الفصل الثامن

أحمد خان

ركن النهضة العلمية الأخيرة في بلاد الهند

النهضة العلمية الأخيرة في الشرق

من يُطالع تاريخ الشرق في القرن التاسع عشر، وهو عصرُ النهضة العلمية الحديثة؛ يرى تشابُهًا بين سائر أصقاعه؛ فقد دخل هذا القرن والشرق من أقصاه إلى أقصاه في ظلمات من الجهل، تغشاهُ جنود التعصب، وقد لعبتْ به عواملُ الشقاق، كذلك كانت الهندُ والعراق والشامُ ومصر، وكان الغرب قد بزغت فيه شمس العلم فاستنار أهلُهُ بالاختراع والاكتشاف، ثم اقتضت مصالحُهُم ارتيادَ بلاد المشرق؛ إما فاتحين أو معلمين أو مبشرين أو مكتشفين أو تجارًا أو صناعًا أو نحو ذلك، فانبهر المشارقةُ في بادئ الرأي؛ لِما رأوه من مستحدثات التمدن، ثم ما لبثوا أن أخذوا يقلدونهم على قدر ما بلغ إليه إمكانهم، فأنشئوا المدارس والجرائد والمطابع وغيرها.

على أَنَّ كل أمة منهم سارت في خطة اقتضتها أحوالها؛ فالمصريون نهضوا نهضتهم الأخيرة بمساعدة حكومتهم؛ فهي التي أنشأتْ لهم المدارس لتعليم اللغات والعلوم، وهي أول مَنْ أنشأ جريدةً عربيةً، وهي التي باشرتْ ترجمة الكتب وتأليفها وغير ذلك، وأما أهل الشام والعراق فالفضل فيما أدركوه من العلم إنما هو عائدٌ إلى أهل الفضل من النزالة الأميركانية والفرنساوية والإنكليزية وغيرهم من المبشرين أو الرهبان؛ كالآباء اليسوعيين والفرير والعازريين والفرنسيسكانيين.

وأما أهلُ الهند، فإن الفضل في نهضتهم راجعٌ معظمُهُ إلى رجل منهم، خصَّه الله بهمة وإقدام وغيرة يندر اجتماعُها في رجل واحد، مع إخلاص وحُسن نظر؛ نعني به السيد أحمد خان صاحب الترجمة، فقد نشأ في عصر نقم فيه الهنود على الإنكليز وهم في أول عهد الفتح، ولا تُلام أمة كرهت قومًا فتحوا بلادها وغلبوها على ما في أيديها، فما زال الهنود إلى أواسط القرن الماضي يكرهون الإنكليز كرهًا شديدًا، لا يؤاكلونهم، ولا يشاربونهم، ولا يعاشرونهم، ولا يقرءون كُتُبهم، ولا يتعلمون لغتهم، ولا يمسُّون شيئًا من أشيائهم، بل كانوا لا تفوتُهُم فرصة في شق عصا الطاعة جهادًا في سبيل الاستقلال، فأدرك السيد أحمد خان أنهم إنما يُحاولون عبثًا طالما كان عامتهم جهالًا، فأخذ على عاتقه ترقية شئونهم وتهذيب أبنائهم بالعلم، فأنشأ المدارس واستحثَّ الناس على اقتباس العلم، فقضى في ذلك خمسين عامًا لا يألو جهدًا في هذا السبيل، حتى ذاع صيتُهُ في أقطار الهند، ولم يبقَ قارئٌ من قرائهم لا يعرف اسم السيد أحمد خان، فهو من هذا القبيل شبيهٌ بأستاذنا الدكتور فانديك في سورية؛ وإليك ترجمة حاله:
figure
السيد أحمد خان ١٨١٧م–١٨٩٨م.

ترجمة حياته

يتصلُ نسبُ السيد أحمد خان بأرومة عريقة في الشرف، فكان أجداده الأولون من أهل المناصب الرفيعة في بلاط إمبراطوري المغول؛ أولهم السيد هادي، أصله من هرات، ثم نزح إلى هندستان وأقام فيها، وحفيده جد صاحب الترجمة نال من دولة الهند على عهد الإمبراطور ألامجير لقب جواد علي خان وجواد الدولة، وأما جده لأمه فهو خوجه فريد الدين أحمد، وكان رجلًا فاضلًا، تقلد منصبًا سياسيًّا كبيرًا، وأنفذ سفيرًا إلى شاه الفرس، أنفذه اللورد ولسلي (غير ولسلي مصر).

وأما والد السيد أحمد خان، فهو السيد محمد تقي، وكان تقيًّا ورعًا، اعتزل الدنيا وانقطع إلى الصلاة والعبادة، ولما غلب الإنكليز على الهنود وآلت حال إمبراطور المغول (أكبر الثاني) إلى الضعف، انحصر في دهلي، وبعث إلى السيد محمد تقي أن يتولى الوزارة، فأجابه معتذرًا شاكرًا، وأوعز إليه أن يوليها حماه خوجه فريد الدين؛ لأنه أهل لها، وكان مقيمًا في كلكته، فأطاعه واستقدم خوجه فريد الدين وقلَّده منصب الوزارة، ولقَّبه بمدير الدولة وأمين الملك خان بهادر، وبالجملة فإن صاحب الترجمة شريف الأصلين، ورث الهمة والذكاء من الجدين.

نشأته الأُولى

ولد السيد أحمد خان في دهلي من أعمال الهند سنة ١٨١٧م، ورُبِّي في كنف والده معززًا مكرمًا — لِمَا علمت من منصب جده خوجه فريد الدين ومقام والده السيد محمد تقي — ولكنه كان في حداثته خجولًا جبانًا؛ ويغلب فيمنيكونون كذلك في طفوليتهم أن يشبُّوا على التعقُّل والدراية؛ كأن قُواهم العقلية تنمو بنموِّ أجسادهم، وتبلغ ببلوغها، فيعملان معًا بقوة متعادلة، وكان الذين تظهر فيهم حدة الذهن في صغرهم تنمو القوى العاقلة فيهم قبل سائر الجسد، فلا يبلغ الجسد أشده حتى تكون القوى العقلية قد مالت إلى التقهقُر، فلا تستطيع العمل معه، وأما الأخلاق فيغلب أن تظهر في المرء واضحةً منذ نعومة اظفاره؛ فالصادقُ يتبين صدقه من أبسط المسائل وأحقرها، وكذلك سائر الأخلاق؛ كالإخلاص والرياء والبخل والكرم والحقد والحلم وغيرها.

وعلى هذا المبدأ يُقال في السيد أحمد خان؛ لأنه كان حُرَّ الضمير منذ حداثته، ومما يُروى عنه أن قيِّم البلاط الإمبراطوري نادى السيد أحمد — وكان في جُملة أحداثٍ آخرين اجتمعوا هناك لغرض — فلم يجب، وكان والدُهُ واقفًا بجانب الإمبراطور، فذكر له الإمبراطور ذلك، فأجاب والده أن الغلام حاضرٌ هناك، فاستقدمه فوقف بين يدي الإمبراطور، فسأله لماذا لم يُجب عند ذكر اسمه، فقال: «إني كنت غارقًا في النوم.» فعجب أرباب المجلس لجسارته، وأوعزوا إليه أن يتجمَّل في الجواب ويعتذر عن نفسه، فأجاب أنه إنما يقول الصدق وليس عنده عذرٌ آخرُ يقوله، فضحك الإمبراطور وأنعم عليه بعقد من اللؤلؤ يضعونه إكليلًا على الرأس.

تلقَّى مبادئ العلم منذ الثانية عشرة، وكانت والدته تستعيده كل ليلة ما تعلمهُ في النهار، حتى نبغ بين أقرانه (ما أجمل هذه العناية من الوالدات!).

وفي سنة ١٨٣٦م توفي والده، فأنعم عليه الإمبراطور بهادر شاه آخر ملوك دهلي، برتب والده ونعوته، مع لقب «عريف يونغ»؛ أي «أستاذ حرب»، وفي سنة ١٨٣٧م انتظم في خدمة الحكومة بإدارة الإنكليز بالرغم عن أقاربه، وفي السنة التالية تولى منصبًا قضائيًّا في دهلي، وفي السنة الخامسة والعشرين من عمره تقلد منصب «منصف» في قضاء فتح بور، وبعد سنواتٍ أُخر انتقل إلى دهلي، وبعد عودته أكبَّ على المطالعة، وذاق لذة العلم، فألَّف كتابًا في «آثار دهلي»، فانتخبته الجمعية الآسيوية الملوكية عضوًا فيها.

وفي سنة ١٨٥٧م كانت ثورة أهل الهند في دهلي وغيرها، ففتكوا بالإنكليز فتكًا ذريعًا، وكان السيد أحمد خان — يومئذٍ — في منصب نائب قاضي في بجنور، فرأى تلك الثورة في غير أوانها، وتحقق أنها آيلة إلى الضرر بوطنه، فنصح لبعض زعمائها فلم يصغوا إليه، بل تهددوه بالأذى إذا ساعد الإنكليز، فلم يُطِق أن يرى النساء والأولاد تقتل بلا ذنب، فجمع رجاله حول مكان ضم فيه كل إنكليز تلك المقاطعة، وأحاطهم برجاله وبالغ في المدافعة عنهم، حتى عرَّض نفسه للخطر، وكاد العصاة يقتلونه مرة لو لم يلجأ إلى غابة شائكة هناك، فلما انقضت الثورة وفاز الإنكليز أكرموه براتب مستديم مقداره ٢٠٠ روبية في الشهر، يرثه بِكره من بعده، فضلًا عن هدايا كثيرة قدموها له.

وفي أثناء ذلك كتب كتابًا في اللغة الأوردية (الهندستانية) في «أسباب الثورة الهندية»، ترجم إلى الإنكليزية سنة ١٨٧٣م، انتقد فيه كثيرًا من أعمال الإنكليز، وكشف الغطاء عن بعض مقاصدهم، وبيَّن الأسباب التي حملت الهنود على الثورة على كيفية أثبتت فيها وطنيته، ولم تبهره هدايا الإنكليز ولا رواتبهم، على أنه لم يغفل ذكر الخطأ الذي ارتكبه الهنود في تلك الثورة، فبنى أقواله كلها على جهل الشعب الهندي واحتياجه إلى العلم قبل كل شيء، وبناء على ذلك عاهد نفسه على الانقطاع إلى هذه الخدمة، وجعل دأبه السعي في تعليم الشعب الهندي من المسلمين بأي وسيلة كانت، وهو مع ذلك مستخدم في مصالح الحكومة، فكان فضلًا عن قيامه بواجبات مصلحته لا تفوته فرصة للسعي في هذا السبيل، وكتب في أثناء ذلك شرحًا للتوراة في ثلاثة مجلدات، وهو أول مسلم ألَّف مثل هذا الكتاب، فكان له وقعٌ حسنٌ لدى الهنود والإنكليز معًا.

خدمته في العلم

نظر هذا الرجل العاقل بنيِّر بصيرته فيما يرجو منه النفع لترقية شئون أبناء وطنه، فلم يرَ خيرًا من نزع التعصب الأعمى من بين ظهرانيهم، وإقناعهم أن الإنكليز وغيرهم من الأمم الإفرنجية بشرٌ مثلهم، وأن العلوم الحديثة كالطبيعيات ونحوها لا تُخالف الحقائق الدينية في شيء، فضلًا عن نفعها الجزيل، فأنشأ في بادئ الرأي «جمعية الترجمة» (وصارت الآن الجمعية العلمية في علي كده)، وجعل موضوعها تقريب علوم الغربيين وآدابهم مِن أذهان الشرقيين، فآنست تلك الجمعية تنشيطًا من الحكومة، فجعلها دوق أركيل تحت حمايته، فتمكنت من نقل كثيرٍ من المؤلفات الإنكليزية إلى اللسان الهندي ونشرها بين العامة، فنال السيد أحمد خان من الحكومة الإنكليزية سنة ١٨٦٦م وسامًا ذهبيًّا، ونسخة من مؤلفات ماكولي المؤرخ الإنكليزي المشهور؛ مكافأة له على تلك الخدمة.

وفي سنة ١٨٦٧م انتقل إلى بنارس من أعمال الهند، وكان ابنُهُ السيد محمود قد بلغ أَشُدَّهُ فعوَّل على إرساله إلى بلاد الإنكليز لتلقي العلم في مدرسة كمبريدج الشهيرة، وسار هو معه لعله يرى هناك أسبابًا يستطيع الاستعانة بها في خدمة بلاده، فلاقى ترحابًا عظيمًا، وتعرَّف بجماعةٍ كبيرة من أهل العلم والسياسة، فأجلُّوه وأكرموه، وكان دوق أركيل — حينئذٍ — وزيرًا للهند فمنحه عضوية كوكب الهند، وانتخبه عضو شرف في نادي الأثينيوم.

وكانت سفرته هذه بما شاهده في بلاد الإنكليز من أسباب التمدن ووسائل التعليم، كأنه نور انبثق لديه بغتة فكشف له عن حقيقة حال الشعب الهندي وما يحتاج إليه، واتضح لديه جيدًا أن التمسك بالقديم من عادات الآباء وتقاليد الأجداد، والنفور من العلوم الحديثة وتجنب الأمم الأخرى، إنما هو السبب الأكبر في استيلاء الجهل على أبناء جلدته، فعاد في أواخر سنة ١٨٧٠م إلى بنارس، وتولى مهام وظيفته، وفي نفسه إنشاء مدرسة في بلاد الهند على مثال مدرسة كمبريدج، ولكنه أدرك خشونة ذلك المركب فلبث متربصًا ينتظر الفرص.

فبدأ في تمهيد السبيل لذلك المشروع، فأنشأ جريدة سمَّاها «مصلح الهيئة الاجتماعية الإسلامية»، نشر فيها مقالات ضافية بيَّن فيها خطأ الذين يطعنون في العلوم الحديثة أو يحرمون من يقتبسها، وأورد لهم الأدلة الدينية والشواهد الشرعية المؤيدة لأقواله، وقضى في هذا الجهاد تسع سنوات متوالية؛ قال الكولونيل غراهم — وقد كتب ترجمة الرجل: «إن كتابته هذه أثَّرت في الهيئة الاجتماعية الإسلامية الهندية تأثيرًا غريبًا، وكانت خير وسيلة لتقريب الهنود من حكامهم»، ولكنه بُلي بغضب كثيرين من المسلمين، فجاءه التهديد والوعيد من البيت الحرام، واتهمه بعضهم بالضلال، ولكنه ما انفك يجادلهم بالحسنى حتى أقنعهم بصدق إسلامه، وفي جملة ما مكَّن اقتناعهم ردٌّ شديد اللهجة دافع فيه عن المسلمين ضد كتاب ألَّفه السير وليم هنتر، وموضوعه «مسلمونا بالهند وهل هم يعتقدون وجوب نبذ طاعة المملكة».

على أن ما لاقاه من أمثال هذه العقبات لم يثنِ عزمه عن الغرض الذي أوقف بقية حياته لإتمامه، وهو إنشاءُ مدرسة كلية إسلامية، فألَّف — أولًا — لجنة سمَّاها «لجنة رأس مال المدرسة الهندية الإنكليزية الإسلامية»، على أن تكون تلك المدرسة في بنارس، ثم أقروا على أن تكون في مدينة علي كده؛ لأنها في وسط العالم الإسلامي هناك، فيسهل قدوم الطلاب إليها من البنجاب والأود والبهار وراجبوتانا وغيرها.

ولكن تأسيس تلك المدرسة لم يكن بالأمر الهين؛ لأن في سبيلها — فضلًا عن النفقات الطائلة — عقبة وعرة، هي عقبة التعصب، فقام لمصادرة المشروع جماعة يرون بقاء القديم على قِدمه، ويعدون الخروج عنه بدعة، ولكن صاحب الترجمة تصرف بالحكمة والدراية، وعدَّل في بروغرام المدرسة وقوانينها تعديلًا أقنع الجميع أن الغرض منها تعليم المسلمين وتثقيفهم على ما توجبُهُ ديانتهم، وأن التعليم فيها يكون باللغات الشرقية والعلوم الشرقية، وساعده في هذا الجهاد جماعة من رجال الإنكليز المشهورين، فأخذوا في جمع الاكتتاب من مسلمي الهند، فلاقَوا مشقةً كُبرى، فمضت مدة ولم يجتمع من المال ما يقوم بالنفقة اللازمة.

أما السيد أحمد ولجنته فلم ينتظروا اجتماع المال كله مخافة أن تطول المدة فتفتر الهمم مع ما يتخلل ذلك من ضعف الثقة، فتناولوا ما اجتمع لديهم من النقود وأنشئوا به مدرسةً صغيرةً في علي كده سنة ١٨٧٥م، وكان إنشاؤها داعيًا إلى وثوق الناس في تلك اللجنة ومشروعها، فأقدموا عليه، ولم تمضِ سنتان أخريان حتى انهالتْ عليهم الهبات والمساعدات، فأنشئوا المدرسة الكبرى، وهي المدرسة الكلية في علي كده، وظلت المدرسة برئاسة بعض رجال الإنكليز حتى انتقل هو إلى علي كده فصارت إليه، فاستقال من منصبه في القضاء وانقطع إليها منذ عام ١٨٨٠م، وعكف على التعليم والتأليف والخطابة حتى توفاه الله في مارس سنة ١٨٩٨م وله من العمر ٨١ عامًا، وقد جلله الشيب فزاده وقارًا، ونال كثيرًا من علامات الشرف مع لقب سير وألقاب أخرى.

صفاته الشخصية

كان (رحمه الله) عظيمًا في كل شيء؛ جسمًا وعقلًا وخلقًا، كان عظيم الرأس، واضح الملامح، كبير العينين، كبير اللحية، غليظ الشعر — كما يتضح ذلك من النظر إلى رسمه في صدر هذه الترجمة — وكان عظيم الهيبة مع رقة ووداعة، عالي الهمة حازمًا مقدامًا، كثير الصبر على المشروعات الوطنية، وما برح إلى آخر نسمة من حياته مستهلكًا في خدمة وطنه، ساعيًا في تأييد جامعة الإسلام ورفع شأن المسلمين.

ومما ذكره لنا بعض معارفه أنه لما عزم على إنشاء كلية علي كده — المتقدم ذكرها — واحتاج إلى جمع المال، طاف البلاد بنفسه متنقلًا من مدينة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، وكانت شهرته قد طارت في الآفاق، فكان إذا نزل مدينة همَّ أهلها بإعداد الاحتفالات وإيلام الولائم احتفاءً به، فكان يقول لهم: «لم آتِ لآكل ولا لأشرب، وإنما جئت استحثكم على مشروع وطني، فما تنوون إنفاقه على الاحتفال ادفعوه إليَّ نقدًا؛ لأن المدرسة أحوج إليه»، فبلغ مقدار ما جمعه في هذا السبيل ٤٠٠٠٠٠ روبية (نحو ٧٠٠٠٠٠ فرنك)، أنفقها كلها على المدرسة، وقضى نحو عشرين سنة في خدمتها ليلًا ونهارًا لا يلتمس أجرًا ولا شكورًا، وإنما كان ينفق على نفسه من راتبٍ استحقه من خدمته في القضاء، ومقدارُهُ ٤٠٠ روبية في الشهر، وابنه السيد محمود الآن قاضي قُضاة المسلمين في مدينة الله أباد.

كلية علي كده

هي أعظم مدرسة كلية إسلامية في الهند، تعلم فيها اللغات الهندية والفارسية والعربية والإنكليزية، عدد أساتذتها نحو خمسة عشر أُستاذًا، كان في جملتهم صديقنا شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني أستاذ العربية فيها، وهو من كبار العلماء المحققين، وعدد تلامذتها نحو ٥٠٠ تلميذ يفدون إليها من أنحاء الهند؛ بعيدها وقريبها، وهي المدرسةُ الوحيدةُ الكُبرى التي أُنشئت على نفقة الوطنيين، واقتدى بها أهل لاهور منذ بضعة عشر عامًا، فأنشئوا مدرسة سمَّوْها «مدرسة لجنة حماية الإسلام». وفي كلية علي كده مكتبةٌ نفيسةٌ وجامع، ومطبعة تَصدر منها جريدة أسبوعية في اللغتين الأوردية والإنكليزية اسمها (أليكار أنستيتوت غازت)؛ أي جريدة كلية علي كده، ويقدرون نفقات تلك المدرسة بستة آلاف روبية في الشهر.

فالسيد أحمد خان قد مات، ولكن فضله لم يمت، وهيهات أن يغيب ذكرُهُ عن أذهان أهل الهند، وبالحقيقة أنهم قدروه حق قدره، فألَّفوا بعد وفاته جمعيةً سموها «جمعية إحياء ذكر السيد أحمد خان»، فقررتْ أن أفضل عمل يحيا به ذكرُهُ إنشاء مدرسةٍ جامعةٍ مثل مدرسته الأولى تسمى باسمه، وتجمع لها الأموال من المسلمين في أقطار الهند، وقدَّروا ما يقتضي لها من ذلك فبلغ نحو نصف مليون جنيه، ولا تزال الجمعية آخذة في هذا المشروع، وفق الله مسعاها!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤