الرسالة

وفي مساء اليوم نفسه جاء فرعون يهزُّ في يده رسالةً مطوية، يُشرِق وجهه بنور السعادة، فحدَجتْها بنظرةٍ غريبة وتساءلَت: تُرى هل يُكتب لفكرتها بالنجاح والتوفيق، وتسير الأمور وفق أحلامها؟! وبسَط الملِك الرسالة، وقرأَتها بعينَين مبتهجتَين، وكانت موجَّهة إلى الأمير كارفنرو حاكم النوبة من ابنه عمِّه فرعون مصر. وقد صارحه فيها بمتاعبه، وبرغبته في تعبئة جيشٍ جرَّار دون أن يُثير مخاوف الكهنة أو يُوقِظ حذرهم، وطلب إليه أن يبعث إلى مصر برسالة استغاثة مع رسولٍ أمين ذي صفةٍ رسمية، يطلُب فيها نجدةً سريعة للدفاع عن حدود الأملاك الجنوبية، ولقمع ثورةٍ وهمية يزعم أنَّ قبائل المعصايو أشعلَت نيرانها، واجتاحت بها البُلدان والقُرى.

وطَوتْها رادوبيس مرَّةً أخرى، ثم قالت: إنَّ الرسول على أُهْبة الاستعداد.

فقال الملك مبتسمًا: والرسالة جاهزة.

وبدا على وجهها التأمُّل والأحلام، ثم سألَت: تُرى كيف يقابلون رسالة كارفنرو؟

فقال الملك بلهجة اليقين: ستهزُّ القلوب جميعًا، وقلوب الكهنة أنفسهم، وسوف يدعو الحكَّام إلى تجنيد الرجال من جميع أطراف البلاد، فلا يلبث الجيش الذي يُناط به أملنا أن يأتينا بعَدده وعُدده.

واستخفَّها الفرح وسألَته بلهفة: وهل ننتظر طويلًا؟

– أمامنا شهرُ انتظارٍ يقطَعه الرسول في الذهاب والإياب.

ففكَّرتْ هنيهة، ثم عدَّت على أصابعها، وقالت: إذا صدق حدْسكَ تُصادِف عودته عيد النيل.

فضحك الملك وقال: هذا فألٌ حسن يا رادوبيس؛ فعيد النيل هو عيد حبِّنا، وسيكون عيد الفوز والطمأنينة.

وتفاءلَت هي خيرًا وكانت تؤمن بأنَّه لا يمكن أن تفقد أملًا عزيزًا في ذاك اليوم الذي تعُدُّه بحقِّ مولدًا لسعادتها وحبِّها. وأيقنَت أنَّ اقتران عودة الرسول به ليس محضَ مصادفة، ولكنَّه تدبيرٌ حكيم من يد آلهة تبارك حبَّها وتعطف على آمالها.

ورمقَها الملك بنظرة إعجاب وإكبار، ثم قبَّل رأسها وقال: لله هذا الرأس الثمين .. لشدَّ ما أُعجب به سوفخاتب، ولشدَّ ما أُعجب بالفكرة التي أبدعَها، فلم يملك نفسه أن قال لي: يا له من حلٍّ يسير لمشكلٍ عسير، كأنَّه زهرةٌ مونقة تخرج من ساقٍ ملتوية، وأغصانٍ شديدة التعقيد!

وكانت تظنُّ أنَّه كتَم الخبر ولم يبُح لإنسان، حتَّى ذلك الوزير المخلص سوفخاتب، فسألَته: هل علم الوزير بسرِّنا؟

فقال ببساطة: نعم: إنَّ سوفخاتب وطاهو بمثابة عقلي وقلبي، فلا أكتمهما شيئًا.

ودوَّى اسم طاهو في أُذنَيها دويًّا شديدًا، فتجهَّم وجهها، وبدا القلق في عينَيها، وسألَته: وهل علم به الآخر؟

فقال الملك ضاحكًا: لشدَّ ما تُحاذرين يا رادوبيس! ولكنِ اعلمي أنِّي لا آمن نفسي على شيءٍ لا آمنهما عليه.

فقالت: إنَّ حذري يا مولاي لا يرتقي لإنسانٍ تثق فيه هذه الثقة.

ولكنَّها ذكَرتْ بالرغم منها طاهو في ساعة وداعه الأخير، ودوَّى في أذنيها صوتُه الأجش، وهو يَهْدرُ غاضبًا حانقًا يائسًا، وتساءلَت: ترى هل ما يزال يعلَق بنفسه شيء؟!

ولكنَّ الوساوس لم تجد فرصةً للعبث بقلبها؛ لأنَّها كانت تنسى نفسها بين يدَي حبيبها.

•••

وجاء في الصباح الرسول بنامون بن يسار مُتلفِّعًا بعباءته، غارقًا في القلنسوة حتى الأُذنَين، وكان خدَّاه متورِّدين، وعيناه لامعتَين بنور فرحٍ سماويِّ .. فسجد بين يدَيها في صمت وخشوع، وقبَّل حاشية ثوبها في عبادة، فداعبَت رأسه بأناملها، وقالت له بحنوٍّ: لن أنسى يا بنامون أنَّكَ لأجلي هجرتَ الراحة والسكينة.

فرفَع إليها وجهه الجميل البريء، وقال بصوتٍ متهدِّج: في سبيلكِ يهُون كلُّ شاقٍّ، فلتُعنِّي الآلهة على تحمُّل ألم الفراق.

فقالت له مبتسمة: ستعود سعيدًا ناضرًا، وستنسى في أفراح المستقبل أحزانَ الماضي جميعًا.

فتنهَّد قائلًا: طوبى لمن يحمل في قلبه حُلمًا سعيدًا يؤمِّن وحدَته، ويرطِّب جفاف طريقه.

فابتسمَت له ابتسامةً مشرقة، وأمسكَت بيدها الرسالة المطويَّة وسلَّمتْها إليه وقالت: لا أُوصيك بالحذَر .. أين تُودعها؟

فقال: على قلبي يا مولاتي تحت منطقتي.

فسلَّمت إليه رسالةً أخرى صغيرة، وهي تقول: هاك رسالةً أخرى ادفع بها إلى الحاكم آني يمهِّد لك السبيل، ويدُلكَ على أوَّل قافلةٍ تقوم.

ثم حمَّ الوداع، فازدرد ريقه واضطرب، وبدا عليه الارتباك والهُيام، فمدَّت له يدها، فتردَّد لحظة، ثم وضعها بين يدَيه، وكفَّاه يرتعشان كأنَّما يلمس نارًا موقدة، ثم ضمَّها إلى صدره حتَّى سرت إليها حرارته وخفقاته، ثم مضى راجعًا فغيَّبه الباب، وقد شيَّعتْه بنظرةٍ حائرة، ولسانٍ يلهج بالدعاءِ الحارِّ.

كيف لا، وقد ربط على قلبه أملًا تتعلَّق به حياتها؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤