همسة

دفاتر القرَّاء

إن فصلي أشبه بكثيب النمل؛ فهو مفعم بالنشاط والحيوية، يعمل فيه كل طالب على نحو مستقل، لكننا متحدون في تحقيق غايتنا المشتركة؛ ألا وهي القراءة. فتعزز أصوات الطلاب الخافتة — وهم يهمسون بعضهم لبعض — من الشعور بالاجتهاد والعمل الهادف. يتمدد جوش وجون على كومة من الكراسي المصنوعة من أكياس القماش المحشوة بالفاصوليا في أحد الأركان، منهمكَين في قراءة كتبهما. أما كورتني ولورين، فتجلسان على الأريكة، رأساهما متلاصقان، تتشاركان في قراءة أحدث كتاب شِعر سردي لسونيا سونز «ما لا تعرفه أمي»، بينما يجلس بيشوب على جهاز الكمبيوتر متصفحًا موقع أمازون بحثًا عن اقتباسات يمكنه الاستشهاد بها في مراجعته النقدية لكتاب «القمة». أما جيكوب وماديسون، فيُحدِّثان قوائم القراءة الخاصة بهما، ودانيلا تكتب خطاب رأي. إن كتابة الطلاب ومحادثاتهم هي نتاج طبيعي لقراءاتهم، أما أنا، فأجلس في المنتصف على كرسيِّ المشرف الأخضرِ اللون، متبادلةً أطراف الحديث مع إريك عن آخر كتاب قرأه، وهو رواية «دكتور جيكل ومستر هايد»، وخبراته في قراءة هذا العمل الصعب:
«إن المفردات في رواية «دكتور جيكل ومستر هايد» معقدة جدًّا، كيف تمكنتَ من التعامل معها؟»
«حسنًا، لقد بحثتُ عن بعض الكلمات، وتجاوزتُ بعضها الآخر؛ وتمكنتُ من فهم الفكرة بوجه عام.»
«نعم، وكانت قراءتي أبطأ أيضًا.»

«إن الاستراتيجيات التي اتبعتَها — يا إريك — من الإبطاء في القراءة، والبحث عن الكلمات الصعبة، وتجاوز الكلمات عند تمكنك من استشفاف معناها؛ كلها استراتيجيات يستخدمها القرَّاء عند مواجهتهم كلمات لا يعرفونها.»

«لقد استغرقتْ قراءة هذا الكتاب مني بعض الوقت، لكنني فخور لتمكُّني من الانتهاء منه.»

تحدثتُ مع إريك عما يخطط لقراءته بعد ذلك، وكان روايتَي الخيال العلمي المعاصرتين للكبار «حديقة الديناصورات» و«العالم المفقود». وسجلتُ بضعة تعليقات في دفترِي بشأن استخدامه لاستراتيجيات القراءة للتعرُّف على المفردات التي لا يعلمها.

تنشأ اجتماعاتنا على صفحات دفاتر ملاحظات الطلاب حيث يسجلون آراءهم لكي أقرأها مرة واحدة أسبوعيَّا، ثم أعيدها إليهم (انظر الشكل ١ للاطلاع على نموذج لإحدى رسائل الرأي). فأدرس التقدم الذي يحرزه كل طفل في القراءة بنحوٍ أكثر تفصيلًا في الأقسام الثلاثة الأولى من دفاترهم.

تخبرني هذه الصفحات عن إيقاع الطالب في القراءة؛ فأبحث عن ثغرات في قوائم القراءة وأساليب الملاحظات التي قد تشير إلى كون الطالب قد يُنهي قراءة الكتب أم يتجنب أنواعًا معينةً، مثل كتب التراجم أو الشعر. وعندما ألاحظ أن أحد الطلاب يواجه مشكلات في التقدم بقراءة الكتب، أو متشبث بقراءة لون أدبي واحد فقط، أو لا يضع خططًا للقراءة المستقبلية؛ أفكر فيما إذا كان الطالب متعسرًا.

وبعد انتهاء اليوم الدراسي، أفحص بدقةٍ صندوقَ عبوات اللبن الكرتوني الموجود تحت مكتبي حيث يعيد إليَّ الطلاب دفاترهم، أسحب دفتر مولي من أعلى مجموعة الدفاتر، فيرسم آخِرُ خطابِ رأيٍ كَتَبَتْهُ الابتسامةَ على وجهي. تقرأ مولي رواية «إنكهارت» بقلم كورنيليا فونكه لاقتراحي عليها قراءتها. لقد أحرزنا تقدمًا كبيرًا مقارنةً بالأسابيع الأولى من الدراسة التي كنت أقترح عليها خلالها كتابًا تلو الآخر، ورفضتْهم جميعًا؛ فقد كانت متشككة في أي كتاب أرشحه لها آنذاك. أما الآن، فهي تعلم أن اقتراحاتي نابعة من حماسِ قارئة، وليست جدول أعمال معلمة. وما كتبتْه في بيان رأيها تجاه الكتاب (انظر الشكل ١) يقدم دلالات قيِّمة عن مولي كقارئة، وما تحصِّله من الكتاب الذي تقرؤه.
fig9
شكل ١: مقتطف من دفتر القارئ الخاص بإحدى الطالبات (المصدر: مولي، الصف السادس).

لاحظتُ قدرة مولي على سرد أحداث «إنكهارت»، وهي مهارة فهم أساسية، لكن رأيها يكشف أكثر من ذلك بكثير؛ فترقبها للنهاية يوضح ارتباطها بالقصة واستثمارها في التفكير فيما تنتهي إليه الأحداث. وبالتماسها النصيحة بشأن قراءة الجزء الثاني من الرواية، تكشف مولي عن العلاقة القائمة على الثقة بيننا كقارئتين.

لديَّ ذكريات أثيرة أيضًا مرتبطة بقراءة «إنكهارت»، ويسعدني استمتاع مولي بها بالقدر الذي تمنيته. ويشكل فضولي بشأن جوانب ارتباطها الشخصي بالكتاب أساس ردِّي عليها:

عزيزتي مولي

لقد استمتعتُ برواية «إنكهارت» أيضًا! فهي من كتبي المفضلة (أعلم أنني أقول ذلك دائمًا، لكنني أعنيه تمامًا!) فلم أقرأ كتابًا قط يستكشف قدرة القراءة على تغيير حياة الإنسان (سلبيًّا وإيجابيًّا على حدٍّ سواء) بهذا الأسلوب المثير للاهتمام. أسأل دائمًا قرَّاء هذه الرواية عن الكِتاب الذي يفضلون الدخول فيه إذا تمكنوا من ذلك؛ فهل لديكِ قصة مفضلة تودين زيارتها؟ ما الشخصية المفضلة لديكِ؟ هل يمكنكِ التنبؤ بشخصيتي المفضلة؟ «إنكسبيل» رواية رائعة وتستحق بالتأكيد القراءة، لكن ربما ينبغي أن تأخذي قسطًا من الراحة بين رواية «إنكهارت» والجزء الثاني منها؛ فكلا الكتابين طويل للغاية!

لم ينطوِ حديثي على أي زيف؛ فقد قرأتُ «إنكهارت» بالفعل. وأسلوبي في الحديث مع مولي عن كتاب استمتعتْ به كِلْتَانَا ونصيحتي لها بشأن قراءة «إنكسبيل» تعزز من الصلة بيننا كقارئتين. وأطرح على مولي أسئلة فَهْمٍ عالية المستوى تتطلب منها تقييم الكتاب وانطباعاتها عنه وتحليلها.

تمثل هذه الخطابات تفاعلًا بين قارئ أكثر خبرةً وقارئ أقل خبرةً، لا قائمة من الأسئلة التي تهدف لمعرفةِ إن كانت مولي قد قرأت الكتاب أم لا. إنني أتحدى مولي للتفكير بعمق أكبر في الكتب؛ وذلك انطلاقًا من صفتي قارئة أكثر حنكة سبق لها قراءة «إنكهارت» بدورها. إن القرَّاء يتبادلون الهمسات فيما بينهم عن خبراتهم في القراءة، هكذا يجب أن تكون القراءة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤