والإماء.١٠٠
ما خلت الدولة في أيامها الطويلة من ظهور نوابغ في السياسة من رجالها، وكانوا إذا تُركوا وشأنهم يديرون دفة السياسة الداخلية والخارجية في الجملة على غفلة من الملوك المنحطين، وكثيرًا ما كانوا يكتمون أمورًا مهمة عن سلطانهم، لا يُطلعونهم عليها إلا بعد أن تتم؛ فقد كانت الدولة مرة مشغولة بحروبٍ هائلة على عهد عبد الحميد الأول، فاحتل العجم البصرة، فكتم وزراؤه الأمر عنه أربع سنين١٠١ حتى تسنى للدولة إخراج أعداء بلاده من أرضه؛ ولذلك كان مؤرخو الإفرنج على صواب في قولهم: إنَّ ما كُتب من التوفيق للدولة، يُعزى إلى عبقرية الصدور العظام والقواد المحنكين، وإلى الصفات التي تفرد بها الجندي التركي من الصبر والطاعة، والمران على الحرب والضرب، لا إلى السلاطين الذين آثروا حياة القصور المفتونة، وركبوا إلى الشهوات كل مركب، وكان معظم هؤلاء النوابغ من عناصر أقوى من التركي، وأوسع حيلة وتوفرًا على العمل والدءوب عليه، ظهروا باللباس التركي، وفيهم البجناكي والألباني والكردي والقوقازي وغيرهم يكتمون أنسابهم، ويخفون عن الشمس والقمر ما يدور في مغيبات نفوسهم.
ذكر لاموش١٠٢ أنَّ الحالة السياسية في الدولة العثمانية أواخر القرن الثامن عشر كانت صورة كاملة من حكومة مطلقة يتصرف السلطان في أرواح أهلها وأموالهم. ولئن كان القرآن، وهو القانون السامي في المملكة، يقضي بقبض يد السلطان عن الاسترسال فيما يريد؛ فقد رأينا غير واحد من ملوك العثمانيين يستعملون الخمر، بل يفرطون في تناولها وفي تعاطي الأشربة المخمرة، مخالفين بذلك صريح آيات القرآن، وقلما كان السلاطين يعبأون بأوامر الكتاب الكريم، أو يراعون القواعد الإسلامية، إذا عن لهم اغتصاب أموال الدولة، إن كان في آياته ما يخالف شهواتهم وأهواءهم ومطامعهم. قال: ولكم كانت حال أرباب المكانة من رجال الدولة حرجة، أخذًا من الصدر الأعظم فنازلًا، وكل عملٍ مهما بلغ من خطورته لا يجعل صاحبه بمأمنٍ من المحن، بل لقد كانت مكانة الوزير كثيرًا ما تعجل بسقوطه؛ ذلك لأن الملك يحسده على ما خوله من سلطة مطلقة، وقد يحاذر أن تنشأ له حظوة في الأمة، وكلما قرب المرء من أنظار السلطان بحكم منصبه يستهدف لغضبه وهواه، والموظفون يجرون على هذا المثال مع موظفيهم ومستخدميهم، فكانت الإدارة الذوقية والعسف والسرقة، ولا سيما في الأعوام الآخرة عامةً شاملة، من أعلى درجات المناصب في إدارة المملكة إلى أدناها؛ ولهذا السبب تُعزى الثورات العديدة التي حدثت أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وقد شهدنا لهيبها يندلع في المسلمين قبل أن يهب في النصارى.

وقال أيضًا: إنَّ العظمة التي قُدرت للمملكة العثمانية أن تأخذ بضبعها إلى أبعد مدى، كانت تحمل معها جراثيم الانحطاط، والسلطة قد تفقد وحدتها وقوتها في مملكةٍ واسعة الأطراف منوعة العناصر، وانتشرت عادة الترف والرشوة بين كبار رجال الدولة، وأصبحت السياسة تُدار بأيدي النساء، وصعب مراس أصحاب الإقطاعات، وكثر سواد الجند الإنكشاري، وكانت تتألف منه إلى ذلك العهد نواة صالحة من الجيش العثماني، ثم بطلت الطريقة القديمة في التجنيد من أبناء النصارى، وكانوا يُؤخذون صغارًا ويُربون، فدخل المتشردون والأفاقون في هذا الجيش المختار، بما فُتح أمامهم من طرق المغانم، وأصبح الإنكشارية في حِل من أن يتزوجوا، وأن يُدخلوا أولادهم في الجيش، وما زالت الحال على ذلك حتى مال هؤلاء الجند إلى الفوضى في البلاد، وكانوا على جانبٍ عظيم من الشجاعة في الحروب، وغدوا يرون لهم قوة أمام السلطان، وراحوا ينصبونه أو يسقطونه. قال: وكانوا عقبى تولي كل سلطان جديد يطلبون زيادة رواتبهم فيُجابون إلى طلبهم، وأصبحت هذه القاعدة مطردة يسيرون عليها.

وعزا ميشو١٠٣ انحطاط الدولة العثمانية إلى عدة أسباب، أهمها الجهل والجمود والغرور، فقال: كان العثمانيون لأول أمرهم الأمة الوحيدة التي كان لها جيش منظم دائم، وبه أحرزوا التفوق على الأمم التي أرادوا إخضاعها لسلطانهم، وغدت أوروبا في القرن السادس عشر ولمعظم ممالكها جيوش يدفعن بها هجمات الأعداء، ولشد ما انتشر النظام والتربية العسكرية بين شعوب النصرانية، وأخذت المدفعية والبحرية تزيدان كل يوم نظامًا ورقيًّا في الغرب، هذا والأتراك يزهدون في التجارب التي وصلت إليها الجيوش البرية والبحرية، وهم قلما يستفيدون من العلوم التي انتشرت بين أعدائهم وجيرانهم.

قال: ومن الأسباب التي أضعفت قوة الجندية في الأتراك تلك الحروب التي شهروها على أوروبا وفارس؛ فقد صدتهم حربهم الفرس عن حملاتهم على النصارى، وأضر جهادهم في النصارى بنجاحهم في حروب آسيا؛ فبعد أن قاتلوا زمنًا مقاتلة ما وراء النهر والقوقاز عجزوا عن قتال أوروبا، فوهنوا في حرب الفرس وحرب النصارى من أمم الغرب، ثم إنَّ طريقة الإقطاعات التي أتوا بها من بلادهم الأصلية لم يتركوها وراثية؛ لينشأ إلى جانب السلاطين طبقة من الأشراف، على ما هو الحال في الحكومات الأوربية المطلقة، وبهذا لم يبقَ في المملكة العثمانية سوى سلطة رئيس مطلق إلى جنبها ديمقراطية عسكرية. وربما كان من استئصال الزعامة (الأرستقراطية) الوراثية ما قضى على الأمة العثمانية أن تبقى في حالة الهمجية، وبطبقة الزعماء في الأمم تهذب الأخلاق، وتثقف العادات، وبالطبقة الوسطى تنتشر المعارف وتستفيض المدنية.

قال: وبالنظر إلى زهد الأتراك في العلوم والآداب، ظلت أعمال الصناعة والزراعة والملاحة في أيدي مواليهم، وهؤلاء كانوا في الحقيقة أعداءهم؛ ذلك لأن الأتراك كانوا يشمئزون من كل جديد، وتنبو نفوسهم عن كل ما لم يحملوه معهم من آسيا، فاضطروا أن يلجئوا إلى الغرباء في كل ما اختُرع ونُظم في أوروبا، فأمسوا وليس لديهم نقض ولا إبرام في مصادر سعادتهم ومنعتهم، وفي تعزيز جيوشهم وأساطيلهم. ولما كان الشأن في حروبهم للفيالق المتحمسة بالتعصب كانت الغلبة لهم، حتى إذا جاء دور العلوم البشرية، والانتفاع بما أبرزته العقول من المخترعات والمكشوفات كان العقل المساعد هو الذي أبطل حكم الشجاعة التي اتصفوا بها، وأهم ما أخَّر الأتراك وقادهم إلى الانحطاط ذكرى مجدٍ سالف، وإعجابٍ وطني، لا تناسب بينه وبين ثروتهم وقوتهم، فكانوا إذا حدثت لهم قوة يستهينون بالأخطار التي تهددهم، فإذا كُتب لهم النصر سكروا وقربوا القرابين، وإذا غلبوا حملوا على رؤسائهم. ا.ﻫ.

وقال كورنو:١٠٤ كان القرن السابع عشر، بلا جدال، عصرًا عصيبًا في تاريخ الدولة العثمانية، كان عهد صراعها مع أوروبا النصرانية، وما كان التعصب الإسلامي في زمنٍ من الأزمان أشد تهديدًا للنصرانية مما كان عليه في القرن السادس عشر على عهد سليم وسليمان. ومما لا مجال للشك فيه أنَّ الهرم كان في القرن الثامن عشر دخل جسم المملكة التركية، ولكن وقع لها في الفترات، أي خلال القرن السابع عشر، ما يقع نظيره في عصور الانتقال؛ أي ما يدل على إقبال وإدبار معًا. عاد الأتراك يغيرون على الغرب ووقفوا على أبواب فينا، فانتبهت فكرة البطولة والقيام بحربٍ صليبية حتى في رجال دولة فرنسا، استولى الترك على قندية على ما لقوا من مقاومة أشراف الفرنسيس، وبعد انسلاخ أعوامٍ قليلة كان من جهد حكومة مشرفة على السقوط؛ (أي فرنسا) ما كفى لنزع المورة من أيدي الأتراك. ومن الواجب أن يُلاحظ أنَّ التفوق القطعي في الحضارة الأوربية على الوحشية التركية لم يكن ذا صلة بتقدم العلوم ولا بارتقاء فنون الحرب، وكان من ذاك الجندي الوحشي الذي لا يعرف النظام، ومن ذاك الوزير الجاهل، إذا نشب القتال وضاق الحصار أن يحولا دون توفيق القواد والمهندسين ممن تدربوا أحسن تدريب، على حين كان يمزق أوروبا النصرانية شقاقها الداخلي، ولم يكن لأحدٍ من ملوك النصارى من السلطان في الواقع مثل ما كان لصاحب تركيا يومئذ، فاستلزم ذلك أحيانًا أن تتغلب القوة الجسمية والعددية على العلم والدربة، وما مال الميزان إلا بارتقاء النظام والإدارة وتطبيقهما على مسائل الحرب، وكان من استفاضة الغني عاملًا قويًّا من جملة العوامل في كف عادية العثمانيين، فأصبح في وسع كل دولة أوربية أن تجند جيوشًا وتمرنهم، وأن تجهز أساطيل وتمدها، وعجزت الشعوب الآسياوية، بما كانت عليه من الحالة الاجتماعية، عن مقاومة الغرب مقاومة فعلية، إلا ما كان يخدمها من بعد المسافات واختلاف الأجواء، وبذلك بطلت معاودة الأتراك الغزو والغارة.

هذا رأي مؤرخين غربيين في الدواعي إلى انحطاط الدولة العثمانية، وإليكم آراء أربعة لمؤرخين من الأتراك، كتب الأول رأيه في أول عهد انحطاط الدولة وهو «قوجي» في رسالته، فقال: إنَّ مما أدخل الخلل في الدولة زمن السلطان سليمان القانوني كونه تجافى عن حضور الديوان بنفسه، فبعد ما بينه وبين أمراء دولته وقوادها وغدا ينكرهم ولا يعرفهم، وقد عهد بالصدارة العظمى إلى إبراهيم باشا من خواص خدامه من دون سابقةٍ له في خدمة، وما نظر إلى القاعدة التي كان يجري العمل عليها في توسيد منصب الصدارة، وأصبح من المألوف أن يُرقى كل سلطان إلى هذا المنصب الجليل من ترغب فيه نفسه، وهو قليل الخبرة ولا يسترشد مع هذا برأي العارفين، ففسدت أمور الناس واختل نظامهم، وزوج القانوني ابنته من رستم باشا، فمنحه من الإقطاعات ما لا يتطاول إلى مثله ملك من ملوك الطوائف، وأخذ ذراري أولئك المالكين يقفون الإقطاعات، فأضاعوا بذلك دينهم ودنياهم؛ إذ خالفوا الشرع بإخراب هذه المزارع وهي ملك بيت المال، وأنشأ رستم يعهد إلى اليهود بإدارة إقطاعاته ونزعها من أيدي المسلمين، فقل ارتفاعها وخرب عمرانها، وبهر السلطان ما انهال عليه من الأموال، فزاد في الرفاهية والبذخ وتطلب الشهرة والصيت، فاقتدى به وزراؤه، وأمسى الناس لا يفكرون في غير البذخ والتفخل وعم الاعتداء على الناس فخربت البلاد.

وقال أيضًا على ما رواه راسم في التاريخ العثماني: لقد أصبحت المناصب السلطانية بعد سنة ٩٩٠ﻫ، تُباع بالرشاوى إلى غير من تأهلوا لها، وقام أشقياء الجلالي في سنة ١٠٠٤، وآغاروا على القرى والمزارع في ولايات كثيرة في الأناضول وبلاد العرب، فخربوا العامر وجعلوه قاعًا صفصفًا، ثم آغاروا على بروسا وحرقوا كثيرًا من أحيائها، وخرج العربان والتركمان عن حظيرة الطاعة، وغلوا في إطالة أيدي ظلمهم وتعديهم على فقراء الرعية، فخربت قرى كثيرة في تلك الديار أيضًا، وقام أشقياء القوزاق في سواحل البحر الأسود، واعتدوا على السكان، وأسروا الآمنين من المسلمين، وأتوا على العروض والحدائق والحقول فنسفوها. وبعد أن عدَّد ما خرج من سلطان الدولة من الأقاليم، وما لقيه أهلها من العنت والمغارم. قال: وهكذا شأن سائر المملكة أتى الظالمون منا عليها فألبسوا الرعايا لباس الجوع والخوف. فأي مصيبةٍ أعظم من هذه المصيبة، ومن المعلوم أن لا قيام للسلطنة إلا بالجند، ولا جند بلا مال، ولا مال إلا ما أتى به الرعايا، ولا تقوم لرعيةٍ قائمة إلا بالعدل. أما الناس في هذه الأرض فقد أصبحوا وقد سُلب قرارهم وباتوا غير آمنين في سربهم، تتحيفهم المظالم، وتمزق شملهم الغوائل، فقلَّ بذلك ارتفاع بيت المال، وآض أرباب السيف إلى هذه الحال، تنزع البلاد الإسلامية من يد سلطانها، ولا ترى لهم تدبيرًا يدبرونه ولا دواء يصفونه، ولا يرجعون عن سفاهتهم، ولا ينتهون من غفلتهم.

وقال أحمد راسم يوم أن زالت سلطة الاستبداد بإسقاط عبد الحميد الثاني: تغبط أعظم إمبراطوريات العالم الدولة العثمانية على ما كان لها من المُلك العظيم، والسلطان الذي يضم تحت لوائه زهاء ثلاثمائة مليون من المسلمين، ارتبطوا بالخلافة العثمانية برباطٍ معنوي أكيد؛ ولكن سوء الإدارة وقلة المعارف وسيئات الحكومة وكسل الأهالي وما أشبه ذلك من المساوئ المادية والمعنوية، أفقدَ الدولة كثيرًا من أملاكها وطأمن من عزة سلطانها، وأمست على عهد عبد الحميد الأول بعد أن عقدت معاهدة كوجك قينارجة مع روسيا أشبه بإيالة روسية لا تتحرك إلا بحركة حليفتها، وأصبحت في عهد عبد الحميد الثاني تهدد حياتها كل ساعة أصغر الحكومات شأنًا، وهي بلغاريا المعدودة من الإمارات التابعة لها.

وقال جلال نوري١٠٥ في عهد الحرية العثمانية الأخيرة على عهد الاتحاديين: يشبه الأتراك الرومان؛ فقد كان الرومان أمة حربية لا شأن لها إلا اقتسام الغنائم، فاضطروا إلى أن يتركوا للأمم حريتها لتتوفر على العمل والإنتاج، وبدءوا يسلبون الغرباء والبربر، ثم أخذوا يطيلون أيديهم على أموال الأمم في آسيا وإفريقية، ثم أنشأوا ينهبون رومية. وقال:١٠٦ كان الأتراك يعلقون شأنًا عظيمًا على الغنائم؛ فقد دخلوا إلى صميم بلاد النمسا، وتوغلوا في أرض الإفرنج حبًّا في المغانم، وما كان لهم متسعٌ من الوقت يصرفونه في التجارة والصناعة، فكانت حالة الترك كحال رومية في هذا المعنى.

كانت رومية مقر الدولة الرومانية لا صناعات فيها ولا تجارة، والذريعة الوحيدة لجمع ثروة العظماء، إعلان الحرب وتقسيم الغنائم، وهكذا كان شأن البلاد العثمانية الأولى؛ إذ كان نيران الحروب أبدًا والتوفر على تقسيم الأسلاب والأنفال. وما وقع في المجتمعات التركية والتترية وقع مثله في المجتمعات الرومانية؛ فقد كان لتقسيم المغانم قواعد وأصول، ولما كانت رومية عرضة على الدوام للحروب والغارات والانتقامات، امتزج فيها حب النفس بحب الأسرة، وحب الوطن بالاستعداد الحربي، ومثل ذلك وقع للأتراك، أصابهم ما أصاب الرومان. ا.ﻫ.

وقال رابعهم رضا نور١٠٧ في عهد تركيا الجمهورية: يرجع انقراض دولة العثمانيين إلى عوامل كثيرة، أهمها انقطاع البطولة من المسلمين، وقيام الترك سدًّا أمام النصرانية جلب عليهم خصومة أوروبا جمعاء، ونسلت القرون ومطارق النصارى تتساقط على رءوس الأتراك. وبالتغافل عن حقوق الوطنية التركية، والرغبة عن جعل التركية أساسًا لسياسة الدولة، صانوا أديان من سقطوا عليهم من العناصر، وأبقوا على ألسنتهم بل عززوها ونصروها، وبمنح محمد الفاتح الروم امتيازات مذهبية أحدثوا دولة في دولة، ولم تصبح البلاد متجانسة، بل أمست كبرج بابل بتبلبل الألسن فيها. ولقد حافظ السلجوقيون لما نزلوا آسيا الصغرى على جميع الأديان والقوميات الغربية التي كانت فيها، وجرى العثمانيون على طريقهم، فاحتفظوا بما وجدوه ولم يعرفوا ما هو التمثيل، وكانت هذه العناصر كلما افترصت فرصة استلبت من بناء الدولة حجرًا وذهبت به، وهذه الأجناس هي التي فتحت للأجانب سبيل المداخلة في الشئون الداخلية في الدولة، فكانت العامل في انقراضها. قال: ومن خرق الرأي الإبقاء على صنفٍ من الرعايا يؤدون الخراج للدولة، وهذا من أساليب العرب وأصولهم. وعدَّ من العوامل المؤخرة تدخل الدين في مصالح الحكومة، وجهل الملوك واستبدادهم وسفاهتهم، والعناية بتربية أبناء الصرب والروس والأولاح والأرمن والعرب والأرناؤد والكرج والشركس وغيرهم من العناصر، وتسليم زمام أمور الدولة إليهم، بدلًا من أن يُؤخذ بأيدي الأتراك أنفسهم، وكانت هذه العناصر تبذل الجهد للقضاء على التركية وإسدال الحجاب دونها. واعتصم ملوك الأتراك بالإسلام، فزادوا التعصب قوة، وكانت روسيا تنتقم لمملكة بيزنطية فتحارب العثمانيين على الدوام. قال: وكان على الترك أن يضموا العنصر التركي بأجمعه تحت عَلمٍ واحد. ومن أخطائهم أن توسعوا في إفريقية، وأن نطحوا برءوسهم قلاع فينا في أوروبا، ثم وقفوا وأدمغتهم دامية. وزعم أنَّ من دواعي الأسف فتحهم السبيل لرواج اللسانين العربي والفارسي، فداس هذان العنصران لسانهم الخاص؛ أي التركية، وعبث بالأمة الفقر، وعصف بها عاصف الجهل.

هذا رأي الغريب عن الترك والقريب منهم في انحطاط الدولة، وهو حق في جملته، وآية كل هذا أنَّ قوة السيف لا تدوم إذا لم يؤيدها العقل، وأنَّ فتح الأرض لا يطول إن لم تُفتح قلوب أهلها بالإحسان، ولما لم يرعَ للعناصر في هذه الدولة العظيمة حقها بقيت على حذر، ولم تمتزج بالفاتحين ولا أحبتهم ولا أحبوها، فكان من كل ذلك القضاء على الدولة العثمانية.

١  زبدة كشف الممالك للظاهري.
٢  تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان للسالمي.
٣  فتوح البلدان للبلاذري.
٤  الشراة لقب من ألقاب الخوارج، ويُقال لهم الحرورية والمحكمة، قال الأشعري: والسبب الذي سُموا له خوارج خروجهم على علي بن أبي طالب، والذي سموا له المحكمة إنكارهم المحكمين وقولهم «لا حَكَم إلا الله»، والذي سموا له حرورية نزولهم بحروراء في أول أمرهم، والذي سموا له شراة قولهم شرينا أنفسنا في طاعة الله؛ أي بعناها بالجنة.
٥  مسالك الممالك للاصطخري، والمسالك والممالك لابن حوقل.
٦  أحسن التقاسيم للمقدسي.
٧  الدول المنقطعة للأزدي (مخطوط).
٨  تاريخ أبي الفداء.
٩  طبقات النحويين للسيوطي.
١٠  صبح العشى للقلقشندي.
١١  معجم البلدان لياقوت.
١٢  كتاب الروضتين لأبي شامة.
١٣  من كتاب للقاضي الفاضل عن لسان صلاح الدين إلى ديوان الخليفة ببغداد وصف أجناس الصليبيين جاء فيه: «واجتمع في هذه الجموع من الجيوش الغربية والأندلسية الأعجمية من لا يحصر معدوده، ويتصور في الدنيا وجوده، فما أحقهم بقول أبي الطيب:
تجمع فيه كل لسن وأمة
فما يفهم الحداث إلا التراجم
حتى إنه إذا أُسر الأسير، واستأمن من المستأمن، احتيج في فهم لغته إلى عدة تراجم ينقل واحد عن آخر، ويقول ثانٍ ما يقول أول، وثالث ما يقول ثانٍ.»
١٤  تاريخ العتبي.
١٥  معلمة الإسلام: الخلافة.
١٦  حسن المحاضرة للسيوطي، وتاريخ مصر لابن إياس.
١٧  نفح الطيب للمقري.
١٨  معلمة الإسلام، عبد الرحمن.
١٩  معلمة الإسلام، الأمويون.
٢٠  نفح الطيب للمقري.
٢١  المعجب للمراكشي.
٢٢  وفيات الأعيان لابن خلكان.
٢٣  مقدمة ابن خلدون.
٢٤  المعجب للمراكشي.
٢٥  طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة.
٢٦  مقدمة ابن خلدون.
٢٧  اللمحة البدرية في الدولة النصرية لابن الخطيب.
٢٨  معجم البلدان لياقوت، ويقول ابن خرداذبة: إنه ميمون بن عبد الوهاب بن عبد الواحد بن رستم.
٢٩  المسالك والممالك لابن خرداذبة.
٣٠  تاريخ تونس لحسن حسني عبد الوهاب.
٣١  تاريخ تونس لحسن حسين عبد الوهاب.
٣٢  أعمال الأعلام للسان الدين بن الخطيب.
٣٣  يقول ابن حزم في طوق الحمامة: إنَّ منصور بن نزار الذي ولِّي الملك بعد أبيه نزار بن معد صاحب مصر ادعى الإلوهية.
٣٤  في ديوانه بدل «مبشر أمة» نبيًّا مرسلًا.
٣٥  اتعاظ الحنفا للمقريزي.
٣٦  تاريخ مصر لابن إياس.
٣٧  معجم البلدان لياقوت.
٣٨  تاريخ جوهر الصقلي لعلي إبراهيم حسن.
٣٩  بحث لعبد العزيز الثعالبي في كتاب تاريخ غزوات العرب لأرسلان.
٤٠  وفيات الأعيان لابن خلكان.
٤١  النكت العصرية لعمارة اليمني.
٤٢  مختصر تاريخ الخلفاء لابن الساعي.
٤٣  دول الإسلام للذهبي.
٤٤  تاريخ الوزراء للصابي.
٤٥  السلوك للمقريزي.
٤٦  تاريخ الكامل لابن الأثير.
٤٧  تاريخ العصور الوسطى لحسن إبراهيم حسن وأحمد صادق الطنطاوي.
٤٨  معلمة الإسلام، ترك.
٤٩  معلمة الإسلام، مراد الأول.
٥٠  قاموس الأعلام لشمس الدين سامي.
٥١  اشتُهرت هذه الصحراء بوقعتين عظيمتين، كانت الأولى سنة ٧٩١ﻫ، وفيها قضى مراد الأول الملقب بخداوندكار على مملكة الصرب، والثانية جرت في سنة ٨٥٦ﻫ، وفيها قضى مراد الثاني على جيوش المجريين والنمساويين والرومانيين، وكانوا بقيادة هونياد صاحب المجر.
٥٢  تاريخ تركيا للاموش Lamouche: Histoire de la Turquie.
٥٣  الاستقصا للسلاوي.
٥٤  معلمة الإسلام، مادة ترك.
٥٥  تحفة الكبار في أسفار البحار لكاتب جلبي.
٥٦  تاريخ تركيا للاموش.
٥٧  قاموس الإسلام لشمس الدين سامي.
٥٨  نهاية عصر أو على عتبة جيل جديد لجايار Gaston Gaillard: La fin d’un temps Au seuil d’un nouvel âge.
٥٩  معلمة الإسلام، مادة الترك.
٦٠  تاريخ مصر لابن إياس.
٦١  معلمة الإسلام، الخلافة.
٦٢  هذه اللفظة محرفة من لفظة «يكى جرى» التركية، ومعناها العسكر الجديد.
٦٣  قاموس الأعلام لشمس الدين سامي.
٦٤  معجم البلدان لياقوت.
٦٥  تاريخ تركيا للاموش (بالفرنسية).
٦٦  قانون التاريخ لجوليفه كستلو Jolivet Castelot: La Loi de l’histoire.
٦٧  مقدرات تاريخية، لجلال نوري.
٦٨  معلمة الإسلام، مراد الأول.
٦٩  معلمة الإسلام، مراد الثاني.
٧٠  تاريخ تركيا للاموش.
٧١  التاريخ العام للافيس ورامبو.
٧٢  التاريخ العام للافيس ورامبو.
٧٣  معلمة الإسلام، مراد الثالث.
٧٤  تاريخ «أبو الفاروق» لمراد الداغستاني.
٧٥  التاريخ العام للافيس ورامبو.
٧٦  التاريخ العام للافيس ورامبو.
٧٧  تاريخ روسيا لمارك سمنوف.
٧٨  تاريخ روسيا لسمنوف.
٧٩  تاريخ القرن التاسع عشر لمحمد قاسم وحسن حسني.
٨٠  صدر عن سليم الثالث كتاب سلطاني بعث به إلى قوجه يوسف باشا لما عينه للصدارة للمرة الثانية، كان غريبًا في معناه، قال له فيه: يا يوسف باشا، لو حُزت رضاي في وزارتك السابقة ما عزلتك؛ لكنك حدت عن جادة الاستقامة وظلمت وتعديت، وتناولت الرشوة، وجريت على الهوى بما لا يليق صدور مثله من الصدور، بل ولا من الوزراء، وربما لا يليق مثله بعوام الناس، وعاملت رؤساء الجند خلال الحملات بخشونة وعنفٍ وتهديد، فمردوا واستوحشوا، وتعطلت الأعمال إلى أمثال ذلك مما يخالف رغائبي السلطانية؛ ولذلك نُحيت عن الصدارة والآن أُعدتَ إلى منصبك والمأمول أن تكون قد رجعت عن أعمالك فإذا بلغ مسامعي السلطانية أنك سرت في صدارتك الجديدة على ما كنت سرت عليه، وارتكبت أقل خطأ من خطيئاتك السابقة، لا أكتفي هذه المرة بعزلك، بل لا بد من إهلاكك، فاعتصم بما يجب عليك من العفة والاستقامة، وارحم الفقراء واشملهم بشفقتك، وارجع عن أغراضك النفسية لا تضمر الشر لأحد، وتب من الرشوة في سرك وجهرك، ووفق أعمالك على ما يجلب لك رضا الحق ورضا سلطاني. ثم ذكرَ ما ينبغي له جمعه من أدوات السفر لحرب عيَّنها له، وأنه سيعود ظافرًا من حربه بما أوتيه من حسن حيلةٍ ونافع معرفة.
٨١  تقرير الإسلام والإصلاح لريشاروود.
٨٢  تاريخ الحضارة لسنيوبوس.
٨٣  التذكار فيمن ملك طرابلس وما كان بها من الأخبار لابن غلبون.
٨٤  معلمة الإسلام، مادة قره مانلي.
٨٥  خطط الشام للمؤلف.
٨٦  معلمة الإسلام، مادة تونس.
٨٧  التاريخ العام للافيس ورامبو.
٨٨  تاريخ تركيا للاموش.
٨٩  معلمة الإسلام، ترك.
٩٠  ولقد كتبنا مقالة في جريدتنا (المقتبس) صدرت في دمشق يوم ١٩ شعبان ١٣٣١ و٢٣ يولية ١٩١٣ قبل الحرب، وقلنا فيها ما نصه تحت عنوان «العيد السادس»: تمت أمس السنة الخامسة لنشر القانون الأساسي في السلطنة، واليوم ندخل في عامنا السادس، نودع الماضي غير آسفين، ونستقبل الآتي مؤملين مستبشرين.
ولقد جرت عادتنا على رأس كل عيد أن نقدم للقراء صافي حساب السنة الفائتة، ومن الأسف العظيم أن العجز قد أربى كثيرًا هذا العام على الدخل، والبأساء قد زادت على النعماء.
فقد انتكبنا خلال الحول الماضي نكبة لم يكد يُعهد لها نظير في تاريخ دولتنا، فكانت حربنا سجالًا مع إيطاليا في طرابلس وبرقة منذ ثلاثة وعشرين شهرًا، فاستمات الطرابلسيون في الدفاع عن بلادهم، وقصرت الحكومة في إغاثة لهفتهم ورد عادية الأجنبي عنهم، ولما أعلنت حكومات البلقان الحرب علينا في الخريف الماضي، اضطرت حكومتنا إلى أن تعقد مع إيطاليا الصلح على طرابلس وبرقة صلحًا أخرجنا عن آخر أملاكنا في قارة إفريقية.
ويسؤنا — لعمرو الحق — أنَّ الحكومة التي تساهلت ضمنًا في حماية ليبية بحجة اتقاء الهجمات على الروم إيلي قد خانها السعد ففقدت ما لم يهمها وما أهمها أيضًا، ولم يقصر جندنا المسكين في الدفاع، ولكن سلاحه ومئونته وقيادته كانت دون ما عند البلقانيين من مثلها، وبينا كان الجوع والعَرى والخلل سائدًا في صفوفنا في أشد شهور الشتاء بردًا، كانت أسباب الراحة موفورة عند أعدائنا المتحالفين علينا بلغاريا وصربيا ويونان والجبل الأسود.
وما راعنا اتفاق هذه الحكومات الصغرى علينا، وتحالفهم في غفلتنا عنهم، بقدر ما راعنا خذلان الألبانيين لنا، بعد أن رأيناهم منذ زهاء خمسة قرون في طليعة المقاتلين في جيشنا، ورأينا ألبانيا تخرج أعاظم رجال العلم والسياسة الذين أخلصوا في خدمة الدولة العثمانية ونشلوها من سقوطها مرات.
وأعظم من هذا وذاك أنَّ الألبانيين هم الذين أعلنوا القانون الأساسي في الحقيقة، ومن بلادهم انبعث قبس الحرية، ومع هذا كنا بسوء سياستنا معهم، وحملتنا عليهم مرتين بدون حق، وتقتيلنا رجالهم وتخريبنا ديارهم، وتجريدهم من سلاحهم، نحن الحاملين لهم على شق عصا طاعتنا، والخروج عن جماعتنا.
فبدلًا من أن يقاتلوا معنا عدونا وعدوهم، قلبوا لنا ظهر المجن فذكرونا يوم الخطوب بما لقوه من أفاعيلنا، وتخلوا عن نصرتنا، بل وجهوا وجوههم نحو غيرنا، فكان ذلك من أهم الدواعي إلى خروج الروم إيلي عن حكمنا، فسلمنا في خمسة أسابيع ما تعب أجدادنا في فتحه خمسين سنة.
لما أعلنت الحرية تصافح أهل الأديان المختلفة في السلطنة، وتآخى المتنافر من العناصر، وبطل عمل العصابات البلغارية واليونانية والصربية، وأحسنت أوروبا ظنها بنا، فأخرجت مقدونيا عن المراقبة الدولية، على أمل أن نستجمع قوانا ونصلح أنفسنا بأنفسنا، ولكن ظهر بعد بضعة أشهر أنَّ تلك الفئة التي قبضت على قياد الملك؛ لأنها هي الساعية لنيل الحرية، أخذت تقبل في جملتها الشريف والوضيع، والصالح والفاسد، فتراجع أمرها، والتوت مقاصدها، وعاد من ذلك الضرر العمم على الأمة والدولة.
بدأ غدر جيراننا بنا بإعلان بلغاريا استقلالها، وضم الروم إيلي الشرقي إلى أملاكها، واكتساح النمسا والمجر لولايتي البوسنة والهرسك، ثم قيام الفتن الداخلية التي أوجدناها قبل إيجادها ومنها فتن الارتجاعيين، وخلع السلطان عبد الحميد، وفتن اليمن وعسير وحوران والكرك والعراق، فقُتل في هذه المعارك والحروب من الرعية والجند ما لا يقل عدده عن نصف مليون نسمة في خمس سنين، فتعطلت بذلك الزراعة، ووقف دولاب التجارة، وأُصيبت الأمة والدولة بأزمة مالية شديدة لم تكد ترى مثلها.
وإذ قضى القانون الأساسي أن يحارب غير المسلمين مع المسلمين أعداء الوطن العثماني، كان من البلغاريين والصربيين واليونانيين من التبعة العثمانية في مقدونية وتراكيا أن ساعدوا تلك الحكومات، وفروا يكثرون صفوفهم. أما البلاد الأخرى فقد زادت هجرة المسلمين وغيرهم منها، وبعضهم للتخلص من الخدمة العسكرية، فبارت بعض أصقاع سورية مثلًا من قلة اليد العاملة، وإذا دامت الحال على ذلك ثلاثًا أو أربع سنين تنقص الجباية، فلا تستطيع الحكومة أن تتقاضى من الأعشار والأموال والضرائب نصف ما تستوفيه الآن، ولا نغالي إذا قلنا: إنَّ مجموع ثروتنا قد نقص كثيرًا في السنين الخمس الأخيرة، فكثرت الحرائق في العاصمة وبعض مراكز الولايات، واشتدت الأوبئة في بعض أصقاعنا، وأضعنا من عددنا في بريتنا وبحريتنا ما يقدر بعشرات الملايين من الليرات.
كل هذا والحكومة لم تنظر إلى العلة من أصلها فتنزعها، ولم تقم بتدبيرٍ يسكن الأفكار ويزيد الثروة ويقلل الفقر؛ بل إنَّ المجلس النيابي الأول صرف وقته في الجدالات الحزبية. ولما قويت شوكة المعارضين الذين كانوا يعدون الأمة الوعود الكثيرة إذا هم قبضوا على أزمة الحكم، انحل المجلس الأول وحل محله مجلس انتُخب نوابه بسيف القهر والضغط، ثم استولت على الأمر وزارة مخالفة ففضت المجلس أيضًا، وهكذا لم نستفد من مجلسنا النيابي سوى القيل والقال واحتدام الخصام والجدال، اللهم إلا بعض قوانين ضئيلة ليس فيها كبير أمر، ومعظمها يرمي إلى تقييد حرية الصحافة، وحرية الاجتماع والحرية الشخصية، ونظريات كأنها علم جابر يتعذر تحقيقها ولا تأتي الأمة بفائدة.
وكيف نقول: إننا تمتعنا بالحرية على أصولها والعاصمة قد عاشت معظم سني الدستور تحت الأحكام العرفية، وكذلك بعض الولايات، وذلك من غير داعٍ سوى الوهم، وكان من بعض الأغمار أن اتبعوا سياستين غربيتين أضرت إحداهما بالداخل والأخرى بالخارج، ونعني بهما سياسة «تتريك العناصر»، وسياسة «الجامعة الإسلامية»، فالأولى نفرت قلوب شعوب المملكة؛ لأن لغة المرء عزيزة عليه كدينه، ومن لم يَغِر على قوميته يستحيل عليه أن يغار على عزيزٍ عليه، والثانية نفرت أوروبا منا، فتراءى للنمسا وروسيا أنَّ العثمانيين عادوا إلى حماستهم الأولى بإعلان الحرية، ويوشكون بقوتهم المادية وقوة المسلمين من غير العثمانيين المعنوية، أن يسترجعوا ما كانت أخذته تانك الدولتان من أملاكنا، وأن يعود العلم العثماني فيخفق على بودابست والقارص وباطوم والقريم، وخشيت إنكلترا وفرنسا على مستعمراتهما الإسلامية، وقد بدت مظاهر ذلك من معاضدة الحكومة للحزب الوطني في مصر، حتى صارت تبدو في جرائده؛ بل وفي صحف الآستانة الموالية للحكومة بوادر ضد إنكلترا، وأصبحت تهدد في مصر والهند، كما تهدد فرنسا في تونس والجزائر، وهذا مما دعا إلى رفع ثقة الدول منا وبقينا في حجر ألمانيا، وهي تسقينا الدردي من دنها وتكرع الصافي الزلال، فربحت من حيث خسرنا، ولم نستفد من صداقتها شيئًا في داخليتنا ولا في خارجيتنا.
ومن المصائب التي جرت وبالًا على الدولة تدخل ضباط الجيش في السياسة فانقسموا شيعًا، تركوا واجباتهم في تعليم كتائبهم، وراحوا يفكرون فيما هو من شأن الأمة، فالجيش الذي حرر البلاد من رق السلطان عبد الحميد لم يحسن إليها بعد بقدر ما كان يؤمل منه، وكذلك كان من حال الأمة، فإنها تخالفت في الأهواء السياسية لا كتخالف الأحزاب في العالم، بل تخالف التعادي، وأدى الأمر إلى ما لا يرضى عنه عاقلٌ في الأرض، ولا ينطبق مع أصل من أصول الحرية السياسية والحرية الشخصية وحرية الوجدان، فدلت الأمة أنها طفلة في السياسة لم تبلغ أشدها.
ومن فوائد السنين الماضية أنها كشفت الغطاء عن مخبآت الضمائر، فافتضح من رجالنا من كان يُبالغ في إجلالهم لمظاهرهم أو رتبهم، وظهر المخادعون ممن اندسوا في صفوف الأحرار ظلمًا، أنهم على فطرتهم الأولى لا يهمهم خراب البلاد ولا عمرانها، وأثبتوا خيانتهم لأوطانهم أنهم لم ينصروها بأموالهم حين العسرة على الأقل، وأنَّ كل ما ادعوه من حبهم الدستور والحرية وأنصارهما تمويه وكذب.
ونحمد الله على القليل مما أصبناه وأحسنا استعماله من الحرية الصحافية، بأن ظهر بلسانها فضل الفضلاء، وعلم العلماء، وكرم الأسخياء الأبرار، وغيرة المصلحين الأخيار، فعرفت الأمة خيارها ورذلت شرارها وأيقنت بضعفها وعجزها، وأنَّ التبجح بالماضي لا يفيد أمام قوتي العلم والعمل في هذا العصر، وأنَّ التمجد بالآباء والأجداد من دون احتذاء مثالهم في فضائلهم، ومضائهم لا يجدي صاحبه فتيلًا.
فعسى أن يكون العقد الماضي من هذه السنين قد علَّمنا — معاشر العثمانيين — دروسًا نافعة، وعلَّم القائمين بالأمر فينا أنَّ الناس بعد الآن لا يُحكمون إلا بالعدل والإحسان، لا بالخشونة والإرهاق، وأنَّ السيف والمدفع ليس لهما حكمها كل ساعة، وإنما القوة الحقيقية في تأليف القلوب، وبث العلم النافع بين طبقات الشعب وحكمهم بالطرق المعقولة، وإحسان الإدارة والسياسة؛ فقد سئمت النفوس رائحة الدماء المهراقة، والدمار المتواصل، والبؤس المقيم المقعد، وهي تريد دور سلام ترتاح فيه الأرواح والأشباح، ويثوب إلى الأمة رشدها؛ لتضم شملها، وتنسى مصائبها، وتعرف أنَّ الدستور نعمة كبرى لمن يحسن الانتفاع به، وأنه لو هُيئت أيدٍ تنفذه حق تنفيذه، لعم العالمين أثره وطاب في الواقع خبره ومخبره.
٩١  خطط الشام للمؤلف ج٣.
٩٢  استعباد الإسلام ليونغ.
٩٣  تاريخ «أبو الفاروق» لمراد الداغستاني.
٩٤  تاريخ «أبو الفاروق» لمراد الداغستاني.
٩٥  الإسلام والإصلاح لريشاروود.
٩٦  يقول مؤرخو الترك: إنَّ رجلين من رجال المجر أسديا للدولة العثمانية أعظم الخدم: أحدهما «أوروبان» المدفعي، جاء القسطنطينية في عهد الفاتح، وعلَّم أرباب السلاح في الدولة صب المدافع الكبيرة، أما الثاني فهو «إبراهيم متفرقة» المجري ورد على تركيا أسيرًا فأسلم، وألف كتابًا في الإسلام (١١٠٦ﻫ)، ثم أسس تحت حماية الصدر الأعظم مطبعة في فروق جلب لها الحفارين، ومن يصب الحروف ويحسن الطبع من فينا، فأُسست المطبعة في الدولة العثمانية سنة ١١٤٠ﻫ بفتوى من شيخ الإسلام بعد أن لغط العلماء كثيرًا بتحريم الطبع، وكان ذلك بعد اختراع الطباعة في أوروبا بثلاثة قرون.
٩٧  راجع مدنية العرب في الأندلس، ومدنية العرب في جزيرة صقلية في الجزء الأول.
٩٨  تراجم الأعيان للبوريني.
٩٩  قاموس الأعلام لشمس الدين سامي.
١٠٠  تاريخ «أبو الفاروق» لمراد الداغستاني.
١٠١  تاريخ بغداد لعثمان بن سند البصري.
١٠٢  تاريخ تركيا للاموش Lamouche: Histoire de la Turquie.
١٠٣  تاريخ الصليبيين لميشو Michaud: Histoire des croisades.
١٠٤  نظرات في سير الأفكار والحوادث في العهد الحديث لكورنو Cournot: Considérations sur la marche des idées et des événements dans les temps modernes.
١٠٥  مقدرات تاريخية لجلال نوري.
١٠٦  تاريخ تدنيات عثمانية لجلال نوري.
١٠٧  تورك تاريخي لرضا نور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤