المشَّائية

«اللوقيون أو الليسيه»

مدارس «الليسيه» معروفة بهذا الاسم، ومشهورة في مصر، وهي تلك المدارس التي تُعلِّم الطلبة حتى يظفروا بإجازة البكالوريا؛ أي المرحلة السابقة مباشرةً على التعليم الجامعي. وهذا النوع من «التعليم» في «الليسيه» منتشرٌ في فرنسا، وعنها أخذنا هذا اللون من المدارس.

و«الليسيه» Lycée هي الاسم الفرنسي الذي أصبح يُطلق على الاسم اليوناني Lyceum، أو الأصح بالرسم اليوناني Lykeum، وقد عرَّبها القدماء فقالوا: «اللوقيون»، وهي المدرسة التي أنشأها أرسطو في أثينا، وكان يمارس «التعليم» فيها، وأصبحت تُنافس الأكاديمية والمدارس الأخرى اليونانية. ومدرسة أرسطو مدرسة فلسفية عليا، وليست ثانوية ﮐ «الليسيه» حديثًا، ولذلك ينبغي عدم الخلط بينهما، والاعتقاد بأن «الليسيه» الحاضرة هي «اللوقيون» قديمًا أو استمرار لها.

وتُعرف مدرسة أرسطو باسم آخر، وبخاصة عند العرب، هي مدرسة المشَّائين؛ لأن المعلِّم وتلاميذه كانوا يتعلَّمون وهم يمشون. وسبق أن ذكرنا أن هذه السُّنَّة لم تكن مقصورةً على الطلبة في مدرسة أرسطو فقط، بل كانت شائعةً في جميع المدارس الفلسفية في بلاد اليونان؛ وذلك لطبيعة الجو الحار الذي يسود أثينا معظم أوقات السنة، فكان الطلبة إمَّا أن يسيروا في المماشي تحت ظلال الأشجار، أو يسيروا جيئةً وذهابًا في «الرواق» داخل المدرسة. مهما يكن من شيء، فقد اشتُهرت مدرسة أرسطو باسم المشَّائين.

وقد ظلَّت «اللوقيون» باقيةً في أثينا تُنافس الأكاديمية، وتمتاز عنها بلون خاص، إلى أن أغلق الإمبراطور جستنيان أبواب المدرستَين. ومع ذلك، فإن تاريخ «اللوقيون» أغمض من صاحبتها، إلَّا أن «اللوقيون» — أو المشَّائية — أشهر في الزمن القديم. وكما يتصل إنشاء الأكاديمية باسم صاحبها وفلسفته، كذلك يتصل «اللوقيون» باسم مُنشئها ومؤسِّسها وصاحبها أرسطو؛ فهي ثمرة غرسه، ونتاج فلسفته. وإذا كان أفلاطون قد أنفق أربعين عامًا يُشيِّد صرح الأكاديمية؛ إذ أنشأها سنة ٣٨٧ ق.م. واستمرَّ رئيسًا لها، إلى أن تُوفي سنة ٣٤٧ق.م، فإن أرسطو لم يستمرَّ على رأس مدرسته سوى اثنَي عشر عامًا؛ لأنه لم يفتتحها إلَّا وهو في الخمسين من عمره. ولكن لماذا ترك أرسطو الأكاديمية التي تعلَّم فيها، وكان من أبرز تلاميذها، وقرَّر أن يُنشئ مدرسةً أخرى؟ والجواب عن هذا التساؤل يقتضي منا أن نُشير إلى سيرة أرسطو بإيجاز.

وُلد أرسطو ٣٨٤ق.م. بمدينة ستاجيرا من أعمال خلقيس، ولذلك حين يُقال الفيلسوف الاستاجيري لا تنصرف هذه التسمية إلَّا إليه، أو حتى حين يقال الاستاجيري The Stagirite فقط. وكان أبوه نيقوماخوس من نسل أسقلبيادس طبيبًا للملك أمنتاس الثاني ملك مقدونيا، الذي أنجب فيليب والد الإسكندر. وكان الأطباء يُورِّثون أبناءهم صناعتهم، ومن هنا نشأ أرسطو على محبة العلوم الطبيعية وعلم الحياة، وتدرَّب في صباه على التشريح والجراحة. ولمَّا بلغ الثامنة عشر أُوفد إلى أثينا حيث التحق بالأكاديمية، وظلَّ فيها عشرين عامًا. حقًّا كانت هناك عدة مدارس فلسفية في أثينا، ولكن الأكاديمية كانت أفضلها وأرقاها. وقد تأثَّر أرسطو بشخصية أفلاطون وتعاليمه إلى الأعماق، وانطبع بطابع لا يمحى، على الرغم من معارضة الفيلسوف الاستاجيري لنظرية «المثل». وكان صاحب الأكاديمية يعرف في تلميذه فضله وذكاءه؛ فسمَّاه «القَرَّاء»، و«العقل»، أي عقل المدرسة. وكثيرًا ما يصف أرسطو نفسه في كتبه بقوله إنه أحد الأفلاطونيين، أو بنص عبارته: «نحن الأفلاطونيين»؛ ممَّا يدل على ولائه للأكاديمية.

ويذهب بعض المؤرخين من المحدثين إلى تكذيب الروايات القديمة التي تُجْمِع على بقاء أرسطو عشرين عامًا تلميذًا بالأكاديمية. وهم يرَون أنه اختلف إلى أكثر من أستاذ، وبخاصة في البلاغة، مثل إيسقراط وديموستين، وأنه كان يتردَّد على الأكاديمية بين حين وآخر. ولكن الذي يدحض هذا التصوير، أن أرسطو كان يُعارض مدرسة أيسقراط، وكذلك مدرسة ديموستين؛ لأنهما يُعلِّمان على طريقة السفسطائيين التغلُّب على الخصم بسحر البلاغة ورنين الألفاظ، لا بقوة المنطق والتفكير السديد المحكم. وممَّا يُروى أن أرسطو كان يُلقي دروسًا في الخطابة — وهو طالب في الأكاديمية — على الجمهور يُنافس بها دروس إيسقراط.

ويبدو أن الطابع العام لجميع المدارس الفلسفية قديمًا كان واحدًا؛ فالمدرسة جماعة من الباحثين والمفكِّرين يرتبطون بروح مشتركة، ويُشاركون في آراء أساسية، وفي الوقت نفسه يحتفظ كل واحد منهم باستقلاله في البحث. وهذا الاستقلال يُفسِّر لنا اتجاه أرسطو منذ كان في الأكاديمية إلى متابعة البحث في العلم الطبيعي، كما ذكرنا قبلًا.

لم يكن أرسطو الذي سمَّاه أفلاطون «القَرَّاء» و«العقل»، ليَقْبَل أن يستمر في الأكاديمية تحت رئاسة سبيسيبوس، الذي مضى — بعد موت أفلاطون — يُوجِّه المدرسة نحو الرياضة، وأن يقلب الفلسفة — كما يقول أرسطو — إلى رياضيات.

مهما يكن من شيء، فلسنا ندري الأسباب الحقيقية التي من أجلها هجر أرسطو الأكاديمية، ورحَّب بدعوة زميل قديم له في تلك المدرسة هو «هرمياس»، الذي أصبح حاكم أسوس، وجمع حوله حلقةً صغيرةً من الأفلاطونيين. وبعد ثلاث سنوات ذهب إلى ميتلين في جزيرة لسبوس، حيث لقي صديقه ثاوفراسطس زميله في الأكاديمية، وخليفته فيما بعدُ على رئاسة «اللوقيون». وترجع مباحث أرسطو ومشاهداته في العلم الطبيعي والبيولوجي إلى إقامته في أسوس وميتلين. وفي سنة ٣٤٣ق.م. دعاه الملك فيليب لتثقيف ابنه الإسكندر؛ فعلَّمه إلياذة هوميروس، ومبادئ الحكم. ولكن حقيقة «التعليم» الذي تلقَّاه الإسكندر من معلِّمه غير معروف. فلمَّا تُوفي فيليب ٣٣٥ق.م. عاد أرسطو إلى أثينا، وأنشأ «اللوقيون»، وتلقَّى من تلميذه الإسكندر معونات كبيرةً ماليةً وأدبية.

أنشأ «اللوقيون» مدرسةً فلسفيةً تختلف في اتجاهها عن الأكاديمية التي عُنيت بالعلوم الرياضية. كانت الأكاديمية تقع خارج أسوار أثينا في الشمال الغربي من المدينة، فاختار أرسطو لمدرسته موقعًا في الطرف المقابل من المدينة شرقي الأسوار — أو الشمال الشرقي — على مقربة من طريق مراثون، أكبر الظن بين جبل ليقابيتوس ونهر أليسوس، حيث كانت تقع أيكة مقدسة موهوبة للرب أبولون لوقيوس وربات الفنون. وكانت تلك الأيكة من الأمكنة المحبَّبة إلى سقراط، وكان يرتادها كثيرًا. أمَّا لوقيوس التي منها اشُتق «اللوقيون»، فهو صفة لأبولون، وتعني الذئب، أو رب النهار.

ولمَّا كان أرسطو أجنبيًّا، أي ليس مواطنًا أثينيًّا، فلم يكن له الحق في امتلاك الأرض؛ ولذلك استأجر بعض الأبنية وجعلها نواة مدرسته. وفي جوار ذلك المكان، كان «يتمشَّى» هو وتلاميذه في المماشي، وتحت ظل الأشجار، ذهابًا وجيئة، ولذلك سُمِّي أتباعه بالمشَّائين، ولو أن هذا الأسلوب في «التعليم» — كما ذكرنا من قبل — لم يكن مقصورًا على أرسطو وحده، والتعاليم المشَّائية هي المأخوذة عن مدرسة أرسطو.

وممَّا يُروى أن أرسطو كان يُلقي نوعَين من الدروس؛ صباحية لخاصة تلاميذه، وتُسمَّى «سماعية» أو «مستورة». ومسائية للجمهور الواسع، وهذه أقل صعوبةً من الأولى، وتُسمَّى علانيةً أو «منشورة» Exeteric. ليس معنى ذلك أن أرسطو كان يُضفي على دروسه الصباحية صفة السرية، وأنه كان يحجبها عن الجمهور، كلَّا، بل الأمر أن دروس الصباح كانت تُهم فئةً قليلةً من المشتغلين بالمسائل الفلسفية العويصة؛ كالمنطق، والميتافيزيقا، والعلم الطبيعي، على حين أن الدروس الأخرى كالأخلاق والسياسة، كانت تجذب أسماع الجمهور ويُعجَب بها، ويُقبل عليها.

وأكبر الظن أن أرسطو جمع في مدرسته بضع مئات من الكتب المخطوطة — ولم تكن الكتب إلَّا مخطوطةً بطبيعة الحال — فكانت أول مكتبة في التاريخ، وأصبحت نموذجًا احتذت مثالها مكتبة الإسكندرية وغيرها من المكتبات. وكذلك اقتنى عددًا من الخرائط ومتحفًا من نماذج شتَّى لأحجار ومعادن ونباتات وحيوانات؛ ليستعين بها على توضيح محاضراته. ويقال إن الإسكندر وهبه مبلغًا كبيرًا من المال لاقتناء هذه الأشياء، وأمر جميع الصيادين في الإمبراطورية أن يُقدِّموا له نماذج ممَّا يصيدونه في الجو أو على ظهر الأرض أو في الماء.

ولم يكن الإسكندر وحده راعي أرسطو وحاميه، بل كذلك «أنتيباتر» الذي خلف الإسكندر في مقدونيا وصيًّا على العرش. ونحن لا نعلم حقيقة العلاقة التي كانت تربط بين أرسطو وأنتيباتر الذي يُعرف عنه ميول نحو البحث الفلسفي، ولكنه كان صديق أرسطو عندما عاش في بلاط فيليب، ويكفي أن هذه الصداقة بلغت من الوثاقة حدًّا يجعل أرسطو ينص في وصيته على تعيين أنتيباتر منفِّذًا لها.

وهكذا لقيت «اللوقيون» التأييد من أكبر ملك عرفه التاريخ، وأخلص وصي على عرش مقدونيا، فلا غرابة أن تبدأ المدرسة قويةً إلى الحد الذي تبرز فيه على الأكاديمية نفسها، ولم يكن زينوقراط رئيسها الثالث الذي انتُخب بعد موت أسبيسيبوس خليقًا أن يقف في كفة واحدة مع أرسطو، ولعل ذلك كان من جملة الأسباب التي دعته إلى افتتاح مدرسة جديدة؛ لأنه أنف أن يعمل تحت رئاسة زينوقراط.

ونحن إذا كنا نجهل حقيقة الدروس التي كانت تُلقى في الأكاديمية، ولا نعلم سوى الجانب الشعبي من تعاليم أفلاطون في محاوراته التي كان يُخرجها للجمهور بين حين وآخر، هذه المحاورات التي لا يزال معظمها موجودًا بين أيدينا حتى اليوم، فإن هذا الجانب الشعبي في تعاليم أرسطو، نعني محاوراته الرائعة الأسلوب التي وصفها شيشرون بأن أسلوبها يجري كأنه نهر من ذهب، أضحى مفقودًا منذ فُقدت هذه المحاورات، بعد أن استمرَّت ثلاثة قرون من الزمان، يقرؤها جمهور المثقفين، جنبًا إلى جنب مع محاورات أفلاطون. ولكننا لحسن الحظ نعلم تمام العلم حقيقة الدروس التي كان يُلقيها أرسطو في داخل المدرسة؛ لأن كتبه — ابتداءً من المنطق إلى الميتافيزيقا — لا تزال باقية، وسنتحدَّث عنها فيما بعد.

ولا بد أن الأبنية التي كانت تشغلها المدرسة كانت متعدِّدةً واسعة، يُتخَذ بعضها لسكنى الطلبة، وبعضها الآخر حجرات للمحاضرات، وبعضها الثالث لحفظ الكتب والخرائط وما أشبه. وأحد هذه الأبنية كان معبدًا لربَّات الفنون — أو متحفًا كما نقول اليوم Museum — ولفظ المتحف بالأجنبية نسبة إلى «موزايوس»؛ أي ربات الفن. وأُقيم في المتحف تمثال لأرسطو، يقول ثاوفراسطس إنه تمثالٌ نصفي، وقد أوصى أن يُوضع في المعبد.
ولمَّا كان أرسطو أجنبيًّا عن أثينا، ولم يكن له حق امتلاك الأرض كما ذكرنا، فقد وهب ديمتريوس الفاليري — تلميذ ثاوفراسطس — الأرض وما عليها من أبنية لثاوفراسطس. وفي وصية ثاوفراسطس التي حفظها لنا التاريخ يقول: «البستان، والممشى Peripatos، والمساكن الملحقة بالبستان، أهبها كلها لأصدقائنا الذين يرغبون في بحث الأدب والفلسفة بحثًا مشتركًا، ما دام ليس من الميسور لكل الناس أن يكونوا مقيمين إقامةً دائمة، بشرط ألَّا يُفسد أحد الأبنية أو يقصرها على استعماله الخاص. ولكن الشرط أن يملكوا المدرسة، وكأنها معبد من الأملاك العامة، وأن يعيشوا معًا معيشةً لائقةً على أساس من الصحبة والصداقة.»

وتدل هذه الوصية على أن روح أرسطو التي زرعها في تلاميذه، كانت لا تزال تُرفرف عليهم. وقد وضع لهم أرسطو دستورًا للمدرسة يتبعونه في الطعام والشراب والنوم. ومن دستور المدرسة أن يجتمعوا مرةً كل شهر حول مائدة للطعام أو الشراب، على طريقة مأدبة أفلاطون؛ رمزًا للمعيشة المشتركة. وفي وصية ستراتون الرئيس الذي تولَّى بعد ثاوفراسطس رئاسة المدرسة، نجد قائمةً بالأدوات التي وهبها للرئيس الذي عهد إليه بالمدرسة من بعده، وهذه الأدوات هي الملاءات الخاصة بالولائم، وكئوس الشراب، وجميع الأثاث الموجود في صالة الطعام. ويبدو أن هذه الأدوات استمرَّت تستكمل على مر الزمن، حتى إن المدرسة تحت رئاسة ليقون الذي تولَّى بعد ستراتون وجَّهت إليها كثير من الشكوى؛ لأن الطلبة الفقراء لا يستطيعون المشاركة في المآدب بسبب ما فيها من ترف شديد. مهما يكن من شيء، فإن أرسطو كان قد وضع دستورًا للشراب وللمآدب، كما كانت الحال في الأكاديمية، وفي معظم المدارس الفلسفية التي وُجدت في ذلك الحين.

ولسنا ندري شيئًا عن الرسوم الدراسية، ولكن يبدو أنها كانت بحسب مقدرة كل طالب، ولعل الفقراء لم يكونوا يدفعون شيئًا. ولذلك كانت المدرسة تعيش على هبات الأغنياء من جهة، وعلى ما يدفعه الطلبة القادرون من جهة ثانية.

ولسنا ندري عدد التلاميذ الذين كانوا يحضرون دروس أرسطو، ولكن يبدو أنهم كانوا عددًا وفيرًا؛ فقد حدَّثنا ديوجينيس اللايرسي في كتابه «سيرة الفلاسفة» عند الكلام عن ثاوفراسطس، أن ٢٠٠٠ طالب اعتادوا حضور دروسه. ولو أننا نشك في هذا العدد، فإذا كان ثاوفراسطس وهو تلميذ أرسطو وأقل منه شهرةً حظي بهذا العدد من التلاميذ، فلا بد أن عدد تلاميذ أرسطو كان أكثر. ولم يُبيِّن ديوجينيس عددهم، ولكنه قال إنهم كثير، أبرزهم ثاوفراسطس. ولا بد أن هذا العدد الكبير هو الذي كان يحضر الدروس المسائية، أمَّا الدروس الصباحية، أو السماعية، فلم يكن العدد يتجاوز بضعة عشر تلميذًا.

فما هي الدروس التي كان أرسطو يُلقيها عليهم؟

يختلف أرسطو عن أستاذه أفلاطون مزاجًا ومنهاجًا وفلسفة؛ صاحب الأكاديمية كان يرى أن الفلسفة شيء يُدرك بالحدس، والرؤية الباطنة، واتصال النفس بالحقائق الأزلية، ولذلك عرَّف الفلسفة بأنها «رؤية» الحق، وجدير بمن يبلغ الحق عن هذا الطريق، أن يحتفظ به سرًّا من أسرار النفس؛ إذ يصعب التعبير عن الحق باللفظ واللغة. ولذلك حذَّر أفلاطون في أكثر من موضعٍ من محاوراته الناس أن «يُدوِّنوا» الفلسفة؛ لأنها تُدْرَك وتُحس فقط. وقد ذكرنا قبلًا أن محاورات أفلاطون لم يُودعها فلسفته التي كان يُدرِّسها في الأكاديمية، وإنما عرفنا تلك الدروس ممَّا ذكره بعض تلاميذه، ونقلوه عنه، وعلى رأسهم أرسطو.

كان ذلك رأي أفلاطون: إن الفلسفة حوارٌ يدور بين عقلَين، أو «جدل» يصعد في باطن النفس إلى آفاق المثل الخالدة، ويهبط من سماء المثل إلى عالم المحسوسات والتغيُّر. ولكن أرسطو كان له في الفلسفة رأي آخر؛ فهي البحث عن العلل الأولى والغايات الأخيرة، وهي ضرب من البحث المُنظَّم الذي يعتمد على منهج آخر خلاف الحوار وخلاف الجدل، ذلك المنهج هو «المنطق» الذي ابتكره أرسطو حتى اشتُهر به، ولقَّبه المتأخِّرون وبخاصة العرب: «صاحب المنطق».

ولم يكن أرسطو يذهب إلى القول بعدم تدوين الفلسفة؛ لأن وجهة نظره نحو تفسير الموجودات تختلف عن وجهة نظر أفلاطون. فالفلسفة عند أرسطو هي «العلم بالموجود من حيث هو موجود»، أي إنه يقرُّ ويعترف بالموجود المحسوس. وما دام الأمر كذلك، فالمحسوس مركَّبٌ بلا نزاع من «مادة»، أو بالاصطلاح اليوناني الذي دخل لغة العرب من «هيولى». أمَّا أفلاطون فقد ضرب عن المادة صفحًا، وفسَّرها تفسيرًا رياضيًّا، وزعم أن «المُثُل» هي أصل الموجودات المحسوسة.

من هنا كان اتجاه أرسطو طبيعيًّا، وكان اتجاه أفلاطون رياضيًّا. ولعل هذا الخلاف في الاتجاه كان من جملة الأسباب التي دعت أرسطو أن يهجر الأكاديمية، وأن يفتتح مدرسةً جديدة. والفلسفة الطبيعية تبحث في أمور غير تلك التي تبحث فيها الفلسفة الرياضية، فضلًا عن اختلاف المنهجَين، واختلاف الأسلوبَين، واختلاف النزعتَين.

وقد خلَّف لنا أرسطو مؤلَّفاتٍ في جميع المعارف، ابتداءً من المنطق بأجزائه، والطبيعة، وعلوم الحياة، إلى الميتافيزيقا والأخلاق والسياسة. وكانت تلك المؤلَّفات متداولةً في داخل المدرسة حوالي ثلاثة قرون من الزمان، إلى أن رتَّبها أندرونيقوس الرودسي في القرن الأول قبل الميلاد هذا الترتيب المعروف حتى اليوم، واكتسبت هذه المؤلَّفات أسماءً لم تكن لها زمان أرسطو.

مثال ذلك أن كتاب «الميتافيزيقا» لم يُؤلِّفه أرسطو بهذا الاسم، بل الفن الذي يبحث فيه هو إمَّا الفلسفة الأولى، وإمَّا الإلهيات. أمَّا «الميتافيزيقا» فهو اسم وضعه أندرونيقوس للدلالة على ترتيب الكتب التي جاءت «بعد» الكتب الطبيعية؛ لأن «ميتا» باليونانية تدل على «بعد»، ولذلك قال العرب في ترجمتهم لهذا الكتاب إنه كتاب «ما بعد الطبيعة». وحقيقة أمره أنه ليس كتابًا واحدًا، بل أربعة عشر كتابًا مرتبةً على حسب الحروف الأبجدية اليونانية.

والمنطق الذي تركه لنا أرسطو يتألَّف من ستة كتب أساسية؛ هي (١) المقولات. (٢) العبارة. (٣) القياس. (٤) البرهان. (٥) الجدل. (٦) السفسطة. وقد أضاف العرب فيما بعدُ إلى هذه الكتب الستة ثلاثةً أخرى؛ مدخلًا يُسمَّى «إيساغوجي»؛ أي المدخل إلى المقولات، وهو من عمل فرفريوس الصوري، ثم الخطابة والشعر. والشعر بوجه خاص كتاب فني يبحث في الفن والجمال، ولا صلة له بالمنطق، ولكن العرب متأثِّرون ببعض شُرَّاح أرسطو جعلوه ضربًا من القياس. ولم يكن أرسطو يعرف مصطلح «المنطق»، فهذا المصطلح من وضع شيشرون في عصر متأخِّر، ولكنه كان يعني — بما نقول عنه «المنطق» — «التحليلات». وصناعة التحليل عنده تمر في مرحلتَين أولى وثانية؛ فالأولى هي القياس، والثانية هي البرهان. والمقصد من «المنطق» هو البرهان الذي يُؤدِّي إلى معرفة اليقين في الأمور العلمية؛ لأنه يعتمد على مقدِّمات أولى يقينية. و«المنطق» عند أرسطو، وعند المشَّائين بوجه عام، هو أداة التفكير، هو «الأرجانون»؛ أي الآلة التي إذا أحسن المرء استخدامها توصَّل إلى التفكير الصحيح.

وهكذا نرى أن البرهان منهج ضروريٌّ للبحث في الطبيعيات، وقد كان أرسطو مبتكرًا إلى حدٍّ ما لهذا المنهج الذي استخدمه منذ كان في أسوس وميتلين. وعندما افتتح «اللوقيون»، وكان يتتبع الظواهر الطبيعية للوصول منها إلى القواعد الكلية السارية في العالم الطبيعي. وله من الكتب في هذه الموضوعات كتاب الطبيعة، والسماء، والكون والفساد، والآثار العلوية، ثم الكتب النفسية وعلى رأسها كتاب النفس، والطبيعيات الصغرى التي تشمل الحس والمحسوس، والذكر والتذكُّر، والنوم والأرق، وغير ذلك. ثم الكتب التي تبحث في علم الحيوان، وقد اقتبس الجاحظ في الحيوان كثيرًا من آراء أرسطو، وذكره في أكثر من موضع.

وها هنا يمكن تقدير قيمة المساعدة التي أمر بها الإسكندر المقدوني، حين طلب من الصيادين في الجو والبر والبحر أن يُقدِّموا نماذج ممَّا يصيدون لأرسطو، أو على أقل تقدير أن يصفوا له ما لا يتيسَّر لهم تقديمه من أصناف الحيوان. وهذا المنهج الذي يعتمد على وصف النماذج المختلفة يُسميه أرسطو «التاريخ الطبيعي»، وفيما يختص بالحيوان يُسميه «تاريخ الحيوان»؛ يقصد بذلك تسجيل أصنافه المتعدِّدة. ولم يتبع أرسطو هذه الطريقة فيما يختص بالبحث الطبيعي فقط، بل كذلك عندما بحث الدساتير ونظم الدولة. إنه يُقيم نظريته السياسية بعد التقصي والاستقراء.

لم يكن أرسطو صاحب المنطق فقط، بل يمكن القول إنه صاحب كل علم، وواضع أُسس معظم فروع العلوم الطبيعية؛ فهو صاحب الحيوان، وهو صاحب النفس، الذي ظلَّ كتابه في علم النفس عمدةً لهذا العلم عشرين قرنًا من الزمان. وقد استمرَّت نظرية العناصر الأربعة حتى القرن الثامن عشر هي النظرية السائدة في العلوم الطبيعية. وهكذا نجد أن فلاسفة العصر الوسيط سمَّوه بحق «المعلِّم الأول». واستمرَّت كتبه هي العمدة التي يُعوَّل عليها، والأصل الذي يُعد أقصى ما يتمنَّاه المرء أن يقوم بشرحها؛ ولذلك قامت المشَّائية كمدرسة على كتب «المعلِّم الأول» وشروحها. واشتُهر الشرَّاح في هذه المدرسة شهرة مؤسِّسها، ولا يمكن الفصل في هذه المدرسة بين «المعلِّم الأول» وبين شُرَّاحه. وكيف يمكن هذا الفصل، ولم تظهر كتبه إلَّا بعد ثلاثة قرون من الزمان، ولم يكن ترتيبها على هذا النحو الموجود بين أيدينا؟ ويبدو أن كثيرًا من هذه الكتب من عمل المدرسة لا من عمل أرسطو وحده.

ولمَّا تُوفي أرسطو، تولَّى رئاسة المدرسة ثاوفراسطس ثمانيةً وثلاثين عامًا (٣٢٣–٢٨٦ق.م)، ويعد المؤسِّس الثاني لمدرسة «اللوقيون»، بخاصة أن أرسطو لم يستمرَّ في المدرسة إلَّا ثلاثة عشر عامًا. وفد إلى أثينا من جزيرة لسبوس، وحضر على أفلاطون في الأكاديمية، وعرف أرسطو في ذلك الحين، وتوطَّدت الصداقة بينهما. ولمَّا هجر أرسطو أثينا قبل وفاته بعام، عهد برئاستها إلى ثاوفراسطس، ووهب له في وصيته المكتبة والمذكِّرات التي كان يُلقي منها محاضراته، والتي نُشرت فيما بعدُ على أنها مؤلَّفات «المعلم الأول».

وقد ذكرنا من قبلُ أن عدد الذين كانوا يحضرون دروسه بلغ الألفَين، ولعل هذا العدد كان يحضر دروس الخطابة والأخلاق وما أشبه. والأشبه أن الرقم مبالغ فيه. وقد تابع ثاوفراسطس جهود أرسطو في تأسيس المدرسة واستكمالها؛ فوسَّع الحديقة، ونظَّم الأوقات والمناهج للتدريس. واشتُهر بكتابه في النبات، وله في هذا الفن كتابان في الواقع هما تاريخ النبات، وعلل النبات، ظلَّا عمدة هذا العلم في الزمن القديم والعصر الوسيط. والعرب يعرفون ثاوفراسطس ويُبجِّلونه، وترجموا كتبه. وجاء في وصيته ما فحواه أن المال الذي أودعه عند هيبارخوس يُنفق منه أولًا على إتمام تجديد بناء المتحف، وما فيه من تماثيل الآلهة. وثانيًا أن يُوضع في المعبد تمثال أرسطو كما كان من قبل. وثالثًا تجديد بناء الرواق المجاور للمتحف، بشرط أن يكون جميلًا كما كان، وأن يُوضع في الرواق السفلي المناضد وعليها خرائط البلاد التي اجتازها الروَّاد المستكشفون. وأيضًا يجب إصلاح المذبح وتجميله. إلى قوله: وإني أُوصي بإتمام تمثال نيقوماخوس في الحجم الطبيعي، وقد دفعتُ الأجر المتفق عليه للمثَّال براكستيلس … وإني أوصي أن تتألَّف هيئة المدرسة من هيبارخوس، ونيلوس، وسطراطون، وقالينوس، وديموتيموس، وديمارتوس، وقالستينمس، وميلانتيس، وبانقريون، ونيقيبوس.

والوصية طويلة لم نذكر إلَّا بعضها؛ لنبيِّن كيف كان رئيس «اللوقيون» يُفكِّر في مصلحة المدرسة حيًّا وميتًا، وكيف كان يُعنى بتجميلها، كما وضَّح لنا عددَ الخلفاء البارزين الذين كانوا يُديرون أمور المدرسة. وهذه الهيئة أشبه شيء بمجلس إدارة للنظر في جميع شئون المدرسة، ويعدُّ رئيس المدرسة رئيس مجلس الإدارة.

تولَّى المدرسة أسطراطون من ٢٨٦ إلى ٢٦٨ق.م، وقد اشتُهر باسم أسطراطون الطبيعي؛ بسبب انقطاعه لبحث الطبيعة. وقد علم بطليموس فيلاديلفوس الذي نفحه مبلغًا عظيمًا من المال يُضاهي ما أعطاه الإسكندر لأرسطو. وله مؤلَّفات كثيرة ذكر ديوجينيس أسماءها، كما أثبت وصيته التي جاء فيها أنه يعهد برئاسة المدرسة إلى «ليقون»؛ لأن الآخرين أصبحوا إمَّا طاعنين في السن، وإمَّا في غاية الانشغال. ويبدو من النظر في وصية رؤساء المدرسة أن الرئاسة كانت في بعض الأحيان بالنص والتعيين، كالحال في تولية «ليقون»، وفي بعض الأحيان الأخرى بالانتخاب من جماعة الفلاسفة الذين يُديرون أمور المدرسة، ويعيشون معًا معيشةً مشتركة.

واستمرَّ «ليقون» حوالي نصف قرن رئيسًا للمدرسة، من ٢٦٨ إلى ٢٢٥ق.م، ولم يُؤثَر عنه الاشتغال بالعلم الطبيعي، بل اتجه إلى الأخلاق والسياسة والبلاغة. ومنذ ذلك الوقت، بدأت مدرسة الإسكندرية تنتزع الراية من المدارس الأثينية التي لم يُعرف عنها تجديد أو ابتكار.

ثم توالى الرؤساء على المدرسة، ويُهمُّنا أن نتحدَّث قليلًا عن الرئيس الحادي عشر، وهو أندرونيقوس الرودسي. وكانت مدته من ٧٨ إلى ٤٧ قبل الميلاد. وترجع أهميته إلى أنه هو المسئول عن ترتيب كتب أرسطو على النحو الموجود بين أيدينا الآن، أو أنه هو الذي أعدَّ كتب أرسطو للنشر على هذا النحو. ولسنا نقصد بالنشر أنه طبعها؛ فلم تكن المطبعة قد اختُرعت بعد، وإنما كانت الكتب تُنسَخ على لفائف من أوراق البردي أو رقائق الجلد. ويكفي أن تتصوَّر «المكتبة» الملحقة بالمدرسة، والأبنية التي تتسع لمثل هذه الكتب الضخمة. وقد احتذت برجامون والإسكندرية في إنشاء مكتباتها حذو مكتبة أرسطو.

ولعلنا نترك حديث المدرسة بعض الوقت؛ لنتحدَّث عن قصة كتب أرسطو، تلك القصة التي تُشبه الأسطورة؛ ذلك أن ثاوفراسطس حين حضرته الوفاة، أوصى بمكتبته إلى زميله وصاحبه نيلوس، وكان في تلك المكتبة الخاصة مؤلَّفات أرسطو. ولمَّا كان نيلوس مواطنًا من طروادة بآسيا الصغرى، فقد حمل الكتب معه هناك، حيث أنشأ حلقةً أفلاطونية (وكان نيلوس يدرس بالأكاديمية مع ثاوفراسطس وأرسطو). وحين أراد حُكَّام برجامون إنشاء مكتبة تُنافس مكتبة الإسكندرية، خشي ورثة نيلوس أن يُستَولى على مكتبتهم، فأسرعوا بإخفائها في كهف، وظلَّت حبيسة المغارة قرنًا ونصف قرن، إلى أن سمع بخبرها أبيليقون الضابط المرتزق في جيش ميثريادس، وكان جمَّاعًا للكتب، فاشتراها بثمن بخس. وكانت الرطوبة قد محت كثيرًا من الكتابات الموجودة باللفائف، ولم يستطِع أبيليقون أن يُرتِّب هذه المؤلَّفات، وأن يُصدر منها نشرةً صحيحة. وأُرسلت الكتب إلى روما، حيث أراد تيرانيون النحوي أمين مكتبة شيشرون أن يُرتِّب الكتب، ولم يُفلِح. أمَّا النشرة الصحيحة، فهي تلك التي أشرنا إليها من عمل أندرونيقوس الرودسي. ويُعد عمله في هذا الترتيب والنشر شرحًا لمؤلَّفات أرسطو؛ فهو أول شارح.

احتاج أرسطو إلى شُرَّاح؛ لأن العهد كان قد بَعُد بين تعليمه في القرن الرابع قبل الميلاد، وبين العصور الجديدة بعد ثلاثة قرون؛ أي منذ القرن الأول قبل الميلاد. وكانت فلسفات جديدة قد ظهرت إلى الوجود، وأصبحت هي السائدة؛ كالرواقية، والإبيقورية، والإسكندرانية، ثم الأفلاطونية المحدثة. ولمَّا تدهورت مباحث الفلسفة، أخذ المشتغلون بها من المتأخِّرين يخلطون بين هذه الفلسفات كلها، على الرغم من أن الأسس التي تقوم كلٌّ منها عليها مختلفة. هذا إلى أن أوائل الخلفاء على مدرسة أرسطو لقرب عهدهم منه، كانوا يُحسنون فهم كتبه واتجاهاته، فلمَّا انقضى ذلك الرعيل الأول، خلف من بعدهم خلف أصبحت هذه المؤلفات بالنسبة إليهم أشبه بالطلاسم التي تحتاج إلى تفسير أو إلى شرح. ومن هنا ظهرت الحاجة إلى الشُّرَّاح.

والشُّرَّاح للمشَّائية كثيرون، وصلت بعض كتبهم إلى العرب الذين كانوا على معرفة وثيقة بهم، ولكن أشهر الشُّرَّاح بإطلاق بالنسبة إلى العالم العربي الإسكندر الأفروديسي في القرن الثالث بعد الميلاد، وثامسطيوس في الرابع بعد الميلاد، وسمبلقيوس في القرن السادس بعد الميلاد. وقد اتصل العرب بهذه الحركة؛ فكان ابن رشد من أكبر شُرَّاح أرسطو، لا تقل منزلته عن الإسكندر الأفروديسي أو ثامسطيوس. وقد نُقلت شروح ابن رشد إلى اللغة اللاتينية، وعرفت أوروبا أرسطو والمشَّائية عن طريق ابن رشد.

ولا تزال مدرسة أرسطو على الرغم من أنها أغلقت نهائيًّا أبوابها في أثينا عندما طرد الإمبراطور جستنيان الفلاسفة سنة ٥٢٩ حيةً حتى اليوم، ونقلت أفكارها إلى جميع اللغات، ولا يزال منطق أرسطو مستخدمًا، ولا تزال اتجاهاته الفلسفية الرئيسة باقية، وعلى رأسها أن الفلسفة هي العلم بالموجود، أو هي العلم بالعلل الأولى والغايات الأخيرة. وبقيت الأرسطية ولا تزال عنوانًا على تفسير الموجودات بالهيولى والصورة، أي بمبدأين لا بمبدأ واحد. والقول بالقوة والفعل باعتبار أن القوة تُقابل المادة، والفعل يُقابل الصورة، وعلى القول بنظرية الوسط في الأخلاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤