الخرافة العاشرة

شكسبير كان يكره زوجته
وصية شكسبير وثيقة مثيرة من أوجه عدة. وإذ هي مؤرخة بالخامس والعشرين من مارس عام ١٦١٦، ومحفوظة بالأرشيف الوطني بمدينة كيو، ومن إعداد محاميه فرانسيس كولينز، فهي تمتد في ثلاث صفحات ومسودة ثانية، تُظهر تعديلات وتصحيحات.1 وتحوي نصف الأمثلة الباقية لتوقيع شكسبير الذي نعرف به — توقيع واحد على كل صفحة. ويوحي تحليل الخطوط القديمة بأن المُوَقِّع كان واهنًا وسقيمًا.2 (يُذكر أن شكسبير تُوُفِّيَ بعد كتابة وصيته بشهر واحد). وربما، على غير المتوقع، لا يوجد ذكر لأي كتب أو أوراق ضمن الممتلكات الْمُزْمَع توزيعها (فأي مسودات مسرحية كان من المفترض بطبيعة الحال أن تظل ممتلكات فرقة «رجال الملك»؛ طالع الخرافة الرابعة). على النَّقِيض من بعض العِصاميين الآخرين، لم يكن شكسبير خَيِّرًا على نحو مميز في التصرف في ممتلكاته للأغراض الخيرية: على سبيل المثال، وهب الممثل إدوارد إلين لكلية دلويتش، وترك مالًا لبناء عشرة ملاجئ للفقراء في ساذورك إبان وفاته عام ١٦٢٦. وبالمقارنة بهذا الكرم، تبدو الجنيهات العشرة التي تركها شكسبير لفقراء ستراتفورد باعثة على السخرية. ويبدو أن شكسبير فضَّل، بدلًا من ذلك، ابنته سوزانا وزوجها المحترم، طبيب ستراتفورد، جون هول، على أختها الصغرى جوديث التي كان زوجها العَثِرُ الحَظِّ قد مثل مؤخرًا أمام محاكم الكنيسة، لتَسَبُّبِه في حَمْل امرأة من أهل بلدته قبل زواجه. واعتاد شكسبير أن يقدم هدايا صغيرة لأصدقاء من ستراتفورد ومن عالم المسرح في لندن، مُمَيِّزًا عن الجميع زملاءه بفرقة «رجال الملك»، ريتشارد بيربيج، وجون هيمينج، وهنري كوندل بهدايا تتيح لهم شراء خواتم حِداد. لكن الوصية اشتهرت شهرة واسعة بسبب واحد من شروطها الأخيرة. وردت عبارة مُقحمة داخل فراغ بين سطرين مفادها: «بند. أهب زوجتي ثاني أفضل أَسِرَّتي مع الأثاث.» واضح أن آن هاثاوي لم تُذْكَر إلا بعد إعادة نظر، وكان ما خُصِّصَ لها زهيدًا: ثاني أفضل سرير، مكافأة لها على ثلاثة أطفال وزواج امتد لأكثر من ثلاثة عقود. هل مِن شك أن هذا دليل على احتقار شكسبير لزوجته ورغبته في استغلال وصيته للتعبير عن كراهيته لها؟
fig4
شكل ٣: توضح الوصية تَرِكَة آن في صورة بند مُقحم، أهي خاطرة متأخرة؟ (يُعاد تقديمها بتصريح من الأرشيف الوطني).
ربما. إن ما جعل قصة ثاني أفضل سرير جذَّابة جدًّا في الرواية المتعلقة بزِيجَة شكسبير التَّعِسَة هو الطريقة التي يمكن أن تتناغم بها مع أشياء نعتقد أننا نعرفها عن العلاقة بين ويليام وآن؛ أولًا: زواجهما نفسه؛ لأن آن كانت حبلى، كما هو واضح، عند زواجهما أواخر عام ١٥٨٢ (وُلِدَت سوزانا، ابنتهما الكبرى، بعد زواجهما بستة أشهر)، ولأن الزواج لم يتم بالطريقة التقليدية بالإعلان عن المناسبة على مدار أيام آحاد متعاقبة، ولكن بتصريح من أسقف مدينة وستر، وهو ما قد يوحي بشيء من التعجل، كان كُتَّاب السِّيَر حريصين على استشفاف إحساس بالتردد أو الإجبار من جانب العروس. كما يوجد خطأ واضح ارتكبه كاتب الأبرشية الذي كتب اسم العروس «آن ويتيلي» — وثمة تخمين رومانسي لكنه من نوع خيالي بالكامل، يختلق هذا الشخص الغامض باعتبار أنه الطرف الثالث في علاقة حب ثلاثية الأطراف: آن وآن وشكسبير. والأدهى من ذلك أن آن هاثاواي — معاذ الله — كانت أكبر سنًّا من زوجها. وبحسب ما جاء على لسان كاتب السير الجاف الأسلوب نوعًا ما صامويل شونباوم، ﻓ «الشهادة القاطعة» هي أن «آن كانت أكبر من زوجها بسبع سنوات أو ثمان، وأنها بلغت السادسة والعشرين عام ١٥٨٢؛ أي إن زواجها تأخر بعض الشيء، ووفقًا لمعايير تلك الأيام، فما كان منها إلا أن اتخذت عشيقًا مُراهِقًا وحبلت منه وتزوجته.»3
ويرسم ستيفن ديدالاس الموقف بصورة أكثر تنوعًا، وبالأسلوب الحافل بالجناس والإيحاء، الذي يميز رواية «عوليس» لجيمس جويس:
هل أساء الاختيار؟ يبدو لي أن الاختيار وقع عليه. إذا كان للآخرين إرادتهم، فآن كانت تمتلك طريقة. أقسم أن اللوم يقع عليها؛ فهي التي أقنعته بمرادها؛ إذ كانت غَضَّة وفي السادسة والعشرين من عمرها. ها هي الإلهة الشمطاء تنثني على الصبي أدونيس، وتتمسكن حتى تتمكن، كاستهلال للتكبر، ها هي امرأة ستراتفورد الوَقِحَة تُوقِع في شِباكها عاشقًا أصغر منها.4

والتناظُر هنا مع أدونيس الكاره الذي تَخْطُب وُدَّه الإلهة العاشقة فينوس في قصيدة شكسبير الأولى ذات الشعبية الكبيرة، والسرد الإيروتيكي «فينوس وأدونيس» (١٥٩٣). ومما زاد الطين بِلَّة ذِكْرُ دَيْن مقداره جنيهان، وهو المبلغ الذي اقترضته آن شكسبير، في وصية راعي ستراتفورد، توماس ويتنجتون، وهو ما يوحي، كما هو واضح، بأن زوجها لم ينفق عليها النفقة الكافية. كانت الزِّيجَة خاوية وخالية من الحب، هذا ما اتفق عليه كُتَّاب السير الذاتية غالبًا؛ ولذا فلا عجب أن يُعَجِّل شكسبير بالسفر إلى لندن تاركًا خلفه هذه العائلة غير المرغوبة. شكسبير المسكين (المحاصر على غير رغبته)، أو إن شئت قل شكسبير الظالم (الذي يُعامل عائلته بجفاء وقسوة).

حقيقة الأمر أن شكسبير حافظ على روابط قوية بستراتفورد طوال حياته، بشرائه ممتلكات هناك، ومنها نيو بليس عام ١٥٩٧، ومحافظته على علاقات عمل أيضًا. وفي المقابل، نجد أنه لم يشترِ ممتلكات في لندن حتى الفترة الأخيرة من مشواره الأدبي، ولكنه عاش في سلسلة من المَهَاجِع. وعليه فليس من الواضح قط أنه تخلى عن عائلته أو جعل حياته المستقرة في لندن من دونهم. واقْتُرِحَت أيضًا أدلة أدبية على علاقة أكثر دفئًا بين الزوجَيْن، ومن ذلك الإيحاء بأن واحدة من القصائد الأقل اكتمالًا التي جُمِعَت في مجموعة سونيتاته، ونُشرت لأول مرة عام ١٦٠٩، هي عمل مُبَكِّر يُخاطب به آن بالعبارة الشفرية «هيتاواي»:

شفتا عشيقتي التي صنعتهما يدا الحب نفسه،
قالتا لي «أكره»
أنا الذي أتوق إلى حبها؛
لكن عندما رأت حالتي التي يُرْثَى لها،
شعرت بالرأفة في قرارة نفسها،
فَلَانَ لسانُها العذب،
الذي لم يكن قاسيًا في غير هذه المناسبة؛
ولقنت لسانها أن يتحدث إليَّ بطريقة عاشقة جديدة؛
إذ أضافت بضع كلمات لكلمة «أكره»،
وتتابعت تلك الكلمات التي أضافتها كنَهَار بَديع
يتبعه الليل كشيطان
يَفِرُّ من الفردوس إلى الجحيم؛
فألقت ﺑ «أكره» hate من «أنا أكره» بعيدًا away
وأنقذتْ حياتي بقولها «لستَ أنت».
(سونيتا ١٤٥)

وإذا صح ذلك، فالعلاقة بينهما يُسَلَّط عليها ضوء جديد غير مألوف، حيث يحل المتحدث الذي «تاق إلى حبها» محل المتودد الممتنع الذي كثيرًا ما يتخيله كتَّاب السير (تقاليد السونيتات محاذير مهمة هنا: طالع الخرافة الثامنة عشرة).

لا يمكننا، بالطبع، أن نُحيط علمًا بأسرار زواج شكسبير، ولا يمكننا، في إطار تصورنا المثالي الغربي الحديثِ عن الزواج باعتباره اتحادًا ما بين عقلين كما هو بين جسدَيْن، فَهْمَ التوقعات الأكثر براجماتية في بدايات العصر الحديث التي ربما اتسمت بها هذه العلاقة. كان المعلقون المنتمون لعصر النهضة أكثر نزوعًا إلى مناقشة الصداقة بين الرجال بالألفاظ الحميمة العاطفية التي ربما نستخدمها نحن الآن حصرًا لتوصيف العلاقات الرومانسية. وكما قال ميشيل دي مونتين في «المقالات»، المترجمة إلى الإنجليزية عام ١٦٠٣ في نسخة نُوقِن أن شكسبير رَجَعَ إليها بكثرة (طالع الخرافة الثانية): «إذا حَثَّني رجلٌ على أن أخبره بِعِلَّة حبي له، أشعر أن ذلك له لا يمكن التعبير عنه، لكنني أجيبه: لأنه كان هو، ولأني كنت أنا.»5 كثير من مسرحيات شكسبير الكوميدية تضع الزواج في قالَب درامي، باعتباره المدمر المؤلم للعواطف القوية بين الرجال، كعلاقة الصِّبَا المثالية بين ليونتس وبوليكسينز في مسرحية «حكاية الشتاء» اللذين «رقصا فرحًا تحت أشعة الشمس كحَمَلَيْن توءمين» ثم «تَعَثَّرَا» وفقدا براءتهما فقط عندما دخلت المرأة في الصورة (الفصل الأول، المشهد الثاني، البيتان ٦٩ و٧٧). وبالمثل، ليس من قَبِيل المصادفة أنه عندما يُقْسِم بينيديك في مسرحية «جعجعة بلا طِحْن» على حبه لبياتريس، ويدعوها إلى أن تطلب أي شيء منه، يكون جوابها الْمُقْتَضَب: «اقْتُلْ كلاوديو.» (الفصل الرابع، المشهد الأول، البيت ٢٩٠): فعلى بينيديك أن يقتل أعز أصدقائه إذا أراد أن يكون مع حبيبته.
ولكن، إذا عجزنا عن معرفة أسرار سرير الزواج (الأفضل أم ثاني أفضل سرير)، فيمكننا أن نعي العمليات الثقافية لخرافة الزوجة التي لا تفهم زوجها العبقري. عَنْوَنَتْ جيرمين جرير الفصل الأول من مؤلفها الدفاعي المتحمس عن آن هاثاواي ضد الفرضيات الكارهة للنساء المبنية على دليل واهن جدًّا «النظر في السمعة السيئة للزوجات عمومًا، وزوجات الأدباء خُصوصًا، والامتهان التقليدي لزوجة رجل الألفية.» وتوضح جرير ببراعة أن تصوير زوجة شكسبير بالمرأة الحمقاء أو الشَّكِسَة أو سليطة اللسان أو الباردة عاطفيًّا واحد من مجازات السير الأدبية؛ ومن ثم فهو جزء من البنية الأيديولوجية للعبقرية الإبداعية الذكورية.6
وبهذا تتفق مسألة ثاني أفضل سرير مع مجموعة كاملة من الحقائق المتناثرة في سيرة شكسبير، وتساعد على تحويلها إلى رواية لزِيجَة تَعِسَة لا يُنْحَى فيها باللائِمَة عادةً على شكسبير المراهق. ولقد أوحت محاولات الباحثين الدفاع عن شكسبير فيما يتعلق بتهمة إساءة معاملته لزوجته بأن ثاني أفضل سرير لدى الأسرة الجيكوبية هو سرير العُرْس، حيث يُخَصِّص أفضل الأسِرة للضيوف؛ ولذا فإن التَّرِكة كانت رومانسية الطابع. وأكد كاتب السير العاطفية إيه إل روز أن تركة شكسبير لَفْتَة تنم عن العناية الشديدة والكرم تجاه زوجته، ردًّا على رأي كاثرين دنكان-جونز حول «وضاعة» التركة.7 وتُطَوِّر سونيتا كارول آن دافي المعنونة «آن هاثاواي» تفسير روز بأسلوب حسي: «السرير الذي مارسنا فيه الحب كان عالمًا دوَّارًا / من الغابات والقصور وأضواء المشاعل وقمم المنحدرات والبحار / حيث كان يغطس بحثًا عن اللآلئ» (الجزء الثاني، الأبيات ١–٣).8 أو أكد الاعتذاريون الحقوق المتبقية المستحقة للأرامل، على الأقل بحسب أعراف لندن، أو افترضوا أن شكسبير عَلِمَ أن زوجته ستكون موضع رعاية سوزانا وجون. تميل الحجج هنا، كما هو معتاد، إلى الانطلاق من النتيجة المنشودة رجوعًا إلى النظر في الدليل، لا من العكس.
إذا لم نستطع أن نعرف ما إذا كانت تركة شكسبير لزوجته الممثلة في ثاني أفضل سرير لديه عام ١٦١٦ دليلًا على إهماله لها، فهل هذا مهم؟ ليس لشكسبير الكاتب المسرحي. كما برهنت الخرافات السابعة والثانية عشرة والثامنة عشرة، لم يكن شكسبير ولا أيٌّ من المؤلفين المسرحيين المعاصرين له يكتب من تلقاء سيرة حياته. كان هناك ركن رئيس لنماذج التعلم ذات النزعة الإنسانية، المنسوخة بكثرة في مناهج مدارس القواعد اللغوية، كمنهج مدرسة الملك الجديدة في ستراتفورد، يُعْرَف باسم utramque partem (كِلا جانِبَيِ المسألة). كان هذا التدريب على القدرة على المحاجة من وجهتي النظر كلتيهما لموضوع ما تشكيليًّا للأجيال التي أَلَّفَت أعمالًا للمسارح الإليزابيثية الجديدة وارتادتها، حيث أهَّلَهَم هذا التدريب للشكل الروائي البلاغي الذي حضرت فيه دومًا منظورات مختلفة في آنٍ واحد. ولا يمكننا ببساطة هكذا أن نستنتج أي شيء عن شكسبير الإنسان من شكسبير الأعمال، وحتى في تلك اللحظات التي قد تبدو فيها كتاباته اعترافية الطابع جدًّا، فهي تتشكل بالتقليد والصنعة والخيال (طالع الخرافة الثامنة عشرة). وعليه فالبحث عن مواقف شكسبير من الزوجات في مسرحياته أو محاولة استخلاص الطريقة التي يتعامل بها مع النساء لا تجدي بالمرة.

ترى جرير أن مشهد المرأة النَّشِطَة التي ربما كانت أكثر دُنْيَوِيَّة أو خبرة وهي تَتَوَدَّد إلى شاب أكثر سذاجة أو معقود اللسان، في مسرحيات شكسبير الكوميدية، مصدرٌ للرضا الإيروتيكي والدراميِّ (لنفكر في روزاليند وهي تغوي أورلاندو في مسرحية «كما تشاء»، أو استمالة بورشيا لباسانيو في «تاجر البندقية»). إن تطبيق جرير البيوجرافي لهذه الملاحظة على العلاقة بين شكسبير وهاثاواي يجب أن يكون محظورًا، من وجهة نظر جدلية، شأنه شأن افتراضات كُتَّاب السير السابقين المتعلقة بأن التصويرات المتكررة للغيرة الذكورية الجنسية في مسرحيات شكسبير (في «عطيل»، أو «حكاية الشتاء»، أو «سيمبلين») تخبرنا بشيء عن خيانة آن هاثاواي المفترضة، أو، كما في تحليل ستيفن ديدالوس السابق، أن أدونيس المتردد يطلعنا بشيء عن التودد ما بين آن وويليام. وعلى أية حال، دائمًا ما تطرح مسرحيات شكسبير أمثلة متناقضة؛ فنساء مسرحيات شكسبير يتراوحن ما بين أوفيليا الرزينة وصولًا إلى كليوباترا الفاتنة، ومن كاثرين غير التقليدية («ترويض النمرة») إلى المظلومة إينوجين في مسرحية «سيمبلين». ومن الصعب بمكان أن نعرف أي تلك الشخصيات نختار لبناء قراءة بيوجرافية.

هوامش

(2) Samuel Schoenbaum, William Shakespeare: A Compact Documentary Life (Oxford: Oxford University Press, 1987), p. 297.
(3) Ibid., p. 82.
(4) James Joyce, Ulysses, ed. Jeri Johnson, World’s Classics (Oxford: Oxford University Press, 1998), p. 183.
(5) Michel de Montaigne, The essays or morall, politike and militarie discourses of Michaell de Montaigne, trans. John Florio (London, 1603): ‘On Friendship’, p. 92 (sig. I4v).
(6) Germaine Greer, Shakespeare’s Wife (London: Bloomsbury, 2007), p. 1.
(7) This particular skirmish was in the Times Literary Supplement, 18 and 25 November 1994.
(8) Carol Ann Duffy, The World’s Wife (London: Picador, 1999), p. 30.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤