الأكاديمية

أشهر مدرسة فلسفية في التاريخ القديم، وأطولها عمرًا؛ فقد أُنشئت في أثينا زمان أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد، وظلَّت تقوم بتدريس الفلسفة حتى النصف الأول من القرن السادس بعد الميلاد، عندما أغلق الإمبراطور جستنيان أبوابها، ومع ذلك لم تمت بإغلاقها، بل استمرَّت تعيش بعد أن هاجر فلاسفتها أثينا، وذهبوا إلى فارس، حيث رَحَّب بهم كسرى أنوشروان، وأنزلهم في مدينة جُنْدَيسابور.

ولا تزال الأكاديمية حيَّةً باسمها في جميع اللغات؛ فالأكاديمية عنوان على نوع خاص من معاهد البحث العلمي، وهي تُطلَق في الأغلب على العلوم أكثر ممَّا تُطلق على الفنون والآداب. والصفة من الأكاديمية، أي الأكاديمي، تدل على المفكِّر المتعمِّق في البحث، مع الجدة والأصالة.

وقد تيسَّر للأكاديمية هذا الاستمرار المتصل على مر الزمان، بفضل النظام المحكم الذي وضعه لها مؤسِّسها أفلاطون.

فقد كانت هناك قبل إنشاء الأكاديمية مدارس في اليونان، كما كانت هناك مدارس في الشرق القديم. وقد أشرنا إلى الفيثاغورية التي ظهرت قبل ذلك بقرنَين من الزمان، كما أشرنا إلى مدارس الطبيعيين. وفي القرن الخامس ظهرت مدارس السفسطائيين، وكانت تلك المدارس تُؤدِّي وظيفةً معيَّنةً هي «تعليم» الخطابة والبيان، فكانت بذلك تُعِدَّ اليونانيين لتولي الوظائف العامة التي ظهرت مع ظهور الديمقراطية.

إن المدارس لم تكن تظهر إلَّا لحاجة ماسة؛ فهي تُخرج الحُكَّام والساسة؛ إذ كانت مشكلة الحكم هي الشغل الشاغل للأذهان، أو إنها تُعِدُّ الطلَّاب لشغل وظائف الكهنة وخدمة المعابد، وذلك بفهم أسرار الدين، ومعرفة مراميه، ووظيفته في خدمة المجتمع، أو إنها تُعِدُّ الطلَّاب لأمور الدنيا من معرفة بالحساب والتجارة والاقتصاد وغير ذلك. ولكن مدارس السفسطائيين كانت مختلفةً في وظيفتها عن هذه الاتجاهات الثلاثة، ولم تكن تُعلِّم الحقَّ بمقدار ما كانت تُعلِّم التغلُّب على الخصوم. ومن أجل ذلك نهض أفلاطون ينشئ الأكاديمية يُعارض بها «تعليم» السفسطائيين.

ومن الغريب أن سقراط الذي لم يؤثر عنه أنه كان صاحب مدرسة، قد صوَّره أرستوفان — الشاعر الهزلي المشهور — في تمثيلية السحب، صاحبَ مدرسة يُعلِّم الشباب الجدل بالحق وبالباطل، ولكن هذا التصوير الكاريكاتوري لا يتفق مع الحقيقة؛ لأن سقراط أفنى حياته يطلب الحق ولا يرضى بالباطل، وقُدِّم للمحاكمة لاتهامه بإفساد الشباب، أي إنه كان يُزعزع عقائدهم في القيم السائدة.

فلما أُعدم سقراط، حزن عليه تلميذه أفلاطون حزنًا شديدًا، وسخط على الديمقراطية التي كان يعدها مسئولةً عن محاكمته والحكم عليه، ثم رحل أفلاطون عن أثينا، وطاف بكثير من بلاد الشمس ليلتقي بزملائه الفلاسفة. ذهب إلى ميجارا ومكث عند إقليدس الميجاري زمنًا. ورحل إلى مصر حيث التقى بكهنتها، ودرس النظم المصرية في الدين و«التعليم» والحكم والفنون، وأُعجب بثبات هذه النظم.

فلمَّا قضى في مصر وطره، رحل غربًا في شمال أفريقيا إلى مدينة «قورينا»، وهي مدينة أنشأها اليونانيون في الجبل على مقربة من البحر. وفي القرن السادس بعد الميلاد خرَّبتها الزلازل، واندثرت حضارتها، ودُفنت تحت الأنقاض، ثم كُشف حديثًا عن آثارها كاملة، ولكنا لا ندري أين كانت تقع المدرسة القورينائية. وقد ذهب أفلاطون ليلقى هناك ثيودورس الرياضي، ويتذاكر وإياه العلم الرياضي.

ثم توجَّه بعد ذلك إلى تارنتوم بجنوب إيطاليا، وكانت معقل الفيثاغوريين، حيث التقى بزعيم المدرسة أرخيتاس الرياضي المشهور. جمع أرخيتاس بين العلم الرياضي والفلسفة والسياسة، كما كان قائدًا مظفَّرًا، وقد انتخبه أهل مدينته حاكمًا عليهم، فكان بذلك الحاكم الفيلسوف الذي لعبت صورته في خيال أفلاطون، ورأى في هذه الصورة النموذج لرئيس المدينة الفاضلة.

ولم يلبث أفلاطون أن اتجه إلى صقلية، واتصل في سراقوسة بديون شقيق زوجة ديونيسوس طاغية سراقوسة، وغضب ديونيسوس على أفلاطون بسبب انتقاد الفيلسوف لسياسته، فأمر به أن يُباع في أسواق العبيد، وبيع فعلًا في إيجينا بثلاثين ميناي، وافتداه تلاميذه، وفكُّوا أسره، وعاد إلى أثينا سنة ٣٨٧ قبل الميلاد، وقد بلغ الأربعين من العمر، فبادر بإنشاء الأكاديمية.

اختار للمدرسة مكانًا خارج أسوار أثينا، على مقربة من بابها الغربي، وهو عبارة عن بستان كان ملكًا للبطل «أكاديموس»، الذي يُنسب إليه المكان؛ فقيل أكاديمية. وكان يُؤدِّي إلى هذا البستان طريق يحفُّ به من الجانبَين تماثيل عظماء اليونان، ومنهم بركليس. وكان ذلك المكان أثيرًا عند سقراط لنضرة زرعه، وصفاء مائه، وكثرة جداوله. وقد وصفه أفلاطون في افتتاح محاورة «فيدروس»، حيث ذهب سقراط وتلميذه «فيدروس» — وكلاهما حافي القدمَين — يخوضان في ماء الجدول، ثم جلسا على الأرض في ظل شجرة باسقة. وإلى جانب ذلك، كان المكان مقدسًا، وُهب للإلهة «أثينا»، وأُقيم فيه معبد لتمجيدها، تُحيط به أحْرَاج شجر الزيتون، الذي كان يُمنح زيته للفائزين في أعياد «الباناثيناي» أكبر أعياد أثينا. هذا فضلًا عن ملعب رياضي أنشأه قائد أثينا المُسمَّى قيمون في أوائل القرن الخامس.

في هذا المكان المقدَّس، أو هذه الضاحية البديعة، اشترى أفلاطون البستان وقطعة الأرض التي أُقيم عليها بناء المدرسة. ولسنا نعرف على التحقيق على أي هيئة كان مبنى المدرسة، وأكبر الظن أنها كانت تشمل معبدًا لربَّات الفنون، وحُجرات للأساتذة والطلبة، وقاعات للاجتماعات، والاستماع إلى المحاضرات، وتناول الطعام مشتركين معًا. وقد جرت العادة في أيام الصيف أن يستمع الطلبة للمحاضرات في «مماشي» البستان، أو في ظل الرواق. وهذه العادة، مع أنها كانت عامةً في معظم المدارس الفلسفية في ذلك الحين، نعني أن يتلقَّى الطلبة الدرس وهم يمشون حول الأستاذ، إلَّا أن المدرسة التي اختصَّت باسم المشَّائين هي مدرسة أرسطو دون غيرها من المدارس.

وكانت المدرسة أشبه بفرقة دينية، فيها المعبد الموهوب لربَّات الفنون، والذي كان الطلبة يُقدِّمون إليها الأضحية في أوقات معلومة، وبخاصة لهرمس إله الحكمة. وكانت المعيشة بين أعضاء المدرسة — رئيسًا وطلبة — مشتركةً في الملبس، والمأكل، والنوم، وبعض لوازم اختصت بها المدرسة؛ مثل طريقة تصفيف الشعر، واتخاذ قلنسوات فوق الرأس، والاتكاء على العصا.

كان أفلاطون صاحب المدرسة، ومالك الأرض والبناء، وهو الرئيس. وقد وضع للمدرسة نظامًا للرئاسة بعد وفاته، هو نظام التعيين بالوصية. غير أن الرئاسة أصبحت تتم فيما بعد بالانتخاب السري من جميع أعضاء المدرسة.

ولم يكن أفلاطون — على عكس السفسطائيين — يتناول أجرًا على «التعليم»؛ فقد كان هناك مدارس في أثينا تتقاضى أجورًا فادحةً مثل مدرسة «إيسقراط» التي كانت تُعلِّم الخطابة بوجه خاص. وقد امتنع أفلاطون عن أخذ الأجر على «التعليم» اتباعًا لسنة سقراط الذي كان يرى أن المعرفة لا تُعلَّم؛ بل تنكشف للإنسان من باطن النفس، أو أن العلم تذكُّر والجهل نسيان بحسب عبارته المشهورة، فكيف يتقاضى المعلِّم أجرًا على شيء لا يملكه ولا يمنحه؟! وإذا كان سقراط على فقره، لم يُؤثَر عنه تناول الأجر، فمن باب أولى يمتنع أفلاطون سليل الأرستقراطية والثراء. وفضلًا عن ذلك، فإن «ديون» دفع مبلغًا كبيرًا هو الذي اشترى به أفلاطون الأرض والبستان، وكان الأغنياء يمنحون المدرسة هباتٍ سخية، كما كان الطلبة الأثرياء يُعينون المدرسة، كلٌّ على قدر استعداده.

وحيث كانت طبيعة الدراسة تعتمد على الحوار والمناقشة، فلم يكن من المهم أن تتم الدراسة داخل قاعات مجهزةٍ بأدوات، وبخاصة الأدوات والأجهزة العلمية، التي يحتاج إليها كلٌّ من الأستاذ والتلميذ لتوضيح بحثه. كان المحاضر في الأكاديمية يجلس فوق كرسي عالٍ في الرواق، ويجلس حوله التلاميذ على أرائك من الحجر. وأيضًا فقد كان من المألوف أن يُحاضر الأستاذ وهو يمشي وحوله تلاميذه. ولم يُؤثر عن أفلاطون أنه كان يحاضر من كتاب، أو حتى من مذكرات مدوَّنة. ولكن بعض تلاميذه كانوا يُقيِّدون عنه بعض المذكِّرات وبخاصة محاضراته «في الخير».

ومن طريف ما يُروى أن أحد التلاميذ ذهب يستمع عن أفلاطون هذه المحاضرات التي ذاع صيتها عن الخير، فأصيب بخيبة أمل شديدة؛ لأنه سمع محاضراتٍ في الهندسة والفلك.

والثابت أن أفلاطون كان يرى أن الفلسفة لا تُدوَّن، وقد تأثَّر في ذلك بأستاذه سقراط الذي أنفق حياته يُناقش ويحاور، ولم يُخلِّف شيئًا مدوَّنًا. حقًّا ظهر قبل أفلاطون وقبل سقراط جماعة من الفلاسفة دوَّنوا فلسفتهم في كتب، وكانت تلك الكتب متداولة، وبعضها يُباع بثمنٍ زهيد، وكان بعض تلك الكتب منظومًا في قصائد مثل فلسفة بارمنيدس أو إنبادوقليس. ولكن أفلاطون اختلف عنهم؛ لأن الحكمة الصحيحة لا تُدوَّن. وقد كتب في الخطاب السابع إلى ديون ما نصه: «إن حقائق الفلسفة لا يمكن التعبير عنها بالألفاظ كما يمكن في غيرها من الموضوعات؛ ذلك أنه بعد أن يتلقَّى المرء المعرفة من مرشد صادق في هذه الدراسات الفلسفية، وبعد الانقطاع بعض الوقت إلى صحبة ذلك المرشد، إذا ببريق من الفهم يُضيء النفس … ولست أعتقد أن الكتب المؤلَّفة في هذا الباب تُفيد الناس أي فائدة، اللهم إلَّا بالنسبة لعدد قليل ممن يستطيع أن يكشف الحق بنفسه.»

والسبب الحقيقي الذي من أجله رفض أفلاطون — كما رفض سقراط من قبل — تدوين الفلسفة، هو أن وظيفتها إحياء النفوس وصقلها وتزكيتها؛ لتكشف الحقائق بنفسها من ذات نفسها، لا أن تأخذ الحقائق عن الفلاسفة، وأن تتلقَّنها وتحفظها وتُردِّدها، كما أصبحت في العصر المدرسي، فجمدت وماتت.

ولكن وصية أفلاطون لم تُنفَّذ حرفيًّا؛ فإن بعض تلاميذه — وبخاصة أرسطو — روى لنا آراء أستاذه، لا على سبيل الرواية التاريخية، بل ساقها في معرض النقد، كما فعل في كتاب ما بعد الطبيعة، حين صوَّر آراء أفلاطون في أن المثل أعداد، ثم نقدها. ومع ذلك فإن الاعتماد على أرسطو في معرفة رأي أفلاطون خطر ولا يؤمَن، كما أنه من الخطورة الاعتماد على أفلاطون في معرفة آراء سقراط.

فنحن نعرف أن أفلاطون كتب عدة محاورات، بقي منها ثمانٍ وعشرون واحدة، من أهمها الجمهورية والنواميس، وأجرى فيها الحوار على لسان سقراط، ممَّا يجعل المرء يعتقد أن ما ورد في هذه المحاورات إنما هو آراء سقراط لا أفلاطون. والحق في ذلك أن بعض المحاورات يُصوِّر أفكار سقراط، وهي المحاورات السقراطية، وبعضها الآخر يُصوِّر آراء أفلاطون، والمؤرِّخون مختلفون في تحديد هذا النوع أو ذاك. هذه المحاورات، سواء منها السقراطية أم الأفلاطونية، خاطب بها أفلاطون الجمهور الواسع وليس خاصة تلاميذه. وقد لقيت المحاورات نجاحًا منقطع النظير، وكان الناس يقرءونها بصوتٍ عالٍ، وكانت تُمثَّل على خشبة المسرح زمان شيشرون. ومع أن أفلاطون حذَّر طلابه من تدوين الفلسفة، وأعلن صراحةً أن هذه المحاورات لا تُعبِّر عن آرائه الفلسفية، إلَّا أن المتأخرين اعتمدوا عليها في معرفة فلسفته، وبخاصة في نظرية المثل. وكانت المحاورات، أو على الأقل بعضها؛ مثل فيدون، وطيماوس، والجمهورية، تُدرَّس في الأكاديمية حتى زمانها المتأخِّر، ويتولَّى الأساتذة شرحها. وكان الطلبة الذين يرحلون إلى أثينا لتعلُّم الفلسفة، يجدون بُغْيتهم في هذه المحاورات وشروحها؛ ففي القرن الثالث بعد الميلاد نجد فرفريوس الصوري يحضر بعض الوقت على لونجينوس في أثينا شروحه على محاورات أفلاطون.

ليس معنى ذلك أن المحاورات لم تكن في زمان أفلاطون، ووقت كتابته لها، تُدرَّس في الأكاديمية. كانت متداولة، ولكنها لم تكن أساس التدريس. كان الطلبة يطَّلعون عليها كأي فرد من أفراد الجمهور، ولعلهم كانوا ينتقدون الأفكار التي عرضها أستاذهم فيها؛ ولذلك تعاقبت المحاورات، يُعدِّل اللاحق منها السابق، وتطوَّرت آراؤه بفضل حرية النقد والمناقشة. وكان النقد جريئًا مُرًّا لا يرحم، أطلعنا أرسطو الذي كان تلميذًا بالأكاديمية على طرف منه، وأرسطو هو القائل في كتاب الأخلاق: أُحب أفلاطون وأحب الحق، ولكن حبي للحق أعظم. إنه يعترف بصداقته لأستاذه، ومحبته له، ولكنه لا يتنازل عن التمسُّك بالحق في سبيل الصداقة.

ولمًّا كان الغرض الأساسي من إنشاء الأكاديمية تخريج طائفة من الحُكَّام والساسة، فمن الطبيعي أن تكون دراسة الشرائع وأصولها وأنظمة الحكم الصالح، هي التي تكون منهج الدراسة؛ ولهذا السبب لجأ إليها أهل المدن المجاورة يطلبون رأيها في التشريع، كما فعل إيبامنونداس عندما طلب تشريعًا لمدينة ميجالوبوليس. وإلى جانب ذلك، كانت الأكاديمية تُدرِّس العلوم الرياضية من حساب وهندسة وفلك وموسيقى. وقد مرَّ بنا كيف كان يتوقَّع الذين حضروا دروسه في «الخير» أن يسمعوا شيئًا عن الفضائل، فإذا بهم لا يسمعون إلَّا فلكًا وحسابًا وكلامًا عن الواحد والمحدود وغير ذلك من الأمور الرياضية. ذلك أن الرياضة كانت عند أفلاطون مدخلًا لا غنًى عنه إلى الفلسفة؛ ولذلك كتب على باب الأكاديمية العبارة المشهورة: «من لم يكن مهندسًا فلا يدخل علينا.» ومن الفروض الفلكية التي كانت سائدةً في المدرسة، انتظام حركة الأجرام السماوية، وعلى أساس هذا الفرض، كان علماء الأكاديمية يُفسِّرون تحيُّر الكواكب.

من أولئك العلماء الذين عاونوا أفلاطون، وكانوا سبب شهرة الأكاديمية رياضيًّا؟ من الصعب معرفة أسمائهم واحدًا واحدًا. ثم إن التلاميذ بالنسبة لأستاذهم لم يكونوا طلبةً بمقدار ما كانوا أصحابًا. ونحن نعلم أن أفلاطون ذهب للقاء ثيودورس الرياضي، وأرخيتاس الفيثاغوري، وإقليدس الميجاري، كلٌّ في موطنه، ولم يكن بالنسبة إليهم تلميذًا، كذلك كان يحضر المدرسة عند أفلاطون عدد من الأصحاب يمكن أن يُعَدوا من علماء الأكاديمية؛ منهم ثياتيتوس، وأيدوكسس، بل يذهب بعض المؤرخين إلى أنهم فعلًا من تلامذة أفلاطون.

ولسنا نعلم عن ثياتيتوس إلَّا النزر القليل، ومع ذلك، فقد خلَّد أفلاطون اسمه حين جعل محاورةً برأسها تحمل اسمه، وكل ما نستفيده عن حياته من هذه المحاورة، أنه كان من أهل أثينا، وأنه تعلَّم على يدَي سقراط وثيودورس القورينائي، وأنه كان معاصرًا لأرخيتاس وأفلاطون. ويبدو أنه كان رياضيًّا بارعًا، وصاحب كشوف جديدة في هذا العلم العجيب؛ ممَّا حدا بأفلاطون إلى أن يُخلِّد اسمه. والمشهور أن هذه المحاورة تبحث في نظرية المعرفة وكيفية اكتسابها، أمن الحس أم من العقل؟ ولكن ثياتيتوس إلى جانب ذلك، بل قبل أن يكون فيلسوفًا، فهو رياضيٌّ له رأي في الأعداد الصمَّاء، والكميات الصمَّاء — أي التي لا تخضع للقياس — ورأي في المجسَّمات المنتظمة.

أما «يودكسس» فأصله من كنيدوس، تعلَّم الهندسة على يد أرخيتاس، ثم رحل إلى أثينا وهو في الثالثة والعشرين من العمر، بعد افتتاح الأكاديمية بعامين (افتُتحت الأكاديمية ٣٨٧ق.م.) وكان في صباه شديد الفقر، ولكنه اكتسب ثروةً كبيرةً من «التعليم»، بعد أن ذهب إلى مصر، وظفر بشهرة واسعة في الفلسفة والرياضة والفلك. وقد طلع بنظرية جديدة في التناسب، واكتشف «القطاع الذهبي»، أي «أجمل» قسمة لخط أو كمية، قسمة ذات وسط وطرفَين. ويمكن القول إنه أنشأ علم الفلك مفسِّرًا حركات الكواكب بنظرية كرات تدور على محاورها، ومتحدة المركز.

ليس معنى ذلك أن هذين الاثنين هما وحدهما العالمان اللذان تخرَّجا في الأكاديمية؛ فهناك أسماء تتردَّد أيضًا؛ منها ليوداماس، ونيقوليدس، وليون. وهؤلاء الثلاثة كان لهم أثرٌ في تقدُّم الهندسة وتنظيم دراستها، وزيادة نظرياتها، وترتيبها ترتيبًا علميًّا؛ فكانوا بذلك أصحاب الفضل في التمهيد لظهور إقليدس صاحب الهندسة.

ومن الطبيعي أن يكون منهج البحث ملائمًا للعلوم الرياضية التي اشتُهرت بها الأكاديمية. وقد بدأت المناهج تتميَّز بوضوح منذ سقراط الذي اشتُهر بمنهج «التهكُّم والتوليد». والمنهج السقراطي يعتمد أساسًا على الحوار؛ لأن المباحث التي خاض فيها هي العلوم الإنسانية من أدبٍ وفن ولغة وشعر ودين وأخلاق واجتماع وسياسة. وقد اتبع هذا المنهج في الأكاديمية وتُصوِّره المحاورات أجمل تصوير، وهو منهج يقوم على تعريف المعاني الكلية، وتحديد الألفاظ، والاستقراء.

والأصل في المحاورة أنها مناقشةٌ تتم بين شخصَين — أو أكثر — وتُسمَّى باللغة اليونانية «ديالوج» من المقطعَين «ديا» و«لوجوس»؛ أي الكلام أو القول بين اثنَين. وقد تطوَّر الحوار عند سقراط إلى «الجدل» عند أفلاطون، وهو يعني باليونانية «ديالكتيك»، من المقطعَين «ديا» و «لكتيكون» أي كلام أو حديث. والفرق بين «الديالوج» و«الديالكتيك» أن الحوار حديث بين شخصَين، و«الجدل» حديث بين الشخص نفسه. فهو تفكير يدور داخل النفس، ومنه عند أفلاطون جدل صاعد ومنه جدل نازل. و«الجدل» بهذا المعنى هو المنهج الفلسفي بلا منازع؛ لأن النفس تصعد إلى المثل أي الحقائق، ثم تنزل من عالم المثل إلى عالم الحس، وتهبط من عالم الثبات إلى عالم التغيُّر.

أمَّا المنهج الملائم للرياضيات، فهو التحليل والقسمة، ويقال إن أفلاطون هو الذي اخترع طريقة التحليل، ثم وهب المنهج إلى تلميذه ليوداماس. والتحليل باليونانية «أنالوسيس» Analysis، وهو الذي أصبح فيما بعدُ أساس المنطق الأرسطي في كتابَيه الرئيسَين أنالوطيقا الأولى وأنالوطيقا الثانية، أي القياس والبرهان. خُذ مثالًا لذلك فكرة «المساواة» وكيف يُحلِّلها في محاورة «فيدون» من النظر إلى قطع متساوية من الخشب. ويقول بروقلس في تعليقه على الكتاب الأول لإقليدس عن ليوداماس: «إن أفلاطون شرح له طريقة التحليل، فكانت عونًا له في الكشف عن أمور هندسية كثيرة.»

ولقد اشتُهرت الأكاديمية باستخدام منهج القسمة، وبخاصة القسمة الثنائية. وفي محاورة السفسطائي نموذج لهذا المنهج. والقسمة مفيدة في التصنيف والتعريف. تدور محاورة السفسطائي بين ثيودورس القورينائي، وثياتيتوس الرياضي، وسقراط، وشخص رابع من إيليا. وقد حاول المتحاورون — وهم كما نرى رياضيون — تحديد معاني السفسطائي، والسياسي، والفيلسوف. فالسفسطائي يُعالج فنًّا من الفنون، والفنون إمَّا أن تُكتسب وإما أن تُبتدع.

والفنون المكتسبة إمَّا أن تكون بالتعلُّم أو المحاكاة، وهي كالتجارة، والحرب، والصيد.

والصيد أنواع؛ منه اقتناص الأحياء، ومنه اقتناص غير الحي.

وصيد الأحياء أنواع؛ مثل صيد السمك في البحار، والطيور في الهواء، والدواب على ظهر الأرض، وذلك بضروب مختلفة من الشباك والفخاخ والصنانير. والسفسطائي صائد، وفنه مكتسب، وصناعته اقتناص الناس من ذوي الحسب والمال، يُقدِّم لهم علمًا مقابل ما يأخذه من أجر. فهذا نموذج للقسمة الثنائية، ومنهج القسمة وفائدته في التعريف والتصنيف.

ولم تكن الأكاديمية مقصورةً في أبحاثها على العلوم الرياضية فقط، بل كانت تبحث أيضًا في علوم الحياة. ولكن اتجاه المدرسة بوجه عام كان نحو الرياضيات. وقد احتفظ أحد شعراء الكوميديا بصورة تحكي ما كان يجري في الأكاديمية من بحث في النبات، قال أفكراتس شاعر الكوميديا في تمثيليته التي يدور فيها الحوار على النحو التالي:

– أخبرني عن أفلاطون، وسبيسيبوس، ومينديموس، ماذا يعملون الآن؟ أي فكرة عميقة يبحثونها؟ وأي جدل شديد يدور بينهم؟

– إني أعرف كل شيء وسأُخبرك ببساطة. في عيد البناثيناي رأيت جماعةً من الشباب في ملعب الأكاديمية، وهناك سمعت أمورًا بعيدةً عن التصديق؛ كانوا يُعرِّفون ويُقسِّمون العالم الطبيعي، ويُميِّزون عادات الحيوان وطبائع الشجر وأنواع الخضر، ورأيت معهم «يقطينًا» كانوا يبحثون من أي نوع هو.

– وهل قرَّروا أي نبات هو، ومن أي نوع؟ أخبرني إن كنت تعرف.

– حسنًا! لقد ظلُّوا جميعًا أول الأمر صامتين، وانحنوا فوقها بعض الوقت يتأمَّلونها. وفجأةً وهم ما زالوا يفحصونها، قال أحد التلاميذ إنها خضر مستديرة، وقال آخر إنها حشيش، وثالث إنها شجرة. فلما سمع طبيب صقلي كان موجودًا هناك ذلك الحديث، انفجر ساخطًا على الهراء الذي ينطقون به.

– أحسب أنهم لا بد غضبوا غضبًا شديدًا، وصاحوا في وجهه؛ إذ من الفظاظة أن يفعل ذلك في وسط الحديث.

– لم أحفل بالتلاميذ، ولكن أفلاطون الذي كان موجودًا أخبرهم في عطف شديد، وبغير انزعاج أن يحاولوا من البدء تعريف نوعها. ثم مضوا في تعريفاتهم.

ويتضح من النص السابق أن الأكاديمية كانت تبحث في علوم الحياة. ثم إن سبيسيبوس ابن أخت أفلاطون، وخليفته في رئاسة المدرسة، كتب فيما بعدُ مؤلَّفات في الحيوان والنبات، بقي منها أجزاء تبحث في الأسفنج والمحار. وليس بعيدًا أن الأكاديمية زمان أفلاطون كانت مجهَّزةً بالأدوات العلمية والخرائط، ولا نزاع أنها كانت مجهَّزةً بالكتب. ولكن يمكن القول إن الأكاديمية اتجهت على العموم وِجهةً رياضية، على حين اتخذت مدرسة أرسطو — وهي اللوقيون — طابعًا بيولوجيًّا طبيعيًّا.

•••

يتضح ممَّا سبق أن الأكاديمية اهتمَّت ببحث سائر العلوم والمعارف، ولكنها قدَّمت بعضها على بعضها الآخر، بحسب اتجاهها في الفلسفة. ويمكن تقسيم العلوم بحسب أهميتها أربعة أقسام؛ هي الفلسفة، ثم العلوم الإنسانية من سياسة وأخلاق ونفس واجتماع، ثم العلوم الرياضية من حساب وهندسة وفلك وموسيقى، ثم العلوم الطبيعية وعلوم الحياة.

والفلسفة تاج هذه العلوم كلها، وهي الغاية التي ينتهي إليها الطالب، بعد أن يتبحَّر في العلوم، وبخاصة الرياضيات. وتجتمع فلسفة أفلاطون في كلمة واحدة هي «المُثُل». وأفلاطون هو الذي ابتدع الفلسفة المثالية، ولا تزال المثاليات حتى اليوم تعتمد في نزعتها عليه.

«المثل» عند أفلاطون هي النماذج الثابتة الأزلية التي بها يُفسر وجود الموجودات ومعرفتها. ولقد كانت المشكلة التي واجهها مفكرو الإغريق والتمسوا لها الحل هي أصل هذه الموجودات الكائنة، والتي تظهر إلى الوجود ثم تولِّي عنه، أي تفسير التغيُّر والكثرة، أهذه الكثرة حقيقية أم أنها ترتدُّ إلى شيء واحد؟ وهل هذا التغيُّر الذي نُشاهده حقيقي، أم أنه مظهر فقط يُخفي وراءه ثباتًا؟

واختلفت وجهات نظر الفلاسفة اليونانيين اختلافًا كبيرًا منذ القرن السادس؛ بعضهم يقول بمبدأ واحدٍ مادي؛ كالماء، أو الهواء، أو النار. وبعضهم الآخر يذهب إلى القول بالعناصر الأربعة مثل إنبادوقليس. وبعضهم الثالث يقول بالذرات مثل ديمقريطس ومدرسته. هذا إلى الفيثاغوريين الذي فسَّروا الموجود بالمبدأ الرياضي، وبالشكل الهندسي. ثم ظهر بارمنيدس في إيليا بجنوب إيطاليا، فقرَّر أن «الوجود موجود»، وأنه واحد، وأنه ثابت، وهذا هو طريق الحق. أمَّا إذا سار الإنسان في طريق «الظن»، فإنه يرى الموجود كثيرًا، ومتغيِّرًا.

والمثال الأفلاطوني جمع بين الواحد الفيثاغوري، وبين الواحد البارمنيدي.

المثال الثابت الواحد هو أصل الموجودات المحسوسة المتغيِّرة.

هذا هو الحل السعيد الذي اهتدى إليه أفلاطون لتفسير وجود الموجودات الكثيرة المتغيِّرة في عالم الحس.

ولكنه فطن إلى عجز هذه النظرية وقصورها عن توضيح كثير من المشكلات التي تعرض للذهن. وقد انتقد أفلاطون نفسه، وراجع فكره، كما يتضح من محاورة بارمنيدس. وتساءل عن أصل المحسوسات: أهي «تشارُك» في المثال، أم هي «محاكاة» للمثال؟ و«المشاركة» تفترض أن يكون المثال كلًّا، وأن يكون كلُّ واحد من المحسوسات جزءًا من هذا الكل. و«المحاكاة» تذهب إلى أن المثال أصل، ثم تتعدَّد المحسوسات عنه، كما تتكثَّر الصور في المرايا. وعندما نُقلت الفلسفة اليونانية إلى العرب، أُعجَب الغزالي بنظرية «المحاكاة» وتشبيه النفس بالمرآة التي تنعكس على صور المثل، فاصطنع هذه النظرية في كثير من كتبه.

والمثال لأنه معقول فلا مادة فيه، والمحسوس لأنه مجسَّمٌ مشخَّص فإنه ماديٌّ. فكيف نشأ المحسوس المادي من المعقول اللامادي؟ هذا هو جوهر المشكلة التي اضطُر أرسطو — تلميذ أفلاطون — إلى حلِّها بقوله إن المحسوس مركَّب من مبدأين؛ الهيولى والصورة. والقول بأن العالم مادي، وليس معنى ذلك أن فلسفة أرسطو مادية، بل تدل على تسليمه بوجود المادة إلى جانب الصورة.

وتتدرَّج «المثل» عند أفلاطون حتى تقف عند ثلاثة هي؛ الحق والخير والجمال. ولا تزال هذه القسمة الثلاثية دارجةً مألوفةً حتى اليوم.

•••

طال عمر الأكاديمية تسعة قرون؛ إذ أُنشئت ٣٢٧ق.م. في أثينا، وأغلق الإمبراطور جستنيان أبوابها ٥٢٩ بعد الميلاد. وتقلَّبت في أثناء عمرها المديد في عدة أطوار هي الأكاديمية القديمة والوسطى والحديثة، ثم الأكاديمية بعد الميلاد. والتقسيم المذكور يرجع إلى مؤرخي الفلسفة من المحدثين، وهو مصطنع بعض الشيء؛ إذ الحق في ذلك أن الطابع الذي يسود المدرسة في زمن معيَّن، إنما يرجع إلى شخصية رئيسها وتوجيهه.

تولَّى رئاسة المدرسة بعد موت أفلاطون أسبيسيبوس ابن أخته، الذي أتمَّ تنظيم المدرسة في شكلها الأخير. واستمرَّ رئيسًا من ٣٤٧ (أي بعد موت أفلاطون) إلى ٣٣٩ق.م، وخلفه زينوقراط ٣٣٩–٣١٥ق.م، ثم بوليمون ٣١٥–٢٧٠ق.م، ثم أقراطس بعد ٢٧٠ق.م، وينتهي معه طور الأكاديمية القديمة، التي امتازت بالسير في الطريق الذي رسمه أفلاطون. وقد لمعت في تلك الفترة أسماء كثير من العلماء والفلاسفة، نذكر منهم يودقسس، وهرقليدس، وغيرهما. ويقال إن كرانتور تلميذ بوليمون هو أول من وضع شروحًا لمحاورات أفلاطون.

ثم تحوَّلت الأكاديمية إلى نزعة الشك، بدأت مع الرئيس أرقليساوس، الذي يعدُّ منشئ الأكاديمية الوسطى، ثم أصبح هذا الاتجاه واضحًا قويًّا على يد كارنيادس، وتُسمَّى الأكاديمية في عهده (٢١٣–١٢٩ق.م.) بالأكاديمية الثالثة. وقد أرسله الأثينيون في سفارة إلى روما ونجح في مهمَّته.

وأكاديمية رابعة تحت رئاسة فيلون من أهل لاريسا، وقد وجَّهها وجهةً رواقية. وأكاديمية خامسة برئاسة أنطيوخس العسقلاني (تُوفي ٦٨ق.م)، الذي وفَّق بين الأفلاطونية والأرسطية والرواقية، وتُسمَّى هذه الأكاديمية الخامسة عادةً بالأكاديمية الجديدة.

ويمكن القول إن كارنيادس وفيلون وأنطيوخس كان لهم الفضل في نشر تعاليم الأكاديمية بعد انتقالها إلى «جُنْدَيسابور» محتفظةً بهذه التعاليم بفيلون وأنطيوخس واستمع إليها.

وممَّا يُروى أن سللا عندما حاصر أثينا سنة ٨٦ق.م. احتاج إلى خشب، فقطع أشجار الأكاديمية، التي انتقلت منذ ذلك الحين داخل أسوار أثينا. ومهما يكن من شيء، فإن تاريخ الأكاديمية حتى القرن الخامس بعد الميلاد غامض، وكل ما نعرفه أنها ازدهرت في القرن الخامس، وتجدَّدت، وأصبحت مركزًا للأفلاطونية المحدثة، المتأثِّرة بالفلسفة الإسكندرانية. وقد لمعت في هذه الفترة أسماء مشهورة بوجه خاص في الفلسفة العربية؛ منهم بروقلس، وفلوطارخس، وسوريانس، ودومنيونس، وماريانوس، وإيزودورس، والدمشقي الذي كان آخر رئيس للمدرسة، أي من ٥١٠ إلى ٥٢٩ بعد الميلاد.

ويبدو أن السبب الرئيس في إغلاق الأكاديمية — كذلك «اللوقيون» — أنها كانت مهد التعاليم الوثنية. وكانت المسيحية قد تغلَّبت وسادت، وأرادت أن تقضي على كل أثر للوثنية. وقد آثر فلاسفة الأكاديمية أن يهجروا المدرسة إلى مكان آخر يُمارسون فيه تعاليمهم بحرية، ورحَّب بهم كسرى أنوشروان، وأنزلهم في «جُنْدَيسابور»، وترك لهم حرية البحث، فنقلوا معهم الفلسفة والعلوم والطب. وظلَّت الأكاديمية في العالم الروماني، إلى أن انتقلت إلى بغداد زمان العباسيين، ونقلت علومهم وفلسفتهم إلى اللغة العربية. وهكذا نرى أن المدرسة الأصلية زالت من أثينا، وتغيَّر مكانها، وكذلك لغتها، ولكن تعاليمها لم تمت، وظلَّت الأكاديمية حيَّةً بأفكارها وفلسفتها، وقد عادت تعاليمها المثالية وفلسفتها الرياضية إلى الظهور مرةً أخرى في الوقت الحاضر، معدَّلةً بطبيعة الحال مع مقتضيات العصر، والتطوُّر الكبير الذي حدث خلال عشرين قرنًا من الزمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤