الفصل التاسع

شيخ أنت مهيب يحترمك الجميع في القرية كلها، فحيثما مررت يقف لك الجالسون ويحيِّك الواقفون، ملء عيونهم إجلال واحترام.

ويتوقف الأطفال عن اللعب إن مررت بهم، ويضع النسوة خُمرهن على منتصف وجوههن إذا التقين بك، ويرحب بك أعيان القرية في مجالسهم، شيخ مهيب جليل، فارع القامة عريض المنكبين نضر السمات، أنت وجيه ولكن ما أنت وهذا جميعه؟ ما مكانك من نفسك؟ لماذا لم تسطع في يوم من الأيام أن تحترم نفسك في داخل نفسك؟ ساخطة هي نفسك عليك لا ترضى بك ولا تُرضيك، الناس يحترمون هذه الأفدنة العشرة التي ورثتها عن أبيك، وهذه الأفدنة الخمسة التي اشتريتها وهم لا يدرون كيف اشتريتها، فلو ألقيت المقادير إليك ما اشتريت في حياتك شيئًا، متى قررت شيئًا وأنفذته؟ لو لم تكن زوجتك رتيبة ما اشتريت شيئًا، هكذا أنت منذ وُجدت في هذه الدنيا، ذهبت إلى الأزهر فلم تستطع أن تُكمل علومه وتعثرت دون شهادة العالمية فيه سنوات وسنوات، وكنت كلما أزمعت أن تُذاكر مالت بك نفسك عن المذاكرة، ثم أخذت تلومك وتلقي عليك ألوان التأنيب والهزء والسخرية كأنما في نفسك نفسان: إحداهما تُلقي بك إلى مهاوي التردد والكسل والخنوع والضعف، والأخرى تُلقي عليك ألوان الهزء والتأنيب والسخرية حتى ما استطعت — وقد جاوزت الخامسة والخمسين — أن تعمل عملًا واحدًا ترضى عنه، حتى زواجك لم يكن بيدك، فلو لم يُخطرك أبوك أنه قد خطب لك، وقرأ لك الفاتحة ما تزوجت حتى يومك هذا، وحين تزوجت من رتيبة تولت هي جميع شأنك فهي الآمرة الناهية في البيت والغيط وتكتفي أنت بالملبس الأنيق والمشية الوقور المتئدة واحترام الناس وإقبالهم.

أردت، نعم أردت ولكن الإرادة كانت تقف بك دائمًا عند الرغبة ولا تعدوها إلى التنفيذ، أردت أن تزوج ابنتك صابحة من ابن أخيك عمران، ولكن رتيبة قالت لا، فكانت لا، حاولت يومذاك أن تُصر، ولكنك تعرف أن إصرارك لم يكن في يوم ما ذا قيمة، وزوجتك أيضًا تعرف أن لا قيمة لإصرارك ولا لرأيك، وتزوجت صابحة من ابن عم رتيبة، وقالت إحدى نفسيْكَ: إنه غني، وقالت النفس الأخرى: أنت ضعيف.

أولادك لا يُقدِّمون لك من الاحترام إلا وقفة إن أقبلت عليهم أو قُبلة على اليد إن هم صافحوك، ولكنك ترى في عيونهم أن الوقفة أو القُبلة إنما هما إعلانات بنوة لا علامات احترام، أما سمعت مسعود وهو يقول لصابحة: أبي، وهل بيده شيء؟ الأمر كله بيد أمك.

وعبد المنعم يوم أراد أن يذهب إلى الأزهر هل قال لك شيئًا؟ أبدًا، لقد قال لأمه وجهز لسفره وقبَّل يدك وهو في سبيله إلى القاهرة دون أن يبادلك الحديث عن شئون مسكنه ومصروفاته في القاهرة، لقد أعد كل شيء مع أمه، وسعيد الذي يزرع الأرض هل قال لك في يوم من الأيام ماذا أنتجت الأرض من محصول، أو كم نفرًا يستأجر، أو لمن باع القطن، أبدًا، أبدًا، كل حديثه مع أمه أما أنت فلا وجود لك ولكن الناس يقفون لك والأطفال يتوقفون عن اللعب والنسوة يلقين الخُمر على منتصف وجوههن.

وأنت مدعو في كل فرح في القرية، وصاحب الفرح يحب دائمًا أن يشرف بأنك شاهد في العقد، شاهد في العقد، أنت شاهد في هذه الحياة جميعًا ثم لا شيء آخر، أنت عند زوجتك مهم لتنجب لها أطفالًا وتضع تحت يدها خمسة عشر فدانًا تديرها، وأنت عند أولادك مهم ليقولوا لك يا آبا، وليُنسبوا إلى أب يقف له الناس، ويتوقف الأطفال عن اللعب، وتُلقي له النسوة الخُمر على منتصف وجوههن، وليكون شاهدًا في عقود الزواج في القرية، شاهد أنت في الحياة لو سُئلتَ يومًا ما وظيفتك؟ أتجد شيئًا أكثر مناسبة بك من أن تقول: شاهد، الوظيفة شاهد، شاهد في الحياة، ولكن نفسك غير راضية عنك! لماذا لا تقف لك نفسك كما يقف الرجال؟ ولماذا لا تتوقف عن اللعب بك كما يفعل الأطفال؟ أو لماذا لا تلقي خمارًا على منتصف وجهها كما تفعل النسوة، على النصف الأسفل من الوجه حيث الفم؟ ليت نفسك تلقي هذا الخمار على فمها فتسكت عنك وتتركك تنعم بهذا الاحترام الذي تلاقيك به القرية جميعًا، ليت القرية جميعها لا تحترمني وأظفر بالاحترام من نفسي هذه وحدها، ما أجمل أن أرضى أنا عن نفسي! لا يهمني من بعد ذلك شيء، مجرد نفسي، داخلي، أريد داخلي هذا أن يرضى عني، أهذا كثير، ومع ذلك فهو بالنسبة لي المستحيل أو لعل المستحيل يصبح ممكنًا، ولا أنال هذا الرضى من نفسي، كيف؟ كيف؟ أأستطيع بعد هذا العمر أن أقول: يا رتيبة منذ اليوم لا شأن لك بالأرض أنا الذي سأتولاها؟

فتبتسم لي ابتسامتها التي كانت تهدهد بها أطفالها حين هم صغار وتقول: وما له يا شيخ بسيوني، أنت الكل في الكل، كلنا نعيش بنفَسك.

ثم تمضي في سبيلها كما كانت، وكأني لم أقل شيئًا، وأسكت أنا راضيًا، فإني أعلم أني لو توليت شأن الأرض لفشلت فشلًا ذريعًا ماحقًا، ماذا أعرف أنا عن الأرض، بل ماذا أعرف عن أي شيء حتى أمشاج العلوم التي اختطفتها من الأزهر أضعها في طريق الحياة، نعم أستطيع أيضًا أن أقول لسعيد: يا سعيد اجعل كلامك عن الأرض معي أنا، لا شأن لأمك به وسيقول: وما له يا آبا أمرك.

ثم لن يسألني بعدها في شيء أبدًا، فهو يعلم جهلي، أأستطيع أن أعرف كم جوالًا من السباخ يجب أن توضع في فدان القطن؟ أو كم نفرًا يكفون لخف القطن أو تنقيته أو جمعه أو أي شيء؟ لا شيء إلا مِزَقًا من العلوم في الأزهر وتبعثرت مني على الطريق حتى لم يبقَ شيء، ومع ذلك ها هم أولاء الرجال يقفون، والأطفال ينتظرون أن أمر حتى يواصلوا لعبهم، وها هي ذي فتاة جميلة تُلقي الخمار على وجهها ريثما تمر بي، ثم ها هي ذي تعفي وجهها منه بعد أن بعدت عني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤