مدرسة الإسكندرية

لم تكد مدرسة الإسكندرية تظهر إلى الوجود حتى كسفت بنورها مدارس أثينا، وانتزعت منها راية العلم والفلسفة، واستمرَّت تتزعَّم الحركة الفكرية زُهاء ثمانية قرون، من القرن الثالث قبل الميلاد عند إنشائها، إلى القرن الخامس بعد الميلاد.

تميَّزت المدرسة خلال هذه الفترة من الزمان بنزعتها العلمية وبخاصة العلم الرياضي، ولم يُؤثَر عنها في عصرها الأول قبل الميلاد الاشتغال بالفلسفة، ولكنها منذ القرن الأول بعد الميلاد أخذت تنظر في فلسفة الأديان بوجه خاص، بعد ظهور المسيحية والصراع الفكري بينها وبين وثنية اليونان والرومان وديانة قدماء المصريين، فضلًا عن ديانات أخرى وافدة من الشرق؛ مثل اليهودية والزرادشتية والمانوية. وفي خضمِّ هذه التيارات الفكرية والدينية، ظهر في الإسكندرية «الفيثاغورية الجديدة»، تُحاول التوفيق بين الأديان، وهذه «الفيثاغورية الجديدة» هي الأصل الذي نبعث منه جماعة «إخوان الصفا وخلان الوفا» في القران الرابع الهجري عند المسلمين. وظهرت كذلك «الأفلاطونية المحدثة» تُحاول التوفيق بين أفلاطون وأرسطو مع ميل إلى الأفلاطونية، وهذه النزعة هي التي رفع رايتها آخر كبار الفلاسفة في الزمن القديم، وهو أفلوطين الذي سنُفرد لمدرسته حديثًا خاصًّا فيما بعد.

لم يكن لثغر الإسكندرية وجود قبل أن يُنشئ المدينةَ الإسكندر الأكبر عقب غزو مصر. تُوفي الإسكندر سنة ٣٢٣ق.م. بعد أن وضع حدًّا للثقافة الإغريقية التي كانت تتميَّز بالتمسُّك بالفكر اليوناني، وقصره على نفسها، وبدأت الثقافة «الهلنستية»؛ أي تلك التي امتدَّت خارج بلاد اليونان في سائر العالم المعروف في ذلك الزمان، والذي أخضعه الإسكندر لسلطانه يبغي إنشاء «عالم واحد» وثقافة واحدة. ولكن المؤسِّس الحقيقي لهذه المدينة التي قُدِّر لها أن تكون مركز العلم والفلسفة والثقافة في العالم الجديد، هو بطليموس الأول، الذي حكم مصر بعد موت الإسكندر، وكان صديقه ورفيق صباه، واشترك معه في حملات آسيا الصغرى، فلمَّا أسَّس الإسكندرية، دفن فيها رفات الإسكندر، وأنشأ بها الفنارة إحدى عجائب الدنيا السبع، وأنشأ المتحف والمكتبة. استمرَّ حكمه حتى سنة ٢٨٥، فلمَّا تولَّى ابنه (٢٨٥–٢٤٧) بطليموس فيلادلفوس كان حكمه امتدادًا لحكم أبيه، ثم بلغت دولة البطالسة ذروة مجدها في ظل بطليموس الثالث (٢٤٧–٢٢٢).

كان بطليموس يعرف أن مجد الدول وارتفاع منزلتها وخلود ذكرها، يرجع في المحل الأول إلى ما يسودها من علم وعرفان، وأن دولًا كثيرةً كانت تمتاز بوفرة المال أو قوة السلطان، ومع ذلك زالت ولم يبقَ لها في التاريخ ذكر؛ لذلك اتجه بطليموس في منافسته لأثينا بوجه خاص إلى انتزاع زعامتها الفكرية عنها؛ وذلك بإنشاء مدرسة فلسفية على نسق الأكاديمية أو «اللوقيون»، فكانت مدرسة الإسكندرية أقرب إلى «اللوقيون» منها إلى الأكاديمية، بحكم أن ديمتريوس وسطراطون اللذين وضعا دعائم المدرسة كانا خليفتَين على «اللوقيون». ولكن النظام الذي جرت عليه المدرسة لم يكن مشابهًا تمامًا لمدرسة أرسطو لأسباب كثيرة؛ على رأسها أن «اللوقيون» ارتبطت باسم مؤسِّسها وهو أرسطو، واستمرَّت تبث تعاليمه المشَّائية، ولم تتوقَّف مدرسة الإسكندرية على أي شخص، أو ترتبط بأي عالم أو فيلسوف، وإنما كانت مؤسَّسةً ثقافيةً تُهيِّئ للباحثين فرصة البحث، وللدارسين مهمة الدارسة. إنها أشبه بأكاديمية علوم أو معهد عالٍ للأبحاث، مقرُّه في ذلك الزمان «المتحف»، وباليونانية «موزايوم»، ومنه اسم المتحف حديثًا كالمتحف المصري بالقاهرة Museum، غير أن المتاحف الحديثة أصبحت مقرًّا للآثار القديمة، فتغيَّر بذلك معناها عن الزمن القديم.

والمتحف معبد أو هيكل لربَّات الفنون (موزايوس) التسع، وهن بنات زيوس ونيموسيني، وهذه التسع هي ربة التاريخ، والشعر الغنائي، والكوميديا، والتراجيديا، والترانيم، والرقص والموسيقى، وشعر الغزل، والفلك، والشعر الحماسي. وهذا يدل على أن اتجاه المتحف كان في الأغلب نحو الشعر بأنواعه المعروفة في اليونانية، ولكن شهرة المتحف قامت على العلوم أكثر منها على الآداب والشعر.

بُني المتحف جزءًا من القصور الملكية، له طريق عام، ورواق ذو مظلَّةٍ تحفُّه الأرائك، ينتهي إلى بيت واسع يعقد العلماء متشاركين في المتحف اجتماعاتهم في قاعته الكبيرة. وكان يشغل عدة أبنية في المدينة الملكية المطلَّة على الميناء، وهذا الأبنية مهيأةٌ لشتَّى الأغراض العلمية. ويعيش أعضاء المدرسة معًا، وما يملكونه فهو شرِكة بينهم. ويرأسهم كاهن كان لملك يُعيِّنه في القديم.

والمتحف أدنى إلى أن يكون معهدًا للبحوث منه إلى أن يكون جامعةً أو مدرسة. وليس بين يدَينا من الوثائق ما يُؤيِّد أنه مكان للتعليم. إنه تعليمٌ بين أستاذ ومعاونيه، ولم يكن ثمة إدارة أو امتحانات، أو درجات جامعية. وكان المتحف مزوَّدًا بالأدوات والأجهزة الفلكية، وأدوات التشريح، وحدائق للنبات. ومن الطبيعي أن يستغرق بناء المتحف ونموه زمنًا، وأن يحتاج مع ذلك إلى الاستقرار، وقد كفل له ذلك كله بطليموس الأول والثاني والثالث. وكان لتجرِبة ديمتريوس وأسطراطون الفضل في إرساء النظام الوحيد للمتحف، وكان كلٌّ منهما رئيسًا لمدرسة عريقة، وعالمًا فاضلًا. تعلَّم أسطراطون على يد ثاوفراسطس، واستدعاه بطليموس ليُعلِّم ابنه سنة ٣٠٠ق.م، واستمرَّ يعمل حتى سنة ٢٨٨، إلى أن رجع لرئاسة «اللوقيون» بعد وفاة ثاوفراسطس.

ومن أشهر العلماء الذين اقترن اسمهم بمدرسة الإسكندرية في عصرها الأول إقليدس وأرشميدس، وأبولونيوس، وأبولودورس. تعلَّم إقليدس أولًا في أثينا، ودرس الرياضيات في الأكاديمية. وعقب اضطراب الأمور في أثينا، ذهب إلى الإسكندرية، وعاش في ظل بطليموس الأول والثاني. وتُروى عنه أقاصيص كثيرة نذكر منها أن بطليموس سأله ذات مرة: أيوجد طريق أقصر إلى الهندسة من طريق «الأصول»؟ فأجابه: لا يوجد طريقٌ ملكيٌّ للهندسة. و«الأصول» هو الكتاب الذي ألَّفه إقليدس حاويًا كل شيء عن الحساب والهندسة حتى زمانه، ويُعرف باسم «أصول الهندسة»، وهذه هي الترجمة العربية للعنوان في عصر الترجمة. وقد ظلَّ هذا الكتاب بترتيب نظرياته الهندسية أساسًا لهذا العلم حتى اليوم، نعني بالنسبة للهندسة الإقليدية. وسائر الرياضيين الذين لمعت أسماؤهم بعد ذلك، إنما كانوا شُرَّاحًا لإقليدس، وإذا كانت لهم إضافات في هذا الباب فهي في حل بعض مسائل، أو ترتيبٍ وتبويب يُوضِّح هذا العلم للطلبة. وقد عرف العرب هؤلاء الرياضيين الذين ظهروا في الإسكندرية في عصرها المتأخِّر قبل الفتح، مثل بابوس، عاش في القرن الثالث بعد الميلاد، وثاون الإسكندري من القرن الرابع، وبرقلوس ومارينوس وكلاهما من القرن الخامس.

ومن كبار الرياضيين في مدرسة الإسكندرية في عصرها الأول، أرشميدس، وأرسطارخوس، وأبولونيوس. وأولهما أشهر من أن يُذكر، ولا يزال طلبة المدارس حتى اليوم يحفظون قاعدته المشهورة في علم الطبيعة عن الأجسام الطافية.

ومن أشهر علمائها في عصرها الثاني بطليموس الفلكي صاحب المجسطي. عاش بالإسكندرية في القرن الثاني بعد الميلاد، ونبغ فيها، وكانت مصر قد خضعت للحكم الروماني وانقرضت دولة البطالسة، ولكن الثقافة والعلم واللغة استمرَّت باليونانية. عرف العرب كتابه الذي ترجموه بقولهم «المجسطي»، فسار هذا الكتاب بينهم سيرة «أصول» إقليدس. ومن أبرز الأُسس التي قام عليها النظام الفلكي في هذا الكتاب القول بأن الأرض مركز المجموعة الشمسية، ويعرف هذا بالنظام البطلمي، وظل مأخوذًا به إلى أن جاء كوبرنيق فأحدث ثورته المشهورة في علم الفلك، قائلًا إن الأرض هي التي تدور حول الشمس.

وقد حدَّثنا العرب عن مدارس التعليم بالإسكندرية في عصرها المتأخِّر، وقد حفظ لنا مؤرِّخوهم روايات كثيرةً عن تلك المدارس، ولا حيلة لنا إلَّا الأخذ بها. روى القفطي في كتابه أخبار الحكماء أن الإسكندرانيين هم «الذين رتَّبوا بالإسكندرية دار العلم ومجالس الدرس الطبي، وكانوا يقرءون كتب جالينوس ويُرتِّبونها على هذا الشكل الذي تُقرأ اليوم عليه، وعملوا لها تفاسير وجوامع تختصر معانيها، ويسهل على القارئ حفظها وحملها في الأسفار. فأولهم — على ما رتَّبه إسحاق بن حنين — اصطفن الإسكندراني، ثم جاسيوس، وأنقيلاؤس، ومارينوس. فهؤلاء الأربعة عمدة الأطباء الإسكندرانيين، وهم الذين عملوا الجوامع والتفاسير.»

نقلنا هذا النص على طوله لنُبيِّن أن المدارس الفلسفية كانت موجودةً بالإسكندرية منذ أُنشئت حتى الفتح العربي، ولم ينقطع «دار العلم» أو «مجلس التعليم والدرس» منذ أن كان ذلك في المتحف، وظل في الأغلب مستمرًّا فيه إلى أن تخرَّب في القرن الثالث وظهرت مدارس أخرى؛ إذ في أكبر الظن أن الإسكندرية كانت تحتضن أكثر من مدرسة. ولا بد على كل حال في التعليم من مقرٍّ أو دار أو مجلس، بعبارة أخرى من مدرسة ثابتة تُشد إليها الرحال.

ولا تحسبنَّ أننا حين قصرنا الحديث على الرياضيين والفلكيين والأطباء، قد بعُدنا عن موضوع المدارس الفلسفية، بل ذلك من صميم الفلسفة؛ لأن الفلسفة في عصرها الذهبي كانت تعتمد على العلم، وكان الفلاسفة علماء. وحين أُنشئ المتحف نهض بإنشائه رئيسَا «اللوقيين»، وهما اللذان وجَّهاه هذه الوجهة العلمية. وعندما انتقلت الفلسفة إلى العرب، كان فلاسفتهم علماء أو أطباء أو رياضيين، وجمعوا بين العلم والفلسفة، مثل ابن سينا وابن رشد.

لم يكن المتحف مقر مدرسة الإسكندرية وحده، وإنما أُنشئ معه شيء آخر لا تتم المدارس إلَّا به، وهذا الشيء هو المكتبة. وقد عُرفت المكتبات من قبل إنشاء الإسكندرية، وبخاصة في أثينا كعبة الثقافة العالمية منذ القرن الخامس قبل الميلاد. ثم شرعت مدن أخرى تحذو حذوها، وتُنشئ مكتباتٍ تحتفظ فيها بمؤلَّفات الشعراء والأدباء والعلماء والفلاسفة. ولم يشأ بطليموس الأول أن تكون عاصمة ملكه أقل شأنًا من غيرها من المدن؛ فأمر بإنشاء مكتبة ظفرت في المستقبل بشهرةٍ عظيمة لكثرة ما كانت تحتوي عليه من مؤلَّفات.

أسَّس المكتبة ديمتريوس الفاليري (من مدينة فاليرون في أتيكا). عاش الشطر الأكبر من حياته في القرن الرابع. كان تلميذ ثاوفراسطس، واشتغل بالسياسة وأصبح حاكم أثينا من سنة ٣١٧ إلى ٣٠٧، ثم نُفي من أثينا، فرحَّب به بطليموس وعهد إليه بإنشاء المكتبة، التي استغرقت زمنًا ورعايةً وعنايةً لاستكمالها؛ بغية الحصول على الكتب المختلفة في شتَّى الفنون.

كانت هيئة الكتاب مختلفةً اختلافًا بيِّنًا عن هيئته المألوفة لنا في الوقت الحاضر. كتاب اليوم مطبوعٌ على ورق رقيق وفي حجم دقيق، وكتاب الأمس مخطوطٌ على ورق البردي وحجمه كبير. كانت الكتب عبارةً عن لفائف من ورق البردي؛ ولذلك كانت تشغل مكانًا واسعًا، وبخاصة إذا اشتملت المكتبة على آلاف كثيرة من الكتب. وقد بلغ عدد ما في مكتبة الإسكندرية ٢٠٠٠٠٠ في عهد مؤسِّسها بطليموس الأول، ونمت حتى بلغ عدد كتبها ٧٠٠٠٠٠ زمان يوليوس قيصر.

فكيف تسنَّى جمع هذا العدد الغزيز؟ لقد اتخذ ملوك البطالسة كل سبيل للحصول على الكتاب، ولم يبخلوا بمال أو سلطان، ومن هذه الوسائل أن بطليموس الثالث أصدر أمره بأن يُؤخذ من كل وافد في البحر ما معه من كتب، فإذا لم تكن موجودةً بالمكتبة، أُخذت منه وأُعطي بدلها نسخةً يقوم النُّسَّاخ بإنجازها. وكان لرؤساء المكتبة الفضل الأكبر في اكتسابها هذه السمعة الطيبة. وهذه قائمة بأسماء الأوائل منهم:

(١) ديمتريوس الفاليري ٢٨٤ق.م.
(٢) زنودوتس الأفسوسي ٢٨٤–٢٦٠
(٣) كاليماخوس القورينائي ٢٦٠–٢٤٠
(٤) أبولونيوس الروديسي ٢٤٠–٢٣٥
(٥) أراتستنس القورينائي ٢٣٥–١٩٥
(٦) أرستوفانس البيزنطي ١٩٥–١٨٠
(٧) أبولونيوس أيدوجرانس ١٨٠–١٦٠
(٨) أرسطارخس ١٦٠–١٤٥

ونودُّ أن نقف بعض الشيء عند اثنين؛ كاليماخوس وأراتستينس؛ لأن الحديث عنهما يعرج بنا على مدرسة فلسفية هي المدرسة القورينائية. سُمِّيت كذلك نسبةً إلى «قورينا» في ليبيا، ومكانها الآن مدينة شحات. أنشأ المدينة مهاجرون من جزيرة كريت في القرن السابع في الجبل، وعلى مقربة من البحر، وجعلوها بما شيَّدوه من معبد وملعب (جمنزيزم) ومحكمة، وغير ذلك مدينةً يونانيةً تمامًا. وقامت بها مدرسة فلسفية أسَّسها أرستبوس صاحب المذهب الأخلاقي الذي اشتُهر بالإقبال على اللذة، وحقيقة المذهب أنه يهدي المرء إلى «فن الحياة». وفي «قورينا» عمل ثيودورس الرياضي الذي تعلَّم في أثينا، وعاد إلى موطنه، وزاره أفلاطون في شبابه وعاش معه زمنًا. ويبدو أن المدرسة جمعت بين الدراسات الأدبية والفلسفية والرياضية، فكان أراتستينس من أشهر الرياضيين.

وُلِد كاليماخوس ﺑ «قورينا» حول سنة ٣٠٠ وبها دَرَس، ثم أكمل تعليمه في أثينا، وعُيِّن رئيسًا لمكتبة الإسكندرية سنة ٢٦٠، وتُوفي ٢٤٠. وهو الذي صنَّف كتب المكتبة، وعمل كتالوجًا قسَّمه ثمانية أقسام بحسب المؤلِّفين؛ (١) شعراء الدراما. (٢) شعراء الحماسة والغناء. (٣) المشرِّعون. (٤) الفلاسفة. (٥) المؤرِّخون. (٦) الخطباء. (٧) البلغاء. (٨) منوَّعات. وأكبر الظن أن الرياضيين والأطباء والعلماء كانوا تحت القسم الخاص بالفلاسفة.

عاش أراتستينس (٢٧٦–١٩٤) في القرن الثالث، تعلَّم ﺑ «قورينا» ثم درس في أثينا، واختُصَّ بالرياضيات والفلك والجغرافيا. دعاه بطليموس الثالث وعيَّنه عضوًا بالمتحف، ثم رئيس المكتبة سنة ٢٣٥، واستمرَّ بها إلى أن تُوفي، أي زُهاء أربعين عامًا. وقد اشتُهر أراتستينس بأن قياسه لمحيط الأرض كان أقرب قياس إلى الصواب؛ وذلك على أساس قياس المسافة بين الإسكندرية وأسوان، وهي مسافة معروفة، واعتباره أن أسوان تقع على مدار السرطان؛ أي خط عرض ٢٣ تقريبًا. وهنا يحق لنا التساؤل عن الصلة بين المتحف والمكتبة؛ فقد رأينا علماء شغلوا منصب الرئاسة بالمكتبة، ولعلهم مارسوا نشاطهم العلمي بها. وأكبر الظن أن المكتبة، ولو أنها كانت مستقلة، إلَّا أنها كانت تخدم المتحف الذي يستعين علماؤه بما فيها من مؤلَّفات. مهما يكن من شيء، ليس بين أيدينا ما يُلقي ضوءًا على هذه الصلة.

مرَّت بالمكتبة محن كثيرة انتهت إلى زوالها، وأول محنة أصابتها عند حصار يوليوس قيصر للإسكندرية، وكانت المكتبة عامرةً مزدهرة، فلمَّا أحرق قيصر الميناء، امتدَّت ألسنة النيران إلى المكتبة. ويقال إن أنطونيو وهب كليوباترا ٢٠٠٠٠٠ كتاب من برجام سنة ٤١ق.م، تعويضًا لما فُقد منها.

ولمَّا بدأ ساعد المسيحية يشتدُّ شيئًا فشيئًا منذ القرن الثاني، كان المسيحيون يعتقدون أن المكتبة والمتحف جناحان لقلعة الكفر والإلحاد. ونحن نعلم أن المسيحية لقيت عناءً شديدًا في مكافحة الوثنية القائمة على الفلسفة اليونانية، وكان الصراع بين المسيحية دينًا، والوثنية ثقافةً وأدبًا وفلسفةً صراعًا مرًّا لم تستطِع المسيحية أن تتغلَّب عليها إلَّا في القرن الرابع. وحين تنصَّر الأباطرة أنفسهم فأيَّدوا الدين بسلطان الدولة. وقد دُمِّرت المكتبة في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس، وذلك بأمر البطريق ثيوفيل بطريق الإسكندرية (٣٨٥–٤١٢) الذي كان معاديًا للوثنية. وقد شاع أن عمر بن الخطاب هو الذي أمر عامله عمرو بن العاص بحرق المكتبة، وهي قصة العرب منها براء؛ لأن المكتبة كما رأينا لم يكن لها وجود عند الفتح العربي.

ومن المعروف تاريخيًّا أن ثمة مدارس فلسفيةً مسيحيةً نشأت في الإسكندرية، واستطاعت هذه التعاليم المنظَّمة أن تُكافح وثنية اليونان. وأقدم هذه المدارس تلك التي أنشأها بنتينس Pantaenus الذي رأس المدرسة الرواقية في الإسكندرية، وكان قد تحوَّل إلى المسيحية. ثم تولَّى رئاسة هذه المدرسة كليمنت الإسكندري. وُلِد بالإسكندرية ١٥٠ق.م، وتحوَّل إلى المسيحية بعد أن درس في عدة مدن، وأعجبه تعليم بنتينس فتبعه، ورأس المدرسة سنة ٢٠٠ق.م، ومن هذه المدرسة ظهر أوريجين الذي أخذ من كليمنت من جهة، ومن أمونيوس سكاس من جهة أخرى. ويُعدُّ أوريجين مؤسِّس الأفلاطونية المحدثة في رواية، كما يُعدُّ أمونيوس سكاس (١٧٥–٢٥٠) هو المؤسِّس في رواية أخرى. وُلد أمونيوس من أبوين مسيحيين، ولكنه ارتدَّ عن المسيحية إلى الفلسفة اليونانية وديانتها. وكانت تعاليمه شفويةً سماعية، ويُقال إنه وفَّق بين تعاليم أفلاطون وأرسطو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤