قصر بيجة

غاب الموكبُ الفرعونيُّ عن الأنظار، ورُفعَت تماثيل ملوك الأسرة السادسة، فاندفع الناس من جانبَي الطريق، فتلاطمَت أمواجهم، واختلطَت أنفاسهم، كأنَّهم بحرُ موسى الذي انشقَّ له طوعًا، وانقَضَّ على أعدائه كاسرًا، فأمرت رادوبيس عبيدَها بالعودة إلى السفينة. وكانت نشوة الحماس التي انبعثَت في قلبها لدى ظهورِ فرعونَ ما تزال تَلتهِب في قلبها نارًا وتندفع إلى أطرافها دمًا حارًّا. وكانت صورتُه لا تُفارِق مخيِّلتها، لشبابه الغضِّ، ونظراته المتعالية، وقدِّه الرشيق، وعضلاته المفتولة.

وكانت رأَته قبل ذلك في يوم التتويج العظيم منذ شهورٍ قلائل، وكان يقف في عَجلَته كما وقف اليوم فارع الطول جاهر الجمال، مُرسِلًا بناظرَيه إلى الأفق البعيد، وقد تمنَّت يوم ذاك كما تمنَّت اليوم لو عطف إليها عينَيه.

تُرى لماذا؟ .. ألأنَّها تطمع في أن يفوز جمالها بما هو أهلُه من التكريم؟ أم لأنَّها تودُّ في أعماقها لو تراه في هيئة البشَر بعد أن رأته في قداسة الأرباب المعبودة؟ كيف السبيل إلى فَهْم هذا التمنِّي؟ .. على أنَّه مهما كانت حقيقته، فقد تمنَّت صادقةً، وتمنَّت مخلصةً مشوقة.

لبثَت الغانية مستغرقةً في غمرات أحلامها، فلم تُعنَ بالالتفات إلى الطريق المزدحم الذي يجتازه ركبها الصغير بشقِّ الأنفس، ولم تُلقِ أدنى انتباهٍ إلى الآلاف من الخلق الذين يكادون أن يلتهموها، بنهمٍ وشراهة. وصُعِد بها إلى السفينة ونزَلَت من الهودج في المقصورة، واطمأنَّت إلى عرشها الصغير، وهي في شبه غيبوبةٍ تسمع ولا تعي، وتنظُر ولا ترى .. وانسابت بها تشُقُّ وجه النيل الرزين، حتَّى رست إلى سُلَّم حديقة قصرها الأبيض، عروسُ جزيرة بيجة. وكان القصر يُرى عن بُعد في نهاية الحديقة اليانعة التي تنتهي معارجُها إلى سيف النيل، تحوطُ به أشجار الجميز، ويحنو عليه النخيل، كأنَّه زهرةٌ بيضاء نبتَت في أحضان تلك الجنَّة الوارفة. فهبطَت أدراج السفينة، ووضعَت قدَمها على أُولى درجات الحديقة، وصَعِدَت سُلَّمًا من المرمر المصقول، يمتدُّ بين سورَيْن من الجرانيت، تنتصب على الجانبَين مسلَّاتٌ عالية نُقِشَت عليها أشعار رقيقة لرامون حتب، إلى أن بلغَت أرض الحديقة السندسية.

واجتازت بوَّابةً من الحجر الجيري نُقِش اسمها على واجهتها باللغة المقدَّسة، وقام في وسطها تمثالٌ لها بالحجم الطبيعي، نحتَه هنفر، وأفنَى فيه دهرًا جميلًا من أسعد أيَّام حياته، يُمثِّلُها جالسةً على عرشها الجميل الذي تستقبل عليه المقرَّبين، ويكشف في روعةٍ فنيَّة رائعة عن جمال الوجه، وتكعُّب الثديَين، ورشاقة القدمَين. ثم خلصَت إلى ممرٍّ وسيط اصطفَّت على جانبَيه الأشجار تعانقَت أعالي أغصانها، فظلَّلتْ عليه سقفًا من الأزهار والأوراق الخضراء، وفَرشَت أرضه بالحشائش والأعشاب، وكانت تُوازيه عرضًا من اليمين والشمال ممراتٌ جانبية قدَّت على نفس الصورة، تنتهي ذاتَ اليمين إلى سور الحديقة الجنوبي، وذاتَ الشمال إلى سورها الشمالي. وكان هذا المَمرُّ ينتهي إلى الكَرمة المتفرِّعة المتسلِّقة على أعراش من عمدٍ رخامية، تنبسط إلى يمينها غابةٌ من الجميز، وتمتدُّ إلى يسارها غابةٌ من النخيل أُقيمَت فيها هنا وهناك بيوت القردة والغزال، وانتشَرتْ في جنباتها المترامية التماثيل والمسلَّات.

وانتهت بها قدَماها إلى بِركةٍ واسعة من ماءٍ غير آسنٍ، ينطلق على شُطآنها نبات اللوتس، ويسبح في سطحها الإوزُّ والبطُّ وتغنِّي في جوِّها الأطيار، وقد انتشَر شذا العطر وأريج الزهر وغرَّدتِ البلابل.

ودارت حول البِركة نصف دورةٍ كاملة، فصارت أمام الحجرة الصيفية، ووجدَت في استقبالها جماعةٌ من الجواري انحنَين لها إجلالًا، ثم وقفن ينتظرن أوامرها، وأسلمَت الغانية نفسها إلى أريكةٍ مظلَّلة تستريح .. ولم يطُل بها المقام فانتفضَت واقفة، وقالت لجواريها: كم ضايقَتْني أنفاسُ القوم الحارَّة .. وكم أرهقني الحرُّ .. اخلعن ثيابي؛ فقد تُقتُ إلى مياه البِركة الباردة.

فدنت الجارية الأولى من سيِّدتها، ورفعَت بخفةٍ خمارَها الموشَّى بالذهب نسيج منف الخالدة.

ثم تقدَّمتِ اثنتان فخلَعتا العباءة الحريرية، فكشفَتا عن قميصٍ شفَّاف انحسر عمَّا فوق النهدَين وما تحت الركبتَين، ثم تبعَتْهما جاريتان فسحبتا بيدَين رقيقتَين القميصَ السعيد، وروَّعتا الدنيا بجسدٍ طليق، خلقَتْه الآلهة جميعًا، وادَّعاه كلٌّ لقدرته وفنِّه!

واقتربت جاريةٌ أخرى وحلَّت عُقدة شعرها الفاحم، فانساب على جسدها، وغشَّاه من الجيد إلى الرسغَين، وانحنت على قدمَيها وخلعَت صندلها الذهبي ووضعَته على حافة البِركة. ومشت الغانية تتهادى، وهبطَت درجات البِركة المرمريَّة على مهَل، ومضى الماء يغمُر القدمَين، فالساقَين، فالفخذَين، ثم ألقت بجسمها في الماء الهادئ يأخذ منه عطرًا ويُعطيه بردًا وسلامًا. واستسلَمتْ لمداعبة الماء في رخاوة، ولعبَت فيه ما شاء لها الهوى والمرح، وسبحَت طويلًا تارةً على بطنها، وتارةً على ظهرها، وثالثةً على أحد جانبَيها.

وما كانت لتُعير شيئًا اهتمامًا لولا أن صكَّ أذنيها صُراخُ فزعٍ يُرسِله جواريها، فتوقَّفتْ عن السباحة، والتفتَت إليهنَّ، فراعَها أن رأت نسرًا هائلًا يُحلِّق من علوٍّ قريب من شاطئ البِركة، ويرفُّ بجناحَيه، ففرَّت من بين شفتَيها صرخةُ فزع، وغاصت في الماء تنتفض فزعًا ورعبًا، وتصبَّرتْ بجهدٍ جهيد، وحبسَت أنفاسها طويلًا حتى أحسَّت بالاختناق، ونفدَت قدرتها فرفعَت رأسها في خوفٍ وحذَر، ونظَرتْ فيما حولها وهي تخشى، فلم ترَ شيئًا، فنظَرتْ إلى السماء فوجدَت النسر يُولِّي بعيدًا يُوشِك أن يلج باب الأفق، فسبحَت إلى الشاطئ على عَجل، وصَعِدَت الأدراج مسرعةً مضطربة، ووضعَت قدمها في إحدى زوجَي صندلها، ولكنَّها لم تَجدِ الأخرى، وبحثَت عنها طويلًا ثم سألَت: أين الأخرى؟

فأجابها الجواري في قلق: خطفها النسر!

وتبدَّى الأسف على وجهها، ولكنَّها لم تَجد متَّسعًا من الوقت لإعلان سخطها، فدلفَت إلى الحجرة الصيفيَّة، والجواري من حولها وبين يدَيها يجفِّفن جسدها الغَض، تنحدر عليه نُقَط الماء كأنَّها لؤلؤ ينتشر على أديمِ عاج.

•••

ولدى الغروب تأهَّبتْ لاستقبال الضيوف، وما أكثرهم في أيام العيد التي تجذب الناس إلى الجنوب من كلِّ صوب! فارتدَت أجمل ثيابها، وازَّيَّنَت بأفخر حليِّها، ثم تركت المرآة إلى بهو الاستقبال، تنتظر القادمين وقد آن موعدهم.

وكان البهو آيةً من آيات الفن والعمارة، بناه المعمار هني، وجعل صورتَه على هيئةٍ بيضاوية، وشيَّد جدرانه من الجرانيت كبيوت الأرباب، وكساه بطبقةٍ من الصوَّان ذات ألوان تسُرُّ الناظرين، وكان سقفه مقبَّبًا تزيِّنه الصور والتهاويل، وتتدلَّى منه المصابيح المُكفَّتة بالذهب والفضة.

وزَخرفَ الجدران المثَّال هنفر، وتنافَس العشَّاق في تأثيثه بإهداء المقاعد الوثيرة والدواوين الفاخرة، والرياش الجميلة. وكان عرش الغانية أبدع هذه التُّحف جميعًا؛ فهو من العاج الثمين على قوائم من سنِّ الفيل، وقاعدتُه من الذهب الخالص المحلَّى بالزمرُّد والياقوت، وقد أهداه إيَّاها حاكمُ جزيرة بيجة.

ولم يطُل انتظار الغانية، فدخل عبدٌ من عبيدها، وأعلن قدوم السيِّد عانن تاجر سن الفيل. ودخل الرجل على الأثَر يُهروِل في ثيابه الفضفاضة، ويزهو بشعره المستعار، يتبعُه عبدٌ يحمل صندوقًا من العاج المطعَّم بالذهب، وضَعه على كثَب من كرسيِّ الغانية، ورجع من حيث أتى. وانحنى التاجر على يد رادوبيس، ولثم أناملها، فابتسَمَت له، وقالت بصَوتها الحلو: أهلًا بكَ أيُّها السيد عانن. كيف حالك؟ أهكذا لا نراك إلَّا كلَّ دهرٍ طويل؟!

فضحك الرجل سعيدًا مسرورًا، وقال: ماذا أصنع يا مولاتي؟! .. هي حياتي التي اخترتُها أو التي فرضَتها الأقدار عليَّ، أن أكون أخا سفر، جوَّاب أرض، تتقاذَفني البلدان، فأقضي نصف عامي في بلاد النوبة، ونصفه الثاني ما بين الجنوب والشمال، أشتري وأبيع، وأبيع وأشتري، لا أعرف لحياتي مستَقَرًّا!

فنَظرتْ إلى الصندوق العاجي وهي لا تزال تبتسم وسألَتْه: وما هذا الصندوق الجميل؟ أخال أنَّه هديَّة من هداياك النفيسة؟

– ليس الصندوق بالذات، ولكن ما فيه .. هو سنُّ فيلٍ مفترس، أقسم التاجر النوبي الذي ابتعتُه منه أنَّ صيده كلَّفه أربعةً من رجاله الأشدَّاء، فحفظتُه في مكانٍ أمين، ولم أعرضه على الطالبين. ولمَّا ألقيتُ عصا الترحال في تنيس، دفعتُ به إلى أيدي صانعيها المهرة، فبَطَّنوه بقشرة من خالص الذهب، وطلَوه من الخارج، فصار كأسًا لا يشرب منها إلَّا الملوك .. وقلتُ لنفسي: أحرى بتلك الكأس التي كَلَّفَت نفوسًا غالية، أن تُهدى إلى من تُبذَل في سبيلها النفوس العزيزة رخيصةً وهي راضية.

فضحكَت رادوبيس ضحكةً رقيقة، وقالت: شكرًا لك أيُّها السيد عانن .. إنَّ هديَّتَكَ على نفَاستها لا تُعدَل بجمال حديثك!

فطَرِب أيَّما طرب، ورنا إليها بعينٍ ناطقة بالإعجاب والتوسُّل، وقال بصوتٍ خافت: ما أجملَكِ! .. ما أفتنَكِ! .. كلَّما عُدتُ من سفرٍ طويل أجدُكِ أجمل وأفتن مما تركتُك، وكأنِّي بالزمان لا عمل له إلَّا السُّموُّ بحُسنكِ الفاتن.

وكانت تُصْغي إلى إطراء حُسنها، كمن يُصغي إلى نغمةٍ معادة، فطاب لها أن تتهكَّم به فسألَته: كيف حال أبنائك؟!

فأحسَّ بشيء من الخيبة، وصمَت لحظة، ثم انحنى على الصندوق ورفع غطاءه، فبدا الكأس نائمًا على جانبه، ثم قال وهو يرفع رأسه إليها: ما ألذَعَ سخريتَكِ يا سيِّدتي! ومع هذا فلن تجدي شعرةً بيضاء برأسي، وهل يستطيع من تقع عيناه على وجهكِ أن يحتفظ في قلبه بأدنى حرارة لامرأةٍ سواكِ؟!

فلم تُجبه، وما تزال تبتسم، ثم دعته للجلوس فجلس قريبًا منها. واستقبلَت على أثَر ذلك جماعةً من التجَّار وكبار المزارعين، منهم من يتردَّد على قصرها كلَّ مساء، ومنهم من لا تراه إلَّا في الأعياد والمناسبات، فرحَّبتْ بهم بابتسامتها الفاتنة، ثم رأت المثَّال هنفر يلج باب البهو بقامته الرشيقة، وحنجرته الناتئة، وشعره المفلفل، وأنفه الأفطس، وكان من الرجال الذين تستخفُّ ظلَّهم، فأعطَته يدها، ولَثمَها الرجل في حبٍّ عميق. وقالت تُداعبه: أيُّها الفنَّان الكسول.

ولم يرضَ هنفر عن هذا الوصف فقال: لقد انتهيتُ من عملي في زمنٍ قصير.

– والحجرة الصيفية؟

– هي الباقية بلا زخرف، وإنَّه ليؤسفني أن أقول لك بأنِّي لن أُزخرِفها بنفسي.

فبدا التساؤل على وجه رادوبيس، فقال الرجل: سأرتحل بعد غدٍ إلى بلاد النوبة؛ لأنَّ أمِّي مريضة، وقد بعثَت إليَّ رسولًا يُبلغِني رغبتَها في رؤيتي، فلم أرَ بُدًّا من السفر.

– خفَّفتِ الأرباب عنها وعنكَ.

فشكَرها هنفر وقال: لا تظنِّي أنِّي نسيتُ الحجرة الصيفية؛ ففي الغد يأتيك أنبغ تلاميذي بنامون بن بسار، ويقوم بزخرفتها على أكمل الوجوه، إنِّي أثق به ثقتي بنفسي، ولعلَّكِ تُرحِّبين به وتُشجِّعينه.

فشكَرته على عنايته بها، ووعدَته خيرًا.

واطَّردَ تيَّار القادمين، فجاء المعمار هني، وقفاه آني حاكم الجزيرة، وتبعَهما بعد حينٍ قليل الشاعر رامون حتب. وكان آخر من أتى الفيلسوف هوف، الذي كان في يومٍ من الأيَّام أستاذ جامعة أون الأكبر. وقد عاد أخيرًا إلى آبو مسقط رأسه، بعد أن نيَّف على السبعين من عمره، وكانت رادوبيس لا تفتأ تُداعبه، فقالت له وهي تستقبله: ما لي إذا رأيتُكَ أشتهي أن أقبِّلَك؟

فقال الرجل بهدوء: لعلَّكِ يا مولاتي من هُواة التُّحف القديمة.

•••

ودخلَت جماعةٌ من الجواري يحملن أواني من الفضَّة مُلئَت طِيبًا، وباقاتٍ من أزهار اللوتس، فدَهنَّ رءوس الحاضرين وأيديهم وصدورهم بالطِّيب، وأهدَين إلى كلٍّ منهم زهرةً من اللوتس.

وقالت رادوبيس بصوتٍ عالٍ: ألم تعلموا بما حدث لي اليوم؟

فتطلَّع إليها الجميع بانتباه، وساد الصمت، فقالت باسمة: نزلتُ أستحمُّ ظهر اليوم في البِركة، فهبَط نسر بغتةً وخطف فردة صندلي الذهبي، وطار بها.

فبدَت الدهشة والابتسامة على الوجوه، وقال الشاعر رامون حتب: إنَّ رؤيتَكِ في الماء عاريةً تهيِّج الطيور الكاسرة!

وقال عانن بحماس: أقسم بالربِّ سوتيس على أنَّ النسر كان يتمنى لو يخطف صاحبة الصندل.

فقالت رادوبيس آسفة: كم كان عزيزًا لديَّ!

فقال هنفر المثَّال: من المُحزن حقًّا أن يضيع شيء تمتَّع بلمسكِ أيامًا وأسابيع، وما مصيره في النهاية إلَّا السقوط، وقد يسقُط في حقلٍ ناءٍ فتطؤه قدم ريفية بسيطة!

فقالت رادوبيس بحزن: مهما يكن مصيره، فلن يعود إليَّ!

وكان الفيلسوف هوف يعجب لحزن رادوبيس على صندلٍ تافه، فقال يعزِّيها: على أيَّة حال إنَّ خطف النسر لصندلك فألٌ حسن، فلا تحزني.

فسأله أحد الأعيان المبرِّزين: وماذا ينقص رادوبيس من السعادة، وجميع هذه الوجوه من عشَّاقها؟

فردَّ عليه الفيلسوف قائلًا: وهو يَحدجُه بنظرةٍ ساخرة: ينقصها أن تتخلَّص من بعضهم!

ودخلَت جماعةٌ أخرى من الجواري يحملن أباريق الخمر وكئوس الشراب الذهبيَّة، ودُرْنَ بها على الحاضرين كلَّما لاح العطش على واحدٍ منهم روينَه بكأسٍ مترعة، تُطفي الظمأ في الفم، وتُوقد النار في القلوب. وقامت رادوبيس على مهَل، وسارت إلى الصندوق العاجيِّ، ورفعَت الكأس العجيبة، ومدَّت بها يدَيها إلى الساقية وهي تقول: لنشرب نخب السيِّد عانن لهديَّته الجميلة، وعودته السالمة.

فشربوا جميعًا هنيئًا، وشرب عانن كأسه حتَّى الثمالة، وأرسَل إلى الغانية نظرة امتنانٍ وشكران، ثم التفت إلى صاحبٍ له وقال: أليس من كُبريات النعم أن يجري ذكر اسمي على لسان رادوبيس؟

فأمَّن الرجل على قوله، وتنبَّه عند ذاك الحاكم آني إلى وجود السيد عانن، وكان يعرفه، ويعلم بأنَّه كان في رحلة في الجنوب، فقال له: عودٌ سعيد يا عانن، كيف كانت سفرتُكَ هذه المرَّة؟

فأحنَى الرجل رأسه احترامًا، وقال: حفظَتكَ الآلهة من كلِّ سُوء أيُّها الحاكم الجليل، لم أتوغَّل هذه المرة فيما وراء إقليم الواوايو، وكانت رحلةً موفَّقة موفورة الخيرات مأمونة العواقب.

– وكيف حال صاحب السموِّ كارفنرو حاكم الجنوب؟

– الحقُّ أنَّ سموَّه يلقى متاعبَ جمَّة بسبب تمرُّد قبائل المعصايو؛ فهم يُضمِرون الكراهية للمصريِّين، ويتربَّصون لهم، فإذا وقعوا على قافلةٍ هاجموها بلا رحمة، وقتلوا رجالها، ونهبوا تجارتها، ولاذوا بالفرار قبل أن تبلُغهم القوَّات المصرية.

فبدا الاستياء على وجه الحاكم، وسأل التاجر باهتمام: ولماذا لا يسير سموُّه إليهم بقوَّةٍ تأديبية؟

– إنَّ سموَّه لا ينفَك يُرسل قوَّاتِه في أعقابهم، ولكنَّهم لا يواجهون القوَّات الحربية، ويفرُّون في الصحاري والغابات، فتُضطَر القوَّات إلى العودة بعد نفاد المؤن. ويستأنف العصاة غاراتهم على طُرق القوافل.

وكان الفيلسوف هوف يُصغي بانتباه إلى كلام عانن، وكانت له خبرة ببلاد النوبة، وكان على علمٍ وافٍ بقضيَّة المعصايو، فسأل التاجر قائلًا: لماذا يُصرُّ المعصايو دائمًا على العصيان؟! .. إنَّ البلاد المشمولة بحكم مصر تتمتَّع في ظلِّه بالطمأنينة والرفاهية، ونحن لا نتعرَّض لعقائد غيرنا، فلماذا يناصبوننا العداوة؟

ولم يكُن عانن يُعنى بمعرفة الأسباب، وظنَّ أنَّ نفاسة التجارة هي التي تُغري القومَ بالانقضاض عليها، ولكنَّ الحاكم آني كان متبحِّرًا في هذه المسائل، فقال للفيلسوف: الحقُّ يا سيدي الأستاذ أنَّ المعصايو لا يرجع إلى أسبابٍ سياسية أو دينية. وحقيقة المسألة أنَّ القوم قبائل رحَّالة، يعيشون في أرضٍ جدباء، ويهدِّدهم الجوع في كل حين، وبين أيديهم كنوز من الذهب والفضَّة لا تُغني ولا تُشبع من جوع، فإذا انبرى المصريُّون لاستثمارها، هاجموهم ونهبوا قوافلهم.

فقال هوف: إذا كان الأمر كذلك، فالحملات التأديبية عديمة الجدوى، وإنِّي أذكُر يا سيدي الحاكم أنَّ الوزير أونا — تقدَّستْ روحه في عالم أوزوريس — منَّى نفسه يومًا بعقد معاهدةٍ معهم على أساس المنفعة المتبادلة، فيمدُّهم بالغذاء في مقابل أن يؤمِّنوا له طُرق القوافل .. هي فكرةٌ ثاقبة أليس كذلك؟

فهزَّ الحاكم رأسه دلالة على الموافقة، وقال: لقد أحيا رئيس الوزراء خنوم حتب مشروع الوزير أونا، وعقد المعاهدة قبل عيد النيل بأيَّام، ولن نعرف نتيجة سياسته قبل زمنٍ طويل، والمتفائلون كثيرون.

وكان الحاضرون ملُّوا سريعًا حديث السياسة، فانقسموا حلقات، ومنهم عانن، وشتَّتهم شجون الحديث، وحاولَت كلُّ حلقة أن تجذب رادوبيس إليها، ولكنَّ الغانية جذَبها اسم خنوم حتب، وذِكْر الهُتاف الذي دوَّى باسمه في أثناء سير الركب الفرعونيِّ، فعاودها استياءٌ غمرها وقتذاك وأحسَّت بلفحة غضب، فدلَفتْ إلى حيث يجلس آني، وهوف، وهنفر، وهني، ورامون حتب، وقالت بصوتٍ خافت: ألم تسمعوا ذلك الهُتاف العجيب؟

وكان زوَّار القصر الأبيض إخوة، لا تقوم بينهم كُلفة، ولا يعقل ألسنتَهم خوف، وكانت أحاديثهم تتناول كلَّ شيء في حريَّةٍ مطلَقة، وطمأنينةٍ كاملة. وقد سُمِعَ هوف مرَّاتٍ ينتقد سياسة الوزراء، كما سُمِعَ رامون حتب وهو يُبدي شكوكه ومخاوفه من تعاليم اللاهوت، ويُعلِن عن إيمانه باللذة ويدعو إلى متاع الدنيا.

وتناوَلَ المعمار هني جرعةً من كأسه، وقال وهو ينظُر إلى وجه رادوبيس الجميل: إنَّه هُتافٌ جريء لم يُسمَع بمثله من قبلُ في وادي النيل.

فقال هنفر: نعم، ولا شكَّ في أنَّه كان مفاجأةً محزنة لفرعون الشابِّ في أوَّل عهده بالحكم.

وقال هوف بهدوء: لم تَجرِ العادة قَط بأن يُهتَف باسم إنسانٍ ما مهما كانت مكانته، في حضرة فرعون!

فقالت رادوبيس بلهجةٍ دلَّت نبراتها على الغضب: ولكنَّهم خرقوا هذه العادة بمنتهى الوقاحة .. لماذا أقدموا على ذلك أيُّها السيد آني؟

فرفَع الرجل حاجبَيه الكثيفَين، وقال: أراكِ تسألين عمَّا يتحدَّث عنه الناس في الطرقات .. فكثيرٌ من العامَّة يعلم الآن أنَّ فرعون يرغب في أن يضُم كثيرًا من أملاك المعابد إلى أملاك التاج، وأن يستردَّ المِنَح الواسعة التي أسبغَها آباؤه وأجداده على رجال الكهنوت.

وقال الشاعر رامون حتب بلهجةٍ لم تخلُ من عنف: كان الكهنة دائمًا موضع عطف الفراعنة، يُقطِعونهم الأراضي، ويهَبونهم الأموال، حتَّى صاروا يملكون ثلث الأراضي المنزرعة، وتغَلغَل نفوذهم في الأقاليم، وبُسِط على الرقاب، ولا شكَّ أنَّ هناك وجوهًا من المنافع أحقُّ بالمال من المعابد.

فقال هوف: يزعُم الكهنة أنَّهم يصرفون ريع الأراضي على أعمال الإحسان والبر، ويصرِّحون دائمًا بأنَّهم يتنازلون عن أملاكهم عن طيب خاطرٍ إذا دعَت الضرورة إلى ذلك.

– وما هذه الضرورة؟

– أن تشتبك المملكة في حربٍ مثلًا تحتاج للإنفاق الكثير.

ففكَّرتِ الغانية قليلًا، ثم قالت: لا يجوز على أيِّ حالٍ أن يُناهِضوا رغبة الملك.

فقال الحاكم آني: لقد توَّرطوا في خطأٍ بالغ، وفوق ذلك فهم يبثُّون دعاتهم في الأقاليم، ويُدخِلون في رُوعِ الفلَّاحين أنَّهم يُدافعون عن أملاك الأرباب المعبودة.

فتساءلَت رادوبيس بدهشة: كيف تؤاتيهم شجاعتهم؟!

فقال آني: البلاد في سلام، والحرس الفرعونيُّ هو القوَّة المسلَّحة الوحيدة التي يُعتدُّ بها، والكهنة تؤاتيهم شجاعتهم إذا أيقنوا أنَّ قوَّة فرعون غيرُ كافية!

فتضايقَت رادوبيس وقالت بحنق: يا لهم من أوغاد!

فابتسم الفيلسوف هوف، ولم يكن يرضى أن يحبس رأيًا فقال: إذا أردتِّ الحق فالكهنة طائفةٌ مطهَّرة، تسهر على دين هذه الأمة وآدابها وتقاليدها الخالدة، أمَّا الطمع في السلطان فداءٌ قديم.

فحدَجه الشاعر رامون حتب بنظرةِ تَحدٍّ، وكان مغرمًا بإثارة الزوابع، وسألَه في اقتضاب: وخنوم حتب؟!

فهزَّ هوف كتفَيه استهانةً وقال بهدوئه الغريب: هو كاهنٌ كما ينبغي، وسياسيٌّ نافع، وليس مَنْ ينكر عليه قوَّة الإرادة، ونفاذ البصيرة.

وتمَلمَل الحاكم آني. وهزَّ رأسه بشيء من العنف، وقال: لم يثبُت إلى الآن إخلاصه للعرش!

فقالت رادوبيس بحدَّة: بل أعلَن غير ذلك!

ولم يكُن الفيلسوف يوافقهما، فقال: أنا أعرف خنوم حتب جيدًا، وهو بلا شكٍّ مخلص لمولاه ولوطنه.

فقال آني بغرابة: لم يَبقَ إلَّا أن تُصرِّح بأنَّ فرعونَ مخطئ!

– كلَّا .. إنَّ فرعون شابٌّ سامي الآمال، يرغب في أن يكسو بلاده حُلَّةً من البهاء، ولن يأتي ذلك إلَّا بالاستعانة بجانبٍ من موارد الكهنة.

فتساءل رامون حتب في حَيْرةٍ شديدة: فمَن المخطئ إذن؟!

فقال هوف: عسى أن يختلف اثنان وكلاهما على حقٍّ!

ولكنَّ رادوبيس لم ترتَح إلى تفسير الفيلسوف، ولم تَرضَ عن الموازنة التي يُجريها بين فرعون ووزيره، كأنَّهما ندَّان. وكانت تؤمن بحقيقةٍ ثابتة، وهي أنَّ فرعون سيد البلاد دون منازع، وأنَّه لا تجوز مخالفته بأيِّ حال ولأيِّ سبب، ونفَر قلبُها من كل رأيٍ يُخالف عقيدتها هذه، وصرَّحتْ برأيها لأصحابها، وختمَت كلامها بقولها: إنِّي أعجب متى آمنتُ بهذا الرأي؟!

فقال رامون حتب مداعبًا: حين وقعَت عيناكِ على فرعون لأوَّل مرة .. لا تُفرِطي في العَجَب فالجمال مقنع كالحقِّ سواءً بسواء.

وضاق صدر المثَّال هنفر فصاح بصوتٍ مسموع: أدِرنَ الكئوس أيَّتُها الجواري .. وهَلُمِّي أيَّتُها الغانية رادوبيس أسمعينا لحنًا شجيًّا، أو متِّعي أعيننا بحركةٍ من الرقص الرشيق، فإنَّ نفوسنا التي أسكَرتْها خمر مريوط، وهيَّأها العيد للفرح والمسرَّة، لَتَتُوق إلى نشوة الطرب ولذعة المجون.

فضَربَت عنه صفحًا، وأرادت أن تسترسل في حديثها، ولكن لاحت منها التفاتة إلى التاجر عانن، فرأَته كالنائم، وكان منفردًا بعيدًا عن الجماعاتِ، فتذكَّرتْ أنَّها أطالت المكث في حلقة آني، فانسحَبتْ من بينهم وسارت إلى التاجر، وصرخَت في وجهه: اصْحُ. فانتَبه الرجل فزعًا، ولكن سرعان ما أشرق وجهه لرؤيتها، فجلسَت إلى جانبه وسألَته: أكنتَ نائمًا؟

– بل كنتُ أحلُم.

– آه! .. فيمن؟

– في ليالي بيجة السعيدة، وكنتُ أسائل نفسي حيران: تُرى هل أفوز اليوم بإحدى هاتيك الليالي الخالدات؟! أيمكن أن أظفر الآن بمجرَّد وعد!

فهزَّت رأسها أنْ لا، فجزع، وسألها بخوفٍ وإشفاق: لِمَهْ؟

– قد تطلُبكَ نفسي، وقد تطلُب غيرك، فلِمَ أقيِّدُها بوعد خائن؟!

وتركَتْه إلى جماعةٍ أخرى كانت منهمكةً في الحديث والشرب، فرحَّبوا بها فيما يشبه الصياح، وأحاطوا بها من كل جانب، وقال واحدٌ منهم يُدعى شامة: ألا تشتركين معنا في الحديث؟

– وفيم تتحدَّثون؟

– يتساءل بعضنا عمَّا إذا كان الفنَّانون أهلًا للتكريم الذي يَحبُوهم به الفراعنة والوزراء.

– وهل أجمعتُم على رأي؟

– نعم يا مولاتي. على أنَّهم لا يستحقُّون شيئًا.

وكان شامة يتكلم بصوتٍ مرتفع لا يبالي شيئًا، فنظَرتْ رادوبيس إلى حيث يجلس الفنَّانون؛ رامون حتب، وهنفر وهني، وضحكَت ضحكةً ساخرة ذات جرسٍ فاتن ساحر، وقالت بصوتٍ يبلغ آذان الفنَّانين: ينبغي أن يكون هذا الحديث عامًّا، ألا تسمعون أيُّها السادة ما يُقال عنكم؟ .. يُقال هنا إنَّ الفنَّ عَرَضٌ تافه، وإنَّ الفنَّانين غير أهلٍ للتكريم .. فما رأيكم؟!

وعلَت فمَ الفيلسوف الشيخ ابتسامةٌ ساخرة، أمَّا الفنَّانون فقد نظروا إلى الجماعة التي تستهين بهم نظرةً متعالية، وابتسَم هنفر ابتسامةَ هُزء، أما رامون حتب فاصفرَّ وجهه غضبًا، لأنَّه كان شديد التأثُّر، وكان شامة معجبًا بما يقول لأصحابه فأعاد قوله بصوتٍ عالٍ قائلًا: إنِّي رجلُ عملٍ وجدٍّ، أضرب الأرض بيدٍ من حديد، فتذلُّ وتبذل لي خيراتها من الأنعُم السابغة، فأُفيد ويُفيد معي الآلاف من المحتاجين، كلُّ هذا دون حاجةٍ إلى قولٍ موزون أو لونٍ برَّاق.

وأدلى كلٌّ من الرجال بدَلْوه، إمًّا للتنفيس عن حقدٍ طال حفظه أو لمجرَّد الثرثرة والإعلان عن النفس، فقال أحد الكبار يُدعى رام: من الذي يحكُم ويسُوس الناس؟ .. من الذي يفتح البلدان ويغزو المعاقل؟ .. من الذي يجلب الثروة والخيرات؟ .. أُناسٌ غير الفنَّانين بلا ريب ..

وقال عانن وكان سريع التلبية للخمر: إنَّ الرجال يهيمون بحبِّ النساء، ويهذون بذكرهنَّ في خلواتهم، أمَّا الشعراء فيبسُطون هذيانهم في كلامٍ موزون، وإلى هنا لا يجد العاقل ما يؤاخذهم عليه إلَّا أنَّهم يضيِّعون وقتهم فيما لا طائل تحته، ولكنَّ السخافة والحماقة أن يطلبوا لهذيانهم ثمنًا من المجد والخلود.

وقال شامة مرةً أخرى: ويكذب آخرون كذبًا طويلًا منظَّمًا، ويهيمون في وديانٍ بعيدة ويستَوحون الأشباح والأوهام، يزعمون أنَّهم رُسُل وحيٍ كريم. والأطفال تكذب كذبَهم، وكثيرٌ من العامة، ولكنَّهم لا يزعمون شيئًا.

فضحكَت رادوبيس طويلًا، وانتقلَت من مجلسها إلى قريبٍ من هنفر، وقالت هازئة: ويحك أيُّها الرجل .. لماذا إذن تسير مختالًا فخورًا كأنَّك بلغتَ الجبال طُولًا؟

فابتسم المثَّال ابتسامةً صفراء، ولكنَّه لازم الصمت كصاحبَيه تعاليًا منهم عن الردِّ على «المتهجِّمين بغير علم»، وإن انطوى كلٌّ منهم على غضبٍ شديد، وكَرهَت رادوبيس أن تنتهي المعركة عند ذاك، فالتفتَت إلى الفيلسوف هوف ووجَّهتْ إليه هذا السؤال: وما رأيك أنتَ أيُّها الفيلسوف في الفنِّ والفنَّانين؟

– الفنُّ لهو ولعب، والفنَّانون لاعبون مَهَرَة.

ولم يستطع الفنَّانون أن يُخفوا غضبهم، فلم يملك الحاكم آني نفسه من الضحك. وتصايح التجَّار والملَّاك فرحين.

وصاح رامون حتب بغضب: أتريد أيُّها الفيلسوف أن تكون الحياة جدًّا خالصًا؟

فهزَّ الشيخ رأسه في هدوء، وقال والابتسامة لا تفارق شفتَيه: كلَّا، ما إلى هذا قصدتُ؛ فاللعب ضرورة، ولكن ينبغي أن تذكُر أنَّه لعب.

فسأله هنفر بتحدٍّ: هل الإبداع الملهم لعب؟

فقال الفيلسوف باستهانة: أنت تُسمِّيه الإلهام والإبداع، أمَّا أنا فأعلم أنَّه لعب الخيال.

ونظَرتْ رادوبيس إلى المعمار هني تحثُّه على خوض المعركة، وتُحاول أن تُخرجه عن صمته الطبيعي، ولكنَّ الرجل لم يُلبِّ إغراءها، لا استهانةً منه بالموضوع الذي يثير النقاش، ولكن اعتقادًا منه — إن حقًّا كان أو وهمًا — أنَّ هوف لا يعني ما يقول وأنَّه يُداعب هنفر ورامون حتب — على الأخصِّ— بأسلوبه القاسي. أمَّا الشاعر فاشتد به الغضب، ونسي أنَّه في قصر بيجة، وسأل الفيلسوف بلهجةٍ حاقدة: إذا كان الفنُّ لعبَ خيال، فلماذا يكلِّف أهله ما لا طاقة لهم به؟

– لأنَّه يتقاضاهم إغفالَ ما تعوَّدوا عليه من الفكر والمنطق، واللياذ بعالم الطفولة والخيال!

فهزَّ الشاعر كتفَيه استهانةً، وقال: إنَّ هذا الكلام لا يستحقُّ الردَّ عليه.

وأمَّن على قوله هنفر، وابتسم هني موافقًا، ولكن رامون حتب لم يستطع صبرًا، ولم يُطِق غضبه السكوت، فجال بناظرَيْه في الوجوه الساخرة، وقال بحدَّة: أليس يخلُق الفنُّ لكم لذَّةً وجمالًا؟

فقال له عانن، وهو لا يكاد يدري ما يقول لأنَّ الخمر كانت لعبَت برأسه: ما أتفه هذا!

فاحتدَّ الشاعر، وترك زهرة اللوتس تقع من يده وقال في عنف: ما بالُ هؤلاء الناس لا يفقهون لما يقولون معنًى. أيجوز أن أذكُر اللذة والجمال، فيُقال لي إنَّها شيءٌ تافه؟ .. وهل تُوجَد غاية في الدنيا وراء الجمال واللذة؟!

وطَرِب هنفر لقول رفيقه، وأخذَته نشوة حماس، فمال برأسه ناحية أُذن الغانية، وقال: صدَق وحقِّ جمالك يا رادوبيس، إنَّ الحياة تمضي كحُلمٍ سريع الزوال؛ فأنا أذكر مثلًا أنِّي حزنتُ لموت أبي حزنًا بالغًا وبكيتُه مرَّ البكاء، ولكنِّي الآن إذا عاودَتْني ذكراه أُسائل نفسي: أحقًّا عاش ذلك الإنسان على الأرض؟ أم أنَّه وهمٌ خادع يتراءى لي في غبَش الظلام؟! هكذا الحياة، فماذا أفاد الأقوياء بما أحدَثوا فيها من قوَّة؟ وماذا نال العاملون ممَّا أنتجوا من مال وثراء؟ وماذا اكتسب الحاكمون بما حكموا، وما ساسوا؟! هباءٌ في هباء .. قد تكون القوَّة حماقة، والحكمة خطأ، والثروة غرورًا. أمَّا اللذة فهي لذَّة، ولا يمكن أن تكون غير ذلك؛ فكلُّ ما خلا الجمال باطل!

فبدا الجِدُّ على وجه رادوبيس الفاتن، وقالت له وقد لاحت في عينَيها الأحلام: ومن يُدريك يا هنفر، فلعلَّ الجمال واللذَّة من الأباطيل أيضًا؟ ألا تُراني أُمضي العمر في دعة وانتهاب لذَّة، وتملِّي الحُسن والجمال؟ ومع هذا فكم يطاردني الملَل والسأَم!

ووجدَت رادوبيس أنَّ رامون حتب في حالةٍ سيِّئة، وطالعَت الاستياء في وجه هنفر، وصمت هني، فأشفقَت من إيلامهم، وعدَّت نفسها مسئولةً عمَّا أصابهم، فقالت تُغيِّر مجرى الحديث: حسبكُم أيُّها السادة .. فمهما قلتم فلن تنفكُّوا تطلبون الفن والفنَّانين، كم تحبُّون يا هؤلاء الخصام! إنَّكم لتجعلون السعادة نفسها موضوعًا للجدَل والخصام!

ضاق الحاكم آني بالحديث ذرعًا، فقال لها بتوسُّل: اطردي الخصام بلحنٍ من أغانيك السعيدة.

وكان الجميع يتوقون للسماع والطرب، فضمُّوا توسُّلاتهم إلى الحاكم، ووافقَت رادوبيس، وكانت شبعَت من الكلام، واستولى عليها قلقٌ غريب تردَّد عليها مرَّاتٍ في يومها، وظنَّت أنَّ الغناء أو الرقص يُزيله، فقامت إلى عرشها وأمرَت بالعازفات فجئنَ بالدفوف والقيثارة والناي والوَنَج والصَّفَّارة ووقفن وراءها صفًّا.

ثم أشارت بيدها العاجية، فأخذن جميعًا في التوقيع الجميل والنقر الرشيق، يهيِّئنَ لصوتها الرخيم جوًّا فاتنًا من الموسيقى والطرب، ثم مضت تُخفت أنغام آلاتهنَّ حتَّى صارت كهمس العاشقين الذاهلين، وأنشأت رادوبيس تغنِّي قصيدة رامون حتب:

يا من تسمعون إلى وعظ الحكماء، أعيروني آذانكم.
لقد شَهدَتِ الدنيا منذ الأزل زوال أسلافكم،
الذين عبَروا ساحتها عبور الخواطر في رأس الحالم.
وقد شَبعَت ضحكًا من وعدهم ووعيدهم، فأين
الفراعنة؟ أين الساسة؟ أين الغزاة؟ هل حقًّا
القبر عتبة الخلود؟ ولكن لم يأتِ من القبر رسول
يطمئِنُ قلوبنا، فلا يفوتكم طرب، ولا تفوتكم لذة.
لصَوتُ الساقي أبلغُ حكمةً من صُراخ الواعظ.

أنشدَت الغانية اللحن بصوتٍ إلهيٍّ حنون، أطلَق الأرواح من قيود الأجسام، فهامت في سموات الجمال والسعادة، وذُهلَت عن متاعب الأرض وهموم الدنيا، وشاركَت في التجلِّي الأعلى، وظلَّ القومُ بعد إمساكها نشاوى يتنهَّدون فرحًا وحزنًا ولذَّةً وألمًا.

وطَردَ الحبُّ من صدورهم كلَّ عاطفةٍ إلَّاه، فاستبَقوا إلى الشراب، وهدَفوا بأعينهم إلى الغانية تنتقل بين الجالسين، وتُداعبهم، وتُماجنهم، وتُشاربهم، ولمَّا دنت من آني همس في أذنها: أسعدتكِ الأرباب يا رادوبيس .. جئتكِ شبحًا مثقلًا بالتبِعات وأخال نفسي الآن طيرًا يحلِّق في السماء.

فابتسَمَت إليه وانتقلَت إلى جانب رامون حتب، وأهدَته زهرة لوتس عوضًا عمَّا فقَد، فقال لها: يقول هذا الشيخ إنَّ الفنَّ لعبُ خيال، ألا سحقًا لرأيه .. إنَّه ومضةٌ إلهيَّة تشعُّ من عينَيك، وتدور مع وجيب قلبي، ثم تأتي بالأعاجيب.

فقالت له ضاحكة: أيخرج منِّي شيءٌ يأتي بالأعاجيب، وأنا أعجز من الرضيع؟

ثم هُرعَت إلى حيث يجلس هوف، وجلَستْ إلى جانبه، ولم يكن ذاق خمرًا، فحدَجتْه بنظرةٍ فاتنة، فضحك الرجل، وقال متهكِّمًا: يا سوء ما اخترتِ جليسًا!

– ألا تُحبُّني كهؤلاء؟

– ليتَني أستطيع .. ولكنِّي أجد فيكِ ما يجده المقرور في المدفأة.

– إذن انصحني ماذا أصنع بحياتي لأنِّي اليوم أشكو؟

– أتَشكِين حقًّا .. أنعيمٌ وثراء وشكوى؟

– كيف غاب عنكَ هذا أيُّها الحكيم؟

– الجميع يشكو يا رادوبيس، طالما استمعتُ إلى شكَاة الفقراء والبائسين الذين يتلهَّفون على كسرة خبز، وطالما استمعتُ إلى شكاة السادة وهم يئنُّون تحت عبء التبِعات الجسام، وطالما استمعتُ إلى شكاة الأغنياء السادرين وقد برموا بالدعة والسعادة فالجميع يشكو، وما من فائدة تُرجى من التغيير، فاقنعي بما قُسِمَ لكِ.

– وهل يشكو الناس في عالم أوزوريس؟

فابتسم الشيخ وقال: آه! .. إنَّ صاحبك رامون حتب يهزأ بهذا العالم الخطير. أمَّا الكهنة العالمون فيقولون إنَّه عالم الأبدية، فصبرًا أيَّتُها الحسناء، إنَّكِ ما زلتِ قليلة التجارب.

فعاودَتها موجة المجون والسخرية، وأرادت أن تُداعب الفيلسوف، فقالت بلهجةٍ جدِّية متصنَّعة: أحقًّا أنِّي قليلة التجارب؟ .. إنَّك لم تَرَ ممَّا رأيتُ شيئًا.

– وماذا رأيتِ ممَّا لم أرَ؟

فأشارت ببنانها إلى القوم اللاهين وقالت ضاحكة: رأيتُ هؤلاء الرجال المبرِّزين، وصفوة مصر سيِّدة الدنيا، يسجدون عند قدميَّ، وقد رُدُّوا إلى الوحشيَّة، ونسوا حكمتهم ووقارهم، كأنَّهم كلابٌ أو كأنَّهم قِرَدة!

ثم ضحكَت ضحكةً رقيقة، وجَرتْ في خفَّة الغزلان إلى وسط البهو، وأشارت إلى العازفات فلعبت أناملُهنَّ بالأوتار، ورقصَت الغانية رقصة من رقصاتها المختارة التي يُبدِع فيها جسمها اللَّدِن، ويأتي بالمعجز من الخفَّة والتثنِّي، وغلَب الطربُ القوم على أنفسهم، فاشتركوا بكفِّهم مع الدفوف، واتَّقدَت في الأعين أنوارٌ خاطفة، وختمَت رقصتها، ثم طارت كالحمامة إلى عرشها، وجالت بعينَيها في أوجه القوم الجشعة، فرأت ما أضحكها قهرًا، وقالت: لكأنِّي بين الذئاب.

وأُعجب عانن الثمل بالتشبيه، وتمنَّى لو كان ذئبًا ليقتنص الشاة الجميلة، وحقَّقتْ له الخمر ما تمنَّى، وظنَّ نفسه ذئبًا حقًّا، فعوى بصوتٍ عالٍ ضجَّ له السادة ضحكًا، ولكنَّه ثابَر على العُواء، وانكبَّ على أربع وزحف صوب الغانية بين ضحك القوم العاصف، حتى صار منها على قيد شبر، ثم قال لها: اجعلي هذه الليلة من نصيبي.

ولكنَّها لم تردَّ عليه، والتفتَت إلى الحاكم آني، وقد جاء يُحيِّيها تحيَّة الوداع، فأعطَته يدها، ثم تلاه الفيلسوف هوف، وقد سألَته ضاحكة: ألا ترغب في أن أجعل هذه الليلة من نصيبك؟

فهزَّ رأسه ضاحكًا وقال: أيسر عليَّ أن أُسخَّر مع الأسرى في مناجمِ قفط!

ورجا كلٌّ أن تكون الليلة له، وألحف في الرجاء، وتنافَسوا في ذلك تنافُسًا شديدًا حتى حرج الأمر. وانبرى هنفر لإيجاد حلٍّ له فقال: ليكتب كلٌّ منكم اسمه في ورقة، ولنضع الأسماء جميعًا في صندوق عانن العاجيِّ، ثم تمُد رادوبيس يدها فتأخذ اسم السعيد الحظِّ.

واضطُرَّ الجميع إلى الموافقة وبادروا إلى كتابة أسمائهم، إلَّا عانن خشي أن تفلت الليلة من بين يدَيه فقال بتضرُّع: مولاتي .. أنا رجلُ سفر، اليومَ بين يديكِ، وغدًا في بلدٍ بعيد لا أبلُغه إلَّا بشقِّ الأنفس، وإنْ فاتَتْني الليلة فقد أخسرها إلى الأبد.

ولكن أثار دفاعُه ثائرة القوم، وردُّوا عليه هازئين، وكانت رادوبيس صامتة، تُشاهِد عشَّاقها بعينَين جامدتَين، وقد عاودَها القلقُ الغريب، فأحسَّت برغبة في الفرار والانفراد، وضَجرتْ من الصُّراخ، فأشارت لهم بيدها فكفَّوا وهم بين الأمل والخوف، فقالت: لا تُتعِبوا أنفسكم أيُّها السادة، فلن أكون الليلة لإنسان!

وجمدَت أفواههم ونظروا إليها منكرين، لا يصدِّقون آذانهم، ثم لم يلبثوا أن ضجُّوا بالاحتجاج، وجأروا بالشكوى، فوجدَت ألَّا فائدة تُرجى من توجيه الكلام إليهم، فقامت واقفة، وقد بدا على وجهها التصميم والعزم وقالت: إنِّي تَعِبَة .. دعوني أستريح!

ولوَّحَت لهم بيدها البضَّة وولَّتهم ظهرها، وغادَرتِ المكان على عَجل.

وصَعِدَت إلى مخدعها مسرورةً لما فعلَت، سعيدةً بخلاصها تلك الليلة، وما تزال تطنُّ بأذنيها تأوُّهات القوم الحارَّة .. وشَخصَت إلى النافذة رأسًا وأزاحت عنها الستارة، ونظَرتْ إلى الطريق المظلم، فرأت على البُعد أشباح عَجلاتٍ وهوادج تحمل النشاوى البائين بالحسرة والخِذلان، فلذَّ لها منظَرهم وارتسمَت على شفتَيها ابتسامةٌ ساخرة قاسية.

كيف فعلَت ما فعلَت؟ .. لا تدري! ولكنَّها تشعُر باضطراب وقلق.

واهًا .. ماذا وراء هذه الحياة الراتبة؟ لقد حارها الجواب، ولم يروِ غلَّتها الحكيم هوف نفسه، ثمَّ استلقت على سريرها الوثير، واستَسلمَت للأحلام، فمرَّت بصفحة خيالها حوادث اليوم العجيبة واحدة في أثَر الأخرى؛ فرأت جموع المصريِّين المحتشدة .. ورأت عينَي الساحرة المتَّقدتَين اللتَين جذبتاها إليها بقوَّةٍ قاهرة، وسمعَت صوتها البشع الذي يبعث الرعشة في المفاصل .. ثم شاهدَت فرعون الشابَّ في هالة المجد والجمال، ثم ذلك النسر الهصور الذي انقضَّ على فردة صندلها وطار بها إلى السماء. حقًّا كان يومًا حافلًا. ولعلَّ هذا أيقَظ عواطفها، وشرَّد خيالها، ووزَّع نفسها أشتاتًا، ممَّا ذهب ضحيَّةً له العشَّاق البائسون. إنَّ قلبها يخفق خفقانًا شديدًا، ونفسها تضطرم بلهيبٍ غامض، وخيالها يتيه بها في وديانٍ غريبة. وكأنَّها تودُّ أن تنتقل من حالٍ إلى حال، ولكن أيُّ حالٍ هذه؟! إنَّها حَيْرَى لا تدري شيئًا، فهل يكون ما بها نفثة سحرٍ أصابتها بها تلك الساحرة الملعونة؟!

إنَّ ما بها لَسِحرٌ مبين، فإن لم يكن سحرَ ساحر، فهو سِحْر الأقدار المسيطرة على المصائر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤