الفيثاغورية

أَعجَب مدرسة فلسفية هي المدرسة التي أنشأها فيثاغورس في مدينة كروتون بجنوب إيطاليا في القرن السادس قبل الميلاد؛ فهي عجيبةٌ في تكوينها، وعجيبة في تعاليمها، وعجيبة في أثرها.

وأول مظاهر العجب أنها تُسمَّى الفيثاغورية، ولا يقال مدرسة فيثاغورس. والفرق بين التسميتَين كبير؛ لأن مدرسة فيثاغورس تُنسب إلى شخص صاحبها، وتنقضي بوفاته، أمَّا الفيثاغورية، فإنها على الرغم من انتسابها إلى فيثاغورس، إلَّا أنها تتجاوز شخصه إلى جماعة الفيثاغوريين؛ فالمدرسة في حقيقة أمرها تخضع لهيئة من القادة على رأسهم فيثاغورس، وهذا هو السر في أن المدرسة لم تنقرض بموت رئيسها. وأيضًا فإن فيثاغورس نفسه تلُّفه غلالات من الغموض والأساطير، ممَّا جعل كثيرًا من المؤرِّخين يشكُّون في وجوده.

ولسنا نُغالي غلو هؤلاء المؤرِّخين، فلا بد أن فيثاغورس كان شخصيةً حقيقية، على الرغم من نسيج الخرافات الذي تراكم حول سيرته. وقد كان القرن السادس كله عصر هزات واضطرابات وانقلابات فكرية في شتَّى أنحاء العالم المعروف. إنه عصر كونفوشيوس وبوذا وزرادشت. وهو العصر الذي ظهرت فيه الفلسفة اليونانية على يد حكماء اليونان. وأدَّت يقظة الشرق الشديدة إلى الضغط على آسيا الصغرى، وعلى مصر التي احتلَّها قمبيز فترةً قصيرةً من الزمن. أمَّا بلاد اليونان، فقد انتقل مفكروها من آسيا الصغرى إلى جنوب إيطاليا، ومنهم فيثاغورس. وكان الإغريق يعدون كل بلد ينزلون فيه جزءًا من وطنهم؛ فالمدن التي أُنشئت في جنوب إيطاليا، وصقلية، وشمال أفريقيا، ومصر، كلها مدن إغريقية، يتكلَّم أهلها اللغة اليونانية، ويسيرون في الحكم على النظام اليوناني، فضلًا عن اصطناع الشِّعر والتمثيل والأدب المأثور عن اليونانيين. فلا غرابة أن تُنشأ مدارس في معظم تلك المدن على نسق ما كان معروفًا في الوطن الأم.

ولكن مدرسة فيثاغورس كانت بعيدةً عن الروح الإغريقية الأصيلة، غريبةً عن تراث آلهة أوليمبوس. وما أُثر عن أربابها من حكمة ترجع إلى العقل، وغريبة عن ديونيسوس إله الخمر، وما عُرف عنه من اندفاع مع الهوى والعاطفة والخيال. فقد جلب فيثاغورس تعاليمه من الشرق الذي طاف بأرجائه، ففيه ديانة جديدة جاءت من طراقيا مع الإله أورفيوس، وفيه نزعة إلى الزهد لا تتفق مع النزعة الديونيسية بوجه خاص.

ويُحيط الغموض بشخصية أورفيوس، فهو إله، أو نبي، أو شاعر، أو موسيقار يفتن بموسيقاه الكائنات من شتَّى الأصناف. وللنِّحْلة الأورفية رأي في أصل العالم وحقيقة الإنسان؛ ففي البدء كان الزمان، ونشأ عن الزمان الأثير والعماء، وشكَّل الزمان بيضةً في الأثير تفتَّحت فخرج منها النور، وانفلقت نصفَين أصبح أحدهما السماء والآخر الأرض. وتزوَّجت جايا (الأرض) أورانوس (السماء)؛ فأنجبا ثلاث بنات وستة بنين. ولكن أورانوس ألقى بالأبناء في نهر تارتاروس حين علم بأن أبناءه سيقضون عليه. وغضبت جايا، فأنجبت التيتان وهم مردة جبابرة، وكرونوس، وريا، وأقيانوس، وتيش.

وتمضي الأسطورة فتصوِّر لنا كيف وُلد ديونيسوس من زيوس، ثم خطف التيتان الطفل وأكلوه، وكيف أعاد زيوس ديونيسوس إلى الحياة مرةً ثانية، وكيف سلَّط على التيتان البرق والرعد فأحرقهم وجمع رمادهم، وخلق منهم الإنسان، فأصبح بذلك مركَّبًا من طبيعتَين؛ طبيعة التيتان وهي طبيعة الشر والإثم، وطبيعة ديونيسوس وهي طبيعة إلهية سامية.

واصطنعت الفيثاغورية النِّحْلة الأورفية، وبخاصة نظريتها في النفس ونزعتها السرية.

وحين افتتح فيثاغورس مدرسته، اجتذبت عددًا كبيرًا من الأتباع، قيل إن عددهم بلغ ما يقرب من عشرة آلاف، وهو عدد ليس ثمرة الإحصاء، ولكنه ظنٌّ وتخمين؛ لأن العدد المثالي للمدينة الإغريقية كان ذلك العدد. ومع ذلك فليس من المستغرب أن تبلغ المدرسة هذا العدد؛ لأنها كانت تشمل الرجال والنساء على السواء. نقول مدرسة تجوُّزًا؛ لأنها كانت أشبه بفرقة دينية، ونظام من الإخوة، قريب من الفرق الصوفية التي انتشرت في الإسلام.

والمدرسة إلى ذلك كانت ذات وجهَين؛ أحدهما رياضي، والآخر أخلاقي وديني. أمَّا الجانب الرياضي، فلم يكن يصلح لهذا العدد الكبير من الطلبة بطبيعة الحال، بل كان مقصورًا على قلة قليلة من الخاصة. ومعنى ذلك أن المدرسة — ولو أنها كانت كلها سريَّة — إلَّا أنها كانت تُقدِّم دروسًا للخاصة في العلوم الرياضية، وأخرى للجمهور في الدين والأخلاق. وقد بقي هذا التقليد سائدًا في كثير من المدارس الفلسفية، وسنجده عند أرسطو الذي كان يُلقي دروسًا للخاصة في الصباح، وأخرى للجمهور في المساء. وهذه التعاليم الخاصة هي التي كانت تُحجب عن الجمهور، وتُسمَّى بالتعاليم المستورة، ويُسمِّيها الغزالي: المضنون به على غير أهله.

ومن الطبيعي أن تكون الرياضيات التي علمتها الفيثاغورية في القرن السادس قبل الميلاد ساذجةً بدائية، تُمثِّل أول درجة من درجات هذا «العلم». نقول «العلم» ونعني بذلك الفرق بينه وبين المعرفة العملية التجريبية؛ لأن الإنسانية لم تبلغ المرحلة العلمية بمعنى الكلمة إلَّا بعد أن مرَّت مئات — بل آلاف — من السنين، تقتصر على المعرفة التجريبية القائمة على الحس. والرياضة من حساب وهندسة كانت أول العلوم التي اهتدى الإنسان إليها، وذلك على يد فيثاغورس وشيعته. ولم يكن الحساب قد انفصل عن الهندسة؛ لأن الحساب — وهو علم العدد — كان يُصوَّر على هيئة أشكال هندسية. فقد كان علماء ذلك الزمان يستخدمون «لوح المعداد»، وهو لوح يُملأ بالرمل ويُخط عليه الأشكال المطلوبة. وبالنسبة للحساب يستخدم الحصى أو البلي، ويوضع وضعًا هندسيًّا، أي أن حصاةً واحدةً تدل على نقطة، واثنتان موضوعتان جنبًا إلى جنب هما الخط، وثلاث حصوات مثلث، وأربع مربع، وهكذا؛ ومن هنا قالوا بالأعداد المثلَّثة والأعداد المربَّعة.

وقد وجدوا في الأعداد خصائص عجيبةً عند جمعها وطرحها وضربها، وغير ذلك من العمليات. مثال ذلك أن مجموع مربعَي العددَين المتواليَين ٣، ٤ يُساوي مربَّع العدد التالي لهما وهو ٥؛ أي ٩ + ١٦ = ٢٥، وهذه الخاصية العددية هي التي طُبِّقت في الهندسة في نظرية فيثاغورس المشهورة، القائلة بأن مجموع مربعَي ضلعَي المثلَّث قائم الزاوية يُساوي مربَّع الوتر، فإذا فرضنا أن طول أحد الضلعَين ثلاثة والآخر أربعة، كان طول الوتر خمسة. وليس المهم الكشف عن صحة هذه النظرية، أو المسألة الهندسية بطريقة عملية، وإنما المهم «إثبات» صحتها ﺑ «البرهان» الرياضي، أي نظريًّا لا عمليًّا. وكان فيثاغورس يُعلي من شأن «النظر» على العمل، وهو صاحب قسمة الناس هذه القسمة المشهورة إلى نُظَّار وجمهور، فالجمهور هم جملة الناس وجمهرتهم المشتغلون بأمور الدنيا والمعاش، من زراعة وتجارة ومهن أخرى، يزاولونها بأيديهم، أمَّا «النظار» فإنهم لا يُشاركون في هذه الأعمال، ولكن «ينظرون»؛ أي يتفرَّجون من بعيد على الذين يعملون. وقد استمرَّ هذا التقليد الذي يفصل بين النظر والعمل من جهة، ويُعلي من شأن النظر على العمل من جهة أخرى، في الفلسفة اليونانية كلها؛ أخذ به أفلاطون ثم أرسطو، وانتقل هذا التراث إلى العرب عند نقل الفلسفة اليونانية، وأخذت به أوروبا بعد عصر النهضة والعصر الحديث، ولم يبدأ يتغيَّر هذا المبدأ الفيثاغوري إلَّا في هذا القرن العشرين.

ويرجع بنا الحديث إلى الرياضيات فنقول: إن ما يُخيَّل إلينا اليوم من مسائل حسابية وهندسية في غاية البساطة، وممَّا يدرسه الصبيان في سن متقدِّمة بالمدارس، كان في ذلك العهد في غاية الصعوبة، ولا يقوى على فهمه وإدراكه إلَّا قلة قليلة جدًّا هم الفلاسفة. ونحن لا نعرف كم كان عدد هذه الحلقة من الخاصة الملتفِّين بفيثاغورس؛ لطبيعة السرية التي ضُربت حول التعاليم الرياضية، إلى درجة أن أي واحد يُفشي هذه التعاليم كان يُعاقب بالطرد.

واختلفت الآراء في أمر ذلك الذي أفشى هذه التعاليم الرياضية، فقيل إنه «فيلولاوس» وكان فيثاغوريًّا، كتب كتابًا من ثلاثة أجزاء اشتراه ديون حاكم سراقوسة بصقلية حسب طلب أفلاطون؛ فتيسَّر بذلك أن يطَّلع أفلاطون على آراء فيثاغورس الرياضية. ولكن هذه الرواية ينقضها ما كان يعرفه سقراط من أتباع الفيثاغوريين، وبخاصة أن أفلاطون نفسه كان يعرف صلة سقراط بهؤلاء الأتباع، ممَّا نجده مدوَّنًا في أول محاورة «فيدون». والأرجح أن الذي أفشى تعاليمهم هو «هيباسوس» الذي دوَّن هذه التعاليم في كتاب، وكان ذلك في حياة فيثاغورس نفسه، وعوقب لهذا السبب بالطرد من الفرقة الفيثاغورية.

ولم تكن الفيثاغورية مدرسةً بمقدار ما كانت فرقةً تقوم على نظام من الأُخُوَّة، وكأنها دير أو معبد. وكان جميع أفرادها يعيشون معيشة زهدٍ وبساطة، ويلبسون زيًّا موحَّدًا وهو البياض، ولا ينتعلون، بل يمشون حفاة الأقدام. وقد سبقت الإشارة إلى أن سقراط كان من جملة أتباعهم، فلا غرابة أن يسلك مسلكهم، فكان يمشي حافي القدمَين.

والفيثاغورية أول مدرسة فتحت أبوابها لتعليم المرأة، وبذلك قرَّرت الفيثاغورية مبدأ مساواة المرأة بالرجل، قبل أن يُقرِّره أفلاطون في جمهوريته بقرنَين من الزمان. ومن الغريب أن أفلاطون، على الرغم من المناداة بالمساواة بين الرجل والمرأة، لم يُؤثر عنه أنه فتح أبواب الأكاديمية لأي امرأة. وعلى العكس كانت هناك مدارس فلسفية في اليونان ضمَّت نساءً إلى جانب الرجال، مثل مدرسة إبيقور.

إن تحرير المرأة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بتعليمها، ولم تستطِع المرأة أن تظفر بالتعليم العالي إلَّا منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل هذا القرن فقط. أمَّا قديمًا، فلم تظهر إلَّا محاولات كانت أشبه بومضات لا تكاد تبرق حتى تختفي، ولم يُقدَّر لها الاستمرار؛ ولهذا لم يذكر التاريخ امرأةً كانت صاحبة مذهب فلسفي، أو عالمةً بالرياضيات أو الطبيعيات، ويبدو أن رأي سقراط في المرأة من جهة تعلُّمها الفلسفة كان سيئًا؛ فقد ذهبت زوجته بصحبة أبنائهما إلى السجن تزوره قبل إعدامه، ولم تكد تراه حتى أخذت تولول وتصيح، فقال لرفقائه: أخرجوا هذه المرأة. ونحن نجد هذا الحديث مسجَّلًا في أول محاورة «فيدون».

وقد اشتُهرت المرأة الفيثاغورية بالعفة والفضيلة، وأنها أفضل نساء الإغريق؛ والعلة في ذلك أنها تُعلِّم الأدب وبعض مبادئ الفلسفة، كما كانت تُعلِّم تدبير المنزل والأمومة. إن اشتراك المرأة مع الرجل على هذا النطاق الواسع جعل المدرسة الفيثاغورية شيئًا أشبه بمجتمع مثاليٍّ أو مدينة فاضلة. وكانت المدن الفاضلة الشغل الشاغل لفلاسفة اليونان، حتى ليمكن القول إن هدف الفلسفة صياغة المجتمعات المثالية أو المدن الفاضلة، كما هي الحال في جمهورية أفلاطون. ولكن معظم المدن الفاضلة كانت من قبيل «الطوبيات» تصوَّرها أصحابها في الخيال، ولم تُطبَّق عمليًّا بالفعل، فيما عدا بعض المدن الفاضلة القليلة، ومنها مدرسة فيثاغورس.

وإذا كانت الفيثاغورية قد قبلت هذا العدد الكبير من الأتباع والمريدين، فإن التعاليم التي كانت تُقدَّم لهم هي تلك الخاصة بالدين والأخلاق لا بالعلوم الرياضية. وقد عرفنا أن النِّحْلة التي آمنوا بها هي الأورفية. والأَولى أن الفيثاغورية لم تتعصَّب لديانة بعينها، بل أخذت من كل ديانة بطرف، وبذلك عمل فيثاغورس على التوفيق بين الأديان المختلفة؛ فأخذ من طقوس بابل ومصر وتراقيا وعقائد اليونانيين إلى جانب الأورفية. وقد ظلَّت هذه النزعة التوفيقية مصاحبةً للفيثاغورية على مدى حياتها. وعندما ظهرت الفيثاغورية الجديدة بالإسكندرية في القرون الثلاثة الأولى بعد الميلاد، امتازت بهذه النزعة التوفيقية، وبخاصة بعد ظهور المسيحية، حتى إذا انتقلت الفيثاغورية إلى العرب في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، لازمتها هذه السمة ممَّا نجده واضحًا في رسائل «إخوان الصفا وخلَّان الوفا»؛ فإن أصحابها كتموا أسماءهم، وزعموا أن تعاليمهم سريَّة، وبدءوا رسائلهم بعلم العدد، كما دعوا إلى الزهد وتطهير النفس.

إن بلوغ السعادة القصوى لا يتم إلَّا بتطهير النفس، ويقوم هذا التطهير على عدة مبادئ ومعتقدات، على رأسها الاعتقاد في انفصال النفس عن الجسد، وسمو النفس وتعاليها على البدن، وبقائها بعد فنائه، ثم الاعتقاد بتناسخ الأنفس، ثم اتباع طريق الزهد والرياضة لتصفية النفس وتطهيرها.

سادت فكرة التناسخ عند الفيثاغوريين بعد انتقالها إليهم من فلسفات الهند ومن الأورفية. وكان فيثاغورس — فيما يُروى — مؤمنًا أشد الإيمان بهذه العقيدة، ويُقال إنه رأى شخصًا يضرب كلبًا يعوي، فأوقفه عن ضربه؛ لأنه عرف من صوت الكلب أنه أحد أصدقائه الذين ماتوا وتناسخت روحه في هذا الكلب. وتبعًا لهذه العقيدة، فإن صاحب الأعمال الصالحة في حياته الدنيا تحلُّ نفسه عند الموت في جسد شخصٍ صالح، وأن صاحب الأعمال الطالحة تحل نفسه في جسد حيوان؛ وهذه هي السعادة والشقاوة في نظرهم.

كانت هذه الآراء شائعةً في مدرسة فيثاغورس، وكشف أفلاطون عنها في محاورة «فيدون» التي يتحدَّث فيها عن خلود النفس. وكان سقراط يدين بالفيثاغورية، ولكنه أخذ يُفكِّر في مبلغ ما في هذه الآراء من صواب، فقبل بعضها ورفض بعضها الآخر؛ قَبِل رأيهم — أو رأي النِّحْلة الأورفية — في أن البدن سجن للنفس، ولكن ليس على المرء أن يفرَّ من هذا السجن بالانتحار؛ لأننا أشبه بالقطيع الذي يملكه الراعي، ولا تملك الخروج على أمره. ولا بد للمرء أن يُمضي فترة العقوبة مسجونًا في هذا البدن. غير أن سقراط رفض فكرة التناسخ، على الرغم من قبوله فكرة التطهير.

إن فكرة «التطهير» التي بدأت منذ فيثاغورس ومدرسته في القرن السادس قبل الميلاد، تقلَّبت في أدوار مختلفة، واتخذت أشكالًا متباينةً عند سقراط وأفلاطون وأرسطو في الزمن القديم، حتى إذا بلغنا العصر الحاضر، رأينا مدرسة التحليل النفساني — ونعني بها مدرسة فرويد — تعتمد في العلاج على فكرة «التطهير» Catharsis. والهدف من «التطهير» الفيثاغوري هو التخلُّص من «عجلة الميلاد»، أي التخلُّص من التناسخ في بدن حيوان، وبذلك يظل المرء يشقى طول مدة التناسخ، ويخرج من شقاء إلى شقاء. ولم يكتفِ فيثاغورس لتحقيق التطهير باتباع قواعد معيَّنة في الطعام، والقيام بعبادات منظَّمة معيَّنة على أيدي الكهنة، ولكنه أضاف إلى الزهد والعبادة شيئًا جديدًا هو ممارسة العلم الرياضي والموسيقى لتصفية النفس، كما يستخدم الدواء لتصفية الجسم. ومن المعروف أن فيثاغورس رفع الموسيقى من المرتبة العملية، فأصبحت علمًا نظريًّا، فأضحت علم التناسب، وأقامها على سُلَّم يتميَّز بطول النغمات عدديًّا؛ وبذلك ارتفع فيثاغورس ﺑ «التطهير» من مجرَّد نزعة عملية إلى مرتبة نظرية. وقد اتبع سقراط وأفلاطون هذه الطريقة في «التطهير»، فكانا يجمعان بين الزهد والسيرة الفاضلة، وبين اكتساب العلوم الرياضية وبخاصة الهندسة. وكان أفلاطون يكتب على باب مدرسته: «من لم يكن مهندسًا فلا يدخل علينا.» واستفاد أرسطو من طريقة التطهير في الفن؛ فالتراجيديا بما فيها من مواقف تبعث على الخوف والرعب والشفقة وغير ذلك، تجعل المتفرِّج يتقمَّص هذه المواقف وينفعل بهذه الانفعالات، فتخرج من باطن نفسه، ويتطَّهر منها، ورُوي أن بعض المرضى العصبيين كانوا يعالَجون في القرن الرابع قبل الميلاد بالطريقة الفيثاغورية، وبخاصة بواسطة الموسيقى.

والمدرسة الفيثاغورية عظيمة الأثر في تاريخ الفكر الفلسفي؛ ذلك أن التفسير الرياضي للكون كان سائدًا حتى زمان أفلاطون، الذي اشترط أن يتعلَّم الطالب الهندسة قبل أن يتعلَّم الفلسفة؛ والعلة في ذلك أن الرياضيات علوم يقينية، مضبوطة، مستمدَّةٌ من العقل ذاته لا من الخارج، وأساسها البديهيات الفطرية في العقل، والتي لا تحتاج إلى برهان، وإنما يكفي مجرَّد تصوُّرها للاعتقاد فيها؛ مثال ذلك بديهية المساواة وبديهية الكبر والصغر؛ أي إن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، وإن الكل أعظم من الجزء. وقد بيَّن أفلاطون في محاوراته أن الخادم الذي لم يتلقَّ أي «تعليم»، يستطيع أن يُدرك هذه الحقائق البديهية من ذاته، ممَّا يدل على أنها مفطورة في العقل. وقد استمرَّ هذا التيَّار الذي يعتقد في فطرية البديهيات الرياضية، منذ زمان أفلاطون حتى ديكارت وكانط ورَسِل في الوقت الحاضر.

ولكن في نفس الوقت الذي ظهر فيه هذا التيَّار الرياضي عند فيثاغورس، ظهر أيضًا تيَّار آخر يُفسِّر العالم تفسيرًا طبيعيًّا؛ إمَّا بمادة واحدة، كما كانت الحال عند طاليس، أو أنكسيمندريس، أو أنكسمانس. وقد انتهى الأمر بهذا التيَّار الطبيعي عند أرسطو إلى تفسير الموجودات بأنها مركبةٌ من هيولى وصورة، إلى جانب ردِّ العناصر إلى أربعة أساسية؛ هي النار والهواء والماء والأرض. وقد سيطر التفسير الأرسطوطاليسي على العالم حوالي عشرين قرنًا من الزمان، إلى أن عاد العالم مرةً أخرى إلى التفسير الرياضي للموجودات، لا على نحو ما كانت تُفسَّر قديمًا، بل بمعادلات رياضية.

إن الذي وجَّه الدراسات هذا التوجيه الرياضي هو فيثاغورس، ولذلك لم يكن من الغريب أن يقول برتراند رَسِل في كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية»: «إني لا أرى شخصًا غير فيثاغورس كان له أثر يُماثله في عالم الفكر؛ لأن ما يبدو لنا أفلاطونيًّا، نجده في جوهره عند التحليل فيثاغوريًّا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤