الخرافة الحادية عشرة

كَتَبَ شكسبير مسرحياتِه بإيقاعات الكلام اليومي
يُحوِّل الأدب اللغة العادية ويُكَثِّفها، وينحرف على نحو منظم بعيدًا عن لغة الكلام اليومي. إذا دَنَوْت مني في محطة الحافلات وتمتمت «ما زلتِ عروس السكينة غير المستباحة»، فسأعلم على الفور أنني في حضرة الأدب. أعلم ذلك لأن مَلْمَسَ وإيقاعَ وصدَى كلماتِك يتجاوز معناها القابل للتجريد … ولغتك تلفت الانتباه لذاتها، وتستعلي على وجودها المادي كما لا تفعل ذلك تصريحات مثل «ألا تعلم أن السائقين اليوم مضربين عن العمل؟»1

إن المثال الذي يَسُوقه تيري إيجلتون للكلام الأدبي، ألا وهو البيت الأول لقصيدة كيتس «قصيدة عن مزهرية إغريقية»، هو أيضًا مثال لأشهر الأنماط العروضية في كتابات شكسبير: البحر الخُماسي التفاعيل. ويَبْنِي هذا البحرُ نمطًا من خمس تفعيلات كلٍّ منها مكونة من زوج من المقاطع غير مشدد / مشدد، نقرؤها عادة على النحو الآتي: «دي-دم، دي-دم، دي-دم، دي-دم، دي-دم»، ومن ثم كان بناء البيت «ما زلت عروس السكينة غير المستباحة.» هناك الآلاف من الأبيات الشعرية التي تتبنى البحر الخماسي التفاعيل في أعمال شكسبير: «ولكن تَمَهَّلْ، ما هذا الضوء الساطع من النافذة هناك؟» («روميو وجولييت» الفصل الثاني، المشهد الأول، البيت ٤٤)، أو «عندما أحصي الساعة التي تُعْلِمنا بالوقت» (سونيتا رقم ١٢)، أو «إذا كانت الموسيقى وقود الحب، فلتواصلوا العزف» («الليلة الثانية عشرة»، الفصل الأول، المشهد الأول، البيت الأول) أو «فلتُخْفِ بتعابير وجهك الزائفة ما يعرفه قلبك الزائف.» («ماكبث»، الفصل الأول، المشهد السابع، البيت ٨٢). لكن البحر الخُماسي التفاعيل يتجلى، كما أشار كثير من النقاد، في الكثير من المواقف اليومية أيضًا: «إننا نعتبر هذه الحقائق بدهية» (السطر الأول من إعلان الاستقلال الأمريكي) – «الملك المتخبط يؤلف أنشودة هللويا» (أنشودة «هللويا» لليونارد كوهين) – «كوب صغير من القهوة، فضلًا، نتناوله بالخارج.» (كلامنا نحن في ستاربكس). من ناحية، يُعتبر البحرُ الخماسيُّ التفاعيلِ جزءًا من مجموعة من السمات التي تُجْمِل كل ما هو أدبي، ومن ناحية أخرى، فهو يتجلى في النثر والأغاني الشعبية والكلام اليومي؛ أيها؟

قد يساعدنا مثال من أعمال شكسبير على الإجابة عن هذا السؤال؛ فالإرشادات المسرحية في مسرحياته دائمًا ما تُكتب نثرًا. في النسخة الأولى ذات القطع الكبير لمسرحية «الملك لير» (١٦٠٨)، نجد الإرشاد المسرحي الآتي لريجان كي تَطْعَن خادمًا: تسحب سيفًا وتطعنه من الخلف (H2r). واختصر المسئول المسرحي الذي أعد النسخة التي وصلت إلى المطبعة بعدها بعدة سنوات، وتحديدًا عام ١٦٢٣، هذا الإرشاد مقتصرًا على جوهره: «تقتله» (H2r) (نظام ترقيم الأسطر، ٢١٥٥)، بطريقة تُلَبِّي الغرض. تقدم نسخة القطع الرُّبْعي ببساطة تفاصيل إضافية عن الطريقة التي تتم بها جريمة القتل على المسرح. لكنها تضيف شيئًا آخر أيضًا؛ بيتًا من الشعر. الإرشاد المسرحي لنسخة القطع الربعي نموذج مثالي للبحر الخُماسي التفاعيل. أهذا مثال على أسلوب شكسبير أثناء تأليفه مسرحياته؛ حيث ربط الحوار بالبحر الخماسي التفاعيل ولم يُسقط الإيقاع إذ كتب الإرشاد المسرحي؟ أم أنه مثال آخر على الإيقاعات الشعرية للغة الكلام اليومية؟ بالطبع هو الاثنان معًا.
يصف ديريك أتريدج، في كتابته عن الأشكال الشعرية، الشعر الخماسي التفاعيل بأنه يمتلك «بنية إيقاعية ضعيفة نسبيًّا، حيث لا ينقسم إلى أسطر نصفية ولا يُشكِّل وحدات أكبر. ويمكن أن يكون أو لا يكون مقفًّى أو مُؤَلَّفًا من مقطوعات أو مُسْتَرْسَلًا؛ فهو لا يستفيد من الإيقاعات الافتراضية (إيقاعات صامتة يوحي بها النمط الإيقاعي).» ويضيف أتريدج أن هذه «السمات تجعل هذا البحر مناسبًا تحديدًا لاستحضار الكلام والفكر.»2

يستطيع شكسبير أن يُوَظِّف أبياتًا على نَسَق البحر الخماسي التفاعيل بوصفها جزءًا من اللغة الأدبية الرسمية الراقية، أو إشارة أكثر ميلًا إلى المحادثة؛ لننظر إلى الحوار بين جولييت وممرضتها عن الضيف غير المتوقع الذي حضر حفل آل كابوليت:

الممرضة : اسمه روميو، وهو من آل مونتاجيو؛
إنه الابن الأوحد لأَلَدِّ أعدائك.
جولييت : الرجل الوحيد الذي أعشقه هو ابن الرجل الوحيد الذي أكرهه!
(الفصل الأول، المشهد الخامس، الأبيات ١٣٥–١٣٧)

هذا بحر خماسي التفاعيل شعري، لكنه أيضًا حوار تعبيري؛ فالممرضة تقدم لجولييت معلومات: اسم روميو ونسبه. لكنه أيضًا حوار ذو نمط واضح جدًّا: استجابة جولييت ببيت واحد ذي بناء مُحَدَّد كطِباق ومُفارَقة. ويتعلق الأثر في هذا الموضع بالمفردات وترتيب الكلمات بقدر ما يتعلق بالإيقاع.

وهذا الضرب من التنوع لا يُعْمِل أثره داخل الحوار فقط، ولكن في كل بيت مكتوب بالبحر الخماسي التفاعيل أيضًا. ودائمًا ما يجنح البحر الخماسي التفاعيل نحو الإيقاع المُشَدَّد؛ ومن ثَمَّ فإن لحنه يتحرك بسرعة: وقَلْب هذا الإيقاع فعل استباقي وحماسي؛ فافتتاحية الملك ريتشارد المشهورة «الآن انتهت أزماتنا» («ريتشارد الثالث»، الفصل الأول، المشهد الأول، البيت ١) توحي، بمقطعها الأول المشدد، بأنه بقدر استحواذه على الوزن الشعري المتوقع، يستطيع الملك أيضًا أن يستحوذ على العرش. وعندما تتحدث جولييت، وهي بانتظار روميو، بالبيت المعكوس الوزن: «اغربي سريعًا أيتها الشمس المشتعلة» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، البيت ١)، يُجَلِّي نفاد صبرها الوزن الشعري؛ فهي لا تقوى على انتظار المقطع المشدد. وتتضمن التنويعات الأخرى على البحر الخماسي التفاعيل تنويعات مقطعية؛ فالبيت الأشهر لهاملت «أكون أو لا أكون؛ هذا هو السؤال» (الفصل الثالث، المشهد الأول، البيت ٥٨) ينتهي بمقطع إضافي غير مشدد (أحيانًا ما تسمى هذه الظاهرة بالنهاية «الأنثوية»). ولعل هذا يوحي بالطبيعة غير المكتملة لفكرة هاملت في هذا المشهد. (تقترح سيسيلي بيري، مدربة الأصوات المخضرمة لدى فرقة شكسبير الملكية أن هذه المقاطع الإضافية «يندر وجودها في المسرحيات التاريخية حيث الأحداث أكثر حسمًا، وربما أسرع إيقاعًا وأقل جدارة بالعناية.»)3

تنقطع الأبيات ما بين المتحدثين، بما يوحي كثيرًا بوعي قوي أو حتى جنسي لدى كل متحدث بإيقاع الآخر: اللقاء الأول بين كاثرين وبتروشيو في مسرحية «ترويض النمرة»، على سبيل المثال، أو الحوارات المشحونة بين أنجيلو وإيزابيلا في مسرحية «العين بالعين». التوتر بين ماكبث وزوجته إذ يستوعبان بعصبية تبعات مقتل دنكان نُفِّذ بتعليق البيت الخماسي التفاعيل بينهم:

ألم تتكلم؟
متى؟
الآن.
أثناء نزولي؟
(الفصل الثاني، المشهد الثاني، البيت ١٦)
وتقوى شوكة إيقاعات المشهد بقدر أكبر بفعل القرع المستمر على أبواب القلعة. في مقالة عن المسرحية، لاحظ الشاعر الرومانسي المدمن للأفيون توماس دي كوينسي أن هذا القرع يوقظ عالم المسرحية من الغفوة الحالمة التي تقع فيها جريمة القتل، لكن إيقاع البحر الخماسي التفاعيل نسخة أكثر دقة من الشيء عينه: «نبضات الحياة بدأت تقرع مجددًا.»4 وكون البحر الخماسي التفاعيل يتمتع بإيقاع أشبه بنبضات القلب تصور جميل، ومن المفيد محاولة الربط ما بين الإيقاع الشعري والإيقاعات الفسيولوجية (ولو أنه تصور إنجليزي التمركز نوعًا ما؛ فاللغات الأخرى تتمتع بأوزان شعرية مختلفة تمامًا، حتى رغم امتلاك الناطقين بها للسمات الجسمانية عينها).
إذا لم يكن البحر الخماسي التفاعيل ظاهرة جسمانية إنجليزية، فهو ليس تقليدًا دراميًّا إنجليزيًّا أيضًا. لم يكن لدى المؤلفين المسرحيين الإليزابيثيين تاريخ زاخر بالمسرحيات ذات البحر الخماسي التفاعيل. ووُضِعَت الروايات الغامضة القروسطية في تنويعة من البنى المقاطعيَّة، وكانت الوحدة السمعية تتحقق جزئيًّا عبر الجناس الاستهلالي. وعادةً ما كانت الفواصل المسرحية والأعمال الكوميدية تُكتب بالمقاطع الشعرية الزوجية الأبيات المُقَفَّاة. ويَضْرِب لنا العمل الكوميدي «إبرة جامر جيرتن» (المنشور عام ١٥٧٥ ولكن ربما كُتِبَ إبان حكم الملكة ماري أو الملك إدوارد) مثلًا للدراما الجامعية: «يا للأسف يا هودج! يا للأسف! ربما ألعن وأحظر / هذا اليوم الذي رأيته فيه مع جِيب وقِدْر الحليب.» (الفصل الأول، المشهد الرابع، البيتان ١-٢).5 وفي نهاية القرن، كانت فرقة «رجال الملكة» المحترفة الناجحة بصدد أداء الأبيات الشعرية «الأربع عشرية» (والبيت منها يتألف من سبعة مقاطع مشددة) لمسرحية «السير كليومون والسير كلاميديس» (نُشرت عام ١٥٩٩). استمع إلى الحوار الآتي بين جوليانا والسير كلاميديس في المشهد الأول للمسرحية:
جوليانا : أقسم لي أن تؤدي ما سأقوله عنك.
كلاميديس : إن لم أفعل تأكدي سيدتي أنني لن أرجع أبدًا، أقسم لك.
جوليانا : إذن، بما أنك تبدو في حُلَّتك هذه فارسًا حديث عهد بفروسية؛
فخذ هذا الدرع الأبيض البكر، واحمل اسمك مع اسمي.

المشكلة واضحة؛ فالبيت الشعري الأربع عشري ينقطع لا محالة إلى أجزاء ويمسي أشبه بالهَرْوَلَة.

لقد كان كريستوفر مارلو هو الذي أنشأ الشعر المُرسل (ووُصِف ﺑ «المُرسل» لأنه غير مقفى) باعتباره وسيلة الشعر الدرامي، واستغل نطاقًا من البيت الخماسي التفاعيل الأكثر سلاسة، وأعلن عن ابتكاره في مقدمة مسرحيته «تَمبرلين» (١٥٨٧) إذ قال:

من الأشعار الركيكة التي تمخضت عنها القرائح الناصعة،
ومن تلك الألعاب البهلوانية التي تسلي الجماهير،
سنقودك إلى خيمة الحرب المهيبة،
حيث ستستمعون إلى تمبرلين السكوثيِّ
وهو يهدد العالم بألفاظ صاعقة جريئة.
إنه يعتزل الأشكال الدرامية القديمة من حيث الموضوع (حيث يَعِد القارئ بجنود، لا مهرجين) ومن حيث الصوت (حيث يَعِد بالبلاغة لا بالقوافي: «ألفاظ صاعقة جريئة»). لقد كان ما أقدم عليه تحولًا سمعيًّا في النموذج العام. ومن بعد هذا العمل، حاول كل الكُتَّاب المسرحيين تقريبًا في أوائل تسعينيات القرن السادس عشر محاكاة مارلو: بيل، وجرين، وناش، وشكسبير، وأنون. وليس المؤلفون وحسب هم الذين كانوا على وعي بصوت تمبرلين (البطل والمسرحية)؛ فالشخصيات الأدبية نفسها كثيرًا ما تذكر تجربة سماع تمبرلين أو الكلام على غراره تمبرلين. يقول سايمون أير، الإسكافي الذي صار عمدة في كوميديا توماس ديكر «إجازة الإسكافي» إنه لا يشعر بالتوتر من لقاء عِلْيَة القوم والشخصيات الملكية؛ لأنه «يعرف كيف يخاطب البابا والسلطان سليمان وتمبرلين لو كانوا أمامه» (الفصل العشرون، البيتان ٥٩-٦٠).6
ويعني أير في المقام الأول أنه يستطيع أن يتمالك أعصابه ويتحكم في نبرة صوته وألفاظه. لكن ثمة شخصيات أدبية أخرى لديها حساسية بالقدر ذاته تجاه الإيقاعات الشعرية والنثرية والفروق بين النوعين. في مسرحية جورج بيل «حكاية زوجة عجوز» (١٥٩٥)، ثمة شخصية تحدثت بالشعر السداسي التفاعيل (وهو الشعر المكون من ستة مقاطع مشددة) قائلة: «سأعدل الآن من هيئتي وأتحدث إليها نثرًا.» (الفصل الأول، البيت ٦٤١).7 وعندما يلقي أورلاندو التحية على جانيميد/روزاليند في مسرحية «كما تشاء» — «نهارك سعيد عزيزتي روزاليند!» — يَعتبر جاك هذه العبارة إشارةً له بالخروج: «لا، سأقول وداعًا إذا كنت تعتزم الحديث بالشعر المرسل.» (الفصل الرابع، المشهد الأول، البيتان ٢٩-٣٠). كان جاك يتحدث توًّا نثرًا إلى روزاليند؛ فهو يلفت انتباه الجمهور إلى حقيقة أن المشهد يتبدل الآن من النثر (الساخر) إلى الشعر (البتراركيِّ). وبالمثل نجد روزاليند حَسَّاسة شعريًّا؛ إذ تَقْتَبِس سيليا لأول مرة قصائد حب أورلاندو لها. وهي تنتقد هذه القصائد نظرًا لتفاعيلها المبالغ فيها (حيث تحوي «عددًا من التفاعيل لا تطيقه الأبيات الشعرية»؛ الفصل الثالث، المشهد الثاني، البيتان ١٦٢-١٦٣). وفي هذه المسرحية، نجد راعية الماعز، أودري، تتساءل حتى عن معنى «شاعري». وعندما يحاول بنيديك كتابة قصيدة حب في مسرحية أُلِّفَت بالكامل تقريبًا نثرًا، ألا وهي «جعجعة بلا طِحْن»، نراه على دراية بالسابقة الأدبية؛ فالعشاق الكلاسيكيون أمثال ليندر وترويلوس «ما برحوا يتحركون بسلاسة في الطريق الممهد للشعر المرسل» (الفصل الخامس، المشهد الثاني، البيتان ٣٢-٣٣). والشعر المرسل مُرادف للشعر. عندما يصل الممثلون إلى إلسينور، يتنبأ هاملت بأن الممثل الصبي الذي يلعب دور السيدة «ستفصح عما يجول ببالها بِحُريَّة وإلا سيتوقف الشعر المرسل.» (الفصل الثاني، المشهد الثاني، البيتان ٣٢٦-٣٢٧). وبتعبير آخر، إذا تعرضت للرقابة أو المقاطعة، فلن تتم الأبيات الشعرية.
من المثير ملاحظة تواريخ هذه المسرحيات الثلاث لشكسبير؛ فهي تجتمع كلها في الفترة ما بين ١٥٩٨ و١٦٠٠. وفي هذه المسرحيات نجد الشخصيات على دراية تامة بالعلاقات ما بين الدراما والحياة، وجزء من هذا الوعي هو وعي ذاتي بالصوت. في الفترة عينها، وفي مسرحية «يوليوس قيصر» (١٥٩٩)، يُعلِّق كاسيوس على القوافي المُتَنافِرة للشاعر الذي دخل إلى المشهد بمقطع شعري من بيتين في محاولة للإصلاح ما بين كاسيوس وبروتوس: «يا لبشاعة قوافي هذا الرجل!» (الفصل الرابع، المشهد الثاني، البيت ١٨٥).8 ويوافقه بروتوس الرأي، واصفًا الشاعر ﺑ «الأحمق ذي القوافي» (الفصل الرابع، المشهد الثاني، البيت ١٨٩) — وهي عبارة مُحَقِّرَة أشبه بعبارة مارلو «الأشعار الركيكة» (حشت نسخة شكسبير الخاصة بفرقة شكسبير الملكية هذه العبارة بأنها «مسجوعة على نحو متلون يفتقر للياقة من حيث الوزن الشعري»). وكما تشير حاشية نسخة فرقة شكسبير الملكية، فعادة ما تأتي الإشارات إلى القافية مُلازمة للإشارات إلى الوزن؛ فهما جزء من الوعي بالشكل الذي يجب أن يكون عليه الشعر.

في مسرحية مارستون «أنطونيو وميليدا» (١٥٩٩)، ثمة نقاش عن الوزن الشعري سرعان ما يتحول إلى حوار عن القافية (ويحفل أيضًا بالتَّوْرِيَات: كما تشهد تلك الأبيات الخماسية التفاعيل المنقسمة والمشحونة بشدة، فإن للإيقاع الشعري عنصرًا جنسيًّا). يحاول بالوردو أن يقرض قصيدة، فيقع خادمه ديلدو على خطأ في نظمه، وبعدها يطرح قافية (ركيكة):

بالوردو : سأمتطي جوادي السريع، وسأطعن العدو بكل جسارة.
ديلدو : «سأطعن العدو بكل جسارة» أطول من اللازم، وتكاد لا توائم البيت الشعري، سيدي.
بالوردو : سأتكلم بقافية قحة وسأطعن بكل شجاعة.
حتى إنني سأُلقي بالحب كما لو كان طُرْفَة — بكل شجاعة — قافية ﻟ «بكل شجاعة»؟
ديلدو : دثار.
(الفصل الرابع، المشهد الأول، الأسطر ٢٦٨–٢٧٣)

يعاني بنيديك المشكلة عينها في مسرحية «جعجعة بلا طِحْن» إذ يقول: «لا أستطيع أن أجد كلمة توافق قافية «سيدة» سوى «رضيع»» (الفصل الخامس، المشهد الثاني، البيتان ٣٥-٣٦).

لا يُناقش الآليون في مسرحية «حلم ليلة منتصف صيف» القافية، لكنهم منتبهون على نحو مبالغ فيه للوزن الشعري؛ فعندما يخططون لإضافة مقدمة لفاصلهم، فإن أبرز اعتباراتهم الوزن الشعري الذي يجب صوغ المقدمة وفقًا له. ويقترح كوينس «ثُمانية وسُداسية» (التبديل بين الأبيات الثُّمانِيَّة الْمَقاطِع والسُّداسِيَّة المقاطع)، ويُفَضِّل بوتوم إضافة اثنين فيقول: «لنكتبها بأبيات مزدوجة ثمانية المقاطع.» (الفصل الثالث، المشهد الأول، الأبيات ٢٢–٢٤). وتقترح شخصية في مسرحية شابمان «دليل النبيل» (١٦٠٥) تأليف «بيت شعري من ١٠ مقاطع» (أي خماسي التفاعيل) (الفصل الثاني، المشهد الثاني، البيت ٧١).9 ونحن، بين الجماهير، على دراية لا محالة بالأوزان الشعرية لشكسبير، ولو حتى لأن الشخصيات تلفت انتباهنا إليها. ولكن رغم أن الوزن والقافية عادةً ما يُستحضران في المسرحيات؛ فلا نستطيع أن ننظر إلى هذه الإشارات بمعزل عن الإشارات إلى اللغة عمومًا؛ فالشخصيات بدايةً من بولونيوس الكوميدي في مسرحية «هاملت» إلى البطل الرومانسي في مسرحية «أنطونيو وميليدا» على وعي دومًا لغويًّا. ها هو بولونيوس يحاول أن يكون ناقدًا أدبيًّا؛ إذ يقول: ««الملكة المقيدة» وجيهة» (الفصل الثاني، المشهد الثاني، البيت ٥٠٧). وها هو بطل مارستون أنطونيو يواجه قصور التشبيهات وعجزها عن التعبير عن جمال محبوبته:
انزلي؛ تنزل وهي أشبه ﺑ … أوه، ما من تشبيه
هل نفيس أو لائق أو أنيق كافٍ
لبيان نزولها؟ اقفز أيها القلب، فها هي آتية
ها هي آتية.
(أنطونيو وميليدا، الفصل الأول، المشهد الأول، الأبيات ١٥١–١٥٤)10

ببساطته الأحادية المقاطع — ولكن المتكررة — نجد أن عبارة «ها هي آتية» «شاعرية» شأنها شأن أي تشبيه.

يرجع الفضل نسبيًّا إلى الحركة الإنسانية (طالع الخرافة الثانية) في أن عصر شكسبير كان عصرًا واعيًا لذاته من الناحية اللغوية. وكان الوزن جزءًا من مجموعة عناصر مُركبة تؤلِّف اللغة الشعرية، تتضمن المفردات والاستعارات والقافية والأدوات البلاغية. وكل هذه العناصر تُشكل الفضاء الصوتي للمسرحية. وعند تضمين الضوضاء المسرحية — كالقرع في مسرحية «ماكبث» أو «ضرب الطبول» أو صوت «أجراس الإنذار» — سيتضح لنا أن «الصوت» كما يوظفه شكسبير يتجاوز كثيرًا التقطيع الآلي للأبيات الشعرية.

يجب ألا ننسى أن النثر له إيقاع أيضًا. قد لا يتبع النثر نسقًا محددًا وفقًا لقواعد معينة، كما هو حال الشعر، لكن له توازنه الداخلي الخاص وتطوراته التصاعدية وتكراراته التي تُعْمِل كلُّها أَثَرَها على آذاننا على نحو أشبه بأثر الشعر عليها. يقتحم مالفوليو مجلس الساهرين إلى ما بعد منتصف الليل في مسرحية «الليلة الثانية عشرة» قائلًا: «سادتي، هل أُصبتم بالجنون؟» (الفصل الثاني، المشهد الثالث، البيت ٨٣). إن الإطار التجانسيَّ يخلع على العبارة تناظرًا أنيقًا لا يختلف عن القافية، لكن العبارة أيضًا تتمتع بتَسارُع للإيقاع بسبب المقاطع الأحادية الثلاثة التي تفضي إلى التشديد الاختتامي على صفة «الجنون»، وهي فكرة محورية في المسرحية.

ويتابع مالفوليو ببنيتين ثلاثيتين: «ألا تتحلون بشيء من الذكاء أو الأخلاق أو الصدق؟ … ألا تحترمون المكان والأشخاص والوقت؟» (الفصل الثاني، المشهد الثالث، الأبيات ٨٣–٨٩). يستخدم شكسبير ثلاثيات في الشعر المرسل أيضًا، ومثال على ذلك مقولة أنطونيو «أيها الأصدقاء! أيها الرومانيون! بني جلدتي!» في مسرحية «يوليوس قيصر» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، البيت ٧٤)، ومقولة الابن غير الشرعي في مسرحية «الملك جون» «عالم مجنون، ملوك مجانين، توليفة جنونية!» (الفصل الثاني، المشهد الأول، البيت ٥٦٢). يُوَظِّف نثرُ شكسبير وشعرُه هنا البِنَى البلاغية عينَها، فيتداخل نثرُه مع شعره.

إن العلاقة الوثيقة بين الإيقاع النثري والإيقاع الشعري يمكن أن نراها في عبارة ضمن ترجمة فلوريو لمونتين التي من الواضح أنها فتنت أُذُن شكسبير كما سحرت عينيه. في ترجمة فلوريو ﺑ «معذرة من ريموند سيبوند»، يتساءل مونتين: «هل من القانوني لمواطن … أن يتمرد ويحمل السلاح ضد أميره.»11 وفي مسرحية «هاملت»، يتساءل الأمير: «ما إذا كان أكثر نبلًا أن يُعاني المرء ذهنيًّا … / أم يحمل السلاح في مواجهة بحر لُجِّيٍّ من الأزمات.» (الفصل الثالث، المشهد الأول، الأبيات ٥٩–٦١). إن استخدام فلوريو/مونتين الحرفي لكلمة «السلاح» (فيما معناه معارضة الحاكم) يتحول عند شكسبير إلى استعارة (فالسلاح المادي في مواجهة بحر سائل لا قيمة له تقريبًا). ولكن ما يبدو أن ما أثار انتباه شكسبير لأول وهلة هو التوازن البنائي لنثر فلوريو؛ ففي النثر سَمِعَ شعرًا. قال الشاعر المعاصر بيتر بورتر: «إن القصيدة شكل من أشكال التجميد الذي يمنع اللغة من الفساد.» ويمكننا أن نطبق القول نفسه على نثر شكسبير؛ فكما لا يسعنا الفصل ما بين البحر الخماسي التفاعيل والكلام اليومي، لا يمكننا أيضًا الفصل بالكامل ما بين النثر والشعر.

هوامش

(1) Terry Eagleton, Literary Theory: An Introduction (Oxford: Basil Blackwell, 1983), p. 2.
(2) Derek Attridge, Poetic Rhythm: An Introduction (Cambridge: Cambridge University Press, 1995), p. 166.
(3) Cicely Berry, The Actor and the Text (New York: Applause Theater Books, 1987), p. 63.
(4) Thomas de Quincey, “On the Knocking at the Gate in Macbeth,” in Miscellaneous Essays (The Project Gutenberg EBook of Miscellaneous Essays, by Thomas de Quincey; accessed 8 July 2012; http://www.gutenberg.org/files/10708/10708-8.txt).
(5) Gammer Gurton’sNeedle, in Five Pre-Shakespearean Comedies, ed. Frederick S. Boas (1934; reissued Oxford: Oxford University Press, 1970).
(6) Thomas Dekker, The Shoemaker’s Holiday, ed. Robert Smallwood and Stanley Wells, Revels (Manchester: Manchester University Press, 1999).
(7) George Peele, The Old Wife’s Tale, ed. Charles Whitworth (London: A. & C. Black, 1996).
(8) In all other Shakespeare editions this is 4.3.133.
(9) George Chapman, The Gentleman Usher, ed. Robert Ornstein in The Plays of George Chapman (Urbana: University of Illinois Press, 1970).
(10) John Marston, Antonio and Mellida, ed. G. K. Hunter (London: Edward Arnold, 1965).
(11) Michel de Montaigne, The essays or morall, politike and militarie discourses of Michaell de Montaigne, trans. John Florio (London, 1603): ‘An Apology of Raymond Semond’, p. 254 (sig. Z1v).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤