العزيزة ترعى أبناء الشهداء

وأخلف أبو زيد مكانه في حكم ولايات الأندلس ودويلاتها، لحين انتهائه من مهام الاجتماع بدياب مع والده السلطان بقرطاج قبل العودة إليه مجددًا.

حتى إذا ما عاد أبو زيد إلى القيروان اجتمع من فوره بالسلطان حسن تمهيدًا للمسير إلى دياب، ثم اختلى بعزيزة ناقلًا إليها رغبة يونس برحيلها إليه ففرحت من فورها.

إلا أن عزيزة عادت منفعلة مكفهرة متسائلة عن مصير صديقتها سعدى وما حل بها من كوارث دياب، وكيفية إنقاذها ولو لتطبيب مرعي الجريح النازف بالقيروان.

وطمأنها أبو زيد مفضيًا إليها أنه إنما جاء من أجل هذا الغرض الذي أصبح لا يذيقه النوم كلما قرأ بكائيات سعدى الذاتية وخطاباتها التي تنزف مرارة، وهي ترسف في أغلالها بسجن ذلك المتجبر دياب بن غانم.

وأطلعت عزيزة أبا زيد بدورها على كتابات سعدى لها غاضبة متسائلة، وهي تشق إزارها من أعلاه إلى أسفله ثورة وكمدًا: أتلك نهاية المطاف؟! على هذا النحو تُعامل الأميرة سعدى، وبعد كل تضحياتها للهلاليين وفرسانهم؟!

قاربت عزيزة أبا زيد الهلالي ناشبة أظافرها في ثيابه: جثة الزناتي عارية فوق أعلى تلال تونس، تنهشها جوارح الطير!

وتابعت محتدة: وابنته سعدى تطحن ملح دياب بن غانم وترعى نوقه، ويسومها عبيده العذاب ليل نهار؟!

صرخت عزيزة في وجه أبي زيد: أما من خلاص؟

فغمغم أبو زيد بدوره زافرًا في أسى مكملًا: لدى انتهاء سيول الدم العربي النازف.

وأردف أبو زيد مبلغًا عزيزة في حسرة آخر الأنباء حول كيفية سير المعارك، وكيف أقدم العلام بن هضيبة على اغتيال ابنه وحدقة عينه المقرب من قلبه «صبرة»، متنهدًا: القلب تحمَّل الكثير يا عزيزة يا ابنتي.

وودع أبو زيد عزيزة مؤمِّنًا بنفسه كوكبة فرسان لحراستها ومرافقتها إلى الأندلس لإتمام مراسيم عرسها إلى يونس، الذي خلفه أبو زيد مكانه، مجددًا وعده له بخلاص سعدى من أسر دياب مهما كلف الأمر.

إلا أن عزيزة تشددت وهي تفيض له بهواجسها عن مصير سعدى الذي أصبح غامضًا مبهمًا.

– لعلها الآن قتيلة عارية! وسعدى تنهشها جوارح الطير إلى جانب جثة والدها الزناتي! من يدري؟!

ومرة أخرى هدأ أبو زيد من انفعالاتها على صديقة صباها مودعًا موكبها بنفسه، معاودًا تفاؤله الدائم الذي لم يكن ليغيب عنه في أحلك المواقف وهو يمازحها مذكرًا بعرسها وزفافها على الأمير الحاكم يونس، هنا غمغمت عزيزة مغالبة دموعها: أي عرس هذا؟

حتى إذا ما حان أوان رحيل السلطان حسن وأبي زيد إلى حيث مقر دياب بقرطاج، ساروا حتى دخلوا إلى تونس الغرب، فلما نظرهما دياب — أي السلطان حسن وأبي زيد — نزل فلاقاهما بالترحيب والإكرام، وأدخلهما إلى القصر وذبح الذبائح، فأقاما بضيافته ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع قال لهما دياب: شرفتموني بنزولكما منازلكم، وكان من الواجب أن أرحل أنا إليكما لأقدم الواجب عليَّ.

وعلى الفور قاطعه السلطان وأبو زيد طارحين مهمتهما بالمجيء إليه، وهي الرجاء بفك أسر سعدى لأنها زوجة مرعي الجريح، وأنشده السلطان حسن قائلًا:

مقالات حسن الهلالي أبو علي
ولي قلب من جور الزمان كواه
يا دياب الخيل اسمع مقالتي
وأصغِ لقولي وافهم المعناه
سعدى أصبحت عندك وديعة بينما
يروق منا البال نقيم هناه
سعدى مرادي آخذها لضعونا
أزوجها أنا مرعي بأحسن جاه
وهي يتيمة يا دياب بن غانم
أبوها قتلته أنت بوسط فلاة.

وما إن فرغ السلطان من إنشاده حتى انفجر دياب بن غانم محتدًّا غاضبًا من هول وغرابة ذلك الاهتمام الكبير من جانب سلطان الهلاليين وفارسها الأول بمجرد فتاة خانت والدها، ومن خان والده خان قبائله ووطنه، ومن هنا فلا خير فيها سوى القتل المحقق.

ومن الجانب الآخر استمر غضب السلطان حسن وأبي زيد من منطق دياب لفتاة هي في موقع خطيبة إن لم تكن زوجة ابنه مرعي الجريح، قائلًا في سماحة ورجاء: فأنت خاله قبل أن أكون أنا والده.

إلا أن دياب المتجبر الحاقد أصر على منطقه بأن سعدى التي خانت أباها لا خير يُرجى فيها، ومن ثَمَّ يحق قتلها.

وحسمًا للنزاع اقترح أبو زيد واقعة — أو لعبة — فروسية غربية قديمة، حيث تُوضع فيها سعدى في مكان بعيد في آخر الميدان المتصدر لقصر أبيها الزناتي — الذي استولى عليه دياب — ثم يركبون ثلاثتهم خيولهم في أول الميدان قبل أن يطلقوا الأعنة، ومن يصل إلى حيث سعدى أولًا تكون ملكه ويأخذها حليلة.

وما إن وافقوا ثلاثتهم حتى اتفقوا على اليوم التالي مع مطلع النهار، ثم أحضروا سعدى إلى الميدان وأوقفوها في آخره.

وما إن أُعطيت شارة البدء حتى خرجوا وكأنهم نُشَّاب، وكان دياب راكبًا الشهباء ابنة الخضراء وكانت أمهر من أمها، فاندفعت إلى المقدمة وأبو زيد في أعقابه، وكانت المسافة مقدار ساعة، وما إن وصل دياب إلى حيث تقف سعدى حتى بادرته سعدى بما سبق أن أخبرها به أبو زيد: أنا أختك يا دياب.

وهنا تزايد حنق دياب بن غانم من مضمون كلامها، فشهر من فوره حسامه وجرحها جرحًا بليغًا أوداها طريحة.

فتهاوت سعدى تهذي بمأساتها عن آخرها وما حدث لها مع الهلالية وعشقها لمرعي الذي أضناها، وهي تلفظ كمثل فرسه أنفاسها الأخيرة.

حتى إذا ما وصل إليها أبو زيد الهلالي وفي أعقابه السلطان حسن الهلالي، ترجل أبو زيد عن حصانه وجرى إليها فأخذها بين ذراعيه محتضنًا، وهي تنشد بصوت متحشرج حبيس آخر مراثيها تنعي عشقها الدفين لمرعي الذي أذلها إلى حد الموت:

أنا كنت أسعد الناس جميعها
شبه القمر إن بان تحت غمام
فلما أتى أبو زيد للمغرب رادها
ومعه إمارة خيرين كرام
جاءوا إلى سلطان قابس في الضحى
وأبو زيد من سهر الليالي نام
أتوهم عبيد السوء وقفوا حولهم
وهم ساحبين خناجر وحسام
شدوا أياديهم كتافًا إلى ورا
أخذوا صوارمهم مع الأغنام
ولما عرضوهم للزناتي خليفة
ملك ملوك الأرض كالضرغام.

وتمضي مرثية سعدى مصورة كيفية عشقها لمرعي، وكيف أن هذا العشق أذلها، وها هي تلقى مصيرها المحتوم بالموت على هذا النحو المفجع.

ومرة أخرى دبت الخلافات والأحقاد بين أقطاب التحالف الهلالي وأبي زيد والسلطان حسن الذي اشتعلت نيران قلبه نتيجة لما فعله دياب لسعدى حبيبة ابنه الجريح المسجى مرعي، حيث لم يرع له اعتبارًا وهو سلطان الهلاليين أبًا عن جد.

أما دياب فقد طغى في الحكم الذي توصل إليه في آخر عمره، فامتلأ قلبه بالبغضاء والقسوة.

بل هو من جانب آخر قرب إليه بني زغبة — أو الزغابة — اليمنيين وعرب الجنوب، وأغدق عليهم المناصب والثراء والسلطات، مما فجر الخلافات والأحقاد بينه وبين السلطان حسن بن سرحان وأبي زيد الهلالي إلى حد التهديد بالحرب السجال، التي سرعان ما اندلعت بالفعل، وامتدت رحاها لسنوات على طول تونس والمغرب والأندلس.

إلا أن أبا زيد الهلالي بصائب بصيرته وبفكره المعادي للانقسامات تمكن من عقد الهدنة بين السلطان حسن ودياب بن غانم، التي أعقبها عقد الصلح بينهما في «القيروان».

لكن ظل دياب على عهده وما طُبع عليه من الغل والتآمر ضد سلطان الهلالية وتجاوز سلطاته، إلى حد إعادة التحالفات المقوِّضة لكلمته العليا بين قبائل وكيانات المغرب العربي.

مما أوغر قلب السلطان حسن ضده ودفع به إلى اللجوء إلى المكيدة والحيلة للإيقاع به عن طريق خدعة «المأدبة المسمومة»، حين استدعاه ومعه عيون وفرسان بني زغبة.

وكان دياب مرتديًا جبة من الحرير الأخضر وشالحًا على كتفيه عباءة حمراء اللون، وعلى رأسه عمامة من البرفيل والأرجوان. وحين دخلوا على السلطان حسن رحب بهم بالغ الترحيب، وجلس دياب على كرسي من العاج كأنه الذهب الوهَّاج ومن حوله قومه.

وبعد ترحيب السلطان بدياب وقومه، وكذلك ترحيب زوجته الأميرة نوفلة بأخيها، صفق السلطان فدارت القهوة العربية والشراب والكأس، وأحضر مائدة من الطعام مصحوبة بألف فارس ضرغام. أُجلسوا على المائدة، وحين مدوا أياديهم كانت المناسف مغطاة، فرفع دياب الغطاء عن المِنْسَف ووجده فارغًا من الطعام، وفيه قيود من الحديد، فقال الأمير دياب: ما هذا يا حسن؟

فردد الجميع: الواجب أن تتقيدوا إلى السلطان بالطاعة ولو ساعة.

فعندها وضع دياب القيد برجليه، وفعلت باقي الإمارة كفعله.

وبينما هم كذلك، اندفعت فرسان «بني حديد» إلى داخل المكان وبأيديهم الخناجر والسيوف.

فصار دياب كالملهوف بعد أن تبين خدعة المائدة المسمومة أو المائدة الفخ.

وأمر السلطان حسن الهلالي بنصب المشانق، فذبحوا ستين أميرًا من بني اليمنيين، والبقية أمر بشنقهم.

أما الأمير غانم والد دياب فكاد أن يلفظ أنفاسه من هول ما يقع.

وأمر السلطان بإبقاء دياب ووالده غانم في الأسر، طالما أنهما مأسوران بلا سلاح.

ولما وصل الخبر إلى أبي زيد في الأندلس، شد من فوره الرحال إلى السلطان حسن، فسلم عليه ورحب به غاية الترحيب، ثم سأله أبو زيد عما فعل، فقال السلطان حسن: ما عملت مع دياب إلا سجنه، فإن كنت قتلت أولاد عمه وإخوته، فإنه سبق أن قتل أخي وخطيبة مرعي الأميرة سعدى، وجرح قلبي عليهما، فقابلته بمثل ما قابلني، وجرحت قلبه عليهم.

ثم إن السلطان بعث بألف فارس إلى تونس وأمرهم أن يحضروا له خزائن تونس، وسلاح دياب، وأثاث بيته، وكل ما في قصور الزناتي يحضروه، فحالًا ذهبوا وأحضروا ما أمرهم به السلطان حسن الهلالي.

وحدثت أحداث جسام، منها اغتيال الأمراء الهلاليين كلًّا من العدنانيين وبني زغبة الجنوبيين.

أما دياب فحاول جاهدًا التوسل لفك أسره دون جدوى:

تجازيني بالحبس يا سيد الملا
وقد صار لي بالحبس سبع أعوام.

إلى أن تشفع له أبو زيد لدى السلطان، وساعدته نساء بني هلال في الإفراج عنه.

وهكذا أفرج عنه السلطان في موكب مهين لفارس كدياب، وهدده بإعادته إلى السجن مرات على مشهد من أولاد الإمارة والنساء الهلاليات.

– ويلكم بدياب! أمسكوه وإلى السجن ردوه.

هنا أخذ دياب يرتجف مظهرًا الخوف الشديد، فسقط على الأرض مغشيًّا عليه كمن قارب الموت.

وهنا تدخل أبناء الإمارة متوسلين السلطان الإفراج عن دياب المحتضر الغائب عن وعيه لا يدري ما يقول، فأمر السلطان بإدخاله بدار الحريم عند أخته نوفلة التي هي زوجة السلطان.

هنا رفع الرجال دياب بكل تكريم إلى بيت أخته نوفلة، التي ما إن نظرته مسجى على هذا الحال المبين وهو محمول على أيدي الرجال، حتى أجهشت بالبكاء والنحيب وهي تمزق أستارها مولولة:

فما كان ظني يا دياب بن غانم
أراك محمولًا على أيدي الرجال كميت!

وأسرعت فمددت أخاها دياب على فراش من ريش النعام، وهو ينتفض ويرتعش، وبقي على هذه الحال ثلاثة أيام، لا يذوق طعامًا أو ينطق بكلمة، مستجمعًا قواه متحينًا منتصف الليل للانتقام الدامي الفاجع لما حل به وانتهى إليه أمره.

إلى أن حانت فرصته فتسلل ليلًا تحت أستاره وملابس سجنه إلى مخدع السلطان حسن الهلالي وهو غارق يغط في نومه، واستل شفرة كان يخبئها في حرص إلى أن تحين فرصته تلك بالانتقام الأسود من عدوه اللدود السلطان حسن.

فانطرح على السلطان حسن تحت جنح الظلام وذبحه من الوريد إلى الوريد في صمت كتوم، ومضى متسللًا في جنح الظلام إلى أن وصل إلى قومه وعشائره ففرحوا به كثيرًا.

إلى أن حكى لهم ما جرى لحين اغتياله لسلطان الهلالية حسن بن سرحان، فتزايد حزنهم وأساهم وقالوا: أصبحنا عبرة عند العرب، فسوف يصير بنا كما صار مع جسَّاس بن مرة حين اغتال الأمير كليب ملك العرب.

وقرروا من فورهم هدم المضارب والرحيل الجماعي بمضاربهم وأغراضهم تحت جنح الظلام هربًا من انتقام الهلالية، وقبل أن تلحقهم جيوشهم الزاحفة المعبأة بكل انتقام أسود.

فهدموا الأطناب وأودعوها ظهور الجمال وأركبوا النساء والأطفال وجدُّوا السير يقطعون الروابي والبطاح باتجاه السودان والحبشة.

وما إن عم وانتشر خبر اغتيال دياب للسلطان حسن بن سرحان الهلالي، حتى عمت أحزان القيسيين والعامريين — الفلسطينيين — حتى إذا ما وصل الخبر مسامع أبي زيد شق ثيابه، وألقى بشاله ونتف لحيته وأهال التراب مع النساء على رأسه، وبكته أخته الجازية:

عمود ركبتي قد هبط يا نكبتي
طول المدى ما أنظر الأفراح.

ورثاه أبو زيد:

يا مشبع الجوعان معزي الحزين
يا سيد المكروب يا مولى العرب.

وما إن انتهت مراسيم دفن سلطان الهلالية ابن سرحان بنحر الذبائح، حتى تعاهدوا بصيوان الأمير أبي زيد الهلالي بالثأر، فدقت طبول الحرب الانتقامية وساروا حتى دخلوا قصر دياب بتونس، وسرعان ما علموا بفرار دياب وقومه إلى بلاد الأحباش فتعقبه القيسيون، ونصِّب أبو زيد الهلالي سلطانًا لتونس والمغارب.

أما دياب بن غانم فقد واصل فراره وزحفه هو ومن بقي معه من فلول أمراء وفرسان بني زغبة، بعدما كان السلطان حسن قد دبر مكيدة اغتيالهم خلال تلك المأدبة المسمومة التي انتهت بأسر دياب.

وعبر الطريق إلى السودان وأواسط أفريقيا حاول دياب مواصلة جمع شمل بقايا تحالف عرب الجنوب القحطانيين وتبرير فعلته الشنيعة لهم باغتيال السلطان حسن الهلالي في فراشه.

إلى أن حط دياب رحاله بقومه في الحبشة والسودان، مواصلًا فتوحاته بحد السيف لتأمين منفاه الجديد، تحسبًا لمطاردات العرب النجديين له أينما كان.

وما إن استقر حكم دياب للحبشة والسودان والغرب الأفريقي، حتى بدأ مراسلاته مع أبي زيد طلبًا للصفح وإعادة تجميع شمل الهلالية تحت مظلة أبي زيد وحكمته، وعفا الله عما سلف، إلى أن نجح في استمالة قلب رفيق صباه أبي زيد، الذي راسله بدوره طالبًا عودته.

وهكذا ودع دياب بن غانم حلفاءه الأفارقة متجهًا عائدًا إلى شمال أفريقيا بقومه بني زغبة، إلى أن لاقاه أبو زيد ونحر الذبائح وعاد إليهما صفوهما، فكانا يسهران ويسافران إلى نجد ويخرجان للصيد واللهو معًا.

ودياب لا يكف عن المطالبة بإعادة نصيبه في حكم المغرب العربي دون أن يعطيه أبو زيد جوابًا شافيًا.

وهكذا حقد عليه دياب محادثًا نفسه: خلصنا من واحد وبقي الآخر!

إلى أن حانت فرصة دياب بخروجه مع أبي زيد للتريض وللصيد والقنص، وحين تفرقت الفرسان لازم دياب أبا زيد وهو يلعب على ابنة فرسه الشهباء بالرمح والدبوس، إلى أن باغت دياب أبا زيد وسحب دبوسه المخفي وضربه خلف رأسه بسهمه فنفذ من جبهته، فوقع أبو زيد على الأرض متخبطًا في دمه كالأعمى.

وأخذت الشفقة دياب فوقع إلى جانبه يبكيه راثيًا مهيلًا التراب الذي رشف دمه لاطمًا خديه في حسرة، إلى أن تخلى عنه دياب مضرجًا بدم أبي زيد بنفس ما فعل جسَّاس بن مرة عقب اغتياله لكليب.

ثم سار دياب كالمذهول بين قومه إلى أن دخل تونس ودخل «سراية الأحكام» ونادى باسمه، بل تجاسر معلنًا قتله لأبي زيد الهلالي، وأنه الحاكم الوريث لتونس والمغارب.

وبكت النساء الهلاليات ورجالها أبا زيد وكثرت فيه المراثي، فأنشدته الجازية عقب دفنه إلى جوار أخيها السلطان حسن:

حوى حكمة لقمان وجود حاتم
وصبر أيوب وكل صفات.

أما دياب فقد جلس من جديد على عرش الزناتة وجاءه الملوك والأمراء والحكام طائعين.

بينما فرت الجازية بأبناء الشهداء وفرسان الهلالية وبني دريد وبني الزحلان ليلًا، تمهيدًا لتحين الأخذ بالثأر الذي دارت عجلته الدامية على رءوس الهلاليين.

وتكدر دياب بن غانم حين لم يلحقهم فرسانه الذين أرسلهم في أعقابهم وعادوا دون أثر.

إلا أن عين دياب لم تغفل عن الجازية ودورها التحريضي في رعاية أبناء شهداء بني هلال الذين أودى بهم دياب، خاصة السلطان حسن وأبا زيد الهلالي.

وهو بالطبع ما اضطلعت به الجازية في حمايتهم وتربيتهم على الأخذ بثأر آبائهم، مثل إيزيس حين خبأت ابنها حورس المنتقم لأبيه في أحراش الدلتا.

بل هي أَوْلت رعايتها الكبرى هنا للأمير بريقع ابن أخيها الأكبر السلطان حسن مع أبناء أبي زيد.

ولقد حاول دياب مد أياديه الطولى لاغتيال «جيل اليتامى» هذا بالحيلة والمكيدة، وكان ذلك ذات عيد أَوْلم فيه دياب وليمة كبرى وجمعهم وأعمل سيوف فرسانه فيهم، إلا أن «بريقع» نجا بفرسانه من تلك الوليمة المسمومة.

فبعث إليه خاله دياب يتهدده بالحرب والقتال، حتى إذا ما وقعت تلك الحرب الانتقامية قتل دياب فيها الأميرة الجازية.

إلا أن بريقع ابن السلطان حسن استجمع من جديد قواته انتقامًا لمقتل عمته القائدة الجازية، ونازل دياب الذي سخر منه في البداية قائلًا: مرادي أن أقاتلك بلا درع، وعلى كديشة بدلًا من الخضرا!

وهكذا أصر دياب على منازلة بريقع بلا درع وليس معه سوى السيف والترس، مما أغضب بريقع الذي صمد له طويلًا إلى أن تمكن منه بطعنة نجلاء، فسقط يتنهد ألمًا من هول جراحه منشدًا:

مقالات الزغبي دياب بن غانم
أيا موت قد زرتنا ثم دنوت.

وبموت دياب بن غانم فارس تحالف عرب الجنوب اليمنيين، جدَّت أحداث وحروب بين أبناء الجيل الماضي، ولعبت عزيزة دورًا مرموقًا في احتضان أبناء الشهداء وتربيتهم على الخير والسلم.

لندن، شوقي عبد الحكيم

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤