سهم الشعب

صدَع طاهو بأمر مولاه، فأدَّى التحيَّة وذهب يعلو وجهَه الارتباك والخوف، وظلَّ الرجلان واقفَين مُمتقعَي الوجه حتَّى خرج سوفخاتب عن صمته، فقال بتوسُّل: أضرع إليك يا مولاي أن تعدل عن الذهاب اليوم إلى المعبد.

ولكنَّ فرعون لم يتَّسع صدره لهذه النصيحة، فقطَّب جبينه غضبًا وقال: أأفرُّ لدى أوَّل هُتاف؟

فقال الوزير: مولاي إنَّ القوم هائجون غاضبون، فينبغي التروِّي.

– يُحدِّثني قلبي بأنَّ خطَّتنا سائرة إلى الفشل المحتوم، فإذا تراجعتُ اليوم خَسِرتُ هيبتي إلى الأبد.

– وغضَبُ الشعب يا مولاي؟

– سيهدأ ويسكُن إذا رآني أشُقُّ صفوفه على عَجلتي كالمسلَّة الشامخة، واقتحامُ الأهوال ولا التسليم والخنوع.

ومضى فرعون يَذْرع الحجرة جيئةً وذهابًا ساخطًا شديد التأثُّر، فسكَت سوفخاتب وهو كظيم، وعطَف ناظرَيْه إلى طاهو وكأنَّه يستغيث به، ولكنَّ القائد كان غارقًا في الهموم كما بدا من امتقاع وجهه، وشُرود نظرته، وثقلِ أجفانه، فشملَهم صمتٌ عميق، ولم يكن يُسمَع إلَّا وقع أقدام الملك.

وقطع عليهم سكونهم أحد الحجَّاب، وكان متسرِّعًا مضطربًا، فانحنى للملك، وقال: ضابط من الشرطة يستأذن يا مولاي في المثول بين يدَيك.

فأذن له الملك، وحدَج رجُلَيه بنظرة يفحص بها أثَر قول الحاجب في نفسَيْهما، فوجدهما قلقَين مُضطِربَين، فعلَت فمَه ابتسامةٌ ساخرة، وهزَّ كتفَيه العريضتَين استهانةً. ودخل الضابط وكان يلهث من الجهد والاضطراب، وكانت ثيابه معفَّرة وقلَنسوتُه مُضعضَعة تُنذِر بالشرِّ، فأدَّى التحيَّة، وقال قبل أن يُؤذَن له في الكلام: مولاي! إنَّ الشعب مشتبك مع رجال الشرطة في قتالٍ عنيف، وقد قُتل من الجانبَين رجالٌ كثيرون، ولكن سيقتحمنا القوم إذا لم تصلنا نجداتٌ قوية من الحرس الفرعوني.

وارتاع سوفخاتب وطاهو ارتياعًا، ونظرا إلى فرعون فوجداه مرتعش الشفتَين من الغضب، وقد صاح بصوتٍ أجشَّ: وحقِّ الأرباب جميعًا ما أتى هذا الشعب للاحتفال بالعيد.

فاستدرك الضابط قائلًا: وقد آذنَتْنا العيون يا مولاي أنَّ الكهنة يخطبون الناس في أطراف المدينة زاعمين لهم أنَّ فرعون يتذرَّع بوجود حربٍ وهمية في الجنوب ليحشد جيشًا يُذلُّ به الشعب، والناس تُصدِّقُهم ويشتدُّ بهم الغضب، ولولا وقوف الشرطة في وجههم لاقتحموا السبل إلى القصر المقدَّس.

فصاح فرعون كالرعد: قُطع الشك باليقين، وافتُضحَت الخيانة اللئيمة، وها هم أولاء يُعلِنون العداوة ويبدءوننا بالهجوم!

ووقع الكلام من الآذان موقعًا غريبًا لا يُصدَّق، وبدا على الوجوه كأنَّما تتساءل في دهشة وإنكار: أحقًّا أنَّ هذا فرعون؟ وهذا شعب مصر؟ .. ولم يُطِق طاهو صبرًا. فقال لمولاه: مولاي! هذا يومٌ كئيب كأنَّما دسَّه الشيطان خفيةً في دورة الزمان وكانت بدايته سفك دماء، والربُّ أعلم كيف يكون منتهاه، فمرني أن أقوم بواجبي.

فسأله فرعون: وماذا أنت فاعل يا طاهو؟

– سأوزِّع الجنود على أماكن الدفاع الحصينة، وأقود فرقة العَجَلات لملاقاة الثائرين، قبل أن يتغلَّبوا على الشرطة ويقتحموا الميدان إلى القصر.

فابتسَم فرعون ابتسامةً غامضة وصمَت مليًّا، ثم قال بصوتٍ رهيب: سأقودها بنفسي.

فانخلع قلب سوفخاتب في صدره، وصاح بالرغم منه: مولاي!

فضرب الملك صدره بيدَيه بعنف، وقال: ما زال هذا القصر حصنًا ومعبدًا منذ آلاف السنين، ولن يصير على عهدي هدفًا رخيصًا لكلِّ متمرِّد.

خلَع الملك جلد النمر ورماه بازدراء، وأسرع إلى مخدعه ليرتدي لباسَه الحربي. وفقد سوفخاتب اتِّزانه، وتوجَّس خيفةً وشرًّا، فالتفَت إلى طاهو، وقال بلهجة الآمر: أيُّها القائد لا وقت لدينا نضيِّعَه، فاذهب وأعدَّ الدفاع عن القصر، وانتظر ما يأتيك من الأوامر.

وخرج القائد يتبعُه الشرطيُّ، ولبث الوزير ينتظر الملك.

ولكنَّ الحادثات لم تنتظر؛ فقد حملَت الريح ضوضاء صاخبة، ما زالت تعلو وتشتدُّ حتى طبَّقتْ على الآفاق، فهَروَل سوفخاتب إلى الشرفة المطلَّة على فِناء القصر وألقى بناظرَيْه إلى الميدان، فرأى جموع الشعب تعدُو قادمةً من بعيدٍ هاتفةً ملوِّحة بالسيوف والخناجر والعِصي، كأنَّها أمواجُ فيضانٍ هائل جارف لا ترى العين منها إلَّا رءوسًا عارية وسلاحًا لامعًا، فأحسَّ الوزير بالفزع ونظر إلى أسفل، فرأى العبيد في حركةٍ سريعة يثبِّتون المتاريس خلف الباب العظيم، وجرى المشاة كالنسور وارتقَوا الأبراج المقامة على السور المحيط في الأمام على الجانبَين الشمالي والجنوبي، واندفعَت قوَّاتٌ عظيمة منهم إلى ممر الأعمدة المُوصل إلى الحديقة يحملون الرماح والقِسِي، أمَّا العَجَلات، فقد ارتدَّت إلى الوراء، واصطفَّت صفَّين طويلَين تحت الشرفة استعدادًا للانطلاق في الفِناء إذا اقتُحم الباب الخارجي.

وسمع سوفخاتب وَقْع قدمَين خلفه، فالتفَت إلى الوراء، فرأى فرعون واقفًا على عتبة الشرفة في ثياب القيادة العليا، على رأسه تاج مصر المزدوج، وكانت عيناه تُرسِلان شررًا متطايرًا، والغضب مرتسمًا على وجهه كلسانٍ من اللهَب، ويقول حانقًا مغيظًا: حُوصرنا قبل أن نُبدي حَراكًا!

فقال سوفخاتب: القصر يا مولاي قلعةٌ لا تُؤخذ، يدافع عنها جنودٌ جبابرة، وسيرتدُّ الكهنة مهزومين.

وجمدَ الملك في مكانه، وتراجع الوزير وراءه، وجعلا ينظران في صمتٍ محزن إلى الجموع التي لا يُحصيها العدُّ، وهي تَهدرُ كالوحوش، وتُلوِّح مهدِّدة بسلاحها، وتهتف بأصواتٍ كالرعدِ: «العرش لنيتوقريس.» «ليسقُط الملك العابث.» وكانت جنود الحرس تُطلِق السهام من خلف الأبراج، فتستقرُّ في المقاتل، وردَّ الثائرون بسيلٍ عارم من الأحجار والأخشاب والسهام.

وهزَّ فرعون رأسه، وقال: مرحى .. مرحى .. أيُّها الشعب الكاسر الذي جاء لخلع الملك العابث، ما هذا الغضب، ما هذه الثورة، لماذا تهدِّد بهذا السلاح، أتريد حقًّا أن تغمده في قلبي؟ .. مرحى .. مرحى .. إنَّه لَمنظرٌ حقيق بأن يخلَّد على جدران المعابد .. مرحى مرحى يا شعب مصر.

وكان الحراس يقاتلون بشدة وبسالة، ويُطلِقون السهام كالمطر، فإذا سقط منهم قتيلٌ حلَّ مكانه غيره مستهينًا بالموت، والقُوَّاد على متون الجياد يطوفون بالأسوار ويُديرون القتال.

وإنَّه ليُشاهِد هذه المناظر الأليمة، إذ سمع صوتًا يعرفه حقَّ المعرفة يقول: مولاي.

فالتفت إلى الوراء مدهوشًا، فرأى الذي يناديه على قيد خطوتَين، فقال بعجب: نيتوقريس!

فقالت الملكة بصوتٍ حزين: نعم يا مولاي، لقد صكَّ أُذنيَّ صُراخٌ بشع لم يُسمَع من قبلُ في هذا الوادي، فجئتُ ساعيةً إليك لأُعلِن ولائي، وأُشاطِرك المصير.

قالت ذلك، ثم ركعَت على ركبتَيها وأحنت رأسها، فتقَهقَر سوفخاتب إلى الخارج. وبادر الملك إلى مِعصمَيها ورفعها من ركعتها، ونظر إليها بعينَين مُرتبكتَين. ولم يكن رآها من اليوم الذي جاءت فيه إلى جناحه وردَّها أسوأ ردٍّ، فاشتدَّ به الحرج والألم، على أنَّ صياح القوم وصُراخ المتقاتلين ردَّاه إلى ما كان عليه، فقال لها: شكرًا لكِ أيَّتُها الأخت، تعالَي انظري إلى شعبي، إنَّه يحيِّيني في يوم العيد.

فخفضَت عينَيها، وقالت في حزنٍ عميق: كبُرتْ كلمةً تخرج من أفواههم.

واستحال تهكُّم الملك غضبًا وسخطًا وازدراءً، وقال بلهجةٍ تنطوي على الاشمئزاز: بلدٌ مجنون، جوٌّ خانق، قلوبٌ ملوَّثة .. خيانة .. خيانة .. خيانة.

فارتعدَت فرائص الملكة لذكر كلمة الخيانة، وجمدَت عيناها من الذعر، وأحسَّت بأنفاسها تحتبس في صدرها.

تُرى هل حمل هُتاف القوم لها على بعض الظنِّ؟ .. وهل يكون جزاؤها الاتِّهام بعد أن طوت فؤادها على أسقامه، وجاءت طوعًا إلى مَنْ أهانها وأشقاها؟ .. وهالَها الأمر، فقالت: وا أسفاه يا مولاي! ليس في وسعي إلَّا أن أُشاطركَ المصير، ولكنِّي أعجب مَن الخائن، وكيف كانت الخيانة؟!

– الخائن رسولٌ ائتمنتُه على رسالة، فسلَّمها إلى عدوِّي!

فقالت الملكة بلهجةِ استغراب: لا علم لي بالرسالة، ولا بالرسول، ولا أظنُّ أنَّ الوقت يتَّسع لإنبائي، وما أتمنى من شيء إلَّا أن أظهر إلى جانبك أمام الشعب الذي يهتفُ لي ليعلم أنِّي أواليكَ، وأنِّي أُعادي من يعاديك.

– شكرًا لك يا أختاه، ليس من حيلة، وما عليَّ إلَّا أن أستعدَّ لموتٍ شريف.

ثمَّ أمسك بذراعها، وسار بها صوب حجرة اعتكافه، وأزاح الستار المسدل على بابها ودخلا معًا إلى الحجرة الفاخرة، وكان يُطالِع الداخل محرابٌ منحوت في الجدار يقوم بداخله تمثالان للملك والملكة السابقَين، فاتَّجه الملكان إلى تمثالَي والدَيهما، ووقفا أمامهما خاشعَين صامتَين ينظران بعينَين حزينتَين كئيبتَين، وقال الملك بصوتٍ ثقيل، وهو ينظر إلى تمثالَي والديه: تُرى ما رأيكما فيَّ؟!

وسكت لحظة كأنَّه ينتظر أن يتلقَّى الجواب، وعاوده انفعالُه فغضب على نفسه، ثم ثبَّت عينَيه على وجه أبيه، وقال: لقد أورثتَني مُلكًا عظيمًا ومجدًا أثيلًا، فماذا صنعتُ بهما؟ لم يكد يمضي عام على توليتي حتَّى شارفتُ الدمار، وا أسفاه! لقد أذللتُ عرشي موطئًا للنعال، وجعلتُ اسمي مضغةً للأفواه، واكتسبتُ لنفسي اسمًا جديدًا لم يُطلَق على فرعون من قبلُ، هو الملك العابث.

وانحنى رأس الملك الشابُّ مثقلًا حزينًا، ولبث ينظر إلى الأرض بعينَين مظلمتَين، ثم رفعَهما إلى تمثال والده، وتمتم: لعلَّك وجدتَ في حياتي ما أخجلك، ولكنَّك لن تخجل من موتي أبدًا!

والتفت إلى الملكة، وقال لها: هل تغفرين إساءتي يا نيتوقريس؟

وكان التأثُّر قد بلغ منها مبلغًا عظيمًا، فاغرورقَت عيناها بالدموع، وقالت: لقد نسيتُ همومي في هذه الساعة.

فقال بانفعالٍ شديد: طالما أسأتُ إليك يا نيتوقريس، لقد تطاولتُ على كبريائك، وظلمتُكِ وجعلَت حماقتي من سيرتكِ أُسطورةً حزينة تُلقى بالإنكار والغرابة. كيف حدث هذا؟ .. وهل كنتُ أستطيع أن أغيِّر المجرى الذي تنصبُّ فيه حياتي؟ .. لقد غمَرتْني الحياة وتولَّاني جنونٌ عجيب، ولا أستطيع حتى في هذه الساعة أن أعلن ندمي، وا أسفاه! إنَّ العقل يستطيع أن يُعرِّفنا بسخفنا وتفاهتنا، ولكن يبدو لي أنَّه لا يقدر على تلافيهما. هل رأيتَ أفدح من هذه المأساة التي أرادها؟ .. ومع هذا فلن يُفيد الناسُ منها إلَّا بلاغةً كلامية، وسيبقى الجنون ما بقِيَت حياة الناس. بل لو بدأَت حياتي من جديد لما تجنَّبتُ الوقوع مرَّةً أخرى، أيَّتُها الأخت .. لقد ضاقت نفسي بكلِّ شيء، وما من فائدة تُرجى، فالخير أن أستحثَّ النهاية.

وبدا على وجهه العزم والاستهتار، فسألَته حائرةً قلقة: أي نهايةٍ يا مولاي؟

فقال بحدَّة: لستُ نذلًا لئيمًا، وأستطيع أن أذكُر واجبي من بعد طُول النسيان. ما جدوى القتال؟ .. سيُصرع جميع رجالي المخلصين أمام عدوٍّ لا يُحصى له عدَد، وسيأتي دوري حتمًا بعد إزهاق آلاف من الأرواح من جنودي وشعبي، ولستُ جبانًا رعديدًا يلوذ بأهداب الحياة قابضًا على خيطٍ واهٍ من الأمل، فلأَحقنِ الدماء وأواجهِ الناس بنفسي.

فارتاعت الملكة وقالت: مولاي .. أتُحمِّل ضمير رجالك وزر التخلِّي عن الدفاع عنك؟

– بل لا أريد أن أضحِّي بهم عبثًا، وسألقى عدوُّي وحيدًا لنُصفِّي حسابنا معًا.

فأحسَّت بامتعاضٍ شديد، وكانت تعرف عناده، فيَئِسَت من إقناعه، وقالت بهدوء وحزم: سأكون إلى جانبكَ.

ولكنَّه هَلعَ، وأمسك بذراعَيها، وقال بتوسُّل: نيتوقريس، إنَّ الشعب يريدكِ، وحسنًا أراد؛ فأنت جديرةٌ بحكمه فابقَي له. إيَّاكِ وأن تظهري إلى جانبي فيقولوا إنَّ الملك يحتمي بزوجته أمام شعبه الغاضب.

– وكيف أتخَّلى عنك؟

– افعلي هذا من أجلي، ولا تُقْدمي على عملٍ يُفقِدني شرفي إلى الأبد.

فأحسَّت المرأة بالحَيْرة والارتباك والضيق الشديد، فصاحت يائسة: يا للساعة الرهيبة!

فقال الملك: هذه رغبتي نفِّذِيها إكرامًا لي، لا تُقاومي وحقِّ والدينا؛ فإنَّ كلَّ دقيقة تمرُّ يسقط جنودٌ بواسل بغير ثمن. الوداع أيَّتُها الأخت الكريمة، أنا ذاهب موقنًا بأنَّكِ لن تلطِّخيني بالعار في ساعتي الأخيرة، إنَّ من يتمتَّع بالسلطان الكامل لا يستطيع أن يقنع بالأَسْر في قصر، فالوداع أيَّتُها الدنيا، الوداع أيَّتُها اللذَّات والآلام .. الوداع أيُّها المجد الكاذب والمظاهر الجوفاء. لقد مجَّت نفسي كلَّ شيء، فالوداع الوداع.

وهوى بفمه فقبَّل رأسها، والتفت إلى تمثالَي والدَيه، وانحنى لهما، ثم ذهب.

ووجد سوفخاتب ينتظر في الردهة الخارجية، جامدًا كتمثالٍ أخنى عليه القِدَم؛ فلمَّا رأى مولاه دبَّت فيه الحياة وتَبعَه في سكون، وفسَّر خروجه على هواه، فقال: سيبثُّ ظهورُ مولاي روح الحماس في قلوبهم الباسلة.

فلم يُجبْه الملك. وهبطا الأدراج معًا إلى ممرِّ الأعمدة الطويل الذي يصل ما بين الحديقة والفِناء، وأرسل في طلب طاهو، وانتظر صامتًا. وفي تلك اللحظة نزعَت نفسه إلى الناحية الجنوبيَّة الشرقيَّة، إلى بيجة .. وتنهَّد من أعماق قلبه، لقد ودَّع كلَّ شيء إلَّا أحبَّ الأشياء إليه، فهل تحمُّ النهاية قبل أن يُلقي نظرةً على وجه رادوبيس ويسمع صوتها لآخر مرة؟ .. وأحسَّ قلبه بحنينٍ أليم وحزنٍ شديد، وصحا من غفوة همومه على صوت طاهو يحيِّيه، فاندفَع بقوَّة لا تُقهَر إلى سؤاله عن طريق بيجة قائلًا: هل النيل آمن؟

فأجابه القائد قائلًا، وكان مُمتقعَ الوجه شديد الشحوب: كلَّا يا مولاي. لقد حاولوا أن يهاجمونا من الخلف بالقوارب المسلَّحة، ولكنَّ أسطولنا الصغير ردَّهم بغير عناء، ولن يُؤخَذ القصر من هذه الناحية أبدًا.

ولم يكن القصر الذي يهمُّ الملك؛ لذلك أحنى رأسه، وقد أظلمَت عيناه. سيموت قبل أن يُلقي نظرة وداعٍ على الوجه الذي باع الدنيا ومجدها من أجله. تُرى ماذا تفعل رادوبيس في هذه الساعة المفجعة .. هل بلغَها ما أصاب آمالها من الانهيار، أم أنَّها ما تزال تتيه في وديان السعادة، وتنتظر عودته بفارغ الصبر؟!

ولم يكن الوقت يسمح له بالاستسلام إلى أحزانه، فطوى آلامه في صدره، وقال لطاهو آمرًا: مُرْ جنودك أن تُخلي الأسوار، وتكُفَّ عن القتال، وتعود إلى ثكناتها.

فاستولَت الدهشة على طاهو، ولم يصدِّق سوفخاتب أُذنَيه فقال بانزعاج: ولكن الشعب يقتحم الباب توًّا!

ولبِث طاهو واقفًا لا يُبدي حَراكًا، فصاح الملك بصوتٍ كالرعد دوَّى دويًّا مخيفًا في ممرِّ الأعمدة: اصدَع بما أُمِرتَ.

وذهب طاهو ذاهلًا ينفِّذ أمر مولاه، وتقدَّم فرعون بخطًى ثابتة نحو فِناء القصر، فالتقى عند نهاية الممر بفرقة العَجلات المصطفة، وقد رآه الضبَّاط والجنود، فسلُّوا أسيافهم وأدَّوا التحية، فنادى الملك قائد الفرقة وقال له: عُدْ بفرقتكَ إلى الثكنات ولا تَبرحْها حتى تأتيكَ أوامرُ أخرى.

فأدَّى القائد التحية وجرى نحو فرقته، ونادى في الجند بصوتٍ شديد، فتحرَّكتِ العَجَلات بسرعة وانتظام إلى ثكناتها في الجناح الجنوبيِّ من القصر. وكان سوفخاتب ترتعد أوصاله، ولا تكاد تحمله قدماه الضعيفتان، وقد أدرك ما يريده مولاه، ولكنَّه لم يستطع أن ينطق بكلمة.

ومضت الجند تُخلي مواقعها الحصينة منفِّذةً الأمر الرهيب، وتنزل عن الأسوار والأبراج وتنطوي في نظام إلى ألويتها، ثم تعدو بسرعة إلى الثكنات يتقدَّمها ضبَّاطها. وما لَبِثَت أن خلَت الأسوار، وخلا الفناء والممرَّات حتَّى من قوَّات الحرس العادي المنوط بها واجب الحراسة في أوقات السلام.

وظلَّ الملك واقفًا عند مدخل الممرِّ وإلى يمينه سوفخاتب. وعاد طاهو لاهثًا، ووقف إلى يساره، وقد بدا وجهه كالشبَح المُخيف. وكان كلا الرجلين يرغب في التوسُّل إلى الملك برغبةٍ حارَّة، ولكن ما بدا على وجهه من الجمود والصلابة والشدَّة، بدَّد شجاعتَهما، فلازما الصمت مرغمَين. والتفت الملك إليهما، وقال بهدوء: لماذا تنتظران معي؟

فارتعب الرجلان أيَّما ارتعاب، ولم يستطع طاهو إلَّا أن ينطق بهذه الكلمة بتوسُّل وإشفاق: مولاي.

أمَّا سوفخاتب فقال بهدوءٍ غير عادي: إذا أمرني مولاي بالتخلِّي عنه فسأصدع بأمره لا محالة، ولكنِّي سأُزهِق نفسي في الحال.

فتنهَّد طاهو ارتياحًا كأنَّه ظَفِر بالحلِّ الذي أعياه طلبه، وتمتَم قائلًا: أحسنتَ أيُّها الرئيس.

وسكت فرعون، ولم يقل شيئًا.

وفي أثناء ذلك كانت تُوجَّه إلى باب القصر الكبير ضرباتٌ شديدة قاصمة، ولم يتجاسر أحد على اعتلاء الأسوار كأنَّهم توجَّسوا خيفةً من انسحاب الحرس المفاجئ، وتوهَّموا أنَّه ينصبُ لهم شِراكًا قاتلًا، فوجَّهوا كلَّ قوَّتهم إلى الباب، ولم يحمل الباب ضغطَهم زمنًا طويلًا فتَزعزعَت المتاريس وارتجَّ بنيانه وهوى بقوَّةٍ عنيفةٍ رجَّت الأرض رجًّا، واندفعَت الجموع متدفقةً صاخبة، وانتشَروا في الفِناء كغبار ريح الصيف. وكانوا يتدافعون بعنف، وكأنَّهم يتقاتلون، ويتباطأ المتقدِّمون منهم ما استطاعوا خشية خطرٍ غير منظور. وما زالوا في تقدُّمهم حتَّى شارفوا القصر الفرعونيَّ، ولمحَت أعينهم الواقف عند مدخل الممرِّ، وعلى رأسه تاج مصر المزدوج فعرفوه، وأُخذوا بمنظره ووقفته وحيدًا لهم. وتشبَّثتْ أقدام الذين على الرءوس بالأرض، ونشروا أذرعهم يوقفون التيَّار الجارف المنصبَّ وراءهم، وصاحوا في الجموع: مهلًا .. مهلًا.

ولعب أملٌ ضعيف بقلب سوفخاتب حين رأى الذهول يستولي على قادة الثائرين فيشلَّ أعضاءهم، ويُزيغ أبصارهم، وتوقَّع قلبه المتهالك معجزةً تُخلِف ظنَّه الأسود. ولكن كان يُوجَد بين الثائرين دهاةٌ يشفقون ممَّا يرجو قلب سوفخاتب، وخشُوا أن ينقلب فوزهم هزيمة، ويخسروا قضيَّتهم إلى الأبد، فامتدَّت يد إلى قوسها، ووضعَت سهمًا في كبده، وسدَّدته إلى فرعون وأطلقَته، فانطلق السهم من وسط الجموع واستقرَّ في أعلى صدر الملك دون أن تمنعه قوَّة أو رجاء، وصرخ سوفخاتب كأنَّما هو الذي أُصيب، ومدَّ يدَيه يسند الملك فالتقتا مع يدَي طاهو الباردتَين. وأطبق الملك شفتَيه فلم يخرج منهما أنين، ولا آهة، وتماسَك بما بقي فيه من قوَّة ليحفظ توازُنه وقد تقطَّب جبينه، وارتسم عليه الألم، وأحسَّ سريعًا بخَور وضعف، وأظلمَت عيناه فترك نفسه لأيدي رجُلَيه المخلصَيْن.

وساد الصفوف الأمامية سكونٌ رهيب، وعقد الألسنة صمتٌ ثقيل، وهَلعتِ الأعين، وأرسلت نظراتٍ زائغة إلى الرجل العظيم الذي يعتمد على رجُلَيه تتحسَّس يديه موضع السهم في صدره فيُلطِّخها الدم الساخن المتدفِّق بغزارة، وكأنَّهم لا يصدِّقون أعينهم، أو كأنَّهم هاجموا القصر لغير هذه الغاية.

ومزَّق السكونَ صوتٌ من المؤخرة يسأل: ماذا هنالك؟

فقال آخر بصوتٍ خافت: قُتِل الملك!

وتناقلَتها الألسنة بسرعةٍ جنونيَّة، وتصايَح بها الناس، وهم يتبادلون نظرات الحَيْرة والارتياع.

ونادى طاهو عبدًا وأمره أن يُحضِر هودجًا، فجرى الرجل إلى داخل القصر، وعاد يحمل هودجًا هو وجماعة من العبيد، فوضعوه على الأرض ورفعوا جميعًا فرعون وأناموه في رفق. وانتشر الخبر داخل القصر، فجاء طبيب الملك مسرعًا، وظهَرتْ خلفه الملكة، وكانت تُسرع الخطى في اضطرابٍ بادٍ، ولمَّا وقعت عيناها على الهودج وعلى النائم جرت إليه فزعةً، وجثَت على ركبتَيها إلى جانب الطبيب، وهي تقول بصوتٍ متهدِّج: يا للويل! .. قد أصابوك يا مولاي كمشيئتك!

وشاهَد القوم الملكة، فصاح واحدٌ منهم: جلالة الملكة.

وانحنت هاماتُ الشعب الواجم كأنَّه في صلاةٍ جامعة. وأخذ الملك يُفيق من أثَر الصدمة الأولى، ففتح عينَيه المغمضتَين، ومضى يقلِّبهما فيمن حوله في هدوء وضعف. وكان سوفخاتب يُحملِق في وجهه في ذهولٍ وصمت، وكان طاهو جامدًا ووجهه كوجوه الموتى، وكان الطبيب يفحص الجرح، يكشف عنه قميص الزرد. أمَّا الملكة فقد اكتسى وجهها بالجزع والألم، وقالت للطبيب: أليس بخير؟ قل لي إنَّه بخير!

فأدرك الملك ما تقول، وقال ببساطة: كلَّا يا نيتوقريس. إنَّه سهمٌ قاتل.

وأراد الطبيب أن ينتزع السهم، ولكنَّ الملك قال له: دعه، لا فائدة تُرجى من هذا العذاب.

واشتدَّ التأثُّر بسوفخاتب، فقال لطاهو بانفعالٍ شديد غيَّر نبراتِ صَوته تغيُّرًا تامًّا: ادعُ جندك، وانتقم لمولاك من المجرمين.

وبدَت على الملك المضايقة، فرفع يده بصعوبة، وقال: لا تتحرَّك يا طاهو، هل هانت عليك أوامري يا سوفخاتب في رقادي هذا؟! لا قتال بعد الآن، قولوا للكهنة إنَّهم بلغوا غايتَهم، وإنَّ مرنرع الثاني على فراش الموت، فليَرجعوا بسلام.

وسرت رعدةٌ في جسم الملكة فمالَت على أذنه، وقالت همسًا: مولاي! لا أحبُّ أن أبكي أمام قاتليك، ولكن ليطمئنَّ قلبك، فوحقِّ أبوَينا، وحقِّ الدم الزكي لأنتقمنَّ من عدوِّكَ انتقامًا تتحدث به الأزمان جيلًا بعد جيل.

فابتسم إليها ابتسامةً خفيفة يعبِّر بها عن شكره ومودَّتِه، وغسل الطبيب الجرح وسقاه جرعةً من دواءٍ مسكِّن، ووضع بعض الأعشاب حول السهم، واستسلَم الملك إلى يدَيه ولكنَّه كان يشعر بدُنُوِّ أجَله وباقتراب الساعة الفاصلة، ولم ينسَ في رقاده الوجهَ الحبيب الذي تمنَّى لو يودِّعه قبل النهاية المحتومة فلاحت في عينَيه نظرات حنين، وقال بصوتٍ خافت بغير وعي منه إلى ما حوله: رادوبيس .. رادوبيس.

وكان وجه الملكة قريبًا من وجهه فسمعَته، وأحسَّت بطعنةٍ نجلاء تخترق شغافَ قلبها، فرفعَت رأسها وقد أحسَّت بدُوارٍ شديد. ولم يُلقِ بالًا إلى شعور الآخرين، فأومأ إلى طاهو، فبادر الرجل إليه. فقال له برجاء: رادوبيس.

فقال القائد: هل آتي بها يا مولاي؟

فقال بصوته الخافت: كلَّا .. احملني إليها، في قلبي بقيَّة حياةٍ أريد أن تنفَد في بيجة.

ووجَّه طاهو نظرة إلى الملكة في ارتباكٍ شديد، فقامت الملكة واقفة وقالت بهدوء: نَفِّذ مشيئة مولاي.

وسمع الملك صوتها، وأدرك قولها، فقال لها: أيَّتُها الأخت، طالما غفرتِ لي الذنوب، فاغفري لي هذه أيضًا .. إنَّها رغبةُ ميِّت.

فابتسمَت الملكة ابتسامةً حزينة، وانحنَت على جبينه ولثمَتْه، ثم أوسعَت للعبيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤