مدرسة أفلوطين

إذا كانت بوادر الأفلاطونية المحدثة بدأت من أوريجين، فإن حامل لوائها بمعنى الكلمة هو أفلوطين. وعلى الرغم من أن مدرسته كانت في روما، إلَّا أنه يُعدُّ من مدرسة الإسكندرية؛ فهو فيلسوف إسكندراني، وأكثر من هذا فهو مصري.

وُلد في ليقوبوليس — وهي أسيوط حاليًّا — بمصر الوسطى سنة ٢٠٥، وتُوفي ٢٧٠ بعد الميلاد. ولا ندري شيئًا عن نشأته الأولى وأسرته؛ لأنه كما يقول تلميذه فرفريوس الصوري، كان يأبى أن يتحدَّث عن آبائه وأقربائه وموطنه. وفرفريوس هو الوحيد الذي كتب سيرة أفلوطين، وهو الذي نشر تاسوعاته، وسنتكلَّم عنه بعد حديثنا عن أفلوطين، وما نعرضه الآن عن أفلوطين مستمدٌّ ممَّا دوَّنه فرفريوس، فلا حاجة للإشارة إلى الموضع الذي أخذنا عنه. قال فرفريوس:

على الرغم من امتناعه بوجه عام عن الحديث عن حياته الخاصة، إلَّا أنه روى لنا بعض التفصيلات خلال أحاديثه معنا؛ ففي الثامنة والعشرين من عمره أصابته حمَّى الفلسفة، فاتجه إلى أبرز مُعلِّميها بالإسكندرية، إلَّا أنه كان يعود بعد الاستماع إلى محاضراتهم حزينًا مهيض الجناح. فلمَّا رأى أحدُ أصدقائه ما هو عليه من خيبة أمل، وكان يعرف مزاجه، صحبه إلى أمونيوس الذي لم يكن قد حضر عليه بعد. وبعد أن سمع أفلوطين محاضراته، قال لصاحبه متعجِّبًا: هذا هو الرجل الذي كنت أنشده.

ومنذ ذلك اليوم استمرَّ يتبع أمونيوس حتى بلغ من تقدُّمه في الفلسفة أنه رغب في الاطلاع على مناهج الفرس والمذهب السائد بين حكماء الهند. وصادف أن الإمبراطور جورديان كان يُعِدُّ حملةً يُجرِّدها على الفرس، فالتحق أفلوطين بالجيش وذهب مع الحملة، وكان عند ذلك في التاسعة والثلاثين من العمر؛ إذ كان قد أمضى أحد عشر عامًا في صحبة أمونيوس. وانهزم الجيش في العراق، وقُتل الإمبراطور، وهرب أفلوطين إلى أنطاكية، ثم ذهب إلى روما واستقرَّ بها وهو في الأربعين من العمر.

كانت روما عاصمة الإمبراطورية، وقلب العالم المتحضِّر في ذلك الزمان، فاجتذبت إليها عددًا من العلماء والفلاسفة والأدباء. في هذه العاصمة أنشأ أفلوطين مدرسته، التي ظفرت بتأييد الإمبراطور، فكفاه بذلك مئونة الإنفاق على المدرسة. ولم تقتصِر المدرسة على الإمبراطور جاليانوس الذي حكم من ٢٦٠ إلى ٢٦٨، وكان أديبًا فيلسوفًا، بل شاركته زوجته الحضور على أفلوطين. ويبدو أن المدرسة كانت تستقبل النساء كما تستقبل الرجال، وإحداهن سيدة تُدعى «جمانا» كان أفلوطين يسكن في دارها. ويبدو كذلك أن المدرسة كانت تفتح أبوابها لكل طالب؛ فقد ذكر فرفريوس في السيرة التي كتبها عن أفلوطين، أنه كان يمتنع من الجلوس أمام المصوِّرين أو النحَّاتين ليرسموا صورته أو ينحتوا له تمثالًا، حتى إن تلميذه أميليوس حين طلب منه أن يسمح بالوقوف أمام مصوِّر أجابه: «ألا يكفي أن نحمل هذه الصورة التي قيدتنا الطبيعة فيها؟ أتحسب حقًّا أنني يجب أن أرضى بأن أترك لخَلَفي صورةً للصورة؟» فلمَّا أبى أفلوطين، عهد أميليوس إلى صديق له اسمه «كاتريوس» يُجيد الرسم، فأدخله إلى المدرسة يستمع إلى دروس أفلوطين، وكانت الدروس مباحةً لكل طالب.

كان هدف أفلوطين من المدرسة أن تكون نبراسًا يهدي النفوس إلى التقوى والصلاح والخير، فكان يصرف تلاميذه عن الاشتغال بأمور الدنيا، ويحملهم على حياة من الزهد توصل إلى شفاء النفس بالتجرُّد عن جميع العلائق وإماتة سائر الشهوات. وكان هو نفسه مهملًا أمر جسده محتقرًا إياه، ممتنعًا عن أكل اللحم. وقد استهوت هذه التعاليم كثيرًا من التلاميذ، حتى إن «روجاتيانوس» عضو الشيوخ نزل عن أملاكه وأمواله وعبيده وألقابه، وسار في طرق الزهد حتى أصبح لا يأكل إلَّا مرةً واحدةً كل يومين. وكان للناس — رجالًا ونساءً — فيه اعتقاد عظيم، حتى إنهم عندما كانت تحضرهم الوفاة يعهدون بأبنائهم وبناتهم وما يملكون لرعايته ووصايته، فكان منزله يعج بالصبيان والبنات، وكان إلى ذلك يقوم بتعليمهم الأدب والشعر، ويأخذهم بيدهم إلى طريق الفلسفة، ويحتفظ بأموالهم لا يمسُّها حتى يبلغوا مبلغ الرجال وسن الرشد.

وكانت المدينة الفاضلة الحلم الذي راود معظم الفلاسفة اليونانيين، وعلى رأسهم أفلاطون صاحب الجمهورية أو المدينة الفاضلة المثالية. وانتهز أفلوطين فرصة منزلته عند الإمبراطور جاليانوس وزوجته سالونينا، تلك المنزلة التي كادت تبلغ التقديس والعبادة، فطلب منهما أن يعيش هو وأتباعه في «كامبانيا» التي كانت فيما يُروى مدينةً للفلاسفة في قديم الزمان، ثم تهدَّمت وخربت. ورأى أفلوطين إعادة بناء المدينة، وأن يعيش السكَّان في ظل القوانين التي يضعها لهم، ويُسمِّي المدينة «فلاطونوبوليس» Platonopolis. ومعنى بوليس Polis باليونانية مدينة، ومنها هليوبوليس إحدى ضواحي القاهرة، ومعناها مدينة الشمس. وعزم أفلوطين الإقامة مع أتباعه في تلك المدينة لولا أن حُسَّاده في البلاط حالوا بين الإمبراطور وبين تنفيذ وعده.

وكان بالمدرسة تلاميذ كثيرون، إلَّا أن أشهرهم كان أميليوس، وكذلك طبيب من الإسكندرية اسمه أسطوخيوس لزم أفلوطين في أواخر حياته إلى أن تُوفي، واتبع مذهب أفلوطين وأصبح فيلسوفًا على الحقيقة. هذا إلى جانب فرفريوس كاتب هذه السيرة، والذي عهد إليه أفلوطين بمراجعة كتابه ونشره. وكان أفلوطين في التاسعة والخمسين عندما اتصل به فرفريوس قادمًا من أثينا. وظلَّ أفلوطين زُهاء عشر سنوات لا يُدوِّن شيئًا ولا يكتب فلسفته، بل يتحاور مع جماعة من الأصحاب على أساس ما تعلَّمه من أمونيوس. ويمضي فرفريوس في روايته بعد ذلك قائلًا: إنني حين أول ما التقيت به، كان قد ألَّف خمسًا وعشرين مقالةً — وستسمَّى المقالة فيما بعدُ تاسوعًا — حصلت عليها، على الرغم من أنه لم يُعطِها إلَّا لعددٍ قليل جدًّا. الحقُّ أنها وُزِّعت بعناية شديدة، ولم يضع أفلوطين لهذه المقالات عناوين، فاجتهد كل من حصل عليها أن يضع لها العنوان المناسب. وظلِلت على صلةٍ وثيقة به مدة ست سنوات، وألَّف بعد ذلك أربعًا وعشرين مقالةً أخرى، ثم أرسل لي حين كنت بصقلية وقبل وفاته بمدة قصيرةٍ أربعًا أخرى، فأصبحت جملتها أربعًا وخمسين. وعندما نشر فرفريوس هذه المقالات قسَّمها ستة أجزاء، في كل جزء تسع مقالات، ومن هنا جاء اسمها وهو تاسوعات أفلوطين. وقد نُقِلَ بعضها في عصر الترجمة، وسُمِّيت كتاب «الربوبية»، ونُسبت خطأً لأرسطو، قام بالترجمة ابن ناعمة الحمصي وصحَّحها يعقوب الكندي.

ويمضي فرفريوس قائلًا: وكان لا بد من مراجعة ما كتبه؛ لأنه لم يكن يُطيق إعادة قراءة ما كتب، ولم تكن حالة بصره تسمح له بذلك. وكان خطه رديئًا، يُسيء الربط بين الألفاظ، ولا يُعنى بقواعد الإملاء؛ لأن عنايته الوحيدة اتجهت نحو الفكرة، وقد لزمته هذه العادات طول حياته. وقد تعوَّد أن يتصفَّح خطة بحثه في ذهنه من أولها إلى آخرها، حتى إذا جلس لتدوينها جرى القلم على الورق بما احتفظ به في ذهنه بجرَّة واحدة، وكأنه ينسخ من كتاب مفتوح. وإذا عرض له أن يتحدَّث مع شخص ما، أقبل عليه بكل حواسه مع الاحتفاظ بتسلسل فكره واضحًا أمام ذهنه. حتى إذا انصرف محدِّثه، لا يرجع أبدًا إلى ما سبق أن كتبه، بل يصل ما انقطع وكأن شيئًا لم يصرفه عن التفكير. وهكذا كان يعيش في داخل نفسه ومع الآخرين في آنٍ واحد.

أمَّا في محاضراته، فكان بارعًا في العرض مع قدرةٍ فائقة على الابتكار والفهم. وهو حين يتكلَّم كان نور عقله يُضيء وجهه بشكل واضح. وكان على استعداد أن يتلقَّى الاعتراضات ويُجيب عنها بنفس القوة التي وُجِّهت إليه. وقد استمرَّ فرفريوس يُوجِّه إليه مدة ثلاثة أيام أسئلةً عن ارتباط النفس بالبدن، واستمرَّ يُجيب عنها بغير انقطاع. كان موجز الأسلوب، مرُكَّز الفكر، معناه أوسع من لفظه، ملهمًا في تعبيره. وقد جمع في كتاباته بين مذاهب الرواقية والمشَّائية، مدمجًا بوجه خاص فيها ميتافيزيقا أرسطو. حصَّل العلم النظري بالهندسة والميكانيكا والبصريات والموسيقى، غير أنه لم يكن على استعداد للمضي في دراستها دراسةً تامةً عميقة.

وطريقته في التعليم في أثناء المحاضرات أن تُقرأ رسائل المؤلِّفين بصوت عالٍ، من الأفلاطونيين سفيروس أو كرونيوس، أو كايوس، أو أتيكوس. ومن المشَّائين أسباسيوس، والإسكندر، وأوراستوس وغيرهم. ولكنه لم يتَّبع أي واحد منهم اتباعًا أعمى، بل اتخذ لنفسه وجهة نظر شخصية مبتكرة، مطبقًا منهج أمونيوس في فحص المسائل.

حدث ذات يوم أن حضر أوريجين في حجرة درسه، فاحمرَّ وجه أفلوطين وأوشك أن يُنهي المحاضرة، فلمَّا رغب إليه أوريجين أن يستمرَّ أجابه: إن نار الحماسة لتخبو حين يشعر المتكلِّم أن السامعين لن يتعلَّموا منه شيئًا.

وإليك حكم لونجينوس — أحد فلاسفة ذلك العصر، كان يعيش ويُعلِّم في أثينا — على أفلوطين، من خطاب له أرسله إلى فرفريوس، قال: عندما كنت صبيًّا أفسحتْ رحلات والدي الطويلة لي فرصة رؤية أفضل معلمي الفلسفة، وظلِلت على اتصال بجميع الأحياء منهم في المدن التي كنت أرحل إليها. كان بعضهم يصوغ أفكاره في مؤلَّفات يتركها لفائدة الخلَف، وكان بعضهم الآخر يقنع بأن يفهم عنه السامعون. وممن لم يكتب أمونيوس وأوريجين، وقد حضرت عليهما بنفسي وأعترف بامتيازهما على أقرانهما. وهناك كذلك في أثينا ثيودورس وبوبولس. وممن كتب من الأفلاطونيين إقليدس وديمقريطس وبرقلينوس، ثم اثنان لا يزالان يُعلِّمان الفلسفة في روما، وهما أفلوطين وصاحبه أميليوس. وهذان وحدهما يظهر عليهما الروح الصادقة لصناعة التأليف في المسائل التي يُعالجانها. ويبدو أن أفلوطين يُلقي على مبادئ فيثاغورس وأفلاطون ضوءًا أسطع من أي فيلسوف سبقه. ويحذو أميليوس عن قصد حذو أفلوطين، وقد اصطنع معظم آرائه.

يتضح من ذلك أن حياة المدرسة كانت شديدة الجدل، مع سيادة روح البحث الحر، وأن الطلبة كانوا يتعلَّمون كتابة المقالات وإنشاء الرسائل، هذا إلى قراءة نصوص الفلاسفة وشرحها والتعليق عليها. وكان الطلبة يقرءون أبحاثهم ويُناقشون فيها علانية. وإلى جانب ذلك تراسلت المدارس من شتَّى المدن فيما بينها، يتبادل الأساتذة والطلبة الأفكار، ويتحاورون على البعد، كما رأينا في المراسلات بين لونجينوس وفرفريوس. وهكذا استطاع أفلوطين بأصالة تفكيره أن يُجدِّد الأفلاطونية، وأن يمزج بينها وبين المشَّائية والرواقية والفيثاغورية، وأن يخرج بمذهبٍ جديد، ومدرسة جديدة، تُعدُّ آخر المدارس الفلسفية اليونانية.

الجديد في هذه الفلسفة منهجها، ونظرتها إلى النفس، وتفسيرها للوجود. منهجها التأمُّل في باطن النفس، والترقي إلى آفاق أعلى بطريق الجدل صعودًا حتى تبلغ النفس منبع النور والبهاء، ثم تهبط بعد ذلك وقد استفادت من الحق. وقد كان الجدل منهج أفلاطون، ولكن جدل أفلوطين مختلف عنه من حيث اعتماده اعتمادًا مطلقًا على التأمُّل الباطن، واستخلاص الحقائق من النفس ذاتها، على حين أن جدل أفلاطون كان يبدأ من المحسوسات ومن المباحث في الرياضة، والنظر إلى الأشكال الرياضية ليصعد منها إلى المثل، إلى الصور المجردة، ثم يهبط بعد ذلك إلى العالم المحسوس، بعد أن يكون الفيلسوف قد عرف المثل ليُصلح من حال المدينة. لم يكن أفلاطون هاربًا من عالم الواقع، هائمًا في عالم المعقولات، كلا، كان هربه مؤقَّتًا ليعود مرةً أخرى إلى الواقع يُصلح من أمره، ويُحقِّق فيه الخير والعدل. أمَّا أفلوطين، فإن الظروف السياسية والاجتماعية التي سادت العالم في زمانه، مع بداية انهيار الإمبراطورية الرومانية وانتشار الفساد، مع كثرة الحروب التي خرَّبت البلاد، جعلته يهرب من ذلك العالم الذي فقد الناس الأمل في صلاحه إلى عالمٍ آخر؛ إمَّا بالانطواء داخل النفس، وإمَّا بالرجاء في حياة أخرى أسعد من الحياة الدنيا. وقد قال أفلوطين بالطريقين؛ أن يحصر الإنسان نفسه في داخل نفسه وينطوي عليها ويزهد في مباهج الحياة الدنيا، كما رأينا من سيرته، وأن يسعى إلى السعادة في الحياة الآخرة. ولا شك أن المسيحية التي كانت معاصرةً لفلسفة أفلوطين قد تأثَّرت بتعاليمه، كما تأثَّر مذهبه بآراء فلاسفة المسيحيين الذي ظهروا في الإسكندرية.

ويختلف الأساس الفلسفي عند أفلوطين عن الأساس الذي قامت عليه الفلسفة اليونانية من قبلُ إلى أفلاطون وأرسطو. حاولت الفلسفة اليونانية تفسير الوجود؛ أي بيان كيفية وجود الموجودات؛ فذهب بارمنيدس أن الوجود موجود؛ أي إنه حقيقة أولية لا تحتاج إلى إثبات، وعند أفلاطون أن الوجود نوعان معقول ومحسوس، وأن الوجود المعقول — نعني عالم المثل — أصل الوجود المحسوس. ولكن الموجودات المحسوسة التي نشهدها في هذا العالم ليست إلَّا ظلالًا وأوهامًا، أمَّا الحقيقة فهي أمثال هذه الموجودات. والمثال معقول؛ ولذلك كانت فلسفة أفلاطون مثالية. ولمَّا جاء أرسطو لم يفصل هذا الفصل في الوجود بين عالمَين، بل قال إن الموجود مركَّب من مبدأين؛ المادة والصورة. صفوة القول: الفلسفية اليونانية فلسفة وجود، وتعريف أرسطو للفلسفة الأولى — أو الميتافيزيقا — أنها هي العلم بالموجود من حيث هو موجود.

أمَّا فلسفة أفلوطين فهي فلسفة واحد.

«الواحد» في قمة الوجود، وأعلى منه، وعن «الواحد» يصدر العقل، وعن العقل تصدر النفس، وهكذا يبدأ أفلوطين بثالوث متدرِّج في القيمة، على رأسه «الواحد». ومن هنا كانت فلسفته مختلفةً عن أفلاطون وأرسطو. أمَّا مفهوم «الواحد» عنده فليس واضحًا متميِّزًا؛ فهو تارةً الله، وهو تارةً أخرى الخير، وهو تارةً ثالثةً الأول. مهما يكن من شيء، فإن «الواحد» أعلى من الوجود.

إذن كيف جاء الوجود عن «الواحد»؟ أول موجود صدر عن «الواحد» هو العقل، فاض عنه لأنه صورة من «الواحد»، أو شبح له، ثم يصدر عن العقل النفس التي هي صورة أدنى من العقل.

ولكن كيف يعرف الإنسان أنه جزءٌ من النفس الكلية؟ وكيف وصل إلى معرفة العقل ومعرفة العالم الإلهي الذي هو فوق العقل؟ فلنترك أفلوطين يُحدِّثنا عن هذه المعرفة التي تتم بطريق الجدل، وذلك من الترجمة العربية القديمة التي أصلحها الكندي، قال:

إني ربما خلوت بنفسي، وخلعت بدني جانبًا، وصرت كأني جوهرٌ متجرِّد بلا بدن، فأكون داخلًا في ذاتي، راجعًا إليها، خارجًا من سائر الأشياء، فأكون العلم والعالم والمعلوم جميعًا. فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء والضياء ما أبقى له متعجِّبًا بَهِتًا، فأعلم أني جزء من أجزاء العالم الفاضل الشريف الإلهي، ذو حياة فعَّالة. فلمَّا أيقنت بذلك ترقَّيت بذاتي من ذلك العالم إلى العالم الإلهي، فصرت كأني موضوع فيه، متعلِّق به، فأكون فوق العالم العقلي كله، فأرى كأني واقفٌ في ذلك الموقف الشريف الإلهي، فأرى هناك من النور والبهاء ما لا تقدر الألسن على صفته ولا تعيه الأسماع. فإذا استغرقني ذلك النور والبهاء، ولم أقوَ على احتماله، هبطت من العقل إلى الفكرة والرؤية، فإذا صرت في عالم الفكرة والرؤية حجبت الفكرة عني ذلك النور والبهاء، فأبقى متعجِّبًا كيف انحدرت من ذلك الموضع الشامخ الإلهي، وصرت في موضع الفكرة …

لقد عرفت الفلسفة الإسلامية أفلوطين عن هذا الكتاب، ولكنه نُسب خطأً إلى أرسطو، وكان ذلك علة التوفيق بين الحكيمَين أفلاطون وأرسطو، ابتداءً من الفارابي إلى ابن سينا، فقالوا بمراتب الوجود وتسلسلها عن الأول.

وبعد وفاة أفلوطين خلفه في رئاسة المدرسة بروما تلميذه وناشر التاسوعات وهو فرفريوس الصوري (٢٣٢–٣٠٥). وُلد بصور وأمضى شبابه بها، وحصَّل كثيرًا من المعارف الدينية والفلسفية في فلسطين وسوريا، ثم ذهب إلى أثينا وتعلَّم على لونجينوس، وانتقل إلى روما حيث التحق بمدرسة أفلوطين، وتولَّى رئاستها بعد موته، وتمتَّع بشهرة واسعة وسمعة طيبة، وحضر عليه كثير من الطلبة منهم «يامبليخوس» الذي يُعد من أشهر الأفلاطونيين المحدثين في سوريا.

عُرف فرفريوس في العالم العربي منذ عصر الترجمة، واستمرَّ يُؤثِّر في الفلسفة العربية بكتاب له يُسمَّى «إيساغوجي» سنعود إلى الحديث عنه بعد قليل. فإذا كان العرب قد جهلوا أفلوطين بسبب ذلك الخلط الذي وقع في ترجمة كتابه، فقد عرفوا تلميذه معرفةً وثيقة، وقبلوا بعض آرائه ورفضوا بعضها الآخر. ومهما يكن من شيء، فإن آراء فرفريوس في جملتها امتداد لآراء أستاذه، ولو أنه نحا بها نحوًا آخر. ولهذه الشهرة عند العرب نُطيل في عرض مذهبه بعض الشيء.

له مؤلَّفاتٌ كثيرة منها؛ «فلسفة الكهانة»، يُصوِّر فيه العبادات الدينية في هياكل الوثنيين بحسب ما كانت تُمارس عند المصريين والكلدانيين والسريان. ومنها «صور الآلهة»، يُدافع فيه عن الوثنية ويُبيِّن أن عبادة الأصنام لا تنطوي على كفر كما يزعم المسيحيون واليهود؛ لأنها رموزٌ محسوسة تُقرِّب إلى الإله. وله كتاب «الرد على النصارى» يبدو أنه كتبه بدافع سياسي؛ لأن الإمبراطور في روما أصبح يخشى تزايد قوة المسيحيين، إلى جانب المحنة التي كانت الإمبراطورية تمرُّ بها من شيوع البؤس والفقر والخراب، وتهديد الولايات بالانفصال وانقضاض البرابرة على أطراف الإمبراطورية تمرُّ بها من شيوع البؤس والفقر والخراب الفلسفة اليونانية، وهي القائمة على العقل، على الدين المستند إلى الإيمان. وله كذلك رسالة «في الرد على أنابو»، وهو كاهن مصري، يرد فيه على عقائد قدماء المصريين مُعليًا شأن الفلسفة.

كان أفلوطين قد تكلَّم في خلود النفس وقدَّم أدلةً جديدةً خلاف أدلة أفلاطون التي ذكرها في محاورة فيدون، فقال في التاسوعات إن النفس «ليست بجرم وإنها لا تموت ولا تفسد ولا تفنى، بل هي باقية دائمة»، وإن النفس النقية الطاهرة التي لم تُدنَّس بأوساخ البدن هي التي إذا فارقت تعود إلى الجوهر النفساني الأعلى، أمَّا التي تتصل بالبدن وتخضع لشهواته، فإذا فارقت لم تصِل إلى عالمها إلَّا بتعبٍ شديد. ومعنى ذلك أن النفس — كما ذكرنا من قبل — متوسِّطة بين عالم العقل وعالم الهيولى، فإذا شُغِلَت بالنظر العقلي اتصلت بعالم العقل، وإذا انغمست في الشهوات هبطت إلى عالم الهيولى. وهذا هو رأي فرفريوس كذلك، إلَّا أنه بدلًا من الحياة العقلية الصرفة يُنادي بممارسة العبادات والطقوس وطهارة النفس بالزهد والامتناع عن الشهوات.

وكان أفلوطين مثل معظم الفلاسفة الأقدمين يُميِّز بين العالم المحسوس والمعقول، ولكنه تميَّز عن السابقين بمنهجه الجدَلي الذي يتأمَّل في باطن النفس ليصعد من ذلك إلى عالم العقل، وفي ذلك يقول: «إن من قدر على خلع بدنه، وتسكين حواسه ووساوسه وحركاته، قدر أيضًا في فكرته على الرجوع إلى ذاته، والصعود بعقله إلى العالم العقلي …»١ فأفلوطين كما نرى لا يخلط بين النفس والعقل، ولا يقول إلَّا بالتأمُّل والنظر، أمَّا فرفريوس فإنه يشترط فضائل عمليةً من زهدٍ وامتناع عن أكل اللحوم، وغير ذلك؛ كي تصعد النفس إلى عالم المعقولات. ويبدو أنه كان يقول «إن ذات النفس تصير هي المعقولات»، ولذلك اعترض عليه ابن سينا فقال: «فهذا من جملة ما يستحيل عندي؛ فإني لست أفهم قولهم إن شيئًا يصير شيئًا آخر، ولا أعقل أن ذلك كيف يكون … وأكثر ما هوس الناس في هذا هو الذي صنَّف لهم «إيساغوجي»، وكان حريصًا على أن يتكلَّم بأقوال مخيَّلة شعرية صوفية يقتصر منها لنفسه ولغيره على التخيُّل، ويدرس أهل التمييز على ذلك كتبه في العقل والمعقولات وكتبه في النفس.»

والذي صنَّف «إيساغوجي» هو فرفريوس. و«إيساغوجي» باللغة اليونانية تعني المقدمة أو المدخل. وكتابه المدخل إلى مقولات أرسطو، ألَّفه لتلميذه خريساريوس الذي كان يطلب العلم في مدرسة أفلوطين، وهو أحد أعضاء مجلس الشيوخ في روما، قرأ مقولات أرسطو فعجز عن فهمها، فكتب إلى فرفريوس وهو في صقلية يقصُّ عليه أمره ويطلب عونه، فصنَّف له مدخلًا إلى المقولات يشرح فيه الكليات الخمس؛ وهي الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام، فاشتُهر الكتاب الصغير حتى وصفه العرب بأنه «سار مسير الشمس حتى يومنا هذا».

ومعنى المقولة: ما يقال عن الشيء، وهذا في غاية الأهمية في تعريف الشيء وتحديد ماهيته. ماذا نقول عن سقراط؟ (١) إنسان. (٢) طويل. (٣) أبيض. (٤) في الدار … إلى آخر المقولات العشر. إنسان مقولة الجوهر، طويل مقولة الكم، أبيض مقولة الكيف، وهكذا. والمقولات العشر ضرب من تصنيف الموجودات. أمَّا الكليات الخمس؛ الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام، فإنها ضروريةٌ للتعريف والقسمة والبرهان. فأنت تقول الإنسان: حيوان ناطق، وهو التعريف المشهور. فإنسان نوع، وحيوان جنس، وناطق فصل. وهذا التعريف يُسمَّى الحد التام. والقسمة تقتضي تمييز الكلي إلى أجزائه، ومنها القسمة الثنائية. وهناك تقسيم للموجودات مشهور، يعرف ﺑ «شجرة فرفريوس» نسبةً إليه، وهي على النحو الآتي:

وهكذا دخل فرفريوس تاريخ الفلسفة بمدخله وشجرته.

وبموته قفلت المدرسة أبوابها، إن في روما أو الإسكندرية، وانتقلت بروحها إلى الشرق مرةً أخرى؛ فظهر يامبليخوس (٢٧٠–٣٣٠) شارح أفلاطون وأرسطو مع ميل إلى الأفلاطونية الحديثة، ثم برقليس أو بروقلوس (٤١٠–٤٨٥) الذي تعلَّم بالإسكندرية، ثم عاد إلى أثينا فرأس الأكاديمية، ومزج بين الفلسفة والعلم الرياضي وحذا حذو الأفلاطونية المحدثة، واشتُهر عند الإسلاميين والمسيحيين على السواء في العصر الوسيط.

١  «الربوبية»، ص٤٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤