تعاليق

التعليقة الأولى (ج١، ص١١)

ذكر أحد الباحثين في جريدة الكوتيدين Le quotidien الباريزية تحت عنوان «تاريخ الأمم المغلوبة على أمرها لم يُكتب» أنَّ المجلس الأعلى لبقايا هنود أميركا في الولايات المتحدة أرسل إلى شيخ مدينة شيكاغو احتجاجًا جاء فيه: أنَّ الكتب المدرسية المستعملة الآن في الولايات المتحدة، صورت تاريخ قبائل الهنود في صورة مخالفة للحقيقة التاريخية. قال الكاتب: وليتنا نفكر قليلًا فيما كانت عليه أميركا قبل أن يفتتحها كولمبس، ونقرأ ما قصه الفاتحون الأولون وأرباب الرحلات الأقدمون من الأقاصيص الغريبة، ونلقي رائد الطرف على المدن القديمة في العالم الجديد وما بلغته من الازدهار، وما غصت به من المعابد العظيمة التي تضاهي بعظمتها معابد مصر، وتماثيلها العظيمة المحلاة بالذهب، وما كان هناك من متاحف وخزائن كتب ومراصد فلكية، وإذا كُتب لك أن تتوغل في مدنية المكسيك ومدنية الماياس في يوكاتان والأنكاس في الأند — إذا رأيت كل هذا استنتجت، والدهشة آخذة منك، بأن فتح أميركا كان من أعظم جنايات أوروبا. قال: وليست هذه الجريمة، ويا للأسف، وحيدة في بابها؛ فقد كان تاريخ المدنية والعالم خلال أدوار طويلة مغموسًا بالدماء المكروهة، والجنايات آخذًا بعضها برقاب بعض. قال: وإنَّ تاريخ العالم، على النحو الذي تعلمناه في الكتاتيب والمدارس والجامعات، لا يذكر الغالبين بخير إلا إذا أُريد إيراد فضائحهم، والنظر إلى سقوطهم نظر عداء ومكر، ومنذ عهد قريب فقط أخذوا يذكرون في كتب التاريخ القديم ما قام به الإيجيون سكان شواطئ بحر هيجاي من الأعمال الجليلة، وما كان من أمر المملكتين القديمتين العظيمتين أكاد وسومر، ومنذ زمن غير بعيد رجع العلماء عن القول بالخرافة القديمة في أصولنا الآرية أو الهند الأوربية. وقد تلطف كميل جوليان المؤرخ كل التلطف، حتى وفِّق إلى إدخال أصول جديدة في التاريخ الرسمي من مقتضاها أنَّ المدنيات الأولى في فرنسا، كانت حضارات إيبيرية إسبانية وليغورية إيطالية، يتجلى طابعها في سحناتنا وربما تجلَّى في عقليتنا، وإن نفينا زمنًا هذا الطابع من طوابع أجدادنا ولم نعترف به. قال: ومن قرأ تاريخ إفريقية الشمالية القديمة يعرف أنه قامت حضارة زاهرة في جبل الأطلس قبل ألوف من السنين للميلاد، وكان في تلك الأصقاع مدنية بربرية قويمة ذات علم وفن، تعب المصريون والفينيقيون في القضاء عليها، وأنه كان لأيرلاندا حضارة بديعة فيها البطولة والتقوى، ولم يتعرض المؤرخون من البريطانيين لذكرها ووصفها، ومثل ذلك قل في الشعوب الإيطالية الأولى، قبل أن تؤسس رومية وتنمو، فإن أمرها مجهول، حتى لنجهل اللغة التي كان يتكلم بها الإيتروسكيون الذين شرعوا لرومية الشرائع، وأقاموا لها الملوك، وخلقوا لها أربابًا وآلهة. ا.ﻫ.

التعليقة الثانية (ج١، ص٢٢)

قال ابن الجوزي في كتاب الموضوعات: معظم البلاء في وضع الحديث إنما يجري من القُصاص؛ لأنهم يريدون أحاديث ترقق وتنفق، والصحاح تقلُّ في هذا، واختلف أهل البصرة في القصص، فأتوا أنس بن مالك فسألوه أكان النبي يقص؟ قال: لا. وأخرج الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن نافع وغيره من أهل العلم، قالوا: لم يقص في زمان النبي ولا زمان أبي بكر ولا زمان عمر، وإنما القصص محدث، أحدثه معاوية حين كانت الفتنة. قالوا: ما أمات العلم إلا القصاص، يجالس الرجل القاصَّ سنة، فلا يتعلق منه بشيء، ويجلس إلى العالم فلا يقوم حتى يتعلق منه بشيء. وفي كتاب «تحذير الخواص من أكاذيب القصَّاص» للسيوطي فصل في إنكار العلماء على القصاص ما رووه من الأباطيل، وسفه القصاص عليهم، وقيام العامة مع القصاص بالجهل، واحتمال العلماء ذلك في الله.

التعليقة الثالثة (ج١، ص٣٩)

نص القرافي وابن حزم على أنَّ من حق حماية أهل ذمتنا إذا تعرض الحربيون لبلادنا، وقصدوهم في جوارنا، أن نموت في الدفاع عنهم، وكل تفريط في ذلك يكون إهمالًا لحقوق الذمة. ويقول القرافي: إنَّ من واجب المسلم للذميين الرفق بضعفائهم، وسد خلة فقرائهم، وإطعام جائعهم، وإلباس عاريهم، ومخاطبتهم بلين القول، واحتمال أذى الجار منهم، مع القدرة على الدفع، رفقًا بهم لا خوفًا ولا تعظيمًا، وإخلاص النصح لهم في جميع أمورهم، ودفع من تعرض لإيذائهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم، وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يفعل معهم كل ما يحسن بكريم الأخلاق أن يفعله. ا.ﻫ. ولما تغلب المسلمون على التتر في الشام خاطب ابن تيمية قطلوشاه في إطلاق الأسرى، فسمح له بالمسلمين، وأبى أن يسمح له بأهل الذمة، فقال له شيخ الإسلام: لا بدَّ من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيرًا لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة، فأطلقهم له.

التعليقة الرابعة (ج١، ص٥٥)

يقول جوليفه كستلو في كتابه قانون التاريخ Jolivet Castelot: La Loi de l’histoire، كان التقدم العربي بعد وفاة الرسول عظيمًا، جرى على أسرع ما يكون، وكان الزمان مستعدًّا لانتشار الإسلام، فنشأت المدنية الإسلامية نشأة باهرة، قامت في كل مكان مع الفتوحات بذكاء غريب، ظهر أثره في الفنون والآداب والشعر والعلوم، وقبض العرب بأيديهم، خلال عدة قرون، على مشعل النور العقلي، وتمثلوا جميع المعارف البشرية التي لها مساس بالفلسفة والفلك والكيمياء والطب والعلوم الروحية، فأصبحوا سادة الفكر، مبدعين ومخترعين، لا بالمعنى المعروف؛ بل بما أحرزوا من أساليب العلم التي استخدموها بقريحة وقادة للغاية، وكانت المدنية العربية قصيرة العمر، إلا أنها باهرة الأثر، وليس لنا إلا إبداء الأسف على اضمحلالها.

ولقد كانت المملكة العربية من السعة والانتشار بحيث يتعذر بقاؤها، وسرعان ما تمزقت بتأثير المنافسات السياسية والدينية؛ فقد نشأت ثلاث خلافات أواخر العهد العباسي (بغداد ومصر وقرطبة)، قامت في ثلاثة مراكز قوية عظيمة، وكانت سيرة الخلفاء كسيرة المستبدين من المشارقة، يحبون البذخ ولهم أدب ومكانة، بيد أنهم كانوا قساة لا يبالون ما يصيب رعاياهم من بؤس، يغلون أبدًا في تقاضيهم الضرائب الفاحشة. ولئن كان سادة البلاد أصحاب أثرة، فإن العمل الذي تم حولهم كان أسمى منهم، ومنه نشأت مدنية مدهشة، وإنَّ أوروبا لمدينة للحضارة العربية بما كُتب لها من ارتقاء، من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر، وعنها أُخذت الفكرة الفلسفية والعلمية التي سرت إليها سريانًا بطيئًا ناقصًا في القرون الوسطى، وإنَّ أوروبا لتتجلى لنا منحطة جاهلة أمام المدنية العربية، وأمام العلم العربي والآداب والفنون العربية، وأوروبا تدين بالهواء النافع الذي تمتعت به في تلك العصور للأفكار العربية، وقد انقضت أربعة قرون ولا حضارة فيها غير الحضارة العربية، وعلماؤها هم حملة لوائها الخفاق. ا.ﻫ.

التعليقة الخامسة (ج١، ص٩٥)

جاء في تاريخ غزوات العرب لرينو أنَّ عدد المسلمين الذين تنصروا في فرنسا كان كبيرًا، وهذه نتيجة طبيعية للحالة التي كانت يومئذ، ولكن الفرنسيس الذين اتخذوا الإسلام دينًا كانوا أكبر عددًا، فإن الغزوات الإسلامية الأولى لفرنسا، وسبي المسلمين الذراري من أهلها، وما كان التجار يتجرون به من الرقيق، كل هذا قد أدخل في الإسلام عددًا لا يُحصى من الإفرنج. ومن المعلوم أنَّ المسلمين يتلقون النصارى الداخلين في دينهم بمزيد التساهل، ويُعنون بهم ويوفرون حظوظهم وأرزاقهم، وبهذا كثر عدد النصارى الذين صبأوا عن دينهم ودخلوا في الإسلام.

التعليقة السادسة (ج١، ص٩٦)

يقول يوهان يورت في كتابه أزمة الحقيقة Gohan Hjort: La crise de la vérité أثناء كلامه على ما قامت به النصرانية من تخريب أوروبا، لما أرادت نشرها فيها وقضائها على أناس من سكانها كانوا أقل من المهاجمين قوة، إنه فرغت أرجاء كثيرة من سكانها على حين كانوا ينقلون ملايين من الزنوج من إفريقية إلى أميركا؛ ليكون حكمهم حكم الحيوانات الأهلية، فقضت عليهم الأمراض والغول التي جاءوهم بها من أوروبا، وطُوردوا وأُبيدوا وأُكرهوا على أعمال قاسية، وقرضوا لهم الحيوانات التي كانوا يغتذون بها. وبعد أن ذكر ما أبقته حرب الثلاثين سنة من الفجائع في أصقاع واسعة من بلاد ألمانيا، وذكر ظلم القضاء ولا سيما ديوان التحقيق الديني، ودعاوى السحر، وكل ما يمكن الخرافات اختراعه. قال: كانت السجون بؤرة الفظائع، ومغارات الشقاء والظلم، وكان اليتامى إذا فقدوا معينهم يموتون أو يعيشون عشيًا شقيًّا، ولطالما رأت الشمس عصابات من جياع الأطفال هلك آباؤهم في الحروب، وهم هائمون على وجوههم في الحقول، يغتذون بالأعشاب والجذوع.

التعليقة السابعة (ج١، ص٢١١)

لم يتمكن أهل إسبانيا من أن يحولوا دون تغلغل النفوذ الإسلامي في صميم حياتهم، حتى إنَّ ممالك إسبانيا النصرانية استعملت النقود الإسلامية أربعة قرون، واستحضر كثير من ملوك قشتالة وأرجون جمًّا غفيرًا من علماء المسلمين واليهود، وقدموهم في مجالسهم، ورفعوا من أقدارهم، كما استخدم كثير من ملوكهم مهندسين وبنائين من المسلمين، وفتحوا أبواب مجالسهم لكثير من الموسيقاريين والشعراء من المسلمين؛ للتلذذ بطيب أنغامهم وحلو حديثهم، ومات روح التسامح هذا بالقضاء على الإسلام في إسبانيا، وحل محله روح خبيث ملؤه التعصب الأعمى، الذي أشعل ناره القساوسة الكاثوليك؛ لتصبح إسبانيا أسيرة رقهم وعبوديتهم.

وكان المسلمون في الأندلس يفضلون أبدًا أن تكون أمهات أولادهم من الأسر النصرانية العريقة في المجد والحسب، فأخذ الدم العربي بطبيعة الحال يقل في عروقهم مع مرور الزمن؛ ولذلك كان من الخطأ أن نقول: إنَّ كل مسلمي إسبانيا عرب، أو إنَّ كل نصاراها رومانيون أو قوط، كانت اللغة العربية في إسبانيا اللغة الرسمية، ولغة الرومان لغة دارجة يتكلم بها الجميع، العرب والمستعربون، وهي عامة في جماع طبقات قرطبة حتى في المحاكم، وفي القصور الملكية، الفصحى لغة العلماء والأدباء، والعربية العامة لغة الحكومة والإدارة، وهناك لغة رومانية اشتُقت من اللاتينية، وهي التي تولدت منها اللغة الإسبانية.

ومما زاد في انتشار الحضارة الإسلامية في الأقطار الإسبانية الشمالية النصرانية، ومنها انتشرت في أرجاء أوروبا، هجرة المستعمرين، فرارًا من الاضطهاد الذي لحقهم، على عهد دولتي البربر المرابطين والموحدين، خصوصًا في الدور الذي انقضى بين سنة ١٠٩٠ وسنة ١١٤٤م، وهذه أول مرة في تاريخ الأندلس نشأ فيها تعصب ديني، وقد جاء به ملوك البربر من الجنوب وقساوسة الكلونياك من الشمال.

وما كاد القرن العاشر الميلادي يتبلج، حتى كانت المدنية الإسلامية قد انتشرت في إسبانيا كلَّها، في البلاد الإسلامية والنصرانية سواء، ولما سقطت مدينة طليطلة في حكم الممالك النصرانية، انتشرت حضارة الإسلام في عامة أصقاع أوروبا، وخلفت طليطلة مدينة قرطبة في التفرد بالحضارة والعلوم، واحتفظت بمكانتها إلى ما بعد سقوطها في أيدي الإفرنج في سنة ١٠٨٥.

كان بلاط الملك ألفونسو السادس متشبعًا بالمدنية الإسلامية، على نحو ما كان بلاط فرديناند الثاني في بلرم في القرن الثالث عشر، حتى لقد لقب ألفونسو نفسه بإمبراطور الديانتين، وكان الطلبة يؤمون مدارس طليطلة من كل ممالك أوروبا، حتى من إنجلترا واسكتلندا. ومن أعظم ما خلفه مسلمو إسبانيا للمدنية الغربية ما كتبه فلاسفة المسلمين، وعلى ما كانت عليه دولتا المرابطين والموحدين من التعصب، لم تتعرضا للفلاسفة بل شجعتاهم، ولكن على ألا ينشروا تعاليمهم بين الناس، ولم يظهر أعاظم المفكرين في المسلمين في عصر خلفاء قرطبة الزاهر، بل ظهروا في عصر الفوضى والاضمحلال السياسي، وكان هؤلاء الفلاسفة همزة الوصل في نقل فلسفة أرسطو إلى العرب، وكان الإنجليزي أو الاسكتلندي يضطر إذا أراد أن يدرس الفلسفة اليونانية، أن يرحل إلى طليطلة؛ ليدرسها باللغة العربية على شيوخ المسلمين.

كان ألفونسو التاسع ملك قشتالة وليون (١٢٥٢–١٢٨٤م) أعظم علماء النصرانية في إسبانيا، استدعى كثيرًا من اليهود؛ ليترجموا له الكتب العربية، وكتب بنفسه شيئًا كثيرًا من النثر الإسباني تجلى فيه الروح العربي، (عن مقالات من تراث الإسلام أو أثر الإسلام في المدنية الحديثة، عربها عن الإنجليزية مأمون عبد السلام، ونشرها في جريدة البلاغ المصرية في ١٤ من ربيع الثاني ١٣٥٣ وما بعده).

ويقول رينو في تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط: إنَّ المسلمين في مدن الأندلس، كانوا يعاملون النصارى بالحسنى، كما أنَّ النصارى كانوا يراعون شعور المسلمين، فيختنون أولادهم ولا يأكلون لحم الخنزير. وقال: إنَّ النهضة الحقيقية في أوروبا لم تبدأ إلا منذ القرن الثاني عشر؛ أي منذ زحف أهل الغرب لقتال أهل الشرق، ووقفت النصرانية والإسلام في الصراع وجهًا لوجه، فوقع الاحتكاك بين المسلمين والنصارى، وأفاق الفرنسيس والإنجليز والألمان من رقدتهم، ونفضوا عنهم غبار الخمول، ووجدوا ضرورة الاشتراك في المدنية الإسلامية، وكان علم اللغة اليونانية قد درس وصار العلم اليوناني غير معروف إلا عند العرب، فأخذ النصارى من فرنسا وجوارها يؤمون إسبانيا لأجل ترجمة التآليف العربية المنقولة عن اليونان.

قال رينو: وبالجملة، فقد كان العرب لذلك العهد هم الأمثلة العليا والأقيسة البديعة في الشجاعة والشهامة، وعزة النفس، ومكارم الأخلاق، والعفو عند المقدرة، وقري الضيف، تشهد بذلك وقائع ونوادر كثيرة، منها ما رواه بعض مؤرخي الإسبانيول من أنه في سنة ٨٩٠ أراد ملك أشتورية أذفونس الكبير أن ينتدب مؤدبًا لابنه وولي عهده، فاستدعى اثنين من مسلمي قرطبة حرصًا على تهذيبه؛ إذ لم يجد في النصارى إذ ذاك كفؤًا لهذه المهمة.

التعليقة الثامنة (ج١، ص٢٢٤)

ذكر رينه مارسيال في كتابه العنصر الفرنسي René Martial: La race française، أنَّ النورمانيين الذين امتزجوا بالعنصر الفرنسي قد باضوا وفرخوا في إنجلترا، وساعدوا على عمران تلك البلاد، وكانوا أبدًا مخاصمين للفرنسيس وأعداء لهم ومنافسين. أما العرب فكانوا على العكس من ذلك، فإنهم لم يتركوا في غاليا وفي فرنسا غير حضارتهم، وعددًا كبيرًا من الخلاسيين بدون أن ينشأ منهم اختلاف جنسي أو عنصري، واليوم وقد أصبح شمالي إفريقية جزءًا من فرنسا، أخذ الناس يدركون أحسن من ذي قبل أنَّ الطابع الذي أبقاه العرب الفاتحون كان عظيمًا، وأنهم شاركوا مشاركة عظيمة في نشوء التهذيب العقلي والفنون في أوروبا. لما ضرب العرب في سنة ٧١١ الويزغوت في وقعة شريش أصبحوا سادة إسبانيا، ودخلوا بلاد غاليا من أقليم نربونة، وكان اسمها إذ ذاك سبتمانيا، وفي سنة ٧٢١ حال «أود دوج أكيتين» دون تقدم العرب في وقعة طلوزة، وكان هاجمه العرب من كل جهة، وبعد أن هاجموا الأكيتين تقدموا في سمت الشمال، حتى بلغوا مدينة تور فأنقذ شارل مارتيل هذه المدينة، وقضى على العرب قضاءً مبرمًا في وقعة بواتيه (أكتوبر ٧٣٢م). وترك العرب من آثار حضارتهم ما لم تتركه الشعوب الجرمانية؛ لتفوقهم في الحضارة إذ ذاك. ولما كان العرب مؤرخين وشعراء كان من إبقائهم لنا قصة ألف ليلة وليلة أجمل مصدر استقى منه أدباء الغرب ومتفننوه، ونفعت هذه القصص العلماء من عدة وجوه، والقرآن نفسه كتاب عظيم من الطراز الأول، حوى الدين والأدب والشرع، وما زال تأثيره في حياة العرب ولا يزال، بحيث لا يُستطاع فهم روح المسلمين وفكرهم إذا لم يُدرس ويُقرأ في ترجمة صحيحة؛ لأن كثيرًا من الترجمات كان رديئًا وأكثر منها التفاسير، وأرى أنَّ قلائل فينا عرفوا العرب معرفة حقيقية، ولا أستطيع أن أُدخل في هذا العدد القليل غير المارشال ليوتي والأستاذين غوتيه وريكاس.

ثم ذكر ما تفرد به العرب في خدمة الحضارة، ومما قال: إنَّ اختراعهم الورق دعا إلى استكثارهم من خزائن الكتب، وهي وحدها دليل على تقدمهم في سبيل الحضارة، وأنه لا وجه للتشبيه بين غارات العرب وغارات برابرة الجرمان. وذكر ما كان من العلائق التجارية بين بلاد المسلمين ومرسيلية منذ الحروب الصليبية. وقال: إنه كان فيها جامع للمسلمين يؤدون فيه فرائضهم منذ الزمن الأطول، دلت على ذلك المعاهدات التي عُقدت بين فرنسا ودول الإسلام، وأنَّ مرسيلية مدينة بكثير من حضارتها ونجاحها؛ لاتجارها مع العرب منذ القرن العاشر. قال: لو كانت العرب غلبت شارل مارتيل لكانوا تمثلوا تمثلًا حسنًا في الأرض الفرنسية أكثر من السلتيين في الأرض الليغورية، فإن مقامهم الطويل في إسبانيا شاهد بذلك، وكذلك يدل ما أبقوا من الآثار إلى أي درجة كانت حضارتهم متفوقة على حضارتنا إذ ذاك.

التعليقة التاسعة (ج١، ص٢٢٨)

كتب داوسون في كتابه أصول أوروبا والمدنية الأوربية Christopher Dawson: Les origines de l’Europe et de la civilisation Européenne كانت الحضارة العباسية، ولسانها العربية ودينها الإسلام، مكملة بمظهرها العقلي للحضارات القديمة التي مثلتها مملكة العباسيين الواسعة، ويصح ذلك على الخصوص بما نشأ من الفلسفة العربية والعلم العربي اللذين ارتقيا في ذاك العصر، وأثرا تأثيرًا عظيمًا في أهل القرون الوسطى عامة. ولقد كانت الحركة العلمية في العالم في أكثر من أربعة قرون بأيدي الشعوب الإسلامية، وعن العرب أخذت أوروبا الغربية أصولها العلمية، ويرجع العمل العلمي والفلسفي في العالم الإسلامي إلى العرب وإلى الإسلام نفسه، هذا وإن لم يكن فيه إبداع جديد، ولم يتوفر على غير إكمال العلم اليوناني، وقد انضم إلى الثقافة الإسلامية أشياء بفضل رجال كانوا من أصول أرامية وفارسية، وإذا استثنينا الكندي فيلسوف العرب فقط نجد حظ العرب قليلًا من هذه الحركة. وقد أثمرت هذه الحضارة في تخوم البلاد الإسلامية، أثمرت في آسيا الوسطى أمثال الفارابي وابن سينا والبيروني، وفي إسبانيا والغرب الأقصى ابن رشد وابن طفيل.
وقال: إنَّ النصارى السريان في بابل والصابئة في حران، كانوا واسطة لنقل الثقافة اليونانية إلى الثقافة الإسلامية، وإنَّ علماء البصرة أخذوا منطق أرسطو عنهم، وإنَّ هذا الاقتباس عن اليونان كان قليلًا لا شأن له، وإنَّ العرب لم يأخذوا شيئًا في الشعر ولا اقتبسوا التمثيل، ومع هذا ترك البيان اليوناني أثرًا ظاهرًا في الآداب العربية، ولا سيما في كتابات الجاحظ، أكبر منشئ وأعظم أستاذ في القرن التاسع، وعظم النفع بما أبقته الثقافة اليونانية في العلوم والفلسفة، وتلقى المسلمون باليمين، ما كانت مدارس آثينا والإسكندرية قد تركته منذ القرن السادس، وكانت آراؤهم في الفلسفة كآراء فلاسفة اليونان؛ أي التوفيق بين الفلسفة الأرسطاطاليسية والأفلاطونية الجديدة، ومزج كل منهما بالأخرى، أخذوا أصول هذا التحليل فحققوه بقوة فكر ونزاهة علمية، وكان عملهم فيها من أتم وأحكم ما وفقت إليه الفلسفة في عصورها الماضية، ونجح علماء العرب بتنظيم الفلسفة فما كانت عندهم مجموعة معلومات مختصرة مركومة؛ بل جعلوا لها قواعد تامة لا تتجزأ من مجموعها الأسطقسات أو العناصر، واحتفظت الحضارة الإسلامية بتفوقها خلال القرون الوسطى في الشرق وفي أوروبا الغربية. وبينا كانت النصرانية سائرة إلى الاضمحلال بما انهال عليها من غارات العرب والفيكنغ Vikings والمجر، كانت الحواضر الإسلامية على شواطئ البحر المتوسط الغربي تدخل في أعظم طور من أطوار نهضتها. قال: إنا اعتدنا اعتبار مدنيتنا كأنها تألفت من جوهر الحضارة الغربية، حتى صعب علينا أن نعتقد بإنه أتى زمن وأهم قطر متحضر في أوروبا الغربية لم يكن سوى ولاية ذات مدنية غريبة عنها، وأنَّ البحر المتوسط مهد حضارتنا، كان مهددًا بأن يصبح بحرًا عربيًّا، وكادت النصرانية في الغرب والإسلام في الشرق يكونان شيئًا واحدًا في زمن كانت فيه آسيا الصغرى نصرانية، وكانت إسبانيا والبرتقال وصقلية تؤوي حضارة إسلامية زاهرة. هكذا كانت الحال في القرن العاشر، وقد فعلت هذه الحضارة فعلها العظيم في ترقي العالم في القرون الوسطى، فانتشرت الثقافة الغربية في ظل حضارة الإسلام، واستطاعت النصرانية في قرونها الوسطى بفضل هذه الحضارة أن تأخذ طرفًا من التراث العلمي والفلسفة اليونانية، وما كان ذلك قبل القرن الثالث عشر، ولم يتم إلا عقبى الحروب الصليبية، وبعد فاجعة المغول العظمى تمكنت الحضارة النصرانية الغربية من بلوغ مكانة مساوية بعض المساواة للمدنية الإسلامية، وبقيت مع هذا متأثرة بالمؤثرات الشرقية.

التعليقة العاشرة (م١، ص٢٣٠)

قال ابن بسام في الذخيرة: إنَّ إشبيلية صارت مجمعًا لصوب العقول، لا سيما من أول المائة الخامسة من الهجرة «حين فرع كل حزب بما لديه، وغلب كل رأس على ما في يديه، بعد الدولة الحامدية»، «حتى اجتمع في الجانب الغربي ما باهى الأقاليم العراقية، وأنسى بلغاء الدولة الديلمية»، وطريقتهم في الشعر الطريقة المثلى، التي هي على طريقة البحتري في السلاسة والمتانة والعذوبة والرصانة.

التعليقة الحادية عشرة (م١، ص٣٢٢)

بحث بعض علماء الأميركيين والإنجليز في لغات الهنود في أميركا، فوقعوا على كلمات عربية ترجع إلى سنة ١٢٩٠م؛ أي إلى قرنين قبل وصول كولمبس إلى أميركا، وقد يكون أصحاب تلك الكلمات اتصلوا بها قبل ذلك بقرنين آخرين، وهناك مستعمرات عربية وجدت بين سنة ١١٥٠ و١٢٠٠، وقد شوهدت آثار عربية في شاطئ الخليج المكسيكي خاصة، وكان العرب يتجرون مع أميركا قبل كولمبس بزمان طويل، وثبت أنَّ سفن العرب أقلعت من جزيرة كناريا، ومن هناك إلى أزوارد في وسط الأطلنطي، ونزلت إيرلاندا وجزائر إنجلترا الغربية. وفي هذه الناحية من تلك الجزائر بئر تُسمى بئر عباس، يُستدل بها أنَّ العرب استعمروا تلك الناحية، وكان في لشبونة مصور بلاد أميركا مما صنعته أيدي العرب، ولنا أن نقول: إنَّ التجارة بين العرب وهنود أميركا كانت قبل موافاة كولمبس لها بخمسة قرون، ولما أبحر كولمبس من أوروبا كان متزودًا بمصورات وخرائط للعرب، وبها اهتدى إلى تلك الأرض، واستصحب رجلين من العرب كانا عبرا إلى أميركا قبل ذلك وعرفا الطريق، وعثر أحد علماء الأثريات على ألواح مكتوبة بحروف عربية ولغة عربية، فاتجهت أنظار علماء الآثار إلى استطلاع كنه هذه الحقائق التاريخية، التي لا تلبث أن تنطق بأفصح لسان بفضل العرب على الإنسانية في جميع الميادين (لمحمد بن عمار الورتتاني في كتابه كشف الحجب).

التعليقة الثانية عشرة (ج١، ص٢٥١)

نقل ليفي بروفنسال في كتابه إسبانيا الإسلامية في القرن العاشر E. Lévi Provençal: L’Espagne musulmane au Xème siècle عن مصادر عربية، أنَّ الكاتب في الدولة الأموية كانت رتبته تعادل رتبة الوزارة، وأنه كان يُطلق على الوزير لقب الكاتب تخفيفًا، وأنَّ كاتب الذمم كثيرًا ما كان على رواية ابن سعيد نصرانيًا أو يهوديًّا — سواء في ذلك الأندلس وشمالي إفريقية — وكانت الأعمال تُوسد في الأندلس إلى العرب والبربر والإسبانيين المولدين، والوظائف مما يتقلده النصارى واليهود. ووصل المولدون مع الزمن وهم من أصول غير عربية إلى أن تولوا الأعمال العامة إلا قليلًا. وقال: إنَّ أولاد الخلفاء من الأمويين وذوي قرباهم قلما كانوا يتولون أعمالًا للدولة، وقلما يظهرون إلا في أيام البيعة لملك جديد، وأنَّ المناصب العالية قد يطمع فيها من العمال من يؤدي للخليفة مالًا مما جناه أو جناه أهله، وأنَّ النصارى واليهود كانوا في العهد الأموي هناك يتصرفون للدولة في الأعمال الإدارية والحربية، ومن اليهود من كانوا ينوبون عن الخليفة بالسفارات إلى دول أوروبا الغربية. وقال: إنَّ الجيش الأندلسي كان بعد عهد الأمويين يُنظم على مثال الجيش العباسي من حيث ترتيبه وطبقاته، وزعم أنَّ جميع طبقات المجتمع الإسلامي كانت تتعاطى الخمر كالنصارى واليهود، وأنَّ شاربي الخمر ما كانوا يُعاقبون بشدة كما يقضي به الشرع، وأنَّ الخمر ما كان يُشرب في كل ناحية علنًا.

التعليقة الثالثة عشرة (ج١، ص٢٦٤)

الظاهر أنَّ المسلمين غزوا رومية مرتين: الأولى في سنة ٢٣١ﻫ/٨٤٦م، وفيها ضربوا الحصار على مدينة القياصرة، فارتاع البابا سرجيوس، واهتز الشعب الروماني فرقًا ورعبًا، وبادر الإمبراطور لويس الثاني ملك الفرنج واللومبارد بإرسال حملة لمقاتلة الغزاة، وجهزت ثغور نابل وأمالفي وجابتا حملة بحرية لمطاردتهم، فرفع المسلمون الحصار عن المدينة بعد أن اقتتلوا مع جند الإمبراطور وسفن الثغور الإيطالية قتالًا رائعًا وعادوا مثقلين بالغنائم والأسرى. وفي سنة ٢٥٦ﻫ/٨٧٠م نشط أمراء البحر المسلمون في ثغور إفريقية والأندلس إلى تجهيز حملة كبيرة فوصلوا إلى رومية وهددوها، حتى اضطر البابا يوحنا الثامن خلف البابا ليون، أن يفاوضهم في الجلاء على أن يدفع لهم جزية سنوية قدرها خمسة وعشرون ألف مثقال من الذهب (عن مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام لمحمد عبد الله عنان).

التعليقة الرابعة عشرة (ج١، ص٢٧٨)

لما دخل الإفرنج القسطنطينية في سنة ٦٠٠ﻫ نهبوا كل ما في البيع من ذهب ونقرة، حتى ما على الصلبان، وما على صورة المسيح والحواريين، وما على الأناجيل، ثم أخرجهم الروم عن البلاد فعادوا إليها وقتلوا كل من اعتصم بالكنيسة وغيرها (قاله ابن الساعي في الجامع المختصر).

التعليقة الخامسة عشرة (ج١، ص٢٩٥)

قال جوليفه كستلو: عصفت الحروب الصليبية في قرن حملت ريحًا من الجنون تبلور في أفكار الناس، فانتقل من القسوة إلى الفعل، وما هي إلا سلسلة من الحملات قامت بها شعوب أوروبا النصرانية؛ للاستيلاء على القبر المقدس في إيلياء، وذكر أنَّ البابا أوروبانوس الثاني، وكان من أصل فرنسي، هو الذي جيَّش الحملة الأولى، والبابا هو الذي زين للشعوب الأوربية ما حملهما على الاشتراك في هذه الحرب الزبون، وهو الذي وضع لهم ما وضع من المغريات فقبلوهها راضين. وكانت الحملة الأولى (١٠٩٥ﻫ) مؤلفة من مائة ألف فرنسي وألماني، فنيت في الطريق، ولم تصل إلى غير القسطنطينية، ثم مزق الأتراك شملها في آسيا الصغرى، والتحقت بها حملة مؤلفة من مليون إنسان فيهم النساء والأولاد، والمحاربون منهم ثلاثمائة ألف، خلص منهم ثمانون ألفًا إلى القدس ففتحوها، أما سائر الحملات فقد أخفقت. ومع هذا كانت كنوز الشرق تغوي الحملات الأخيرة، أكثر مما تستهويهم أوهام الدين، ولكم أن تشبهوا حملات النصارى على الشرق بحملات البرابرة المتوحشين، وإن كانت دعوى إنقاذ القبر المقدس المشكوك في أنه قبر المسيح، قد اتخذها الباباوات ثم الملوك، حجة ليحمسوا الشعوب ويجندوا الناس، وغدا التجنيد إجباريًّا بعد الحملة الثانية، وكانت هذه الحملات الكبرى شؤمًا على أوروبا، استنزفت من البلاد رجالها الأشدَّاء الشجعان غير مرة، وافتقرت بسببها فرنسا وإنجلترا وألمانيا فقرًا دونه كل فقر، لما قضت عليه هذه الحروب من مئات الألوف من الأيدي النافعة، دع ما صُرف عليها من النفقات الباهظة. وكان من طمع الباباوات ما استغلوا به سذاجة الجماهير فكلفهم باهظ التكاليف، وتجلت في ذلك شهواتهم المفرطة، كي يحرزوا الثروة السهلة المأخوذة من غير حلها، وتولت المحنة تكذيب أوهامهم فكان من ذلك أشد المصائب، وبينا كانوا يرجون أن يسقطوا على سعادة وغنى ومجد لم يشهدوا إلا آلامًا وبؤسًا، وقد أرخوا العنان لغرائزهم المتوحشة مدفوعين إليها بعامل الفاقة والأمل، وستظل الحروب الصليبية إحدى فضائح النصرانية السياسة المؤمنة، ونحن لا نرى فيها ما يعزوه إليها المؤرخون من الفوائد إلا كذبًا وبهتانًا عظيمًا، ولن يوافقهم على ما يدعون إلا من كان تحت سلطان الوطنية والدين. إنَّ تبادل الأفكار بين الشرق والغرب قد نتج من الاحتكاك بين عرب إسبانيا والأوروبيين أكثر مما كان من أثر الصدمة البربرية بين جيوش النصرانية والإسلام. وعلى كل حال فإن أوروبا مدينة كثيرًا للحضارة العربية والتركية، أكثر مما تدين الحضارة العربية للحضارة المنحطة في الغرب بين القرن الحادي عشر والثالث عشر. ا.ﻫ.

التعليقة السادسة عشرة (ج١، ص٣١٩)

في تاريخ البرتقال لتيودريك لكران Théodoric Legrand: Histoire du Portugal أنَّ المغاربة المسلمين الذين نزلوا بلاد البرتقال كانوا أشبه بالمدجنين من غير المسلمين الذين نزلوا إسبانيا، ويُطلق عليهم اسم «موروفوروس Mouros Forros»، كانوا يؤدون ضرائب خاصة، وتجري عليهم أحكام خاصة، ويؤلفون شعبًا اشتُهر بصناعاته، وعاون كثيرًا على رقي الزراعة في البرتقال. قال: إنَّ الملك هنري (١٤٦٠م) الذي لقَّبه التاريخ بالملاح، قد توقف بموته سير الاكتشاف بعض التوقف، وكان هو الموحي بجميع المكتشفات التي كان منها النجاح الممجد لوطنه مدة قرن من الزمن، لما خُص به من علم ورزقه من عمل، فجعل للبرتقال المقام الأول بين أمم العالم. وقد تعاقد فاسكو دي جاما الملاح البرتقالي مع ابن ماجد الملاح البصري في سنة ١٤٩٨ في ملندة في البحر الهندي، على العمل في الأسطول البرتقالي. وكانت البرتقال في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، كما كانت البندقية، أعظم دولة في العالم، وأنه أعان على إخراج العرب من لشبونة جيش من الصليبيين من أهل اللورين وفلمنديا، كان متوجهًا إلى القدس فحارب في صفوف البرتقاليين في شنترين وشنترة ولشبونة.

التعليقة السابعة عشرة (ج١، ص٣٢٢)

لما وضعت إسبانيا حمايتها على الشواطئ الإفريقية في القرن العاشر من الهجرة، وتدخلت في فض بعض القلاقل الداخلية في تونس، خرب عمرانها وتبدد سكانها بالهجرة والقتل، فانقرض نحو ثلث سكانها، وأصبح شطر كبير من معالمها أطلالًا دوارس، وأتى الإسبانيون على العمران الذي كان لتونس زمن الدولة الحفصية، ولم تعد إلى البلاد حياتها إلا بنزول جاليات من الأندلس ممن فروا من الإسبان، لما استولوا على بلادهم، فعمروا المدن والقرى، وأحيوا الزراعة والصناعات. وفي كتاب شهيرات النساء لحسن حسني عبد الوهاب أنه لم يمضِ غير زمن يسير حتى زهت حاضرة تونس بالفنون الجميلة، مثل الهندسة والنقش والموسيقى والصناعات المختلفة، وهكذا كان الأندلسيون في كل بلد نزلوه في مراكش وشمالي إفريقية بأسرها.

التعليقة الثامنة عشرة (ج١، ص٣٢٩)

قال جوليفه كستلو: تشبه الطريقة التي جرى عليها الإنجليز في استعمارهم، الطريقة التي سارت عليها حكومات أوروبا المختلفة، وطريقتهم الاعتماد على قوة الجند التي لا تُقاوم، وامتهان حقوق الوطنيين. ولما كان الاستعمار البريطاني قائمًا على الثبات والدءوب أكثر من استعمار الممالك الأخرى، جاءت منه فوائد محسوسة مثمرة، وغدت المملكة الاستعمارية الإنجليزية منبع غنى فائض للبلاد الإنجليزية، والهند وأوستراليا أجمل أزهار ذاك التاج. بيد أنَّ قوة المستعمرات ليست اليوم غير صورة ظاهرة، وتوشك على ما يظهر أن تقطع صلتها بإنجلترا، فتتمزق قوة إنجلترا النائية عن أوروبا، وتلك هي الرجعة العادلة في الأشياء، هذا إذا كان في التاريخ عدل؛ ذلك لأن الجرائم التي احتقبتها إنجلترا في الهند والترنسفال وفي أيرلاندا، سيكون منها رد فعل طبيعي، ينال فيه الفاعلون جزاء ما قدمته أيديهم.

وقال أيضًا: إنَّ عهد السياحات الكبرى بدأ في القرن الخامس عشر، قامت بها البرتقال أولًا على يد فاسكو دي جاما، ثم إسبانيا على يد خريستوف كولمبس والبوكرك وأمريك فسبوس، بإيحاء ماركو بولو، وبفضل المعلومات التي ثقفوها بواسطة العرب في الجغرافيا والفلك. وقد عرف العرب كروية الأرض على النحو الذي قال به الأقدمون، خلافًا لما كان يعتقده الأوروبيون. وما عتم الإسبان أن أسسوا مملكة استعمارية حقيقية في أميركا، بفتحهم المكسيك وبيرو فتحًا سريعًا سداه ولحمته التوحش، وكانت حضارة الأستيك والإينكاس، سكان هاتين المملكتين، سامية في ذاتها، بل أرقى من حضارة من أخضعوهم لسلطانهم، ممن لم تكن لهم غاية سوى الاستيلاء على المدن والكفور في تلك الأرجاء الواسعة، وما الفتح الإسباني في الواقع إلا سلسلة طويلة من الفظائع والفجائع، وحوادث مكررة من الجنايات والسرقات. وقد قضى الإسبان على الوطنيين قضاءً مبرمًا، وجلبوا من إفريقية عددًا عظيمًا من السود، فكان ذلك الأصل في استرقاق الزنوج الشنيع، وعلى أثر الإسبانيين سارت جميع شعوب أوروبا، وما انتهى دور الرق إلا في أواخر القرن التاسع عشر، وكان بالطبع من هذه الحملات الواسعة تبدل اقتصادي وعلمي عظيم، فانهالت المعادن الثمينة من بيرو على إسبانيا والبرتقال، واغتنى بها الملوك خاصةً، حتى استطاعوا أن يزيدوا في جيوشهم، ويوسعوا سلطتهم السياسية، كما اغتنت الطبقة الوسطى من السوقة والتجار، وارتفعت أسعار الحاجيات؛ لتكاثر الذهب والفضة.

التعليقة التاسعة عشرة (ج٢، ص١٩)

يقول الفارابي في إحصاء العلوم: إنَّ صناعة الكلام يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل، وهذا ينقسم جزءين أيضًا: جزء في الآراء وجزء في الأفعال، وهي غير الفقه؛ لأن الفقه يأخذ الآراء والأفعال التي صرح بها واضع الملة مسلَّمة، ويجعله أصولًا فيستنبط منها الأشياء اللازمة عنها، والمتكلم ينصر الأشياء التي يستعملها الفقيه أصولًا من غير أن يستنبط عنها أشياء أُخر، فإذا اتفق أن يكون للإنسان منا قدرة على الأمرين جميعًا فهو فقيه متكلم، فيكون لنصرته لها بما هو متكلم، واستنباطه عنها بما هو فيه فقيه. وعلم الكلام يُسمى علم أصول الدين، وعلم التوحيد والصفات، وكان أبو حنيفة يسميه «الفقيه الأكبر».

التعليقة المكملة للعشرين (ج٢، ص٦٠)

سُمع أبو الرملي، وكان مسنًّا، يقول: حضرت مجلس أبي القاسم المرتضى وأنا إذ ذاك صبي، فدخل عليه بعض أكابر الدولة فتزحزح له، وأجلسه معه على سريره، وأقبل عليه مسائلًا، فساره الديلمي بشيء لم نعلم ما هو، فقال له متضجرًا: نعم، وأخذ معه في كلام كأنه مدافعة، فنهض الديلمي، فقال المرتضى بعد نهوضه: أهؤلاء يريدون منا أن نزيل الجبال بالريش، وأقبل على من في مجلسه، فقال: أتدرون ما قال هذا الديلمي؟ فقالوا: لا يا سيدي، فقال، قال: بيِّن لي هل صح إسلام أبي بكر وعمر، قلت: رضي الله عنهما. وسُمع أبو القاسم بن برهان يقول: دخلت على الشريف المرتضى أبي القاسم العلوي في مرضه الذي توفي فيه، فإذا هو قد حوَّل وجهه إلى الجدار فسمعته يقول: أبو بكر وعمر وليا فعدلا، واستُرحما فرحما (طبقات الأدباء لياقوت، في ترجمة علي بن الحسين المرتضى ج٥).

التعليقة الحادية والعشرون (ج٢، ص٨٠)

جلس قاص ببغداد فروى تفسير قوله تعالى: عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا، وزعم أنه يجلس معه على عرشه، فبلغ ذلك الإمام محمد بن جرير الطبري، فاحتد من ذلك وبالغ في إنكاره، وكتب على باب داره «سبحان من ليس له أنيس، ولا له على عرشه جليس.» فثارت عليه عوام بغداد ورجموا بيته بالحجارة حتى استد بابه بالحجارة وعلت عليه (رواه السيوطي في تحذير الخواص من أكاذيب القصاص).

التعليقة الثانية والعشرون (ج٢، ص١٣٥)

كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: لا تستقضين إلا ذا حسب أو مال، فإن ذا الحسب يخاف العواقب، وذا المال لا يرغب في مال غيره.

التعليقة الثالثة والعشرون (ج٢، ص١٤٤)

كتب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى قثم بن العباس عامله على مكة: أما بعد، فأقم للناس الحج، وذكِّرهم بأيام الله، واجلس لهم العصرين، فافت المستفتي، وعلِّم الجاهل، وذاكر العالم، ولا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك، ولا صاحب إلا وجهك، ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها، فإنها إن ذيدت عن أبوابك في أول ورودها، لم تُحمد فيما بعد على قضائها، وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله، فاصرفه إلى من قِبلك من ذي العيال والمجاعة، مصيبًا به مواضع المفاقر والخلات، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا، لنقسمه فيمن قِبلنا، ومرْ أهل مكة ألا يأخذوا من ساكن أجرًا، فإن الله تعالى يقول: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ فالعاكف المقيم به، والباد الذي يحج إليه من غير أهله، وفقنا الله وإياك لمحابه والسلام.

التعليقة الرابعة والعشرون (ج٢، ص١٤٤)

لم يكن في زمن النبي وأبي بكر وعمر وعثمان سجن، وكان يُحبس في المسجد أو في الدهليز حيث أمكن، فلما كان زمن علي أحدث السجن، وكان أول من أحدثه في الإسلام، وسماه نافعًا ولم يكن حصنًا، فانفلت الناس منه، فبنى آخر وسماه مخيسًا (بالخاء المعجمة والياء المشدَّدة فتحًا وكسرًا) (رواه الخفاجي في شفاء الغليل).

التعليقة الخامسة والعشرون (ج٢، ص١٤٥)

كان علي يأخذ الجزية من كل ذي صنع: من صاحب الإبر إبرًا، ومن صاحب المسانِّ مسانَّ، ومن صاحب الحبال حبالًا، ثم يدعو العرفاء فيعطيهم الذهب والفضة فيقتسمونه، ثم يقول: خذوا هذا فاقتسموه، فيقول: أخذتم خياره، وتركتم علي شراره لتحملنه. قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال بعد أن نقل هذا: وإنما يوجه هذا من علي أنه إنما كان يأخذ منهم هذه الأمتعة بقيمتها من الدراهم التي عليهم من جزية رءوسهم، ولا يحملهم على بيعها، ثم يأخذ ذلك من الثمن إرادة الرفق بهم، والتخفيف عنهم، وهذا مثل حديث معاذ حين قال باليمن: ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الصدقة، فإنه أهون عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة، وكذلك فعل عمر — رحمه الله — حين كان يأخذ الإبل في الجزية. والخميس الثوب الذي طوله خمس أذرع، ويُقال له المخموس أيضًا، واللبيس ما يُلبس من الثياب.

التعليقة السادسة والعشرون (ج٢، ص١٤٥)

سُئل الحسن البصري عن علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — قال: كان والله سهمًا صائبًا من مرامي الله، وكان رباني هذه الأمة في ذروة فضلها وشرفها، كان ذا قرابة قريبة من رسول الله وأبا الحسن والحسين — رضي الله عنهما — وزوج فاطمة الزهراء، ولم يكن بالسروقة لمال الله، ولا بالنؤمة في أمر الله، ولا بالملولة في حق الله، أعطى القرآن عزائمه، وعلم ما له فيه وما عليه، رضي الله تعالى عنه وكرَّم وجهه.

التعليقة السابعة والعشرون (ج٢، ص١٧٧)

دراهم النكاح أو النكاح يعني به بغايا كان يُؤخذ منهن الخراج.

التعليقة الثامنة والعشرون (ج٢، ص١٧٩)

كتب عمر بن عبد العزيز أن اقضوا عن الغارمين، فكتب إليه: إنا نجد الرجل له المسكن والخادم والفرس والأثاث. فكتب عمر: إنه لا بدَّ للمرء المسلم من مسكن يسكنه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوَّه، ومن أن يكون له الأثاث في بيته، نعم فاقضوا عنه فإنه غارم.

قال أبو عبيد القاسم بن سلام: إنَّ عمر بن عبد العزيز فرض على رهبان الديارات على كل راهب دينارين، ولا أرى عمر فعل هذا إلا لعلمه بطاقتهم له، وأنَّ أهل دينهم يتحملون ذلك، كما أنهم يكفونهم جميع مئوناتهم.

عزل عمر بن عبد العزيز قاضيًا فقال له: لِمَ عزلتني؟ قال: بلغني أنَّ كلامك أكثر من كلام خصمك.

التعليقة التاسعة والعشرون (ج٢، ص٢٣١)

لما قتل المأمون ابن عائشة وجد في منزله قماطر فيها مكاتبات بعض الجند له، فجلس وأحضرها، وجمع الناس، وقال: أنا أعلم أنَّ فيكم المستزيد والعاتب، وإن نظرت في هذه الكتب فسدت عليكم، وفسدتم علي، وقد وهبت مسيئكم لمحسنكم، وأمر فأُحرقت القماطر وأسفرت وجوه القوم واستصيب رأيه.

التعليقة الثلاثون (ج٢، ص٢٦٣)

في تاريخ الخلفاء للسيوطي أنَّ أول حدوث اللقب بالإضافة إلى الدين كان في سنة ٣٧٦ﻫ، وقد ولي الوزارة أبو شجاع محمد بن الحسين ولُقب ظهير الدين.

التعليقة الحادية والثلاثون (ج٢، ص٢٨٥)

في أيام الأمر بأحكام الله الفاطمي بالديار المصرية، امتدت أيدي النصارى وبسطوا أيديهم بالخيانة، وتفننوا في أذى المسلمين وإيصال المضرة إليهم، واستعمل منهم كاتب يُعرف بالراهب، فصادر عامة من بالديار المصرية، من كاتب وحاكم وجندي وعامل وتاجر، وامتدت يده إلى الناس على اختلاف طبقاتهم، ولما خوفه بعض مشايخ الكتاب من سوء عواقب أفعاله، قال أمام من كان في مجلسه من المسلمين والقبط: نحن ملاك هذه الديار حرثًا وخراجًا، ملكها المسلمون منا، وتغلبوا عليها وغصبوها، واستملكوها من أيدينا، فنحن مهما فعلنا بالمسلمين فهو قبالة ما فعلوا بنا، ولا يكون له نسبة إلى من قُتل من رؤسائنا وملوكنا في أيام الفتوح، فجميع ما نأخذه من أموال المسلمين وأموال ملوكهم وخلفائهم، حِلٌّ لنا وهو بعض ما نستحقه، فإذا حملنا لهم مالًا كانت المنة لنا عليهم، وأنشد:

بنت كرم يتموها أمها
وأهانوها فديست بالقدم
ثم عادوا حكموها بينهم
ويلهم من فعل مظلوم حَكَمْ
ملخصًا عن صبح الأعشى

التعليقة الثانية والثلاثون (ج٢، ص١٩٨)

يقول فان فلوتن في السيادة العربية: إنَّ امتزاج العناصر المتباينة في الإسلام قد ساعد على ظهور نظم جديدة (كما كان في العراق مثلًا)؛ فقد حل محل النظام الذي يقضي بإعفاء العرب من دفع الجزية باعتبارهم حماة الإسلام، نظام جديد لا يفرق بين العرب والفرس في خدمة الحكومة، ويفرض للجميع على سواء مرتبات معينة، على الرغم من بقاء ذاك النظام القديم وعدم إلغائه صراحةً، ومنذ ذلك الحين أصبح الخراسانيون من الإيرانيين أو النصف الإيرانيين أشد الناس ولاءً للعرش الجديد، وكذلك رفع الموالي المضطهدون الذين كانوا السبب في سقوط الدولة الأموية، رءوسهم وأُسندت إليهم المناصب المهمة في قصر الخليفة وفي الجيش والمالية وإمارة الولايات.

التعليقة الثالثة والثلاثون (ج٢، ص٣٥٣)

بعد أن نقل ابن كثير في البداية والنهاية أحاديث السقيفة قال: ومن تأمل ما ذكرناه ظهر له إجماع الصحابة المهاجرين منهم والأنصار على تقديم أبي بكر، وظهر برهان قوله عليه السلام: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»، وظهر له أنَّ رسول الله لم ينص على الخلافة عينًا لأحد من الناس، لا لأبي بكر — كما قد زعمه طائفة من أهل السنة — ولا لعلي — كما يقوله طائفة من الرافضة — ولكن أشار إشارة قوية يفهمها كل ذي لب وعقل إلى الصِدِّيق، إلى أن قال: وفي الصحيحين أيضًا من حديث الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خطبنا علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — فقال: من زعم أنَّ عندنا شيئًا نقرؤه ليس في كتاب الله وهذه الصحيفة — لصحيفة معلقة في سيفه فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات — فقد كذب، وفيها قال: قال رسول الله: «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا.» وهذا الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما عن علي — رضي الله عنه — يرد على فرقة الرافضة في زعمهم أنَّ رسول الله أوصى إليه بالخلافة، ولو كان الأمر كما زعموا لما رد ذلك أحد من الصحابة، فإنهم كانوا أطوع لله ولرسوله في حياته وبعد وفاته من أن يفتاتوا عليه، فيقدموا غير من قدمه، ويؤخروا من قدمه بنصه، حاشا وكلا ولما، ومن ظن بالصحابة — رضوان الله عليهم — ذلك؛ فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور والتواطؤ على معاندة رسول الله ومضادتهم في حكمه ونصه، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام، وكفر بإجماع الأئمة الأعلام، وكانت إراقة دمه أحل من إراقة المدام، ثم لو كان مع علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — نص، فلم لا كان يحتج به على الصحابة، على إثبات إمارته عليهم وإمامته لهم، فإن لم يقدر على تنفيذ ما معه من النص فهو عاجز، والعاجز لا يصلح للإمارة، وإن كان يقدر ولم يفعله فهو خائن، والخائن الفاسق مسلوب معزول عن الإمارة، وإن لم يعلم بوجود النص فهو جاهل، ثم قد عرفه وعلمه مَنْ مِنْ بعده، هذا محال وافتراء وجهل وضلال إلخ.

التعليقة الرابعة والثلاثون (ج٢، ص٤٥٨)

كتب إلينا فريتز كرينكو من علماء المشرقيات الألمان أنه يعتقد أنَّ زوال الدولة العربية — أعني خلافة بني أمية وانتقال مركز الإسلام من دمشق إلى العراق، وظهور الفرس على العرب — كان السبب الأول في الحيلولة دون انتشار الإسلام في الأمم النازلة في الشمال الغربي؛ أي في أوروبا، وأنَّ الدولة العباسية قامت على أنقاض الدولة الأموية، وأنَّ دخول الفرس في المناصب العالية، أدخل الغش والخيانة في الأعمال المالية، وانتهى الحال بالخلفاء والوزراء إلا النادر الشاذ ألا يفكروا في شيء من أعمال الشام ومصر، دع ما وراء ذلك من البلاد كإفريقية والمغرب والأندلس، إلا يوم يريدون نقل أموال الخراج من العراق لشراء الجواري والجواهر وإيجاد الجوائز للمغنين والشعراء ومن ماثلهم. ولو نظرنا في أمهات الخلفاء لرأينا خلفاء بني أمية كلهم، ما خلا مروان بن محمد، آخر ملوك بني أمية، كانوا أبناء حرائر، وبالعكس كان خلفاء بني العباس أو أكثرهم أولاد جوارٍ، جُلبن من بلاد غير إسلامية. ثم هناك آفة ثانية، وهي جلب الغلمان الأتراك إلى بغداد ليكون منهم عمد الدولة، فأصبحوا أرباب الخلفاء أنفسهم في أقل من قرن، وآفة ثالثة، وهي المناقشات والحروب التي انتشرت بين أهل السنة والشيعة ودامت إلى زماننا هذا، وقد شاهدت منها ما غمني في بلاد الهند ورأينا ها هنا في إنجلترا بعض الشيعة في العهد الأخير يمتنعون من الصلاة خلف إمام سني المذهب، وهذا مما يهين أهل الإسلام في عيون من لا يعتقدون به، وفوق كل هذه الآفات التي كان فيها أكبر سبب في خمول الأمم الإسلامية أن كان السلاطين والأمراء في حروبهم يستنجدون بالأمم النصرانية من مجاوريهم، وكان خلفاء العبيديين في مصر أول من جنى على الإسلام يوم استيلاء الصليبيين على الشام وفلسطين، ثم أصبح هذا داء عقامًا في الممالك الإسلامية. قال: ولولا الحسد الساري والشره المبين بين أمراء الهند لم تستحوذ إنجلترا على البلاد الهندية.

التعليقة الخامسة والثلاثون (ج٢، ص٥١٠)

من كتاب نظرة عامة في الأصول الغربية من سكان تونس لحسن حسني عبد الوهاب H. H. Abdul-Wahab: Coup d’œil général sur les apports ethniques étrangers en Tunisie يدعونا واجب الحق إلى القول بأن القرصنة لم تنتشر في بحار الممالك البربرية — شمالي إفريقية وشرقها — إلا بإغراء الأندلسيين الجالين عن الأندلس؛ فقد كانوا بعد أن حلوا في شمالي إفريقية يدعون إلى القرصنة، ويرونها الذريعة الوحيدة للانتقام من الممالك النصرانية التي لم تبدِ عطفًا عليهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤