الأمل والسُّم

وكانت رادوبيس في صباح ذلك اليوم مستسلمة إلى الديوان الوثير تحلُم، كان يومًا يتيه على الزمان بما ينبض فيه من أفراح العيد وبما يدَّخر لها من فوزٍ عظيم، فأيُّ سعادة وأيُّ فرح؟! كان صدرها في ذلك اليوم كبركة من ماءٍ مصفًّى معطَّر، تنبُت على حِفافَيها الأزهار وتُغنِّي في جوِّها البلابلُ شاديةً نشوى .. فيا لدنيا الأفراح! ومتى تتلقَّى نبأ الفوز؟ .. حين الأصيل، حين تبدأ الشمس رحلتها إلى العالم الثاني ويشرعُ قلبها في رحلته إلى دنيا السعادة واستقبال الحبيب، فيا لَساعة الأصيل! ساعة الأصيل هي ساعة الحبيب، حين يُقبِل عليها بقوامه الفارع وشبابه الغضِّ، فيلفُّ ذراعَيه المفتولَين حول خصرها الدقيق، يناجي اسمها العذب، يبشِّرُها بالفوز فيقول انتهتِ الآلام، وتفرَّق الحُكَّام ليحشدوا الجنود، فهنيئًا لحبِّنا. آه! ما أجمل الأصيل!

ولكن كيف تصدِّق أنَّ هذا النهار ينقضي؟ .. لقد انتظَرتْ عودة الرسول شهرًا انطوى ثقيلًا مرهقًا، ولكنَّها تخال هذه الساعات المعدودات أشدَّ وطأة وأكبر كُلفة، على أنَّه قلقٌ يخالط طمأنينة، وخوفٌ يمازج سعادة .. وكأنَّما أرادت أن تتناسى الانتظار لتتغفَّل الزمن، فعطفَت أفكارها إلى هنا وإلى هناك حتى عثَرتْ في شرودها بالعاشق الجاثي في معبده .. في الحجرة الصيفيَّة، بنامون بن بسار، ما أرقَّه وأخفَّ ظلَّه! كانت تساءلَت مرةً حيْرى كيف تَجزيه على ما أدَّى لها من خدمةٍ جليلة، وقد طار على جناحَي حمامة إلى أقصى الجنوب، وعاد بأسرعَ مما ذهب يحملُه الشوق فيعبُر به مشاقَّ الطريق؟ .. بل همسَت مرَّة في ارتباك كيف تستطيع أن تتخلص منه؟ ولكنَّه علَّمها بقناعته أنَّ من الحبِّ حبًّا عجيبًا لا يعرف الأثَرة ولا التملُّك ولا الطمع، ويرضى بالأحلام والأوهام. فيا له من شابٍّ حالم بعيد عن الدنيا! ولو أنَّه طمع في قُبلة مثلًا لما عرفَت كيف تتحاماه، دون أن تمدُّ له فمها، ولكنَّه لا يطمع في شيء، وكأنَّه يخشى لو لمسها أن يحترق بلهيبٍ غامض، أو لعله لا يصدِّق أنَّها شيءٌ يُلمس ويُقبَّل. إنَّه لا يرمقها بعين إنسانٍ فلا يستطيع أن يراها من بني الإنسان، ويقنع بأن يحيا على بهائها كما يحيا نبات الأرض بالشمس السابحة في السموات.

وتنهَّدتْ وقالت: حقًّا إنَّ الحب عالمٌ عجيب، أمَّا حبُّها فينبع متدفِّقًا من صميم الحياة؛ فالقوة التي تجذبها إلى مولاها هي قوة الحياة الكاملة الرهيبة، وأمَّا حبُّ بنامون فيكاد أن ينقطع له عن أسباب الحياة، ويضلَّ في آفاقٍ سامية، لا يعلن عن أثَرٍ محسوس إلَّا في يده الماهرة، وأحيانًا في لسانه المتلعثم الحارِّ .. فيا له من حبٍّ يرقُّ من ناحية فيصير طيفًا من الأحلام، ويقوى من ناحيةٍ أخرى فيبثُّ في الصخر الأصم حياةً! .. فكيف تفكِّر في التخلُّص منه وهو لا يكلِّفها شيئًا؟ فلتتركه في معبده آمنًا، يصوِّر في جدرانه الصامتة أجمل التهاويل التي تكتنف وجهها الجميل.

وعادت تهتف من أعماق صدرها: متى الأصيل؟ .. حقًّا لشيث لو ثبتَت إلى جانبها لسلَّتها بثرثرتها وخبثها، ولكنَّها أبت إلَّا أن تذهب إلى آبو لمشاهدة عيد النيل.

يا ما أجمل الذكريات! ذكَرتِ العيد الماضي، يوم اعتلَت هودجها الفاخر وشقَّت به الحشد الكبير لترى فرعون الشابَّ، ولمَّا وقعَت عيناها عليه خفق قلبها وهي لا تدري، وأحسَّت بدبيب الحبِّ غريبًا لطول عهدها بالجفاء، فحسِبَته قلقًا غاضبًا أو نفثةَ ساحر، ذاك اليوم الخالد حين خطف النسر صندلها، ولم يكد يبدأ اليوم الثاني حتى زارها فرعون؛ ومن ثَمَّ زار قلبها الحبُّ وتغيَّرتْ حياتها وتغيَّرتِ الدنيا جميعًا.

أمَّا العام الثاني فها هي تقبع في قصرها، والدنيا تقصف وتلهو في الخارج، ولن يُتاح لها الظهور إلَّا بحساب؛ فلم تَبقَ رادوبيس الغانية الراقصة، ولكنَّها منذ عامٍ وإلى الأبد قلب فرعون الخافق. وكانت أفكارها تضلُّ هنا وهناك فلا تلبث أن تنجذب بعنف إلى موطن همِّها فتساءلَت: تُرى ماذا حدث في الاجتماع الخطير الذي قال مولاها إنَّه سيدعو إليه ليقرأ عليه الرسالة؟ .. هل التأم ولبَّى النداء وأدناها إلى أملها الفاتن؟ أوَّاه! .. متى يأتي الأصيل؟

وملَّت الجلسة، فقامت تتمشَّى، ودَلفَت إلى النافذة المطلَّة على الحديقة تُسرِّح الطرْف في آفاقها المنفسحة. ولبثَت ما لبثَت حتَّى سمعَت يدًا مضطربة تطرق الباب، فالتفتَت متضايقةً بَرِمَة، فرأت جاريتها شيث تقتحم الباب مهرولةً لاهثة زائغة البصر يعلو صدرها وينخفض، وكان وجهها شاحبًا كأنَّما تقوم ساعتَها من فراش مرَضٍ طويل، فوجب قلبُها، وطالعها نذيرُ شؤم، وسألَتها في إشفاق: ما لكِ يا شيث؟

وهمَّت الجارية أن تتكلم، فغلبها البكاء، فجثت على ركبتَيها أمام مولاتها، وشبكَت يدَيها على صدرها، وأفحمَت في البكاء بحالةٍ عصبية شديدة، فاستولى الانزعاج على رادوبيس وصاحت بها: ما لكِ يا شيث؟ .. بالله تكلَّمي، ولا تتركيني فريسة الحَيْرة؛ فإنَّ لي آمالًا أخاف عليها الوساوس.

فتنهَّدتِ المرأة تنهُّدًا عميقًا، وشهقَت شهقةً عنيفة، ثم قالت بصوتٍ باكٍ: مولاتي .. مولاتي .. إنَّهم هائجون ثائرون!

– من الهائجون الثائرون؟

– الناس يا مولاتي .. إنَّهم يصرخون في غضبٍ جنوني، مزَّقتِ الأرباب ألسنتَهم.

فخفق قلبها مفزوعًا وقالت بصوتٍ متهدِّج: ماذا يقولون يا شيث؟

– آه يا مولاتي! .. إنَّهم قومٌ مجانين تَهذي ألسنتهم المسمومة هذيانًا مخيفًا.

فكادت المرأة تُجنُّ فزعًا، وصاحت بحدَّة: لا تعذِّبيني يا شيث! صارحيني بما قالوا .. ربَّاه!

– مولاتي، إنَّهم يذكُرونك ذكرًا غير جميل .. ماذا فعلتِ يا مولاتي حتى تستحقِّي غضبهم؟

فضمَّت رادوبيس يدها إلى صدرها، وقد اتسعَت عيناها ذعرًا، وقالت بصوتٍ متقطِّع: أنا؟ .. أيغضب الناس عليَّ أنا؟ .. ألم يجدوا في هذا اليوم المقدَّس ما يشغلهم عنِّي؟ .. ربَّاه! .. ماذا قالوا يا شيث؟ .. اصدُقيني رحمةً بي.

فقالت المرأة وهي تبكي بكاءً مُرًّا: تصايح المجانين يا مولاتي بأنَّك تنهبين مال الأرباب.

فتنهَّدتْ من صدرٍ مكلوم، وتمتمَت بحزن: أوَّاه! .. إنَّ قلبي ينخلع ويتوجَّس خيفةً، وأخوف ما أخاف أن يضيع الفوز المرتقب وسط الصراخ وصيحات الغضب. أما كان الأجدر بهم أن يتغاضَوا عنِّي إكرامًا لمولاهم؟

فصكَّت الجارية صدرها بيدها، وولولَت قائلةً: إنَّ مولانا نفسه لم يسلَم من أذى ألسنتهم.

وفرَّت صرخةُ فزع من فم المرأة الفَزِعة، وأحسَّت برجفةٍ تُزلزل نفسها، وقالت: ماذا تقولين؟ .. هل تجاسروا على مسِّ فرعون؟

فقالت المرأة الباكية: نعَم يا مولاتي، وا أسفاه! .. قالوا فرعون يلهو. نريد ملكًا جادًّا.

فرفعَت رادوبيس يدَيها إلى رأسها كأنَّها تستغيث، وتلوَّى جسمها من شدة الألم، وارتمت بيأس على الديوان، وهي تقول: ربَّاه! .. أي هول هذا؟ .. كيف لا تُزلزَل الأرض، وتندكُّ الجبال؟! كيف لا تصُبُّ الشمس نيرانها على الدنيا؟!

فقالت الجارية: إنَّها تُزلزَل يا مولاتي زلزالًا شديدًا؛ فالقوم مشتبكون في قتالٍ عنيف مع الشرطة، والدماء تسيل وتنفجر .. وكادت تطؤني الأقدام، ففررتُ لا أَلوي على شيء، وانحدرتُ في قارب إلى الجزيرة، وما كان أشدَّ انزعاجي إذ وجدتُ النيل يموج بالسفن، والناس على ظهرها يهتفون كما يهتف الآخرون، وكأنَّهم جميعًا على ميعاد!

وغَشِيَها خَوَر، وطغت عليها موجةُ يأسٍ خانق، أغرقَت آمالها الصارخة بغير رحمة. وجعلَت تُسائل نفسها المحزونة: تُرى ماذا حدث في آبو؟ وكيف وقعَت هذه الحوادث الخطيرة، وما الذي أثار الشعب وأخرجه عن وعيه، وهل يُقدَّر للرسالة الفشل ويُقضى على أملها بالموت؟ الجوُّ مغبَرٌّ كالِح، تتطاير فيه نُذُر شرٍّ مستطير، ولن يتذوَّق قلبها الطمأنينة، إنَّ الخوف القاتل يجثمُ عليه كقطعةٍ من الزمهرير، وقد قالت بصوتٍ كالبكاء: العون أيَّتُها الأرباب .. هل يظهر مولاي لهذا الشعب الهائج؟

فقالت شيث تُطمئِنها: كلَّا يا مولاتي .. لن يترك قصره قبل أن يُنزِل عقابه بالثائرين.

– ربَّاه! .. أنت لا تعرفينَ من هو يا شيث .. إنَّ سيدي غضوبٌ لا يتقهقر أبدًا، ولشدَّ ما يخاف قلبي يا شيث! لا بدَّ أن أراه الآن.

فارتجفت الجارية رعبًا وقالت: هذا مستحيل .. فالسفن الغاصَّة بالهائجين تغطِّي سطح الماء، وحرس الجزيرة متجمِّع على الشاطئ.

فشدَّت على رأسها وصاحت: ما بال الدنيا تضيق في وجهي، والأبواب تُسَدُّ عليَّ؟ إنِّي أتردَّى في بئرٍ ضيِّقة من اليأس، آه يا حبيبي! .. كيف أنت الآن وكيف السبيل إليك؟

فقالت شيث تخفِّف عنها: صبرًا يا مولاتي، ستنقشع هذه السحابة القاتمة.

– يمزِّق قلبي إرْبًا أن أشعر بأنَّه يتألم. آه يا سيدي وحبيبي! تُرى ماذا يقع الآن من الحادثات في آبو؟!

وقهَرتها الأحزان فانصهَرت آلامُ قلبها وسالت دموعها ساخنة، وشُدهَت شيث لدى هذا المنظر الغريب إذ رأت رادوبيس ربيبة الحبِّ والنعيم والترف تذرف الدمع وتتأوَّه من الألم واليأس، وفكَّرتْ في غيبوبة الحزن التي غَشِيَتها فيما آلت إليه آمالها التي كانت مشرقةً منذ قليل، وأحسَّ قلبها ببرود اليأس، وتساءلَت خائفةً مذعورة: هل يمكن أن يُرغِموا مولاها فيُفقِدوه سعادته وكبرياءه أو أن يجعلوا قصرها هدفًا لغضبهم ومقتهم؟ إنَّ الحياة لا تُطاقُ مع تحقيق أيٍّ من هذه الوساوس، ولخيرٌ لها أن تفارق الحياة إذا فرغَت من مجدها وسعادتها، فإمَّا أن تعيش رادوبيس التي حالفَها الحبُّ والمجد وإمَّا أن تموت. وفكَّرتْ في أمرها طويلًا حتَّى أحضَرتْ لها ذاكرة الأحزان ما كانت أدرجَتْه طوايا النسيان، فاستولى عليها اهتمامٌ شديد، وقامت من فورتها وغسلَت وجهها بماءٍ بارد لتمحو أثَر البكاء من عينَيها، وقالت لشيث: إنَّها ستتحدَّث إلى بنامون في بعض الشئون. وكان الشابُّ منهمكًا في عمله كعادته، غافلًا عمَّا يكدِّر صفو الدنيا من خطير الحدثان. ولمَّا أحسَّ بها أقبل نحوها فرحًا، ولكنَّه سرعان ما وجم وقال: وحقِّ هذا الحُسن الإلهي إنَّكِ حزينةٌ اليوم.

فقالت وهي تخفض ناظرَيْها: بل تَعِبة فقط أو كالمريضة.

– الجوُّ شديد الحرارة، لماذا لا تجلسين ساعة إلى شاطئ البِركة؟

فقالت باقتضاب: جئتُكَ برجاءٍ يا بنامون.

فعقد ذراعَيه إلى صدره كأنَّما يقول لها ها أنا ذا طوع بنانك.

فقالت: أتذكُر يا بنامون أنَّكَ حدَّثتني يومًا عن السموم العجيبة التي ركَّبها أبوك؟

فقال الشابُّ وقد بدَت على وجهه الدهشة: نعم، أذكُر ذلك بغير ريب!

– بنامون، أريد قارورةً من هذا السُّم العجيب الذي أطلَق عليه أبوك السمَّ السعيد.

فازداد الشابُّ دهشة وتمتَم متسائلًا: ولِمَ؟

فقالت بلهجةٍ هادئة ما استطاعت: لقد حدَّثتُ أحد الأطباء فأبدى اهتمامًا بشأنه، وطلب إليَّ أن أُوافيَه بقارورة منه، عسى أن يُنقِذ بها حياةَ أحد مرضاه، فوعدتُه يا بنامون، فهل تَعِدني بدورك أن تُحضرها لي في أقرب وقت؟

فقال الشاب بسرور، وكان يسعده أن تطلُب إليه ما تشاء: ستكون مُحضرةً بين يدَيك بعد ساعاتٍ قلائل.

– كيف؟ ألا ينبغي أن ترحل إلى أمبوس لإحضارها؟

– كلَّا .. لديَّ قارورة في مسكني بآبو.

فأثار تصريحه اهتمامها بالرغم من أحزانها، ورمقَته بنظرة دهشة، فخفض عينَيه وقد تخضَّب وجهه احمرارًا وقال بصوتٍ خافت: أحضرتُها في تلك الأيام الأليمة، حين كدتُ أَشفي من حبِّي على اليأس، ولولا ما أبديتِ نحوي بعد ذلك من عطفٍ لكنتُ الآن إلى جوار أوزوريس!

وذهب بنامون ليُحضِر لها القارورة؛ أمَّا هي فهزَّت كتفَيها استهانةً وقالت وهي تهمُّ بالمسير: قد ألوذُ بها ممَّا هو شرٌّ منها!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤