بنامون

وبرًّا بوعدها قصدَت لدى ضحى اليوم الثاني إلى الحجرة الصيفية بالحديقة، ووجدَت بنامون جالسًا إلى منضدة، باسطًا على سطحِها ورقةً من البرديِّ، يرسمُ عليها أشكالًا مختلفة ويبدو عليه آي الانهماك والتفكير. ولمَّا أحسَّ بوجودها، وضع قلمه وقام واقفًا وأحنى رأسه لها، فحيَّته بابتسامة وقالت: سأجعل لكَ هذه الساعة من الصباح، فهي التي أملكها من يومي الطويل.

فقال الشابُّ بصوته الخافت الخجول: شكرًا يا سيِّدتي، ولكنَّنا لن نبدأ اليوم؛ لأنَّني ما أزال أضع الفكرة العامَّة للزخرف.

فقالت: آه! لقد غرَّرتَ بي يا غلام.

– حاشاي يا سيِّدتي .. بل عنَّت لي فكرةٌ رائعة.

فنظرت إلى عينَيه الواسعتَين الصافيتَين بسخرية، وقالت: تُرى هل يستطيع حقًّا هذا الرأس الصغير، أن يُبدِع فكرة رائعة؟

فتخضَّب وجهه بالاحمرار، وقال بارتباكٍ وهو يشير إلى الجدار الأيمن: سأملأ هذا الفراغ بصورة وجهكِ وعُنقك.

– يا للهول! .. أخشى أن يأتي بشعًا مخيفًا.

– سيبدو جميلًا كما هو.

نطق الشابُّ بهذه العبارة ببساطةٍ وسذاجة، فحدَجتْه بنظرةٍ فاحصة، فسارع الارتباك إليه، وتحيَّرتْ عيناه الصافيتان، وأشفقَت عليه فنظَرتْ إلى الأمام حتى استقرَّ بصرها على البِركة خَلَلَ الباب الشرقيِّ للحجرة .. يا له من شابٍّ رقيق كالعذراء الساذجة! إنَّه يُهيِّج في صدرها حنانًا غريبًا، ويُوقِظ الأمومة النائمة في سراديب نفسها، والتفتَت إليه، فرأَته منكبًّا على عمله، ولكنَّه لم يكن متفرِّغًا له، وآية ذلك أنَّه كان ظاهر الارتباك مُوَرَّدَ الخدَّين، أليس ينبغي أن تتركَه وتذهب إلى حال سبيلها؟ ولكنَّها أحسَّت برغبة في التحدُّث معه، فأطاعت رغبتها وسألَته: أمِن أهل الجنوب أنتَ؟

فرفع الشابُّ رأسه، وقد اكتسى وجهه بنور فرحٍ بهيج، وقال: أنا من أمبوس يا سيدتي.

– أمبوس؟ .. أنت من شمال الجنوب إذن، ولكن ما الذي جمع بينك وبين المثَّال هنفر وهو من أهل بيلاق؟

– كان والدي من أصدقاء المثَّال هنفر، ولمَّا رأى تعلُّقي بالفنِّ أرسلني إليه ووصَّاه بي.

– وهل والدك من طائفة الفنَّانين؟

فصمت الشابُّ هنيهة، ثم قال: كلَّا .. كان والدي كبير أطبَّاء أمبوس، وكان نابغة في الكيمياء والتحنيط، وقد تعدَّدتْ اكتشافاته في طرائق التحنيط وتركيبات السموم.

ففَهمَت المرأة من سياق حديثه أنَّ والده مات، ولكنَّها عجبَت لاكتشافه تركيبات السموم، وسألَت الشابَّ: ولماذا كان يصنع السموم؟

فقال الشابُّ بلهجةٍ حزينة: كان يستعملها كأدويةٍ ناجعة، ويأخذها الأطبَّاء عنه، ولكنَّها وا أسفاه! كانت السبب في القضاء على حياته.

فسألَته باهتمامٍ شديد: كيف كان ذلك يا بنامون؟

– أذكُر يا سيدتي أنَّ والدي ركَّب سمًّا عجيبًا، وكان يفاخر دائمًا بقوله: «إنَّه أفتكُ السموم جميعًا، وإنَّه يقضي على ضحيَّته في ثوانٍ معدودة.» وسمَّاه لذلك «السُّم السعيد». وفي ليلةٍ أسيفة قضى الليل كلَّه في معمله يشتغل بلا انقطاع، وفي الصباح وُجد مُمَدَّدًا على مقعده فاقد الروح، وإلى جانبه قارورة سُمٍّ من ذاك السمِّ الفاتك مفضوضة السِّداد.

– يا لَلغرابة! .. هل انتحر؟

– من المُحَقَّقِ أنَّه تناول جرعة من السمِّ الفاتك، ولكن ما الذي دفعه إلى الهلاك؟ .. لقد دفَن سرَّه معه، واعتقدنا جميعًا أنَّ روحًا شيطانيًّا تلبَّسه، فأضلَّته الحكمة فأتى فعلتَه في حالة إعياء وذهول وفجَع أُسرتنا جميعًا.

واكتسى وجهه بحزنٍ عميق وانحنى رأسه على صدره. فأسفَت رادوبيس على إثارتها هذا الموضوع الأليم وسألَته: وهل أمُّك على قيد الحياة؟

– نعم يا سيدتي، وهي تعيش بقصرنا في أمبوس. أمَّا معمل والدي فلم يلج بابه إنسانٌ منذ تلك الليلة.

وعادت المرأة وهي تفكِّر في موت الطبيب بسار الغريب وفي سمومه المودَعة المعمل المغلَق.

وكان بنامون الإنسان الوحيد الغريب الذي يلُوح في أُفقها الهادئ المنطوي على الحبِّ والطمأنينة؛ وكان الوحيد كذلك الذي ينتهب من وقتها الموهوب للحبِّ ساعةً كلَّ صباح. على أنَّه لم يضايقها قَطُّ لأنَّه كان أرقَّ من الطيف. ومضَت الأيَّام وهي مغرقةٌ في الهوى وهو منكبٌّ على عمله، وحياة الفنِّ العالية تدبُّ في جدران الحجرة الصيفية.

وكان يسرُّها أن ترقب يدَه وهي تبثُّ في الحجرة روحًا من جمالها الرائع. وقد اقتنعَت بمقدرته الفائقة، ووقَر في نفسها أنَّه سيخلُف المثَّال هنفر في مستقبلٍ قريب. وقد سألَته يومًا وهي تهمُّ بمغادرة الغرفة بعد جلسة ساعة: ألا يلحقُكَ التعب أو السأَم؟

فابتسم الغلام بفخار وقال: هيهات.

– كأنَّكَ تندفع بقوَّة شيطان.

فأشرق وجهه الأسمر بابتسامةٍ وامضة، وقال بهدوء وسذاجة: بل بقوَّةِ الحبِّ.

وارتجف قلبها لوَقْع هذه الكلمة التي تُوقِظ في قلبها أشهى الذكريات، وتنادى إلى مخيِّلتها صورةٌ حبيبة محاطة بالبهاء والجلال، ولم يكن يُدرِك شيئًا ممَّا يقوم في نفسها، فاستدرك قائلًا: ألا تعلمين يا سيدتي أنَّ الفنَّ هوًى؟

– حقًّا؟!

فأشار إلى أعلى جبينها الذي وضَح رسمه على الجدران، وقال: هاكِ نفسي خالصة.

وكانت قد ملكَت عواطفها، فقالت بسخرية: يا لها من حجرٍ أصَم!

– كانت حجرًا قبل أن تمسَّها يداي، أمَّا اليومَ فهي نفسي.

فضحكَت قائلةً: يا لكَ من مغرق في حبِّ نفسه!

هكذا قالت وهي تُوليه ظهرها، ولكن وضَح على أثَر ذاك اليوم أنَّ نفسه ليست الشيء الوحيد الذي يُحبه، وكانت تسير في الحديقة على غير هُدًى كخاطرٍ حائر في دماغ حالمٍ سعيد، فأشرفَت بغتةً على الحجرة الصيفية، وساقها مَيلٌ إلى التسلية إلى اعتلاء ربوةٍ عالية في غابة الجميز، وإرسال النظر خَلَلَ نافذة الحجرة وكان وجهها الآخذ في الاستواء والاكتمال يُواجهها على الجدار المقابل، ورأت الفنَّان الشابَّ في أسفل الجدار، وكانت تظنُّه ينهمك في عمله كعادته، ولكنَّها وجدَته يجثو على ركبتَيه، ويداه مشتبكتان على صدره، ورأسه متَّجه إلى أعلى كأنَّه مستغرق في صلاة، إلَّا أنَّ رأسه كان متجهًا إلى ما تمَّ نحتُه من رأسها وجبينها.

ودفعَتها غريزتُها إلى الاختفاء وراء فرع شجرة ومضت تُراقبه خلسةً دَهِشَةً مذعورة، ورأَته يقوم واقفًا كأنَّه ينفتل من صلاته، ورأته يمسح عينَيه بطرف كمِّه الواسع، فخفق قلبها، ولبثَت برهةً لا تُبدي حراكًا، والسكون مُطبِق من حولها؛ لا يُسمَع بين آونة وأخرى سوى رفرفة البطِّ السابح على سطح الماء أو طنينه، ثمَّ التفتَت إلى الوراء وانحدَرتْ مسرعةً في طريقها إلى القصرِ.

وقَع ما طالما أشفقَت من وقوعه رحمةً به، وكانت تُطالِع معناه في عينَيه الصافيتَين كلَّما رنا بهما إليها، وما كانت تستطيع دفع الشرِّ، فهل تُباعِد بينه وبينها؟ هل تُغلق باب القصر في وجهه بأيَّة علَّة تعتلُّ بها عليه؟ .. لكنَّها أشفقَت من تعذيب نفسه الرفيعة وباتت في حَيْرة من أمرها.

على أنَّ حَيْرتها لم تطُل بها، ولم يكن شيءٌ في الوجود بقادر على أن يستبدَّ بوجدانها أكثر من ساعةٍ عابرة؛ لأنَّ عواطفها وإحساساتها جميعًا كانت نهب الحبِّ، ومِلْك يدَي حبيبٍ طموح لا يقنع من الحب بشيءٍ .. كان يطير إلى قصرها الحالم هاجرًا قصره ودنياه، غير آسف ولا متردِّد، فكانا يفرَّان معًا من الوجود ويلوذان بنفسَيهما العامرتين بالحبِّ، ويستسلمان لسحر الهوى وفتونه، ويصلَيان ناره، ويُشهِدان الحجرات والحديقة والأطيار على روعته وجبروته. وكان أقصى ما يلقيان من أسباب الهموم في أيَّامهما تلك أن تكتشف رادوبيس في الضحى بعد توديعه لها، أنها لم تسأله أعينَيها يُؤثِر بالشوق أم شفتَيها، أو أن يذكُر وهو في طريقه إلى قصره أنَّه لم يقبِّل ساقها اليمنى مثلما فعل قِبل اليسرى، وربَّما حملَه أسفُه على أن يكرَّ راجعًا لينفي عن حياته أتفه أسباب الهموم.

كانت أيامًا لا نظير لها في الأيام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤