الرسول

وأشرق صباح اليوم الثاني، وكان الجوُّ باردًا والسماء متلفِّعة بأَردِية السُّحب، تَبيَضُّ وتتوهَّج فوق منبع الشمس كوجهٍ بريء يُعلِن ظاهره عن باطنه، وتُظلِم الآفاق البعيدة كأنَّها ذيول ليلٍ نَسِيَها وراءه بعد إدباره.

وكان ينتظرها عملٌ عظيم لا يرتاح إليه قلبها، ولا يرضى عنه تطهُّرها يوم تطهَّرتْ في المعبد، وأَقسمَت ليزول الماضي بشوائبه. كان الذي ينتظرها أن تخدَع بنامون، وتعبَث بعواطفه ليخدم حبَّها ويُحقِّق غرضها. على أنَّها لم تتردَّد قَطُّ لأنَّه كان ينبغي أن تسبق الزمن، وكانت تحنو على حبِّها حنوًّا كبيرًا، فلم تُبالِ أن تقسُوَ في سبيلهما قساوةً مُرَّة .. وغادَرتْ مخدَعها إلى الحجرة الصيفية عظيمة الثقة؛ لأنَّ التغرير ببنامون كان أمرًا سهلًا لا يكلِّف مكرًا.

وسارت على أطراف أصابعها، فوجدَت الشابَّ يتطلع إلى صورتها، ويترنَّم مغنِّيًا أغنيةً كانت تُغنِّيها في الأماسيِّ الخوالي مَطلعُها:

إذا كان حُسنكِ يصنع المعجزاتِ،
فلماذا لا يقدر على شفائي؟

وأُخِذَتْ بغنائه، ولكنَّها انتهَزتِ الفرصة، وغنَّت تتمُّ أغنيتَه:

هل أعبثُ بما لا علم لي به
والأفق مستترٌ خلف سَحاب؟
وعسى أن تكون المدَّخر لقلبي.

فتحوَّل الشابُّ إليها فزعًا مسحورًا، فتلقَّته بضحكةٍ عذبة، وقالت له: إنَّ لك صوتًا عذبًا، فكيف أَخفيتَه عنِّي طوال هذه الأيام؟

فتصاعَد الدم إلى وجنتَيه قانيًا، وارتجفَت شفتاه ارتباكًا، وقابل تلطُّفها بدهشة.

وأدركَت المرأة ما يدور بخلَده، فقالت تستدرجه: أراك تلهو بالغناء، وتترك العمل.

فبدا عليه الإنكار، وأشار إلى صورتها المحفورة. وتمتم: «انظري.»

وكانت الصورة قد استوت وجهًا جميلًا لا تنقصه الحياة، فقالت بإعجاب: إنَّك لقادرٌ يا بنامون.

فتنهَّد الشابُّ ارتياحًا، وقال لها بامتنان: شكرًا لكِ يا سيدتي.

– فقالت تَعطِف الحديث إلى غايتها: ولكنَّك قسوتَ عليَّ يا بنامون.

– أنا .. كيف يا مولاتي؟

فقالت: خلقتَ لي نظرةً جبَّارة، وأنا أشتهي أن أكون كالحمامة.

فلزمَه الصمت ولم يُبِن، ففسَّرتْ صمته على هواها، وقالت: ألم أقل إنَّك تقسو عليَّ .. فكيف تراني يا بنامون .. أجبارةً قاسية جميلة كهذه الصورة؟ يا لها من صورة! إنِّي أعجب كيف ينطق الحجر، ولكنَّك تحسب أنَّ قلبي لا يشعر كهذا الحجَر، أليس كذلك؟ لا تهمَّ بالفرار فهذا هو اعتقادك. ولكن لماذا يا بنامون؟

ولم يَدرِ ما يقول، فغلَبه الصمت، وكانت تُوحي إليه بأفكارها، فيصدِّقها وينساق إليها ويشتدُّ ارتباكه، واستَدركَت المرأة: لماذا يا بنامون تحسبُني قاسية؟ إنك تؤمن بالظواهر؛ لأنَّك لا تقدر بطبعك على إخفاء ما يضطرب به صدرك، وقد قرأتُ وجهك كصفحةٍ من كتابٍ مفتوح. أمَّا نحن فلنا طبيعةٌ أخرى، والصراحة تضيِّع علينا لذَّة الفوز، وتُفسِد أجمل ما خلقَت الآلهة لنا.

وساءل الشاب نفسه حائرًا: ماذا تعني يا تُرى؟ وهل يستطيع أن يفهم من حديثها ما تدُل عليه كلماتها؟ .. أما كانت تجلس أمامه تائهة القلب والعينَين، لا تحسُّ بالنار الملتهبة في كيانه، فما الذي غيَّرها؟ لماذا تُحدِّثه هذا الحديث الحلو؟ لماذا تلج إلى الأسرار الحُلوة التي تحرق قلبه؟! هل تعني حقًّا ما تقول؟! وهل تعني حقًّا ما أفهمه؟!

وخطت المرأة خطوةً أخرى فقالت: آه يا بنامون! إنَّك تقسو عليَّ بدورك، وآية ذلك الصمت الذي تردُّ به عليَّ.

فحدَجها بنظرةٍ والهة، وكاد من الفرح تفرُّ الدموع من عينَيه، وقد أيقن صدق ظنونه، فقال بصوتٍ متهدِّج: الدنيا لا تسعُني كلامًا.

فتنهَّدت ارتياحًا أن حلَّت عقدة لسانه، وقالت بصوتٍ حالم: وما حاجتك إلى الكلام؟ فلن تقول شيئًا أجهله .. أيَّتُها الحجارة لقد شاهدتِنَا أشهرًا، وتركنا في جسمك أثرًا من قلوبنا خالدًا .. نعم ها هنا عرفتِ سرًّا رهيبًا.

وتفرَّستْ في وجهه زمنًا قصيرًا، ثم قالت: ألا تعرف يا بنامون كيف عرفتُ سرَّ قلبي؟ على حين بغتةٍ عجيبة كانت لديَّ رسالةٌ خاصة أريد أن أبعث بها إلى إنسان في مكانٍ قَصيٍّ، وأن أبعث بها مع رسولٍ ترتاح إليه نفسي، ويثق فيه قلبي. وكنتُ جالسة وحدي أستعرض أمام ناظريَّ أقوامًا من الرجال والنساء، ومن العبيد والأحرار، وما أُحسُّ في كل مرة إلَّا بالجفاء والقلق، ثم لا أدري إلَّا وخيالي يتسلَّل إلى هذه الحجرة، ووجدتُني فجأةً أذكُركَ يا بنامون، فترتاح نفسي ويطمئن قلبي، بل أحسَستُ بما هو أعمقُ من هذا، وهكذا عرفتُ سرَّ قلبي.

فغمَر الفرح وجهَ الشابِّ، وأحسَّ بالسعادة إلى حد الذهول، فجثا على ركبتَيه أمامها، وهتف من أعماق قلبه: مولاتي!

فوضعت كفَّها على رأسه، وقالت بحنان: هكذا عرفتُ سرَّ قلبي، وإنِّي لأعجَب كيف لم أعرف هذا منذ أجلٍ طويل.

فقال بنامون، وكان يتيه في غمراه الذهول: مولاتي، أُقسِم لقد شَهِدَني الليل وأنا ذوب عذاب، وهاك الصبح يلقاني نسمة من سعادةٍ معطَّرة. لقد أخرجَتْني كلمةٌ نطقتِ بها من الظلمات إلى النور، ونقلَتْني من دياجير اليأس إلى سحر السعادة. لقد أحببتُ نفسي بعد أن أشفيتُ على الفَناء .. أنتِ سعادتي وحُلمي وأملي.

وكانت تُصغي إليه في صمتٍ حزين، وقد شعرت بأنَّه يصلِّي صلاةً حارة، وأنَّه يهيم في جهالة الأحلام الساذجة المقدَّسة، فوجمَت وعاودَها شيء من الألم والندم، ولكنَّها لم تستسلم طويلًا لعواطفها التي أثارها في قلبها بهُيامه فقالت في دهاء: إنِّي أعجَب كيف لم أعرف قلبي منذ أجلٍ طويل، بل إنِّي أعجَب للمصادفات التي تُوفِّقني إلى سرِّه إلا حين حاجتي إلى إرسالك إلى مهمةٍ بعيدة؛ فكأنَّها دلَّتني عليكَ، وحرمَتْني منكَ في لحظةٍ واحدة.

فقال الشابُّ بلهجة العبادة: سأفعل ما تُريدين بروحي وقلبي.

فسألَته بعد تردُّد: وإن كان ما أريد سفرًا إلى بلد لا تبلُغه إلَّا بشقِّ الأنفس؟!

– لن يشُقَّ عليَّ منه إلَّا أنِّي لا أراكِ كلَّ صباح.

– فليكُن غيابًا إلى حين. سأعطيكَ رسالةً تُودِعها صدرك، وتذهب إلى حاكم الجزيرة بكلمة منِّي، فيدلُّك على الطريق، ويُذلِّل لك الصعاب. وستُسافر مع قافلة لا ينبغي لأحدٍ منها أن يطِّلع على ما في صدرك حتى تبلُغ حاكم النوبة، فتُسلِّمها له يدًا بيد، ثم تعود إليَّ.

وأحسَّ بنامون بسعادةٍ جديدة يمازجها شعور بالنخوة والخُيلاء، وكانت يدها على كثَبٍ منه، فهوى بفمه عليها ولثمَها بشوقٍ ووجدٍ، ورأَته يرتجف بقوَّة حين لمسَت شفتاه يدها.

وفي طريق العودة عاودَها إحساسٌ حزين، حتَّى قالت لنفسها: أما كان أدنى إلى الرحمة أن أترك مولاي يختار رسوله، من أن أعبثَ بقلب هذا الشاب؟ على أنَّه كان سعيدًا، أسعدَته كلمةٌ كاذبة، بل كان في حالةٍ يُحسَد عليها السعداء حقًّا، وليس لها أن تحزن ما دام لا يعرف الحقيقة، حتى تيأس من لِياذها بالكذب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤