خاتمة

مضت سنوات عديدة على ذلك التاريخ فانطلقت الحرب الكونيَّة وأحرقت العالم بنيرانها الرهيبة، عند هذا انقلبت الأحوال انقلابًا غريبًا فتطوَّع الأبناء في الجنديَّة ليدافعوا عن وطنهم وأثكلَت الأمهات أولادهنَّ وفقدت الزوجات معظم الأزواج.

وفي سنة ١٩١٩ انتهت الحرب وعادت السكينة إلى ما كانت عليه، فاحتفل بزفاف شابين في ميعة العمر أحدهما فتًى على صدرِه صليب الحرب هو فريد والآخر فتاة جميلة هي الفتاة الزرقاء.

كانت كنيسة حريصا مزدانة بالأزهار، فصعد الأب يوحنا إلى المذبح وبعد أن تلا صلاة الذبيحة بارك خاتمًا صغيرًا صُنعَ من سهم قنبلةٍ لم تشأ الفتاة الزرقاء أن تأخذ غيره.

وعندما انتهت الحفلة ترك الأقرباء والمحبون الكنيسة وانتشروا على قمَّة الأكمة المرتفعة؛ فتقدَّم نجيب وكان قد رجع إلى وظيفته في السكة بعد أن خدم في الجنديَّة وأعطى الزوجَين غلافًا يحتوي على ورقة بخمس مائة فرنك وقال: هذه قيمة ما اقتصدت في الجبهة، فلا تشكراني عليها، فأنا لم أشأ أن أتزوَّج عن جهل وغباوة فاتركاني أتذوَّق لذَّة مساعدة الغير.

قال هذا ثم ترك الزوجين في أحلامهما وعاد مسرعًا إلى الأب يوحنا والسيدة فارس وقال لهما: لقد أبصرتُ الموت مرارًا في الحرب وأُصبتُ بجراحٍ عديدة، فأنا الآن أشعر بضعفٍ في قوَّتي وقد لا يمضي عليَّ سنوات قلائل حتى أموت، أمَّا وصيَّتي فقد سجلتها عند الكاتب العدل، فهي تهب فريدًا والفتاة الزرقاء كل ما أملك في الحياة.

وأمَّا أنتِ يا سيدة فارس فاحرسي عليهما بعنايتك وتعهَّدي أولادهما غدًا بكل ما أُوتيتِ من العطف والحنان، فسوف تستعيدين عذوبة ملاطفة الأولاد قبل أن تعتزلي في الدير، حيث يقودك ابنك عندما يرتسم كاهنًا …

فتفطَّرت عواطف السيدة فارس ونظرَت إلى الزوجين الجالسين على الأعشاب المُزهرة جنبًا إلى جنب، ثم شخصَت إلى ولديها بطرس التلميذ اللامع وبولس المبتدئ التقيِّ وقالت متأوِّهة: آه! لماذا لا أرى فارسًا بيننا الآن؟ … ولكن لا، فهوَ هنا! … أليسَ كذلك يا سيدي الكاهن؟ أتقدر روحه ألَّا تكون معنا في مثل هذه الساعة السعيدة؟ آه! إنَّ مشيئة فارس قد تحقَّقت، فماذا صنعنا من الجميل حتى يكافئنا الله بهذه الحسنات؟

كان الأب يوحنَّا يُصغي إلى كلامها بعاطفة متألمة، فعندما انتهت قال: إنني أتوسَّل إلى الله يا سيدة فارس أن يزيدَ ويكثر في هذه القرية كل من يشبهك ويعمل عملك المقدَّس! ففضائلهم الصامتة وتضحياتهم المظلمة هي قوَّةٌ عظيمة من قوى الإنسانيَّة؛ ونحن بحاجةٍ قصوى إلى هؤلاء القوم الودعاء؛ لأنَّ عليهم يتوقَّف مستقبل الوطن!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤