الوداع

انحدَرتِ السفينة في هدوءٍ متَّجهةً صوب جزيرة بيجة، والهَودَج في مقصورتها بحمله الثمين، يقف الطبيب عند رأسه، وطاهو وسوفخاتب عند قدمَيه .. وكانت هذه أوَّل مرَّة يخيِّم فيها الحزن على السفينة، فتَحمِل مولاها نائمًا مستسلمًا، يغشى وجهَه ظلُّ الموت. وكان الرجلان يُلازِمان الصمت وعيناهما الحزينتان لا تُفارِقان وجه الملك الشاحب، وكان يرفَع جفنَيه الثقيلتَين، وينظر إليهما نظرةً ذابلة، ثم يعود فيغمضهما في تَراخٍ. ومضت السفينة تدنو من الجزيرة رويدًا، رويدًا، حتَّى رست إلى سلَّم حديقة القصر الذهبي.

ومال طاهو على أُذن سوفخاتب، وهمس قائلًا: أرى أن يسبق أحدُنا الهودج حتَّى لا تُؤخذ المرأة بغتةً.

ولم يكن سوفخاتب في تلك الساعة الرهيبة يُبالي شُعور إنسان، فقال باقتضاب: افعل ما بدا لك.

ولكنَّ طاهو لم يَبرَح مكانه، ولبسَتْه حَيرة التردُّد، فقال: يا له من نبأ لا يدري الإنسان كيف يؤدِّيه إليها!

فقال سوفخاتب بحدَّة: ماذا تخشى أيُّها القائد؟! إنَّ من يُبتلى بمثل ما ابتلينا به لا يعمل حسابًا لمحذور.

قال سوفخاتب ذلك، وغادر المقصورة مسرعًا، وصَعِد درجات السلَّم إلى الحديقة، واخترق الممشى مهرولًا حتَّى انتهى إلى البِركة، فاعترضَت سبيلَه الجارية شيث، وقد دُهشَت الجارية لمرآه، وكانت تعرفه من تلك الأيَّام الخوالي. وفتحت فاهَا لتُكلِّمه، ولكنَّه قطع عليها السبيل قائلًا بسرعة: أين سيِّدتكِ؟

فقالت شيث: مسكينة سيِّدتي لا تعرف اليوم لنفسها مستقرًّا. وما زالت تدور بالحجرات، وتطوف بالحديقة حتى …

وفرغ صبر الرجل فقاطعها قائلًا بحدَّة: أين سيِّدتكِ؟

فقالت مستاءة: في الحجرة الصيفية يا سيِّدي.

وأسرع الرجل إلى الحجرة. ودخل متنحنحًا، وكانت رادوبيس جالسة على كرسي مسندةً رأسها إلى يدَيها، فلمَّا أحسَّت بالداخل التفتَت إليه، وسرعان ما عرفَته، فقامت واقفةً وكأنَّها تقفز قفزًا، وقالت باهتمام وقلق: الرئيس سوفخاتب .. أين مولاي؟

فقال الرجل الغارق في حزنه بذهول: سيأتي عمَّا قليل.

فضمَّت يدَيها إلى صدرها فرحًا، وقالت بصوتٍ بهيج: لشدَّ ما عذَّبَتْني المخاوف على سيِّدي، لقد بلغَني أنباء العصيان المحزنة، ثم انقطع عنِّي كلُّ شيء، فتُركتُ وحدي إلى وساوس قلبي .. متى يأتي سيِّدي؟

وذكرت بسرعةٍ خاطفة أنَّه لم يتعوَّد أن يرسل رسولًا بين يدَيها فاعتوَرَها القلق وقالت بسرعةٍ قبل أن يبدأ سوفخاتب كلامه: ولكن لماذا بعثكَ إليَّ؟

فقال الوزير بجمود: صبرًا يا سيِّدتي؛ فلم يُرسلني أحد، والحقيقة الأسيفة أن مولاي أُصيب.

ووقعَت هذه الكلمة الأخيرة من أُذنَيها موقعًا غريبًا داميًا، فحَملقَت في وجه الوزير الكئيب فزعةً، وصدَرتْ عن صدرها آهةُ زفرةٍ حرَّى مرتعشة، فقال سوفخاتب الذي أفقده الحزن شعوره: صبرًا صبرًا .. سيصل مولاي محمولًا على هودجه كمشيئته. لقد أُصيب بسهم في هذا اليوم المنكود الذي غدا عيدًا وأضحى مأتمًا مروِّعًا.

ولم تحتمل المكوث في الحجرة، فجرت إلى الحديقة كالفرخة الذَّبيح، ولكنَّها لم تكَد تجاوز العتبة حتَّى سُمِّرتْ قدماها في الأرض، وثبَّتتْ عينَيها على الهودج يحمله العبيد متَّجهين صوب الحجرة، فأفسحَت لهم الطريق، وهي تضع يدَيها على رأسها المضطرب من هول المنظر، ثمَّ تبعَتْهم على الأثَر. وقد وضَعوا الهودج في حرصٍ شديد وسط الحجرة وانسحبوا خارجًا، وخرج في ذيلهم سوفخاتب، وخلال المكان لها وله .. واندفعَت إلى الركوع إلى جانبه، وشبَّكَت أصابع يدَيها وشدَّت عليها بقسوة وبحالةٍ عصبيَّة عنيفة، ونظَرتْ إلى عينَيه الساهمتَين الذابلتَين، وقد انقطعَت منها الأنفاس، وجرى بصرها الزائغ على صدره المضطرب، فرأت بُقَع الدم والسهم النافذ، فاقشعرَّ بدنها بحالة ألمٍ جنوني، وصاحت بصوتٍ متقطع من العذاب والفزع: أصابوك .. يا للهول!

وكان نائمًا في تراخٍ وهمود، وقد أتت الرحلة الصغيرة على بقية قواه الآخذة في الانحلال السريع، ولكنَّه حين سمع صوتها ورأى وجهها الحبيب دبَّت فيه نسماتُ حياةٍ رقيقة، ولاح في عينَيه المظلمتَين ظلُّ ابتسامةٍ خفيفة.

ولم تكُن تراه إلَّا هائجًا مفعمًا بالحياة كالعاصفة، فكادت تُجنُّ، وهي تشاهده كمن شاخ وذوى منذ دهرٍ طويل، وألقت نظرةً ناريَّة على السهم الذي أحدث كلَّ هذا، وقالت بتألُّم: كيف تركوه في صدرك؟! هل أستدعي الطبيب؟!

فاستجمع قواه الخائرة المشتَّتة، وقال بصوتٍ ضعيف: لا فائدة.

فلاحت في عينَيها نظرةٌ جنونيَّة، وقالت بصوت العتاب: لا فائدة يا حبيبي .. كيف تقول هذا؟ .. هل هانت عليك حياتنا؟!

فمدَّ يده في ضعفٍ شديد حتَّى مسَّت كفَّها الباردة، وهمس قائلًا: هي الحقيقة يا رادوبيس، لقد جئتُ لأموت بين يدَيك في المكان الذي أحببتُه أكثر من أيِّ مكانٍ في الدنيا .. فلا تندبي حظَّنا، وامنحيني صفاءً.

– مولاي، أتنعى إليَّ نفسك؟! يا لَساعة الأصيل هذه! كنتُ أنتظرها يا حبيبي بنفسٍ أضناها الشوق وغرَّر بها الأمل، وكنتُ أرجو أن تجيء حاملًا إليَّ بُشرى الفوز، فجئتَ حاملًا إليَّ هذا السهم .. كيف لي بالصفاء؟!

فازدرد ريقه بصعوبة، وقال بتوسُّل وبصوتٍ كالأنين: رادوبيس تناسَي هذا الألم وادني منِّي، أريد أن أنظر إلى عينَيك الصافيتَين.

إنَّه يريد أن يرى الوجه الصبيح المتألِّق بالغبطة والسعادة ليختم بصورته الفاتنة حياته، أمَّا هي فكانت تُعاني آلامًا لا قِبَل لإنسان بها، وكانت تودُّ لو تُنفِّس عن صدرها المضطرم بالصراخ والعويل والهذَيان، أو تلتمس الشفاء في الجنون العنيف واصطلاء نيران الجحيم، فكيف تصفو وتهدأ وتطالعه بالوجه الذي أحبَّه وسكن إليه دون العالمين؟ .. وكان يتابع النظر إليه برجاء، فقال بحزن: ليست هاتان العينان عينَيك يا رادوبيس.

فقالت بأسًى وحزن: هما عيناي يا مولاي، ولكن جفَّ ما يُمِدُّهما بالنور والحياة.

– أوَّاه يا رادوبيس! ألا تريدين أن تنسَي آلامك هذه الساعة إكرامًا لي؟ .. أريد أن أرى وجه رادوبيس حبيبتي، وأن أستمع إلى صوتها العذب.

ونفذ رجاؤه إلى قلبها، فكبُر عليها أن تَحرمه من شيء يريده في تلك الساعة السوداء، وقست على نفسها قسوةً شديدة، فبسطَت صفحة وجهها واغتصبَت من شفتَيها المرتعشتَين ابتسامة وحنت عليه في سكون واطمئنان كأنَّما تحنو عليه، وهو يرقُد رُقاد غرام، فتبدَّى على وجهه الشاحب الذابل الرضا، وانفرجَت شفتاه الباهتتان عن ابتسامة.

ولو أنَّها تُركَت لعواطفها لما وسِعَتها الدنيا هذيانًا وجنونًا، ولكنَّها نزلَت على إرادته العزيزة، وملأَت عينَيها من وجهه، وهي لا تُصدِّق أنَّ هذا الوجه سيغيب عنها بعد لحظاتٍ قصيرة إلى الأبد، وأنَّها لن تراه في هذه الدنيا مهما تألَّمتْ أو تأوَّهتْ أو سكَبتِ الدمع الحزين، وأنَّ صورته وحياته وحبَّه ستغدو ذكرياتِ ماضٍ غريب، هيهاتَ أن يصدِّق قلبها المكلوم أنَّه كان يومًا حاضرها واستقبالها. كل هذا لأنَّ سهمًا مجنونًا استقرَّ في هذا الموضع من صدره .. كيف يستطيع هذا السهم الحقير أن يقضي على آمالٍ ضاقت عنها الدنيا بأسرها؟! .. وتنهَّدتِ المرأة تنهُّدًا حارًّا صعَّد فُتات قلبها، وكان الملك يستفرغ بقيَّة الحياة القلقة في صدره، المضطربة في أنفاسه، وقد خارت قواه ووهنَت أعضاؤه، وماتت حواسُّه، وأظلمَت عيناه، ولم يَبقَ منه إلَّا صدر يضطرب اضطرابًا عنيفًا، ويقتتل به الموت والحياة اقتتال القهر واليأس. وتجلَّى بغتةً على وجهه الألم وفتح فاه كأنَّما يريد أن يصرخ أو يستغيث، وأمسك بيدها التي امتدَّت إليه في فزعٍ لا يُوصَف، وصاح بقوَّة: رادوبيس أسندي رأسي .. أسندي رأسي.

وأحاطت رأسه بيدَيها المرتجفتَين وهمَّت أن تُجلِسه، ولكنَّه شهق شهقةً قويَّة، وأُسقطَت يده إلى جانبه، وانتهت عند ذاك المعركة الناشبة بين الحياة والموت. وأعادت رأسه إلى وضعه الأول بسرعة، وصرخَت صرخة فزعٍ شديدة عالية، ولكنَّها كانت قصيرة، ثمَّ انقطع صوتها كأنَّما مُزِّقَتْ مسالكه، وتصلَّب لسانها، والتحم فكَّاها بشدَّة، وحملقت في وجه الذي كان إنسانًا بعينَين جامدتَين، ثم لم تُبدِ حَراكًا.

وأذاعت صرختُها الخبر الأليم، فهُرع الرجال الثلاثة إلى الحجرة دون أن تُحسَّ بهم ووقفوا أمام الهودج، وألقى طاهو على وجه الملك نظرةً ذاهلة، وعلت وجهَه صُفرة الموت، ولم ينبِس بكلمة، وتقدَّم سوفخاتب من الجثَّة، وانحنى في إجلالٍ عظيم وقد أخفاها عنه دمعٌ جرى على خدَّيه وتساقَط على الأرض، وقال بصوتٍ متهدِّج مزَّقَتْ نبراته الباكية الصمت المخيِّم: سيِّدي ومولاي، وابن سيِّدي ومولاي، نستودعك الآلهة العليَّة التي اقتضت مشيئتها أن يكون اليوم بدء رحلتك إلى عالم الأبديَّة. وددتُّ لو أفتدي شبابك الغضَّ بشيخوختي الفانية، ولكنَّها إرادة الربِّ التي لا تُرَدُّ، فالوداع يا مولاي الكريم.

ومدَّ سوفخاتب يده الهزيلة إلى الغطاء، وسجَّى الجثَّة في أناة، وانحنى مرَّةً أخرى، وعاد إلى مكانه بقدمَين ثقيلتَين.

وظلَّت رادوبيس جاثية، في غفوة من الذهول، لا تُفيق ولا تتحوَّل عيناها عن الجثَّة، وقد سرى في جسمها جمودٌ غريب كالموت، فلم تُبْدِ حراكًا، ولا بكت، ولا صرخَت، ظلَّ الرجال في وقفتهم منكَّسي الرءوس .. إلى أن دخل أحد العبيد الذين حمَلوا الهودج، وقال: وصيفة جلالة الملكة.

والتفت الرجال إلى الباب، فرأَوا الوصيفة تدخل يبدو على وجهها أثَر الحزن الشديد، فانحنَوا لها تحيَّة، فردَّت التحيَّة بإيماءة من رأسها، وألقت نظرةً على الجثَّة المسجَّاة، ثم ردَّت ناظرَيْها إلى سوفخاتب، فقال الرجل بصوتٍ حزين: انتهى الأمر أيَّتُها السيدة الجليلة.

فصمتَت المرأة بُرهةً كالذاهلة، ثم قالت: ينبغي إذن أن تُحمل الجثَّة الكريمة إلى القصر الفرعوني، هذه إرادة جلالة الملكة أيُّها الوزير.

واتجهَت الوصيفة نحو الباب، وأومأَت إلى العبيد، فهُرِعوا إليها مسرعين، فأمَرتْهم أن يرفعوا الهودَج. وقصَد العبيد إلى الهودج ومالوا إلى قوائمه ليرفعوه، فانتبهَت رادوبيس مذعورة ولم تكن تُحسُّ بشيء ممَّا يدور حولها، وتساءلَت بصوتٍ مبحوح غريب: إلى أين .. إلى أين؟

وارتمت على الهودج، فتقدَّم منها سوفخاتب وقال: إنَّ القصر يريد أن يؤدِّي واجبه نحو الجثَّة المقدَّسة.

فقالت المرأة ذاهلة: لا تأخذوه منِّي .. انتظروا .. سأموت على صدره.

وكانت الوصيفة تتعالى بناظرَيها عن رادوبيس، فلمَّا سمعَت قولها قالت بخشونة: إنَّ صدر الملك لم يُخلق لكي يكون لحدًا لإنسان.

وانحنى سوفخاتب على المرأة، وقبض على معصمها برقَّة ورفعَها بهدوء، وحمل العبيد الهودَج، فنَزعَت رادوبيس يدها من بين يدَيه، وأدارت رأسها بعنف فيما حولها فلم يبدُ على وجهها التائه أنَّها عرفَت أحدًا من الحاضرين، وصاحت بصوتٍ متقطِّع كالحشرجة: لماذا تأخذونه؟ هذا قصره .. وهذه حجرته .. كيف تسومُونني القهر أمامه .. إنَّ مولاي لا يرضى عمَّن يسيء إليَّ .. أيُّها القساة .. أيُّها القساة.

ولم تُبالِها الوصيفة، فشقَّت طريقها إلى الحديقة، وتَبِعها العبيد يحملون الهودَج، وغادر الرجال الحجرة في خشوع وصمت. وكادت المرأة تُجَنُّ، وجمدَت في مكانها لحظةً قصيرة، وهمَّت باندفاعٍ وراءهم، ولكنَّ يدًا غليظة أمسكَت بذراعها، فحاولَت التخلُّص منها، ولكن ضاعت محاولتُها هباءً.

فالتفتَت إلى الوراء بعنف وغيظ، فوجدَت نفسها وجهًا لوجه أمام طاهو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤