النجم

كان اليوم هو أول أيام العام الميلادي الجديد، حين أعلنت ثلاثة مراصد فلكية في الوقت ذاته تقريبًا أن كوكب نبتون — أبعدَ الكواكب التي تدور حول الشمس — صارت حركته مضطربة للغاية. سبق للفلكي أوجيلفي أن نبَّه بالفعل إلى اشتباهه في تباطُؤ سرعة الكوكب في ديسمبر، لكنَّ خبرًا كهذا لم يكن ليَلفِت اهتمام كوكب لا يُدرِك أغلبُ سكانه وجودَ كوكب يحمل اسم نبتون، فضلًا عن أن ما اكتشفه علماء الفلك لاحقًا من وجود بُقعة باهتة وبعيدة من الضوء في نطاق الكوكب المضطرب لم يُثِر عظيم اكتراثٍ خارج دائرة علماء الفلك المتخصصين. إلا أن تلك المعلومات لفتت انتباه العلماء باعتبارها جديرة بالاهتمام، حتى قبل أن يكتشفوا أن هذا الجِرم الجديد يزداد حجمًا وضياءً، وأن حركته تختلف تمامًا عن الحركة المنتظمة للكواكب، وأن مسارات نبتون وأقماره سجَّلت درجاتِ انحرافٍ غيرَ مسبوقة.

يعجز أغلب مَن لا دراية لهم بعلم الفلك عن إدراك العزلة الهائلة المحيطة بالمجموعة الشمسية؛ فالشمس تسبح — بكواكبها الصغيرة وكُوَيْكباتها الضئيلة ومُذنَّباتها المتناهية الصغر — في فراغٍ شاسعٍ فسيح يكاد يعجز الخيال عن تَصوُّره؛ فلا يوجد بعد مدار نبتون سوى فضاءٍ خاوٍ من أي حرارةٍ أو ضوءٍ أو صوت، وذلك بحسب ما توصَّل إليه الرصد البشري؛ لا شيء سوى فراغٍ أجوف يمتد لملايين الملايين من الأميال. ذلك هو أدنى تقدير للمسافة التي تفصلنا عن أقرب النجوم إلينا. وباستثناء بضعة مُذنَّبات لا تعدو في ضآلتها مستصغر الشرر، لم ينمُ إلى المعرفة البشرية أن جسمًا قد عبر ذلك الفضاء السحيق حتى ظهَرَ ذلك الجِرم الغريب الهائم أوائلَ القرن العشرين. كان كتلةً هائلة من المادة، ضخمة وثقيلة، تندفع دون إنذار من ظلمات الفضاء الغامضة متَّجهةً نحو وهج شمسنا. وفي اليوم التالي صار ذلك الجِرم مرئيًّا بوضوحٍ لأي أداةِ رصد متواضعة؛ إذ بدا كنقطة ضوءٍ ذات محيطٍ معقولٍ ضمن كوكبة الأسد بالقرب من نجم المليك، ثم سرعان ما أصبح من الممكن رصده باستخدام أي منظار.

في اليوم الثالث من العام الجديد، أطلعَت الصحف قُرَّاءها في شطرَي الكرة الأرضية، ولأول مرةٍ، على الأهمية الحقيقية لهذا الطيف الغريب الهائم في الفضاء. «صدام الكواكب»؛ تصدَّر هذا العنوانُ الصفحةَ الأولى لإحدى صحف لندن للأخبار، مؤيدًا رأي دوشين القائل بأن هذا الكوكب الجديد الغريب غالبًا ما سيصطدم بكوكب نبتون. أسهبت أبرز الصحف في تناوُل الموضوع، فلم ينقضِ الثالث من يناير حتى ساد في أغلب عواصم العالم توقُّعٌ — لكنه مُبهَم — بوقوع ظاهرة وشيكة في السماء؛ وصوَّب الآلاف في جميع أنحاء العالم، عقب الغروب وبحلول المساء، أنظارَهم نحو السماء، لكنهم لم يَرَوا سوى النجوم المعروفة منذ القِدَم على هيئتها المعتادة.

ظل الوضع على حاله إلى أنْ لاحت بواكير الفجر في لندن، وأخذ رأس التوءم المؤخر — ذلك النجم العملاق — في الزوال، وبدا غيره من النجوم الكائنة في أعالي السماء خافتةً شاحبة. كان فجرًا شتويًّا؛ حيث تجمعت خيوط النهار الأولى شاحبةً خافتة، وانبعثت أضواء مصابيح الغاز والشموع بلونها الأصفر من النوافذ تكشف استيقاظ الناس من نومهم. لكن رجل الشرطة الذي كان يقاوم النعاس رأى ذلك الشيءَ، ورأته تلك الجموعُ المنشغلة في الأسواق التي وقفت فاغرة الأفواه، وكذلك العمال المتوجهون إلى أشغالهم مبكرًا، وبائعو اللبن، وسائقو عربات توزيع الصحف، والسكارى العائدون إلى منازلهم منهكين وشاحبين، والمشردون، والخفراء وهم يحرسون مناطقهم، والفلاحون في القرى حين كانوا يسيرون متثاقلين إلى حقولهم، والصيادون وهم ينسلُّون من بيوتهم؛ وهكذا شُوهِد في جميع أنحاء البلاد المعتمة التي كانت تنفض عنها بقايا الليل وتستعدُّ ليوم جديد. ولم يقتصر الأمر على مَن كانوا يعيشون على اليابسة؛ فقد رآه البحَّارة المتطلِّعون لبزوغ الصبح في عُرْض البحر؛ إنه نجم أبيض عظيم، لاح فجأةً في السماء من جهة المغرب!

كان أشد لمعانًا من أي نجمٍ آخر في السماء؛ أشد ضياءً من الزُّهَرة في أَوجِه. وقد صار يتوهَّج مُطلِقًا هالةً بيضاء ضخمة، ولم يَعُد مجرد بقعةِ ضوءٍ لامعة، بل بَدَا بعد ساعةٍ من بزوغ الصبح قرصًا دائريًّا صغيرًا، صافيًا ومتألقًا. وحين ظهر هذا النجم في الأقطار التي لم يصل إليها نور العلم، وقف مَن شاهدوه ذاهلين خائفين، يتناقلون أنباءَ الحروب والأوبئة التي تُنذِر بها تلك الإرهاصاتُ المتوهجة في الأفق. جماعاتُ البوير الأشداء، وشعوبُ هوتنتوت السُّمر، وزنوج جولد كوست، والفرنسيون، والإسبان، والبرتغاليون؛ وقفتْ كل تلك الأجناس تحت وهج الشمس المشرقة لتشهد منظرَ هذا النجم الجديد الغريب.

وفي مائة مرصد ساد انفعالٌ مكتوم أخذ يتصاعد حتى كاد يبلغ حدَّ الصراخ مع رصد الجِرْمين البعيدين بينما ينطلقان معًا، وهُرِع العلماء هنا وهناك لحشد معدات التصوير الفوتوغرافي وقياس الطيف، وأسرعوا لتجهيز شتى أنواع الآلات لتسجيل هذا المشهد المذهل الفريد؛ مشهدِ دمارِ كوكب. كان هذا الكوكب أحدَ أشقاء الأرض في المجموعة الشمسية، لكنه أكبر كثيرًا منها، وإذا به يندفع بسرعةٍ هائلة نحو الموت المستعر. كان هذا الكوكب هو نبتون، وقد اصطدم به الجسم الغريب القادم من الفضاء الخارجي اصطدامًا تامًّا مباشرًا، حوَّلت شدته المُزلزِلة وحرارته الكرتين الفضائيتين في الحال إلى كتلةٍ واحدة هائلة من الوهج. في ذلك اليوم، شُوهِد هذا النجم الأبيض العظيم قبل الشروق بساعتين في جميع أنحاء العالم باهتًا وآفلًا بينما كان ينحدر ناحية المغرب وقد علت فوقه الشمس. لقد ظل البشر في كل أنحاء البسيطة مذهولين أمام هذا المشهد، لكن أشدَّهم ذهولًا كانوا أولئك البحَّارة، الذين اعتادوا مراقبة النجوم؛ فهم في عُزلتهم بين عُباب البحار لم يسمعوا قط عن دُنوِّه، ثم فوجئوا بسطوعه مثل قمرٍ قزم، وارتقائه عَنان السماء حتى استقرَّ فوق رءوسهم في كبدها، ثم انحداره غربًا بانقضاء الليل.

ثم حين لاح النجم فوق أوروبا، احتشدت الجموع في كل مكان؛ على التلال، وفوق أسطح المنازل، وفي الأماكن المفتوحة، تُحدِّق جميعها ناحيةَ المشرق ترقُّبًا لسطوع النجم الجديد العظيم. ثم بزغ أخيرًا يتقدَّمه بريقٌ أبيض، كوهج نيران بيضاء، ومَن رَأَوا ظهوره الليلة السابقة لم يتمالكوا أنفسهم فصاحوا عند رؤيته: «إنه أكبر! إنه أشد لمعانًا!» وكان ذلك صحيحًا؛ فبالرغم من أن حجمه لم يكن ليُقارَن بالحجم الفعلي للقمر، الذي بدأ رحلة المغيب شرقًا ولم يكن مكتملًا آنذاك، فإن لمعانه وبريقه كانا أشد وأقوى من لمعان وبريق القمر، حتى وهو في تمامه.

هتف المتجمعون في الطرقات: «إنه أكثر تألقًا!» أما في المراصد المنعزلة، فقد حبس المراقبون أنفاسهم وتبادلوا النظرات فيما بينهم، ثم صاحوا قائلين: «إنه أقرب! أقرب!»

ثم راحت الأصوات تردِّد: «إنه أقرب!» وسرعان ما التقطت معدات التلغراف الخبر، وتناقلته الأسلاك الهاتفية، وانهمك عمَّال الطباعة الملطَّخون بالأحبار في تنضيد الحروف التالية: «إنه أقرب». ألقى الكَتَبة في المكاتب أقلامهم، مصدومين بإدراكٍ غريب، ووقف الناس يتحدثون في مئات المواقع حول العالَم عن احتمالٍ بَشِع تنطوي عليه هاتان الكلمتان: «إنه أقرب». طار الخبر عبر طرقات المدن النابضة بالحياة، وتردَّد صداه في أَزِقَّة القرى الساكنة التي يَلفُّها الهدوء، ومَن علموا به من الصحف وقفوا على مداخل الطرقات تحت أضواء الشموع يُلقون بالأنباء على المارة. «إنه أقرب!» قالتها في تندُّرٍ سيداتٌ حسناوات متألقات، تنضح وجوههن باللون الوردي، بعدما سمعْنَ الأنباء أثناء الاستراحة بين الرقصات، وقد تظاهرْنَ باهتمامٍ واعٍ لم يساورهن في الحقيقة. «أقرب! حقًّا. يا له من أمرٍ غريب! لا بد أن البشر أذكياء للغاية حيث استطاعوا اكتشاف أمورٍ كهذه!»

حاول الصعاليك الفُرادى إيجادَ سَلواهم بينما يُمضُون لياليَ الشتاء في التسكع بأن تَطلَّعوا إلى السماء هامسين لأنفسهم: «لا بد أن يقترب؛ فالليل بارد جدًّا. لكن بالرغم من دُنوِّه لا يبدو أنه يمدنا بمزيدٍ من الدفء.»

«وما لي وللنجم الجديد؟» شهقت بها امرأة باكية وقد جثت بجوار فقيدها.

استيقظ تلميذ باكرًا استعدادًا للامتحان، وشاهد النجم الأبيض العظيم ساطعًا بهالته الواسعة المتوهجة وقد نفذ بريقه عبر أزهار الصقيع النابتة عند نافذته، فوضع ذقنه على كفه وقال محاولًا تفسير تلك الظاهرة الفلكية لنفسه: «قوة الطرد المركزي، وقوة الجذب المركزي. تُوقِف كوكبًا أثناء دورانه، وتسلبه قوة طرده المركزية. ثم ماذا؟ تستولي عليه قوة الجذب المركزي، ثم يهوي نحو الشمس فتبتلعه! وهكذا …»

«هل يقع كوكبنا في طريقه؟ هل يا ترى …؟»

مضى نهار ذلك اليوم كسابقيه، وسطع النجم الغريب مجددًا مع حلول الليل بظلامه الدامس وصقيعه القارس. صار النجم الآن في غاية اللمعان، حتى إن القمر لَيبدو، وقد قارب على التمام، طيفًا ضخمًا ذا لونٍ أصفر باهت وقد توسَّط السماءَ وقت المغيب. تزوَّج أحد الوجهاء في قريةٍ من قرى جنوب أفريقيا، فأُضيئت الشوارع فرحًا لاستقباله وعروسه، فقال أحد المهنئين مُداهنًا: «حتى السماء قد أشرقت أنوارها.» تحت كوكبة الجدي، تحدَّى عاشقان زِنجيَّان ببسالةٍ وحوشَ البَرِّية والأرواح الشريرة في سبيل حُبِّهما، فجثما بين أحراش الخيزران وقد حلق اليراع المضيء فوقهما. تهامَسَ المحبان: «ذلك هو نجمنا.» وقد أضفى عليهما بريقُه طمأنينةً غريبة.

كان عالِم الرياضيات الحاذق جالسًا في غرفته الخاصة حين أزاح الأوراق بعيدًا عنه، فقد أنهى عملياته الحسابية. لا يزال هناك القليل من ذلك العقَّار الذي أبقاه متيقظًا ونَشِطًا لأربع ليالٍ طوال، وقد احتفظ به في قِنِّينة صغيرة شفافة. اعتاد أن يُمضيَ نهاره في إلقاء المحاضرات على طلابه مُتحليًا بالهدوء، والوضوح، والصبر، ثم يعود على الفور إلى حساباته الخطيرة. كان الرجل ذا وجهٍ مَهيب، وقد عَلتْه علامات الإنهاك والحمرة قليلًا من جرَّاء نشاطه المفرط الذي ولَّده العقَّار. بدا عالم الرياضيات مستغرقًا في التفكير لفترةٍ طويلة، ثم توجَّه نحو النافذة ورفع الستائر المعدنية، فلمح النجم ساطعًا في كبد السماء، فوق أسطح المنازل المتجاورة، والمداخن، وأبراج الكنائس.

نظر إليه نظرةَ الرجل إلى عينَيْ خَصمٍ جسور، ثم قال بعد برهةِ صمت: «ربما تقتلني، لكنني أستطيع أن أستحوذ عليك، بل على الكون أجمع أيضًا، في قبضة هذا العقل الصغير. لن أتغيَّر، حتى في تلك المرحلة.»

الْتَفت إلى القِنينة الصغيرة قائلًا: «لا حاجة بي إلى النوم بعد الآن.» وفي ظهيرة اليوم التالي، دخل إلى قاعة المحاضرات في موعده بالضبط، وضَعَ قبعته على طرف الطاولة كعادته واختار بعنايةٍ قطعةً كبيرة من الطباشير. اعتاد طلابه على التندُّر بتلك العادة، مُدَّعين أنه لا يستطيع التدريس دون أن يقلِّب بين أصابعه قطعةَ طباشير، وقد عجز ذات مرةٍ عن الشرح بعد أن أخفَوا الطباشير عنه. دخل الرياضي القدير وتطلَّع بعينين يعلوهما حاجبان رماديان إلى الوجوه الغضَّة الناضرة لطلابه الجالسين على المدرجات، وبدأ الحديث بأسلوبه المتأني المعتاد.

ابتدر طلابه قائلًا: «لقد جدَّتْ ظروف؛ ظروف خارجة عن إرادتي.» وصمت هنيهة ثم أردف قائلًا: «سوف تمنعني من إكمال المقرر الذي خططتُ لتدريسه. يبدو، أيها السادة، إذا جاز لي التعبير عن الأمر بوضوحٍ وإيجاز، أن الإنسان قد عاش حياته عبثًا.»

تبادل الطلاب النظرات؛ أصحيح ما سمعوه؟ تُرى هل جُنَّ أستاذهم؟ قابل الطلابُ كلماتِه بحواجب مرفوعة ووجوه مُتجهِّمة، اللهم إلا وجهًا أو اثنين لم يَرفعا أعينهما عن وجهه الهادئ ذي الطُّرة الرمادية. قال مضيفًا: «سيكون من الشائق أن أُكرِّس هذا الصباحَ لأُوضِّح لكم، بقدر ما أستطيع، العمليات الحسابية التي قادتني إلى هذه النتيجة. لنفترض أن …»

ثم التفت متجهًا إلى السبورة منتويًا رسم شكلٍ إيضاحي بالطريقة المعتادة له. همس أحد الطلاب لزميله: «ماذا يعني بقوله «عاش حياته عبثًا»؟» فأجاب وهو يومئ برأسه للمحاضر: «أنصِت.»

وسرعان ما بدءوا يفهمون.

بزغ النجم تلك الليلة متأخرًا، فقد ساقته حركته نحو الشرق بطريقةٍ ما نحو كوكبة العذراء، متجاوزًا كوكبة الأسد. بلغ تألقه تلك الليلةَ حدًّا عظيمًا، بحيث بدت السماء بسطوعه ذات لونٍ أزرق وهَّاج، وتوارَتْ بجانبه غيرُه من الأجرام السماوية، عدا المُشترِي قريبًا من سمت الرأس، ونجم العيوق، والدَّبَران، والشِّعْرى، والنجوم المؤشرة التابعة لكوكبة الدب. كان ساطع البياض وغايةً في الجمال، شُوهِد تلك الليلة في كثيرٍ من أنحاء العالم وقد أحاطت به هالة باهتة من الضوء. كان من الواضح أنه ازداد حجمًا؛ فحين سطع في السماء الانكسارية الصافية فوق المنطقة الاستوائية، كان حجمه ربع حجم القمر تقريبًا. كانت الأرض في إنجلترا لم تزل مغطاةً بالصقيع، غير أن الدنيا كانت ساطعة الإضاءة وكأنها ليلة مقمرة من ليالي منتصف الصيف؛ كان بإمكان المرء قراءة خطٍّ متوسط الحجم على ذلك الضوء الصافي البارد. أما في المدن، فقد خفتت إلى جواره أضواءُ المصابيح وبدت صفراءَ باهتة.

بات العالم أجمع يقظًا تلك الليلة، وشهدت جميع أنحاء العالم المسيحي همهمةً كئيبةً سرت في الهواء القارس البرودة فوق المناطق الريفية كطنين النحل بين أزهار الخلنج، بينما تعالت تلك الموجة من الهمهمات إلى ضجةٍ رنانة في المدن؛ فقد دُقَّت الأجراس في مليون برج من أبراج الكنائس، داعيةً الناس إلى الامتناع عن النوم، والامتناع عن الخطايا، والاحتشاد في الكنائس لأداء الصلاة، وعندما دارت الأرض في مسارها وانقضى الليل، سطع فوقهم النجم المتلألئ، وقد ازداد حجمًا وتألقًا.

بقيت الشوارع والمنازل مضاءةً في جميع المدن، وظلت ترسانات السفن متألقةَ الأنوار، وباتت جميع الطرق المؤدية إلى المرتفعات مضاءةً ومزدحمة طوالَ الليل. أما في جميع البحار المحيطة بالبلدان المتحضرة، فقد توقَّفت السفن ذات المحركات الهادرة وتلك ذات الأشرعة الخفَّاقة في عُرْض المحيط نحو الشمال، مشحونةً بالبشر وغيرهم من الأحياء. لقد انتقلت تحذيرات عالِم الرياضيات إلى جميع أنحاء المعمورة عبر التلغراف وتُرجِمت إلى مائة لغة. لقد اتحد النجم الجديد مع نبتون في عناقٍ ناري، وراحا يلفان في حركةٍ دائرية حثيثة، مندفعَين بسرعةٍ أكبر نحو الشمس. كل ثانيةٍ تمضي تقطع هذه الكتلة المستعرة مائةَ ميل وتزداد سرعتها الرهيبة، ووفقًا لمسارها الحالي، لا بد أنها ستمر على مسافة مائة مليون ميل بعيدًا عن الأرض، ولن يكون لها تأثيرٌ يُذكر عليها. لكن بالقرب من المسار المحتوم لهذه الكتلة الذي لم يتغير إلى حدٍّ كبير، يدور كوكب المُشترِي العملاق بأقماره حول الشمس في تألُّقٍ وبهاء، وكل لحظة تمر تشهد تناميًا في قوة الجاذبية بين النجم المتوهِّج والكوكب العملاق. فما نتيجة تلك الجاذبية؟ سينحرف المُشترِي لا محالةَ عن مداره متخذًا مسارًا إهليجيًّا، بينما سيتأرجح النجم الوهَّاج بفعل جاذبيته بعيدًا عن اندفاعه المحموم نحو الشمس، مُشكِّلًا مسارًا منحنيًا، ومن المؤكد أنه سيمرُّ قريبًا جدًّا من الأرض، وربما يصطدم بها مباشَرةً. «زلازل، وبراكين، وأعاصير، وتسونامي، وفيضانات، وارتفاع مُطَّرد في درجة الحرارة لا أدري له حدًّا.» هذا ما تنبَّأ به عالِم الرياضيات الحاذق.

وفوق الرءوس، توهَّج النجم المنذر بالفناء المحيق وحيدًا وقاسيًا ومستعرًا في وهج أشهب، وكأنه يبرهن على صدق نبوءة عالِم الرياضيات.

كان من الواضح بالنسبة إلى مَن أمضَوا تلك الليلة مُحدِّقين فيه، حتى آلمتهم أعينهم، أن النجم يدنو أكثر فأكثر، كما شهدَتِ الليلةُ ذاتها تغيُّرًا في حالة الطقس؛ فالصقيعُ الذي ساد وسط أوروبا وفرنسا وإنجلترا صار ليِّنًا وأقرب إلى الذوبان.

لكنْ إياك أن يدفعك حديثي عمَّن يُصلُّون طوال الليل، ومَن استقلُّوا السفن، ومَن آوَوا إلى المناطق الجبلية؛ إلى تصوُّرِ أنَّ العالم أجمع قد غرق بالفعل في حالةٍ من الهلع بسبب النجم؛ فالعاداتُ والأعراف لم تَزل لها اليد العليا، وفيما عدا بعض الأحاديث في لحظات الفراغ والليل ببهائه وروعته، فإن تسعة أشخاص من بين كل عشرةٍ لم يتوقفوا عن مزاولة مهنهم المعتادة؛ ففي جميع المدن، استمرت المحالُّ التجارية — اللهم إلا محلًّا هنا ومحلًّا هناك — في فتح أبوابها وإغلاقها في المواعيد المعتادة، وواصل الطبيب والحانوتي ممارسة أنشطتهما، واجتمع العمال في المصانع، وأدَّى الجنود تدريباتهم العسكرية، وتابَعَ الطلاب دراساتهم، والتمس المُحبون وصالَ بعضهم بعضًا، واستأنف اللصوص دَيدَنهم في الاختباء والهروب، ومضى الساسة يرسمون خططهم. باتت مطابع الصحف تعمل طوالَ الليل، وكَمْ من قَسٍّ أبى أن يفتح أبواب كنيسته لاحتواء ما اعتبره هلعًا أحمق. شدَّدت الصحف على درس عام ١٠٠٠، فالبشر آنذاك توقَّعوا النهاية أيضًا. إن هذا النجم ليس بنجم، بل مجرد غاز، بل هو مذنب، وحتى لو كان نجمًا، فلا يمكن أن يصطدم بالأرض، فلم يحدث ذلك من قبل. بدا الرأي العام صارمًا ومتماسكًا في كل مكان، هازئًا، ومتندرًا، وميَّالًا قليلًا إلى اضطهاد الخائفين المعاندين. سيصل النجم تلك الليلة إلى أقرب نقطة من المُشترِي، وذلك في الساعة السابعة والربع بتوقيت جرينتش، وعندها سيرى العالم كيف ستنحو الأمور. تعامَلَ الكثيرون مع التحذيرات القاتمة التي أطلقها عالِم الرياضيات باعتبارها مجرد محاولة مُضنِيَة للترويج لنفسه واكتساب الشهرة. وآثر الرأيُ العام في نهاية المطاف — بعد جدلٍ وانفعال — التدليلَ على قناعاته الراسخة بالخلود إلى النوم، بل إن الوحوش والهمج اتبعوا النهج ذاته بعد أن سئموا غرابةَ الأحداث فاستغرقوا في نشاطاتهم الليلية، وباستثناء عُواء بضعة كلاب هنا وهناك، أدارت الوحوش ظهورها للنجم غير آبِهةٍ به.

لكن حين شاهَدَ سكان أوروبا بزوغ النجم في النهاية بعد ساعة، لم يبدُ أكبر مما كان الليلة السابقة، وبالرغم من ذلك ظل الكثيرون أيقاظًا للتهكم بتحذيرات عالِم الرياضيات، وقد حسبوا الخطر تلاشى.

غير أن الضحكات سرعان ما انقطعت؛ فقد ازداد النجم حجمًا، ازداد باطِّرادٍ مُفزِع ساعةً بعد ساعة، فلا تمر ساعة إلا وكبر قليلًا واقترب قليلًا من كبد السماء وازداد لمعانًا وتألقًا، حتى إن الليل استحال بضوئه نهارًا وضَّاحًا. لو كان هذا النجم سلك مسارًا مستقيمًا نحو الأرض بدلًا من ذلك المسار المنحني، ولو كان اندفع نحو المُشترِي بأقصى سرعته، لَقطَعَ تلك الهُوَّة التي تفصله عنا في يومٍ واحد، لكنه بوضعه الحالي استغرق خمسة أيام للاقتراب من كوكبنا. في الليلة التالية، صار النجم ثلثَ حجم القمر قبل أن يتجلَّى لسكان إنجلترا، وبقي الطقس دفيئًا. وحين سطع فوق الأمريكتين كان قريبًا من حجم القمر، لكن ضوءه الأبيض كان وهَّاجًا للغاية حتى تعذَّرَ النظر مباشَرةً إليه، كما أنه كان شديد الحرارة وهبَّتْ معه الآن ريحٌ سَمومٌ عاتية. أما في فيرجينيا، والبرازيل، وعبر وادي سانت لورانس، فبدا النجم بين بزوغٍ وأفولٍ وسط ركامٍ عاصف من السُّحب الرعدية ووميضِ برقٍ بنفسجي بين الفَينة والأخرى، بالإضافة إلى وابلٍ غير مسبوقٍ من البَرَد، كما شهدت مقاطعة مانيتوبا ذوبانًا للجليد وفيضانات عارمة. في تلك الليلة، بدأت تذوب طبقات الجليد والثلوج التي كانت تغطي جميع جبال الأرض، وفاضت جميع الأنهار من منابعها في المرتفعات وتدفَّقت مضطربةً مُوحِلة حاملة معها أغصانَ الأشجار الملتفة وأجسادَ البشر والحيوانات. ازداد ارتفاع الأنهار ازديادًا مُطردًا في ظل ذلك البهاء الرهيب، إلى أن تحدَّرت أخيرًا رويدًا رويدًا فوق ضفافها، وفرَّ أمامها سكان الأودية تاركين قُرَاهم وبيوتهم.

ارتفع المد على طول ساحل الأرجنتين وصولًا إلى جنوب المحيط الأطلنطي وبلغ مستوًى لم يعهده البشر من قبل، وجرفت العواصفُ العاتية المياهَ في كثير من الحالات لعشرات الأميال داخل اليابسة، متسبِّبةً في غرق مدنٍ كاملة. تصاعدت درجة الحرارة ليلًا، حتى إن الشمس لما طلعت كانت بمنزلة ظِل باهت. بدأت الزلازل وازدادت حتى شملت الأمريكتين، بدءًا من الدائرة القطبية الشمالية وصولًا إلى كيب هورن، وسط انهياراتٍ لسفوح التلال وتصدُّعاتٍ في المرتفعات وتهدُّم المنازل والجدران وتحوُّلها إلى حُطام. انزاح جانب كامل من بركان كوتوباكسي في هزةٍ واحدةٍ هائلة، وإذا بحمم اللافا السائلة تندفع في لمح البصر عاليًا وعلى نطاقٍ واسع حتى بلغت في يومٍ مياهَ البحر.

مضى النجم، والقمر في عقبه باهتٌ خافت، متقدمًا عبر المحيط الهادئ، جارًّا خلفه العواصفَ الرعدية وكأنها طرف ثوبه، وأمواجَ المد المتنامية هائجة مائجة، وقد صبَّت جامَ غضبها على جزيرةٍ تلو الأخرى طاردةً منها سكانها، إلى أن أقبلت تلك الموجة الأخيرة، خاطفة ومروعة، وسط ضوءٍ ساطع وحَرٍّ لافح، وقد بدت في ارتفاعها الذي قارَبَ الخمسين قدمًا جدارًا من ماء، وخُيِّل إلى السامع أن هديرها كأنه زمجرة ليثٍ جائع؛ فقد انقضَّت على سواحل آسيا الممتدة، واكتسحت اليابسة وصولًا إلى سهول الصين. أضحى النجم الآن أشدَّ حرارةً من الشمس في ذروتها، وأكبر منها حجمًا وأقوى توهجًا، وغمر البلدَ الواسع المكتظ بالسكان بضياءٍ قاسٍ؛ غمر البلداتِ والقرى بمعابدها الشاهقة وأشجارها السامقة وطرقها وحقولها الفسيحة المثمرة وملايين البشر الذين هجروا النوم وأمضَوا أيامَهم شاخصةً أبصارُهم في هلعٍ عاجزٍ نحو السماء المُتقدة؛ ثم دمدم الطوفان وتعالى جَيَشانه. وقف ملايين البشر تلك الليلةَ عاجزين عن الهرب؛ فقد أثقل الحرُّ أقدامَهم وكتم أنفاسَهم، والطوفان من خلفهم يعلو فوقهم مثل جدارٍ أبيض، ثم هوى عليهم في لمح البصر وابتلعهم الموت.

أضاء الصينَ وهجٌ أبيض متقد، غير أن النجم العظيم بدا فوق اليابان وجاوة وجميع جزر شرق آسيا كرةً من لهيبٍ أحمرَ قانٍ إثرَ الأبخرة والأدخنة وذرات الرماد التي أطلقتها البراكين أمامه وكأنها تُحيِّي مَقْدمه. أصبح البشر بين شِقَّي الرَّحَى: حمم اللافا، والغازات الملتهبة، والرماد من فوقهم، والفيضانات الثائرة تموج من تحتهم، والأرض بأكملها تتأرجح وتُدوِّي بفعل هزات الزلازل. وسرعان ما تعرَّضتْ ثلوج التبت وجبال الهيمالايا الموغلة في القِدَم للذوبان، وجرت مياهها متدفقةً عبر عشرة ملايين قناة تزداد عمقًا، ثم تلاقت لتصبَّ مياهها فوق سهول بورما وبلاد الهند. تأجَّجت قمم الأشجار المتشابكة، التي تميِّز الأدغال الهندية، بالنيران في مئات المواقع، وكمنت تحت المياه الجارية حول سيقانها أجسادٌ سمراء لم تزل تكافح بما بقي لديها من قوة، وتنعكس عليها ألسنة اللهب بلونها الأحمر القاني، وهُرِع جموعٌ من الرجال والنساء، وسط تخبُّط وحيرة، نحو الممرات النهرية الواسعة قاصدين ملاذَ البشر الأخير؛ عُرْض البحر.

صار النجم أكبر حجمًا، وأشد حرارةً، وأقوى إشراقًا، وازدادت سرعته الآن على نحو مروع؛ ما أدَّى إلى فقدان المحيط الاستوائي خاصيةَ التفسفر، وتصاعدت دوَّامات الأبخرة كالأشباح من عتمة الأمواج المتلاطمة، وقد بدت السفن بينها ذراتِ غبارٍ تذروها الرياح.

ثم وقع أمر عجيب؛ خُيِّل إلى سكان أوروبا المترقبين سطوعَ النجم أن الأرض توقَّفت عن الدوران، فأولئك الذين فرُّوا من الفيضانات الجارفة والبيوت المتهدمة والتلال المتداعية وقفوا في مئات الأماكن المفتوحة، فوق الروابي والوهاد، منتظرين طلوع النجم بلا جدوى. مضت ساعة تلو الأخرى وسط ترقُّب رهيب، ولم يظهر النجم. توجَّهَ البشر مرةً أخرى بأنظارهم نحو كوكبات النجوم القديمة التي حسبوا أنْ لن يرَوها إلى الأبد. كان الطقس حارًّا والجو صافيًا في إنجلترا، بالرغم من أن الهزات الأرضية لم تنقطع، أما في المناطق الاستوائية، فقد بدت نجوم الشِّعْرى، والعيوق، والدَّبَران محتجبةً بستارٍ من الأدخنة. وأخيرًا طلع النجم العظيم متأخرًا عن موعده المتوقَّع بعشر ساعات، وأشرقت الشمس أعلاه، وفي مركزها ظهر قرصٌ أسود اللون.

أما في آسيا، فقد بدأ النجم يتخلَّف في سرعته عن حركة السماء، وبينما كان ساطعًا فوق الهند احتجب ضوءُه فجأةً، ولاحت سهول الهند جميعها في تلك الليلة — من منبع نهر السند وحتى منابع نهر الجانج — كقفرٍ ضحلٍ من المياه البراقة، برزت منه المعابد والقصور والآكام والتلال سوداءَ من احتشاد الناس داخلها وفوقها. صارت كل منارات الهند مأوًى لجموعٍ غفيرةٍ من البشر، الذين تساقطوا واحدًا بعد آخَر في الطوفان الهائج، بعد أن قهرهم الحَرُّ والفزع، وأمست الأرض كلها كأنها ثَكْلى تنوح. وفجأةً، اجتاح ظلٌّ هذا الجحيمَ اليائس، وسَرَت نسمةٌ من ريح باردة لطَّفت الهواء، وظهرت مجموعةٌ من الغيوم. تطلَّعَ الناس إلى النجم، يكادون لا يفتحون أعينهم، ورأَوا قرصًا أسود يتسلَّل زاحفًا خلال نوره؛ إنه القمر، وقد أقبل متوسطًا بين النجم والأرض. وبينما الناس مغرقون في التضرُّع إلى الله عند تلك الانفراجة، وإذا بالشمس تبزغ من ناحية المشرق في سرعةٍ غريبة غير مفهومة، ثم فُوجِئوا بالنجم والشمس والقمر تندفع معًا قاطعةً صفحة السماء.

وسرعان ما شاهَدَ سكان أوروبا النجم والشمس وقد سطع كلٌّ منهما، وانطلقا بسرعةٍ لمسافةٍ ثم تناقصت سرعتهما حتى توقَّفا في النهاية واندمجا في كرةِ لهبٍ وهَّاجة استقرَّت في قمة السماء، ولم يَعُد القمر متوسطًا الشمس كاسفًا ضياءها، بل اختفى عن الأنظار وسط السماء الباهرة السطوع. بالرغم من أن أغلب مَن ظل حيًّا تأمَّل هذا المشهد ببلادةِ فكرٍ سببها الجوعُ والإنهاك والحَرُّ واليأس، أدرك البعض دلالةَ تلك العلامات. لقد سجَّل النجم أشدَّ اقترابٍ له من الأرض، وظلَّا يحومان كلٌّ منهما حول الآخَر، ثم مرَّ النجم، وبدأ يبعد أسرع فأسرع، قاطعًا المرحلة الأخيرة من رحلته الخاطفة نحو الشمس.

ثم تلبَّدت السماء بالغيوم فأخفتها عن العيون، وغطت الرعود والبروق العالم أجمع بهزيمها وأَلِيقها؛ وانهمر على جميع أنحاء الكوكب وابلٌ من الأمطار لم يرَ البشر قطُّ نظيرًا له، ومع فَوَران البراكين بحُممها الحمراء وخلفها ذلك الستار الكثيف من الغيوم بدأ ينهمر سيلٌ جارف من الطين. غِيض الماء في كل مكان عن اليابسة، مخلِّفًا وراءه خرابًا يغطيه الطمي، وبدت الأرض مبعثَرة الملامح مثل شاطئٍ جرفتْه العواصف، وفوق مياهه تطفو جثثُ البشر والحيوانات. ظلت المياه تنحسر عن اليابسة لأيام، جارفةً في طريقها التربة والأشجار والمنازل، وحافرةً خنادق هائلة وأخاديد عملاقة بطول المناطق الريفية. تلك هي الأيام الحالكة التي تلت النجمَ والقيظ، والتي لم تنقطع خلالها، لأسابيع وشهور كثيرة، الهزاتُ الأرضية.

لكن النجم قد مضى، وقد يتمكَّن البشر الجوعى من لملمة شتات شجاعتهم والنزوح عائدين إلى مُدنِهم المدمَّرة، وصوامعِ حبوبهم المطمورة، وحقولِهم الغارقة. وكما أبحرت هاربةً من العواصف المنصرمة، عادت تلك السفن القلائل ذاهلةً منهكة تتحسَّس طريقها بحذرٍ عبر المعالم والتلال الرملية الجديدة التي كانت في الماضي مرافئَ معروفة. وحين هدأت حدة العواصف، أدرك البشر أن المناخ في كل مكانٍ صار أشد حرارةً من ذي قبل، وأن الشمس ازدادت حجمًا، بينما تضاءل القمر إلى ثلث حجمه السابق، وصار الشهر الفلكي ثمانين يومًا.

لكن هذه القصة لا تروي تفاصيلَ رابطة الأخوة الجديدة التي سرعان ما قويت وشائجُها بين البشر، ولا جهود احترام القوانين وحفظ الكتب والآلات، ولا التغيير الغريب الذي طرأ على أيسلندا وجرينلاند وشواطئ خليج بافن؛ فحين وفد البحَّارة على تلك المناطق وجدوها خضراءَ رغيدةً فكادوا لا يصدِّقون أعينهم. كما أنها لا تحكي عن نزوح الجنس البشري شمالًا وجنوبًا نحو القطبين بعد أن ارتفعت حرارة المناخ على سطح الأرض. لا تؤرخ هذه القصة إلا لإقبال النجم ورحيله.

إن علماء الفلك على سطح المريخ — إذ إنَّ هناك علماء فلك على سطح المريخ، غير أنهم كائنات مختلفة تمامًا عن الآدميين — كانوا شديدي الاهتمام بتلك الأمور بطبيعة الحال؛ فلا شك أنهم شاهدوها من مواقعهم على سطح كوكبهم. كتب أحد هؤلاء العلماء قائلًا: «بالنظر إلى كتلة وحرارة ذلك الجِرم الذي عبر نظامنا الشمسي نحو الشمس، فمن المثير للدهشة ضآلةُ الضرر الذي لحق بالأرض، التي تفادت بالكاد الارتطام به. بقيَتْ جميع المعالم القارِّية المعروفة والبحار في مجملها على حالها، ويبدو أن الاختلاف الوحيد حقًّا هو ذلك الانكماش في اللون الأبيض (الذي من المفترض أنه ماء متجمد) بالقرب من القطبين.» إنْ دلَّ ذلك على شيء، فإنما يدل على مدى ضآلة أشد الكوارث البشرية وأوسعها نطاقًا حين يُنظَر إليها على بُعْد بضعة ملايين من الأميال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤