الفصل الثاني عشر

رحلة اكتشاف

مر يومان أو ثلاثة على حفل العشاء الصغير الذي أقمتُه، وكنتُ أقف في غرفة الكشف أنظف قُبعتي استعدادًا لبدء جولتي الصباحية، حين ظهر أدولفوس عند الباب ليُعلن أن ثمةَ رجُلَين في انتظاري بالعيادة. أخبرتُه بأن يُدخلهما، وبعد دقيقة دخل ثورندايك، يصحبه جيرفيس. لاحظتُ أنهما بدوا ضخمَين على نحوٍ استثنائي في تلك الشقة الصغيرة، وبالأخص ثورندايك، ولكن لم يكن لديَّ وقت لدراسة هذه الظاهرة، حيث إنه ما إن صافح الأخير يدي حتى بدأ على الفور يشرح الهدف وراء زيارتهما.

قال: «جئنا لنطلب منك خدمة، يا بيركلي، لنطلب منك أن تقوم لنا بخدمةٍ عظيمة جدًّا لصالح أصدقائك آل بيلينجهام.»

قلت بحرارة: «تعلم أنني سأكون مَسرورًا. ما هي؟»

«سأشرح لك. كما تعرف — أو لعلك لا تعرف — أن الشرطة قد جمعت العظام كلها التي اكتُشِفت وسلَّمتها إلى المشرحة الموجودة في وودفورد، حيث ستفحصها هيئة مُحلفي الطب الشرعي. وها قد صار من الضروري أن يتوفر لي معلومات مؤكدة وموثوق فيها أكثر مما يُمكنني الحصول عليه من الصحف. الطبيعي هو أن أذهب وأُجري الفحص بنفسي؛ ولكنْ ثمة ظروف تجعل من المُستحبِّ جدًّا ألا تتسرَّب أنباء عن مشاركتي في القضية. وبالتالي، لا يمكنني الذهاب بنفسي، وللسبب نفسه، لا يمكنني إرسال جيرفيس. ومن ناحية أُخرى، كما هو مُعلن صراحة بأن الشرطة تعتبر العظام على نحوٍ شبه مؤكد تنتمي إلى جون بيلينجهام، سيكون من الطبيعي تمامًا، باعتبارك طبيب جودفري بيلينجهام أن تذهب وتفحصها بالنيابة عنه.»

قلت: «أودُّ أن أفعل، سأبذل أي شيءٍ في سبيل ذلك؛ ولكن كيف يمكن إدارة الأمر؟ هذا سيعني إجازةً ليوم كامل وترك العيادة.»

قال ثورندايك: «أعتقد أنه يمكن إدارة الأمر، المسألة مهمة فعلًا لسببَين؛ الأول أن التحقيق سيُفتح غدًا، ولا بدَّ أن يُوجَد أحد هناك ليشهد على الدعوى بالنيابة عن جودفري، والسبب الآخر هو أنَّ موكلنا تلقَّى إخطارًا من مُحامي هيرست يفيد بأنه سيتم النظر في الالتماس بالمحكمة الحسبية في غضون بضعة أيام.»

سألته: «أليس هذا مفاجئًا بدرجةٍ كبيرة؟»

«إنه يشير بالتأكيد إلى أن ثمة حركة كبيرة أكبر ممَّا كنا نستطيع فهمها. ولكنك ترى أهمية المسألة. التحقيق سيكون بمثابة بروفة للمحكمة الحسبية، كما أنه من الضروري جدًّا أن تسنح لنا الفرصة لتقييم أمر الإدارة.»

«أجل، فهمت ذلك. ولكن كيف سيتسنَّى لنا إدارة العيادة؟»

«سنبحث عن بديل.»

«من خلال وكيل طبي؟»

قال جيرفيس: «أجل، سيبحث توركيفال عن رجل؛ في الواقع، لقد فعل ذلك. لقد قابلتُه هذا الصباح، لديه رجل ينتظر في البلدة للتفاوض بشأن شراء عيادة، وسيتولَّى المهمة مقابل جنيهَين اثنين. هو رجل جدير بالثقة تمامًا. فقط أعطاني الموافقة، وسأنطلق إلى شارع آدم ستريت وسأستخدِمه على الفور.»

«حسنًا جدًّا. ستُعيِّن نائبًا مؤقتًا، وسأستعد أنا للذهاب إلى وودفورد بمجرد أن يصل.»

قال ثورندايك: «ممتاز! هذا حِمل ثقيل رُفع عن عاتقي. وإن استطعتَ أن تمر هذا المساء وتُدخِّن معنا الغليون، لأمكننا أن نتحدث بخصوص خطة الحملة وأُطلعك على نوعية المعلومات التي نُريدها على وجه الخصوص.»

وَعَدتُ بالمرور على كينجز بينش ووك بعد الساعة الثامنة والنصف بقدر الإمكان، ثم غادر صديقاي، تاركَين إيَّاي لأبدأ جولة زياراتي القليلة بروحٍ معنوية مرتفعة.

من المدهش رؤية الجوانب المختلفة للأمور من وجهات نظر مختلفة؛ ومدى تناسُب تقديراتنا لأحوال الحياة وظروفها. فبالنسبة إلى العامل المدني — بالنسبة إلى الخبَّاز البارع أو الخياط الماهر، مثلًا، الذي يعمل لسنوات وسنوات في مبنًى واحد — يُعد التسكُّع يوم العطلة في منطقة هامبستيد هيث رحلة اكتشافٍ حقيقية، أما بالنسبة إلى البحَّار، فإن المنظر المُتغير للعالم الشاسع بأسرِه ما هو إلا المُعتاد بالنسبة للعمل اليومي.

هكذا، أخذتُ أفكر مليًّا وأنا أتخذ مقعدي في القطار بمحطة ليفربول في اليوم التالي. كان هناك وقت عندما كانت رحلات القطار إلى أطراف غابة إيبينج من شأنها أن تكون بعيدةً تمامًا عن كونها تجربة مثيرة، أما الآن وبعد حياة الخمول في العالَم الصغير لحارة فيتر، فإنها تُعدُّ مغامرة بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنًى.

إن الخمول الإجباري لرحلات السكك الحديدية مناسب تمامًا للتفكير، كان لديَّ الكثير لأفكر فيه. لقد شهدت الأسابيع الأخيرة الماضية تغييرات بالغة الأهمية من وجهة نظري. فقد ظهرت اهتمامات جديدة، ونشأت صداقات جديدة، والأهم من ذلك كله، تسلل إلى حياتي ذلك التأثير البالغ، الذي كان خيرًا أو شرًّا حسْب حظي أنا، كان من شأنه أن يلوِّن حياتي ويُهيمن عليها حتى نهايتها. تلك الأيام القليلة من العمل المشترك في قاعة القراءة، بالإضافة إلى الاستقبال غير المتكلف بمحل الألبان والتمشيات المُمتعة إلى المنزل عبر شوارع لندن المؤنسة، خلقت عالمًا جديدًا؛ عالمًا كانت فيه الشخصية الحنونة لروث بيلينجهام هي الواقع الوحيد المُهيمن. هكذا، وبينما كنتُ أتكئ في مقعدي بزاوية عربة القطار وفي يدي غليون غير مُشتعل، شغلت ذهني أحداث الماضي القريب بالإضافة إلى الأحداث الإشكالية أكثر للمُستقبل الوشيك لدرجة الإغفال عن المهمة الحالية، ألا وهي فحص البقايا المجمعة في مشرحة وودفورد، وما إن اقترب القطار من ستراتفورد، حتى تسللت روائح مصانع الصابون والروَث العَظمي عبر النافذة المفتوحة (من خلال تداعي الأفكار بصورةٍ طبيعية) وأعادتني مرةً أخرى إلى الهدف من رحلتي.

لم يكن الهدف الدقيق من وراء هذه الرحلة الاستكشافية واضحًا بدرجةٍ كبيرة بالنسبة إليَّ؛ ولكني كنتُ أعرف أنني أتصرف بصفتي وكيل ثورندايك، وافتخرتُ بالفكرة بشدة. ولكن ما الضوء الخاص الذي ستُلقيه تحقيقاتي على قضية بيلينجهام المُعقدة؟ لم يكن لديَّ فكرة مُحددة. وبهدف تحديد خطوات هذا الإجراء في ذهني، أخرجتُ تعليمات ثورندايك المكتوبة من جيبي وقرأتها بعناية. كانت تعليمات كاملة وواضحة، عوَّضت قلة خبرتي بالأمور الطبية والقانونية تعويضًا كافيًا:
  • (١)

    لا تُظهر أنك تُجري تحقيقات دقيقة أو تبدي بأي حالٍ من الأحوال ملاحظة مثيرة.

  • (٢)

    تأكد ممَّا إذا كانت جميع العظام المأخوذة من كل منطقة موجودة، وإذا لم تكن موجودة، فأي منها ناقص.

  • (٣)

    قم بقياس أقصى طول للعظام الأساسية وقارن بين عظام الأضلاع المتقابلة.

  • (٤)

    افحص العظام استنادًا إلى السنِّ والجنس والنمو العضلي الخاص بالمُتوفَّى.

  • (٥)

    لاحظ وجود أو غياب علامات الإصابة بمرضٍ بنيوي أو مرضٍ مَوضعي للعظام أو هياكل المفاصل، إصابات قديمة أو حديثة وأي اختلافات أُخرى عن الطبيعي أو المعتاد.

  • (٦)

    لاحظ وجود أو غياب مادة أديبوسير ومكانها، إن وُجدت.

  • (٧)

    لاحظ أي بقايا من الأوتار أو الأربطة أو الأنسجة اللينة الأخرى.

  • (٨)

    افحص اليد التي عُثر عليها في قرية سيدكوب بهدف الإجابة عن السؤال ما إذا كانت الإصبع قد بُترت قبل الوفاة أم بعدها.

  • (٩)

    قدِّر الفترة المُحتملة لغمر الأشلاء في الماء، ولاحظ أي تغيرات (مثل تلوث معدني أو عضوي) بسبب طبيعة المياه أو الطين.

  • (١٠)

    تحقق من الظروف (المباشرة أو غير المباشرة) التي أدَّت إلى اكتشاف العظام وأسماء الأشخاص المُتورِّطين في هذه الظروف.

  • (١١)

    دوِّن كل المعلومات كتابةً بأسرع ما يمكن، وضع خططًا وارسم مُخططات على الفور إذا سمحَت الظروف.

  • (١٢)

    حافظ على ملامح هادئة ومتبلدة: استمع بانتباهٍ ولكن بدون حماس، اطرح أقل عددٍ ممكن من الأسئلة، تابع أي تحقيقٍ قد يلفتُ انتباهك في المكان.

كانت هذه تعليماتي، بالوضع في الاعتبار أنني بصدَد فحص بضعة عظام جافة، فإنها بدت صعبة للغاية؛ في الواقع، كلما أكثرتُ قراءتها زادت شكوكي في مؤهِّلاتي للقيام بالمهمة.

وحين اقتربتُ من المشرحة، صار من الواضح أن بعضًا من تحذيرات ثورندايك كانت ضروريةً على أي حال. كان المكان تحت مسئولية رقيب شرطة، راقَب دخولي في حالةٍ من الشك والارتياب؛ كان يحوم حول المدخل عشرات الرجال، كان من الواضح أنهم مُراسلون صحفيون، وكأنهم قطيع من الثعالب. أبرزتُ أمر الطبيب الشرعي الذي استخرجه السيد مارشمونت، والذي قرأه الرقيب وظهرُه إلى الحائط، ليمنع رجال الصحافة من النظر من فوق كتفِه.

حظيتْ أوراق اعتمادي بالقبول، وفُتح الباب ودخلتُ منه، يصحبني ثلاثة مُراسلين مغامرين، طردهم الرقيب بسرعةٍ وأغلق الباب مرةً أخرى، وعاد ليُرشدني إلى الداخل ويراقب إجراءاتي باهتمامٍ ذكي ولكنه مُحرج جدًّا.

كانت العظام مُمددة على طاولة كبيرة ومُغطاة بملاءة، أزاحها النقيب ببطء، مُراقبًا وجهي باهتمامٍ شديد أثناء قيامه بذلك ليُلاحظ الانطباع الذي يتركه المشهد عليَّ. تخيَّلتُ أنه شعر حتمًا بخيبة أملٍ إلى حدٍّ ما بسبب تصرُّفاتي الجامدة؛ فالبقايا لم تُوحِ لي بشيء أكثر مما توحيه مجموعة مُتهالكة جدًّا بالنسبة إلى «طالب علم العظام». أخرج الجرَّاح التابع للشرطة المجموعة بأكملها (كما أخبرَني الرقيب) بترتيبها التشريحي الصحيح؛ ومع ذلك، قمتُ بحصرها بعناية للتأكد من أنه لا يوجد شيء ناقص منها، ومُطابقًا إياها بالقائمة التي أمدَّني بها ثورندايك.

قلتُ في إشارة إلى أن إحدى العظام لم تكن مُدرجة في القائمة: «أرى أنكم عثرتم على عظمة الفخذ اليسرى!»

قال الرقيب: «أجل، ظهرت تلك العظمة مساء أمس في بركةٍ كبيرة تُسمَّى بركة بالدوين في مروج ساندبيت، بالقُرب من غابة ليتل مونك.»

سألته قائلًا: «هل هذا المكان قريب من هنا؟»

جاء الرد: «في الغابة القريبة من طريق لوتون.»

دوَّنت ملاحظة بالواقعة (ألقى الرقيب نظرة عليها كما لو أنه ندم على ذكرها)، ثم حوَّلت انتباهي إلى اعتباراتٍ عامة خاصة بالعظم قبل فحصها بالتفصيل. وكان من شأن إجراء عملية تنظيف كاملة، تحسين حالتها وتسهيل فحصها، حيث إنها كانت على نفس وضعها حين أُخرِجت من أماكن دفنها الخاصة، وكان من الصعب تحديد ما إذا كان لونها الأصفر المائل للحمرة هو صبغة حقيقية أم بسبب ترسيبات على السطح. وعلى كل حال، ونظرًا لأن التأثير عليها جميعًا كان واحدًا، اعتقدتُ أنها سمة مثيرة للاهتمام ودوَّنت ملاحظة بها. إنها تحمل عدة آثار من أماكن بقائها في البرك العديدة التي استُخرِجت منها، ولكن هذه الآثار ساعدتني قليلًا في تحديد المدة التي غُمِرت خلالها في المياه. كانت بالطبع مُغطاة بقشرةٍ من الطين وحشائش صغيرة علقت بها في بعض المواضع؛ إلا أن هذه الوقائع زادت من صعوبة تقدير طول المدة وحسْب.

بعض الآثار كانت بالفعل أكثر إفادة؛ فعلى سبيل المثال، التصقت بعظام كثيرة مجموعات البيض المُجففة الخاصة بحلزون شائع يعيش في البرك، وفي إحدى فجوات لوح الكتف الأيمن (حفرة تحت شوك الكتف) كان يُوجَد مجموعة من الأنابيب الطينية الخاصة بالدود الأحمر الذي يعيش في الأنهار. وفَّرت هذه البقايا دليلًا على مرور فترةٍ طويلة على انغمارها في الماء، ونظرًا لأنها لا يمكن أن تترسَّب على العظام حتى يختفي كل اللحم، فقد قدمت دليلًا على أن بعض الوقت — شهرًا أو شهرين على أي حال — قد مر على حدوث هذا. ومن قبيل الصدفة أيضًا أن توزيعها أظهر المَوضع الذي رقدت فيه العظام، ورغم أن هذا بدا بلا أهمية في الظروف الحالية، فإني دوَّنتُ ملاحظات دقيقة عن وضع كل جسم ملتصق بالعظام، موضحًا موضعه برسومات تقريبية.

راقبَ الرقيب إجراءاتي بابتسامةٍ متساهلة.

وعلق قائلًا وأنا أُخرج شريط القياس خاصتي: «أنت تقوم بجرد مُحترف يا سيدي، كما لو أنك ستعرضها في المزاد. لا أظنُّ أن بيض الحلزون سيساعد كثيرًا في تحديد الهوية. وكل شيء قد أُنجز بالفعل.»

أجبتُ قائلًا: «لا شك، ولكن مهمتي هي تدوين ملاحظاتٍ مستقلة، ومراجعة الملاحظات الأخرى، عند الضرورة.» شرعت في قياس كل عظمةٍ رئيسية على حدة ومقارنتها بالجوانب المُناظرة. التوافق في الأبعاد والخصائص العامة لزَوج العظام لم يترك مجالًا للشك في أنها كانت أجزاءً لهيكلٍ عظمي واحد، وهو استنتاج أكده الجزء المُصاب بالاستعاجة عند رأس عظمة الفخذ اليمنى والجزء المُناظر في تجويف عظم الورك الأيمن. وعندما انتهيتُ من قياساتي، راجعت السلسلة الكاملة للعظام بالتفصيل، فاحصًا كلًّا منها بأشد الاهتمام لأيٍّ من تلك العلامات التي أشار إليها ثورندايك، دون استخراج شيء سوى الأشياء السلبية المتكررة برتابة. كانت طبيعية على نحو مُحبط ومُخيبة للآمال.

سأل الرقيب بحرص بينما كنتُ أغلق دفتري وأبسط ظهري: «حسنًا يا سيدي، ما الذي تستنتجه منها؟ لمن هذه العظام؟ في رأيك، هل هي عظام السيد بيلينجهام؟»

أجبتُ قائلًا: «سأندم جدًّا على ذِكر لمن تنتمي هذه العظام. كما تلاحظ عظمة واحدة تُشبه الأخرى كثيرًا جدًّا.»

قال موافقًا: «أظن أنها كذلك؛ ولكني أعتقد أنك بكل تلك القياسات وكل تلك الملاحظات، قد توصَّلتَ إلى شيء أكيد.» من الواضح أنه أُصيب بخيبة أمل حيالي؛ وأنا كذلك شعرتُ بخيبة أمل حيال نفسي حين قارنتُ تعليمات ثورندايك المفصلة بالنتيجة الهزيلة لتحقيقاتي. فما الذي آلت إليه اكتشافاتي؟ وإلى أي مدًى تطور التحقيق بناءً على التدوينات المعدودة في دفتري؟

بدا أن العظام كانت عظام رجلٍ ذي نموٍّ عضلي معقول، ولكن غير استثنائي؛ عمره تجاوز الثلاثين عامًا؛ إلا أنني عجزت عن تحديد كم يبلغ من العمر تحديدًا. وقدرتُ طوله بالتقريب خمس أقدام وثماني بوصات؛ إلا أن قياساتي من شأنها أن توفر بياناتٍ لتقديرٍ أكثر دقة يجريه ثورندايك. علاوة على ذلك، لم تكن العظام مُميزة إلى حدٍّ بعيد. لم يكن هناك أي علامات دالة على الإصابة بمرَضٍ موضعي أو عام، ولا تُوجَد دلائل على إصابات قديمة أو حديثة، ولا انحرافات من أي نوع؛ طبيعية أو معتادة، والبتر تمَّ بعناية بالغة لدرجة أنه لم يحدُث خدش واحد على الأسطح المنفصلة. أما بخصوص مادة الموم (المادة الشمعية أو الصابونية الغريبة المُعتاد وجودها في الجثث التي تتحلل ببطءٍ في الأماكن الرطبة) فلم يكن لها أي أثر، ولم يبقَ من الأنسجة اللينة سوى أثر ضعيف، مثل بقعة من غراء مُجفَّف، لِوترٍ على طرف الكوع الأيمن.

كان الرقيب بصدد أن يُرجع الملاءة، بأسلوب رجل استعراضي انتهى توًّا من عرض، حينئذٍ جاء صوت طرقةٍ حادة على باب المشرحة. انتهى الشرطي من فرد الملاءة بدقة رسمية، وقادني إلى الرواق وأدار المفتاح وسمح بدخول ثلاثة أشخاص، ممسكًا الباب لي بعد دخولهم لكي أخرج. إلا أن مظهر الوافدين جعلني أتباطأ. أحدهم كان شرطيًّا محليًّا، من الواضح أنه في مهمة رسمية؛ والثاني كان عاملًا، في حالة رطبة وموحلة جدًّا، يحمل كيسًا صغيرًا؛ في حين أن الثالث أعتقد أنني شممتُ فيه رائحة زميل مِهني.

ظل الرقيب مُمسكًا الباب مفتوحًا لي.

سألني بنبرةٍ ودودة: «لا شيء يمكنني تقديمه لك، أليس كذلك يا سيدي؟»

سألته مُستفسرًا: «هل هذا هو الجرَّاح التابع للشرطة؟»

ردَّ الوافد الجديد قائلًا: «أجل، أنا الجرَّاح التابع للشرطة. هل تريد أي شيءٍ منِّي؟»

قال الرقيب: «هذا طبيب لديه تصريح من الطبيب الشرعي لفحص البقايا. إنه مُمثل عن أسرة المتوفَّى؛ أقصد أسرة السيد بيلينجهام.» أضاف جملته الأخيرة ردًّا على نظرةٍ مستفسرة من الجرَّاح.

قال الأخير: «فهمت. حسنًا، لقد عثروا على باقي الجذع، وفي ذلك، كما فهمت، الضلوع المفقودة من الجزء الآخر، أليس كذلك يا ديفيس؟»

ردَّ الشرطي قائلًا: «بلى، يا سيدي. المحقق بادجر يقول إن الضلوع كلها هنا، وكذلك جميع عظام الرقبة.»

قلت مُعلقًا: «يبدو أن المُحقق خبير بعلم التشريح.»

ابتسم الرقيب ابتسامةً عريضة وقال: «إنه رجل عليم ببواطن الأمور، إنه السيد بادجر. لقد جاء إلى هنا هذا الصباح في وقتٍ مبكر جدًّا وقضى وقتًا طويلًا في فحص العظام ومقارنتها ببعض الملاحظات المدوَّنة في مفكرة جيبه. أظن أنه لديه شيء بها؛ بيد أنه شديد التكتم حياله.»

وها هنا سكت الرقيب فجأة؛ ربما بعد أن قارن سلوكه بسلوك رئيسه.

قال الجرَّاح التابع للشرطة: «دعونا نفرش هذه العظام الجديدة على الطاولة. أزح الملاءة، ولا تُخرجها كما لو كانت جمرات، بل ناوِلها بحرص.»

أخرج العامل العظام الرطبة والمُوحلة واحدةً تلو الأخرى من الكيس، وبينما كان يضعها على الطاولة، رتَّبها الجرَّاح في مواضعها التقريبية الصحيحة.

وعلق قائلًا: «نُفِّذت هذه المهمة بدقة بالغة، ليست كتقطيعك الأخرق بساطور أو منشار. لقد فُصلت العظام من عند المفاصل على نحوٍ مرتَّب. والشخص الذي قام بذلك لا بدَّ أن لديه قدرًا من المعرفة بعلم التشريح، ما لم يكن جزارًا، وهو بالمناسبة، أمر ليس مُستحيلًا. لقد استخدم سكينَهُ بمهارةٍ استثنائية، وكما تلاحظون أن كل ذراعٍ قد خُلِعت بعظمة الكتف، مثلما يخلع الجزار كتف الضأن. هل هناك عظام أخرى في ذلك الكيس؟»

ردَّ العامل، وهو يمسح يديه بشيء من الحسم في الجزء الخلفي من سرواله، قائلًا: «كلَّا، يا سيدي. هذه كل المجموعة.»

أمعنَ الجراح النظر في العظام وهو يُضفي لمسة أخيرة على ترتيبها، وعلق قائلًا:

«المُحقق لديه حق. جميع عظام الرقبة موجودة هنا. غريب جدًّا. ألا تعتقد ذلك؟»

«تقصد أن …»

«أقصد أنَّ هذا القاتل غريب الأطوار يبدو أنه يتسبب لنفسه في كمية كبيرة جدًّا من المشكلات دون أي دواعٍ يستطيع المرء تكهُّنها. فعلى سبيل المثال، ها هي الفقرات العنقية. لا بدَّ أنه فصلها بحرصٍ عن الجمجمة من عند الفقرة الحاملة (فقرة الأطلسية) بدلًا من قطعها من خلال الرقبة. ثم نأتي إلى الطريقة التي قطع بها الجذع؛ لقد جاء الضلع الثاني عشر بهذه الكتلة، ولكن الفقرة الظهرية الثانية عشرة التي تنتمي إليها كانت مُتصلة بالنصف السُّفلي. تخيَّل العناء الذي تكبده حتمًا ليقوم بذلك، وهذا بدون قطع أو كسر العظام أيضًا. هذا أمر استثنائي؛ بل بالمناسبة هو مُثير للاهتمام جدًّا. تعامل معها بحذَر.»

أمسك بعظام الصدر بلُطف — حيث إنها كانت مُغطَّاة بطين رطب — وناولني إيَّاها مُعلقًا:

«هذا هو الدليل الأكثر تحديدًا لدينا.»

قلت: «تقصد أن اتحاد هذين الجزأين في كتلةٍ واحدة، تربط هذا باعتباره هيكلًا عظميًّا لرجلٍ مُسن؟»

«أجل، هذا هو الاقتراح الواضح، الذي أكده وضع العظام في الغضروف الضلعي. يمكنك أن تُخبر المُحقق، يا ديفيس، بأنني فحصتُ هذه الكومة من العظام وأنها موجودة جميعًا هنا.»

قال الشرطي: «هل تمانع تدوينها، يا سيدي؟ المُحقق بادجر يقول إنه كان يتعين عليَّ تدوين كل شيء.»

أخرج الجرَّاح مفكرة جيب، وبينما كان يختار الورقة المناسبة، سأل: «هل كوَّنتَ رأيًا بخصوص طول المُتوفَّى؟»

«أجل، أعتقد أن طوله كان يبلغ حوالي خمس أقدام وثماني بوصات» (هنا لاحظتُ أن عيني الرقيب مُثبتة عليَّ بنظرةٍ شزراء عليمة).

قال الجرَّاح التابع للشرطة: «قدرت الطول بأنه خمس أقدام وثماني بوصات ونصف، ولكننا سنتأكد حين نرى عظام الساق السُّفلية. أين وُجِدت هذه المجموعة، يا ديفيس؟»

«في بركة على الطريق في لوردز بوشيز يا سيدي، لقد ذهب المُحقق الآن إلى …»

قاطعه الرقيب قائلًا: «لا يُهم أين ذهب. أجب عن الأسئلة وحسْب وانتبه إلى عملك.»

توبيخ الرقيب نقل إليَّ تلميحًا لم أتوانَ في التصرُّف على أساسه. وبعيدًا عن زميلي المهني الودود، كان من الواضح أن الشرطة كانت تميل للتعامل معي كمُتطفل يجب إبعاده عن «المعرفة» بقدر الإمكان. وبالتالي، شكرتُ زميلي والرقيب على لُطفهما، مُودِّعًا، حتى نلتقي في التحقيق، وغادرتُ وابتعدتُ سريعًا حتى وجدتُ لي موقعًا خفيًّا يمكنني من عنده أن أُبقي باب المشرحة على مَرمى البصر. وبعد مرور بضع دقائق، رأيتُ الشرطي ديفيس يخرج ويبتعد ليسير على الطريق.

رأيتُ هيئته تتضاءل سريعًا حتى ابتعد بقدر المسافة التي رأيتها مُستحبة، ثم بدأتُ أسير وراءه. كان الطريق يقود مباشرة بعيدًا عن القرية، وبعد أقل من نصف ميل كان يُفضي إلى ضواحي الغابة. عند هذه النقطة، أسرعت خطواتي لأقترب بعض الشيء، لينحرف فجأة من الطريق ويتخذ ممرًّا ضيقًا محفوفًا بالأشجار، حيث غاب عن ناظري لبعض الوقت. وما زلتُ أسرع الخُطى حتى رأيته مرة أخرى وهو ينحرف إلى طريق ضيق يُفضي إلى غابة من أشجار الزان ذات شجيرات كثيفة من نبات الإيلكس، تعقَّبته على طولها لعدة دقائق، وتضاءلت المسافة بيننا، حتى وقع فجأة على أُذني صوتٌ إيقاعي مثل خشخشة مضخَّة. وسرعان ما سمعتُ أصوات رجال، ثم قطع الشرطي الطريق إلى داخل الغابة.

في تلك اللحظة، تقدَّمت بمزيدٍ من الحذر، محاولًا تحديد مكان فريق البحث من خلال صوت الخشخشة، وحين انتهيتُ من ذلك اتخذتُ عطفة صغيرة بحيث يمكنني الاقتراب من الاتجاه المعاكس إلى تلك العطفة التي ظهر من عندها الرقيب.

لا يزال ضجيج المضخة يُرشدني، أخيرًا خرجت من فتحة صغيرة بين الأشجار وتوقفت لمراقبة المشهد. كان هناك بركة صغيرة تشغل وسط الفتحة، عرضُها لا يتعدَّى عشرات الياردات، بجوارها وقفتْ عربة بناء. من الواضح أن العربة الصغيرة ذات العجلتين استُخدمت في نقل معدَّاتٍ وضعت على الأرض بجوارها، والتي تتكوَّن من أصيص كبير — أصبحت حينذاك ممتلئة بالماء — ومجرفة وشوكة حشائش ومنخل ومضخة محمولة، والأخيرة مُثبَّت بها خرطوم طويل. كان هناك ثلاثة رجال إلى جوار الشرطي، أحدهم كان يحاول تشغيل مقبض المضخة، بينما كان الآخر ينظر في ورقةٍ سلَّمها الشرطي له توًّا. نظر إلى أعلى بحدة أثناء ظهوري في المشهد ورمقني بنظرة استياء صارخة.

وقال: «مهلًا، يا سيدي! لا يمكنك المجيء إلى هنا.»

وها أنا بعد أن أدركتُ أنني فعلًا موجود هنا، كانت غلطةً واضحة، وغامرت بالإشارة إلى المُغالطة.

«حسنًا، لا يمكنني أن أسمح لك بالبقاء هنا. مُهمتنا ذات طبيعة سرية.»

«أعرف بالضبط ما هي مهمتك، أيها المُحقق بادجر.»

قال وهو يتفحَّصني بابتسامةٍ ماكرة: «أوه، أتعرف حقًّا؟ وأتوقع أنني أعرف ما هي مهمتك أيضًا. ولكن لا يمكننا أن نقبل وجود أمثالك من أهل الصحافة يتلصَّصون علينا في الوقت الحالي، ولذا ارحل وحسب.»

رأيتُ أنه من الأفضل أن أُحرره من الوهم على الفور، وبالتالي، بعد أن أوضحتُ له من أكون، عرضتُ عليه تصريح الطبيب الشرعي، والذي قرأه بانزعاجٍ واضح.

وقال وهو يُعيد لي الورقة: «هذا جيد جدًّا يا سيدي، ولكنه لا يسمح لك بالتجسُّس على إجراءات الشرطة. أي بقايا سنكتشفها سنودعها في المشرحة، حيث يمكنك أن تفحصها كما تشاء؛ ولكن لا يُمكنك البقاء هنا ومُراقبتنا.»

لم يكن لديَّ هدف محدَّد من مراقبة إجراءات المحقق؛ ولكن تلميح الرقيب غير المتحفِّظ أثار فضولي، الذي زاده رغبة السيد بادجر الواضحة في التخلُّص منِّي. علاوة على ذلك، بينما كنَّا نتحدث، توقفت المضخة (الآن صارت الأرضية الموحلة للبركة مكشوفةً بالكامل)، وكان مساعد المُحقق يتعامل مع المجرفة بنفاد صبر.

قلتُ بنبرة مُقنعة: «الآن، وقد أوضحتُ لك الأمر أيها المحقق، هل من الحكمة أن تسمح أن يُقال عنك إنك رفضت مُمثلًا مفوضًا من أفراد الأسرة للتحقُّق من أي تصريحاتٍ قد تُدلي بها فيما بعد؟»

سألني قائلًا: «ما الذي تقصده؟»

«أقصد أنه إذا صادف وعثرتَ على بعض العظام التي ربما تكون جزءًا من جثة السيد بيلينجهام، فتلك الحقيقة من شأنها أن تكون ذات أهمية بالنسبة لأسرته أكثر من أي شخصٍ آخر. تعرف أن ثمة ممتلكات قيمة جدًّا ووصية صعبة التنفيذ جدًّا.»

«لا أعرف ذلك، ولا أرى علاقة ذلك بالموقف الآن.» (ولا أنا كذلك) «ولكن بما أنك أوضحتَ الغرض من الوجود أثناء البحث، فلا يمكنني الرفض رفضًا باتًّا. عليك ألا تعترض طريقنا وحسب، هذا كل ما في الأمر.»

وعند سماع هذا القرار، أمسك مساعده، الذي بدا أشبه بضابطٍ يرتدي ملابس مدنية، بمجرفته ونزل إلى الوحل الذي يُمثل قاع البركة، وأخذ ينحني ويُحدِّق النظر وسط كُتَل من الحشائش التي تشابكت معًا بسبب انحسار المياه. راقبه المُحقق في توتر، مُحذرًا إيَّاه من وقتٍ إلى آخر بأن «ينتبه حيثما يطأ.» ترك العامل المضخة ورفعها من عند حافة الوحل، ونظرتُ أنا والشرطي من عند موقعنا الخاص. ظل البحث بلا جدوى لبعض الوقت. وما إن انحنى المُنقِّب وأمسك بما تبين أنه قطعة من الخشب المُتحلل، اكتُشِفت بقايا طائر زرياب نفق منذ فترة طويلة، وفُحص ثم استُبعد. فجأة انحنى الرجل بجانب بركةٍ صغيرة تُركت في إحدى التجاويف الأكثر عمقًا، وحدَّق باهتمام في الوحل، ثم نهض واقفًا.

صاح قائلًا: «ثمة شيء هنا أشبه بعظمةٍ يا سيدي.»

قال المُحقق: «لا تنبشه إذن. حرِّك مجرفتك مباشرة في الوحل حيثما رأيته وضعْه في الغربال.»

اتبع الرجل هذه التعليمات، وبينما كان مُتجهًا نحو الشاطئ بكومةٍ كبيرة من الوحل اللزج على مجرفته، انكببْنا جميعًا على الغربال، الذي أخذه المُحقق ورفعه فوق الأصيص، آمرًا الشرطي والعامل أن «يمدَّا يد العون»، بمعنى أن يلتفُّوا حول الأصيص ويحجباني تمامًا بقدر الإمكان. وبالفعل، قاما بذلك بكفاءةٍ عالية وبمساعدة منه، وحين وُضِعت كمية من الوحل في الغربال، انحنى الرجال الأربعة عليه وكادوا أن يحجبوه عن الأنظار؛ واستطعتُ من خلال مدِّ عنقي أولًا من جهة ثم من الجهة الأخرى أن أُلقي نظرة خاطفة عليه، ولاحظتُ أنه يذوب تدريجيًّا أثناء هزِّ الغربال المغمور في الماء، جيئةً وذهابًا.

وفي التوِّ رفع المحقق الغربال من المياه وانحنى فوقه عن قرب أكثر ليفحص محتوياته. ولم يسفر الفحص عن نتائج حاسمة من الناحية الظاهرية؛ حيث صاحبه مجموعة من الهمهمات المُريبة جدًّا.

وأخيرًا، وقف الضابط والتفتَ إليَّ بابتسامة ودودة ولكنها ماكرة، ورفع الغربال أمامي لأتفحَّصه.

وقال: «أتودُّ أن ترى ماذا وجدنا أيها الطبيب؟»

شكرتُه ووقفت عند الغربال لأُلقي نظرة. كان يحتوي على خليطٍ من بقايا الأغصان الميتة، وحطام أوراق الشجر، وأعشاب ضارة، وقواقع مُستنقعات، وأصداف ميتة، ومحار المياه العذبة التي يتوقع المرء أن يستخرجها من وحل مستنقع قديم؛ ولكن بالإضافة إلى هذا، كانت هناك ثلاث عظام صغيرة أدهشتني من الوهلة الأولى حتى عرفتُ ماهيتها.

نظر إليَّ المحقق مُستفهمًا وقال: «ها؟»

أجبت قائلًا: «أجل، مُثير للاهتمام جدًّا.»

«أظن أنها عظام بشرية، ها؟»

أجبت: «حريٌّ بي أن أقول إنها كذلك بلا شك.»

قال المحقق: «الآن، هل يمكنك أن تُخمِّن من تخصُّه عظام الأصابع هذه؟»

كتمتُ ابتسامة عريضة (لأنني كنت أتوقع هذا السؤال) وأجبته قائلًا:

«يمكنني أن أُخمِّن وأقول إنها ليست أصابع. وإنما هي عظام إصبع القدم اليُسرى.»

فغَر المُحقق فاهُ من فرط الدهشة.

وغمغم قائلًا: «اللعنة! ظننتُ أنها تبدو سمينةً بعض الشيء.»

قلت: «أظنُّ أنك إذا توغَّلت في الوحل إلى قرب المكان الذي عثرتَ فيه على هذه العظام، فستجد باقي القدم.»

في الحال، تقدم الرجل الذي يرتدي ملابس مدنية ليتصرَّف بناءً على مُقترحي، وأخذ معه الغربال ليوفر الوقت. وكما هو متوقع، وبعد ملء الغربال مرَّتين بالوحل من قاع المُستنقع، ظهر إلى النور هيكل القدم بأكمله.

قال المُحقِّق حين قمتُ بفحص العظام ووجدتها جميعها كاملة: «أظن أنك سعيد الآن.»

أجبتُ قائلًا: «لا بدَّ أن أصبح أكثر سعادة إذا عرفتُ ما الذي كنتَ تبحث عنه في هذه البركة. لم تكن تبحث عن القدم، أليس كذلك؟»

ردَّ قائلًا: «كنتُ أبحث عن أي شيء ربما أجده. ولعلِّي أواصل البحث حتى نجد الجثة بأكملها. ولعلِّي أفتش جميع الجداول المائية والبرك حول هذا المكان، باستثناء بحيرة كونوت ووتر. لعلِّي أتركها لتكون الملاذ الأخير، نظرًا لأنها تتطلَّب إنزال معدات الجرف من زورق وهذا غير مرجَّح بالنسبة للبرك الأصغر حجمًا. ربما يكون الرأس هناك؛ فهي أعمق من البحيرات الأخرى.»

لقد خطر على بالي الآن بعد أن عرفتُ كل ما هو من المرجَّح لي أن أعرفه، وهو ما كان قليلًا بما يكفي، أنه حان لي الوقت لأترك المُحقق يتابع إجراءات البحث دون الشعور بالحرَج من وجودي. ومِن ثَم، شكرته على مساعدته وغادرتُ من الطريق الذي جئتُ منه.

ولكن بينما تتبعتُ خطواتي على طول الطريق الوارف الظلال، تفكرتُ بعُمق في إجراءات الضابط. لقد أسفرت فحوصاتي لليد المشوهة عن استنتاجٍ مفاده أن الإصبع بُترت بعد الوفاة أو بعدها بوقتٍ قصير، ولكن المرجَّح أكثر أن هذا حدث بعد الوفاة. ولقد توصَّل أحدهم بكل وضوحٍ إلى نفس الاستنتاج، وقد عبَّر عن رأيه أمام المُحقق بادجر؛ نظرًا لأنه من الواضح أن الرجل مُتحمس جدًّا بخصوص الإصبع المفقودة. ولكن لماذا يبحث عنها هنا في حين أن اليد عُثر عليها في منطقة سيدكوب؟ وما الذي يتوقَّع معرفته حين يعثر عليها؟ ليس هناك شيء مُميز بخصوص الإصبع، أو على الأقل، عظام الإصبع؛ وهدف إجراءات البحث الحالية هو تحديد هوية الشخص صاحب هذه البقايا من العظام. ثمة شيء غامض يُحيط بالقضية، شيء يُوحي بأن المحقق بادجر بحوزته معلومات سرية. ولكن ما نوعية المعلومات التي قد تكون في حوزته؟ ومن أين حصل عليها؟ كانت هذه أسئلة لم أستطع أن أجد الإجابة عنها، وأخذتُ أفكر فيها بلا جدوى حتى وصلتُ إلى النزل المتواضع حيث من المُقرَّر أن يُجرى التحقيق، وحيث اعتزمت أن أقوي نفسي بوجبة غداء متواضعة استعدادًا لحضور التحقيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤