الخرافة الثانية عشرة

سُمِّيَ هاملت بهذا الاسم تيمنًا بابن شكسبير

نستمتع جميعًا بالتكافؤ والتناظر والمصادفات المتكررة، وهي أمور استقيناها من متعتنا بألعاب الورق، ابتداءً بلعبة سناب ومرورًا بافتناننا بالتوائم المتماثلة، ووصولًا إلى متعة المصادفة أو البهجة التي نجدها في القافية. في مسرحية «يوليوس قيصر»، يموت كاسيوس يوم ميلاده («اليوم يوافق أول يوم تنفست فيه. دارت الدوائر / وحيثما بدأت سينتهي بي المطاف»؛ الفصل الخامس، المشهد الثالث، البيتان ٢٣-٢٤). وهكذا كان حال شكسبير؛ فقد عُمِّدَ في السادس والعشرين من أبريل، وربما أنه وُلد قبل ذاك اليوم بيومين أو ثلاثة أيام. ومات في الثالث والعشرين من أبريل. ويُصادف يوم ميلاد شاعر إنجلترا الوطني اليوم المخصص لقديس إنجلترا الوطني. وكان عمر شكسبير عند الوفاة ٥٢ عامًا هو نفسه العمر الذي تُوُفِّيَ عنه شاعر روما الأغسطي العظيم فيرجل.

وتُصَنَّف العلاقة ما بين اسم ابن شكسبير، هامنت، والبطل التراجيدي هاملت ضمن فئة رؤية التكافؤ الممتعة أو السعي وراءه. كان سيجموند فرويد على سبيل المثال واثقًا بأن الابن والأمير كانا شخصًا واحدًا؛ ففي كتابه «تفسير الأحلام» (١٩٠٠)، كتب فرويد:
يمكن بطبيعة الحال أن يكون عقل الشاعر هو الذي يواجهنا في هاملت؛ فقد لاحظت في كتاب يتناول شكسبير بقلم جورج براندس (١٨٩٦) تصريحًا مفاده أن مسرحية «هاملت» كُتِبَت بعد وفاة والد شكسبير مباشرة (عام ١٦٠١)، أي بينما كان الكاتب واقعًا تحت تأثير خسارته لأبيه، وبينما تجددت مشاعره الطفولية للتو تجاه أبيه، كما يمكن أن نفترض. ومن المعلوم أيضًا أن ابن شكسبير الوحيد الذي مات صغيرًا كان يُدعى «هامنت»، وهو الاسم الذي يُطابق «هاملت».1

لنلاحظ الحذف التفسيري والبيوجرافي — فهاملت يساوي شكسبير، وهامنت يساوي هاملت — والتأكيد الذي يتم به التعبير عنه: «يمكن بطبيعة الحال أن يكون عقل الشاعر هو الذي يواجهنا في هاملت … هامنت يطابق هاملت.»

إن الأسماء الإليزابيثية بلا شك مائعة، كما يتجلى لنا في اسم عائلة الكاتب المعاصر لشكسبير وغريمه مارلو الذي يُكْتَب بالإنجليزية بطرق مختلفة؛ مارلو، ومارلي، ومارلين ومالين، ومورلي، وميرلين. وكانت زوجة شكسبير تُدعى آن أو آجنس أو آنِّيس. ويختلف هذا عن تنويعات اسم مارلو لأن النطق هنا يكاد يكون متطابقًا؛ فالاسم «آجنس» يُمكن أن يُنْطَق «آنِّيس» (فهو في نهاية المطاف مشتق من الاسم الإغريقي «هاجنوس» (أي طاهرة أو عفيفة)، لكنه كان مرتبطًا أيضًا بالكلمة اللاتينية آجنوس (حمَل، رمز للمسيح))؛ ويمكن أن يُنْطَق الاسم بإدغام حرف «ﺟ» فيصبح «آنِّيس»؛ ومن ثم يُخْتَصر إلى «آنّ». ولا ينتمي هامنت وهاملت إلى أي من فئات التنويع هذه. حرفا اﻟ «نون» واﻟ «لام» تنويعة غير تقليدية. سيرًا على خطى فرويد، هامنت ليس (مرجحًا أن يكون) هاملت.

سُمِّي هامنت بن شكسبير، وأخته التوءم جوديث؛ تيمنًا بأبويهما الرُّوحيَّيْن وجارَيْهما في ستراتفورد، هامنت وجوديث سادلر. وُلِد التوءمان عام ١٥٨٥، وتُوُفِّيَ هامنت ولم يبلغ من العمر سوى أحد عشر عامًا، وتحديدًا عام ١٥٩٦ (عاشت جوديث حتى فبراير ١٦٦١). وعلة وفاة هامنت مجهولة (لكن أغسطس، الشهر الذي قضى فيه نحبه كان دومًا شهر بلاء ووباء بئيسًا). ويوضح كُتَّاب سير الحياة أن واحدًا من التوءمين دائمًا ما يكون أضعف من الآخر. وتوحي الفجوة الممتدة ٦٥ سنة ما بين تاريخي وفاة هامنت وأخته التوءم بأنه ربما كان الطرف الأضعف.

إن السبب الداعي للظن بأن هامنت هو هاملت هو أن التراجيديا التي يؤدي هاملت دور البطولة فيها تدور عن العلاقات بين الأب والابن. وهي أيضًا مسرحية تتناول الحزن؛ فمن الحِدَاد غير الطبيعي الممتد لهاملت (فهو يتجاوز مدة حداد البلاط الرسمية على أبيه الْمُتَوَفَّى)، إلى رفضه حكمة زوج أمه إثر وفاة أبيه («الموضوع الشائع [في الحياة] / هو وفاة الآباء» [الفصل الأول، المشهد الثاني، البيتان ١٠٣-١٠٤] هي ملاحظة كلاوديوس المواسية التي يطلب فيها من هاملت أن يُلَمْلِمَ شَتاتَ نفسه)، إلى الزائرَيْن في المسرحية اللذين جاءا من وراء القبر (الشبح في الفصلين الأول والثالث وجمجمة يوريك في الفصل الخامس [طالع الخرافة السابعة والعشرين])، إلى حزن الذاكرة الْمُعْجِز («السماء والأرض / أيجب أن أتذكر؟» الفصل الأول، المشهد الثاني، البيتان ١٤٢-١٤٣)، إلى حكايات موت يوليوس قيصر، إلى تفكير هاملت في الانتحار، إلى قَبوله للموت («ثمة تدبير خاص في سقوط عصفور»؛ الفصل الخامس، المشهد الثاني، البيتان ١٦٥-١٦٦)، المسرحية أسيرة التأملات في الموت. وكذلك كان عقل مؤلفها بحسب ظن البعض.

تُوُفِّيَ هامنت في أغسطس ١٥٩٦؛ وتوفي هنري، عم شكسبير، في ديسمبر من العام نفسه. هل انتظر شكسبير خمسة أعوام كي يُفَرِّج عن نفسه من فاجِعَته كتابةً؟ ثمة تعقيد (أو تبسيط) مُضاف (كما استهل فرويد في الاقتباس السابق) بوفاة والد شكسبير في سبتمبر عام ١٦٠١ (على أية حال، فإن مسرحية «هاملت» تتناول وفاة والد لا ابن، على النقيض من نموذجها الأولي الإليزابيثي العظيم «المأساة الإسبانية» الذي يَنْصَبُّ تركيزه على حزن الأب على ابنه). لقد كان الأسى جزءًا من مخزون شكسبير الإبداعي قرب بداية القرن الجديد؛ ففي مسرحية «الليلة الثانية عشرة» (التي كُتِبَت عام ١٦٠١)، ترتدي فيولا ملابس الحداد لفقد أخيها (التوءم). وتتنكر لا على هيئة رجل وحسب، ولكن على هيئة أخيها؛ في تجسيد لباسيٍّ لمرحلة مُعْتَرَف بها من مراحل الحداد يَتَقَمَّص فيها المكلوم (صفات) شخصية الفقيد. «هناك شيء عميق في سيكولوجية التوءم، عندما يموت التوءم الآخر، هو ما يجعلها تريد بشدة الإبقاء على حياة ذلك التوءم، بتمثيل حياته بالإضافة إلى حياتها هي.» هكذا عَلَّقَ المخرج المسرحي جون كيرد؛ إذ أخرج المسرحية لفرقة شكسبير الملكية بين عاميْ ١٩٣٨–١٩٨٤.2 وهذه الحالة النفسية، بالمناسبة، ليست حكرًا على التوائم (حيث حددها فرويد باعتبارها مُكَوِّنًا كلاسيكيًّا للحزن)، لكن التوائم يمثلون تبيانًا صارخًا لهذه الحالة. عند شكسبير، يخلط القارئ بين التوءمين الحزينين، لا لأنهما توءمان (أو لا لأنهما توءمان وحسب) ولكن لأن الحادِّين يندمجون مؤقتًا مع موتاهم. تقول فيولا: «أنا كل بنات عائلة أبي / وكل أولادها أيضًا.» (الفصل الثاني، المشهد الرابع، البيتان ١٢٠-١٢١). وعندما يرجع سيباستيان إلى فيولا في الفصل الخامس، تمثل عودته علامة انتهاء حدادها، وإيذانًا بانتهاء ارتداء ملابس أخيها أيضًا. وكما يلحظ جون كيرد: «يظهر الأخ في المشهد؛ مما يعني أنه لا يتعين عليها أن تلعب دور الصبي بعد.»3 ورغم أن المسرحية لا تتخلى عن إثارة الشخصية الملتبسة جنسيًّا لفيولا بهذه السهولة، وتُنهي هي المسرحية وهي ترتدي ملابس سيساريو وتُنادَى بهذا الاسم، فمن المهم أننا نحصل، لأول مرة في حوار المسرحية، على اسم للتوءم الأنثى؛ فحتى تلك اللحظة لم يَعْرِف أحد، ولا حتى الجمهور، ماذا يسمونها.

رغم أنه من الممكن رؤية أن مسرحيتَيِ «الليلة الثانية عشرة» و«هاملت» تَتَماسَّان شخصيًّا مع شكسبير، فمن المهم ألا ننسى أن الموت والأسى كانا ضمن نسيج حياة أي إنسان في إنجلترا الإليزابيثية؛ فقَدَ بِن جونسون ولده الأكبر بنجامين ولم يتخطَّ السابعة من عمره إثر الطاعون الذي ضرب البلاد عام ١٦٠٣. ومات ابنه الثاني جوزيف في العام نفسه، ربما بالسبب ذاته. وتُوُفِّيَت ابنته الأولى، ماري، قبل ذلك ببضعة أعوام، ولم يجاوز عمرها ستة أشهر. وكتب جونسون قصائد رثاء لبنجامين وماري. ولم يكن شكسبير فقد أيًّا من أبنائه عندما ألَّفَ الجزء الثالث من «هنري السادس» أو «الملك جون» لكنه استطاع أن يتخيل هذا الفقد. في الجزء الثالث من «هنري السادس» (التي تشتمل عليها نسخة أكسفورد من الأعمال الكاملة لشكسبير تحت عنوان «ريتشارد دوق يورك» كما في طبعتها الصادرة عام ١٥٩٥)، تقتل الملكة مارجريت «مُسْتَذْئِبَة فرنسا» الابن الأصغر لدوق يورك، ويُدعى راتلاند، وتستهزئ بيورك بجريمتها البشعة الأخيرة. ويدفع أسى يورك حتى أعداءه للإشفاق عليه، يقول نورثمبرلاند:

يا إلهي! إن مشاعره تنال مني
حتى لا أكاد أمنع عينيَّ من أن تَذْرِفا الدمع

•••

لقد كان قاتلًا لكل بني جلدتي
ولا يجب أن أنتحب تأثرًا بحزنه
بينما أرى كيف تنال الأحزان من روحه.
(الفصل الأول، المشهد الرابع، الأبيات ١٥١-١٥٢ و١٧٠–١٧٣)

تعيش مارجريت مشهدها المأساوي لاحقًا في الفصل الخامس؛ حينما تفقد، بدورها، ابنها الأمير إدوارد. ويصف الإرشاد المسرحيُّ الأشهر على الإطلاق الحداد ذا البنية المقلوبة في الفصل الثاني: «يدخل ابْنٌ قَتَلَ أباه من أحد الأبواب، وأَبٌ قَتَلَ ابنَه من باب آخر.» (المجلد، ١١٨٩–١١٩١ بحسب نظام ترقيم الأسطر).

في مسرحية «الملك جون»، تَأْسَى كونستانس لفقدانها ابنها الصغير الأمير آرثر. وفي الفقرة التالية، تدافع عن حقها في الحزن مفسرةً الوظيفة النفسانية لشعورها:

الأسى على طفلي الغائب يملأ الغرفة،
ويستلقي على مهده ويلازمني في إيابي وذهابي،
ويزدان بمظهره الجميل ويكرر كلماته،
ويذكرني بكل لطائفه؛
ويخرج عباءاته الخاوية ويتجسد في هيئته:
ألا أكون عاشقة للأسى بعد كل هذا؟
(الفصل الثالث، المشهد الرابع، الأبيات ٩٣–٩٨)
إن المنطق الذي توظفه في هذا السياق (الأسى يملأ الخواء العاطفي للفقد) هو عينه الذي عبر عنه كثيرون في الماضي، وصولًا إلى القديس أوغسطين بالقرن الرابع، الذي يصور في مُؤَلَّفه «الاعترافات» دموع حزنه باعتبارها تحتل مكانة صديقه: «الدموع وحدها كانت حلوة لي؛ حيث احتلت في رغبة قلبي مكانة أعز أصدقائي.»4 وعليه فإن الأسى فكرة ثابتة لدى شكسبير منذ أوائل مسرحياته، منفصمة عن ظروفه الشخصية.
وتبين رواية كريستوفر راش «ويل» هذا الجانب بجمال؛ إذ يملي ويليام شكسبير، كما في التلاعب اللفظي لعنوان الكتاب، وصيته على محاميه. يقول شكسبير إن «الموت» هو ما يبرع فيه. ويحوي الكتاب افتتانًا منذ الطفولة بذاك الرحالة الإنجيلي القادم من بلد لم يكتشفه أحد («لِمَ لَمْ يسأله أحد: لازاروس، كيف يبدو حال الميت؟») والموت المجازي لعلاقته المراهقة مع آن هاثاواي، وملاحظته أن المؤهل الأساسي للمؤلفين المسرحيين خريجي الجامعات هي «القدرة على الموت في شبابهم» (توماس واطسون «توفي عام ٩٢»)، وتجاربه الأدبية (فاهتمامه ﺑ «هاملت» ليس اهتمامًا بالمأساة الانتقامية، ليس اهتمامًا ﺑ «قتل إنسان، ولكن بالموت ذاته»). «أوتعرف، إن مهنتي القتل، وإنني قادر على قتل الأطفال. «شفاههم كأربع أزهار حمراء نبتت على ساق» … شيء على هذا النحو.»5
إن إغواء تخمين أن هاملت هو هامنت يتلازم مع احتمال ذي صلة — أو يُعَزِّزُه — هو أن يكون غرق أوفيليا حدثًا قريبًا من شكسبير، جغرافيًّا (في وركشير) وعاطفيًّا (في عائلته). منذ وقت طويل والنقاد يعرفون بواقعة غرق شابة في ديسمبر عام ١٥٧٩ تُدعى كاثرين هاملت، غرقت في نهر أفون، في جزء من النهر يمر بقرية تيدينجتون التي كانت تشتهر ﺑ «أشجار الصفصاف المتدلية وأعشابها الإكليلية.»6 ورغم أن غرقها بدا أشبه بانتحار، فقد ادعت عائلتها، الحريصة على نحو مفهوم على أن تحظى بجنازة مسيحية، أن غرقها كان حادثًا، نتج من محاولتها تَعْبِئَة سَطْل حليبها بالماء من النهر. وتُوازِي واقعة الغرق وأشجار الصفصاف والأعشاب والنقاش الدائر عن الانتحار ظروف موت أوفيليا، ويوفر اسم العائلة أيضًا نقطة تَمَاسٍّ أخرى. في يونيو ٢٠١١، وقع ستيفن جَن، المؤرخ القائم على دراسة سجلات الأطباء الشرعيين في أوائل الحقبة الحديثة في إنجلترا، على تقرير عن وفاة جين شكسبير البالغة من العمر عامين ونصف العام، التي غرقت بينما كانت تلتقط الزهور المخملية من بركة طاحون أبتون عام ١٥٦٩. وسواء أكانت تربطها علاقة بويليام شكسبير أم لا، فمن المحتمل أن شكسبير كان على دراية بقصتها، وربما أن جين صاحبة الزهور المخملية حُوِّرَت إلى أوفيليا جامعة الأعشاب. لكن الاهتمام الإعلامي بكشف جان (الرضيعة جين شاكسبير، التي تلازمها دومًا نسخة من لوحة «أوفيليا» لفنان ما قبل الرفائيلية جون إيفريت ميليس، طغت على كل أعماله الأرشيفية الأخرى) يوحي بشيء أكثر من ذلك: ألا وهو أننا نريد أن تُسْتَوْحى شخصيات شكسبير من أحداث حقيقية، ربما لأننا نود أن نحكم قبضتنا على إلهامها ونلصقه بشيء يمكن إدراكه، كموت الابن.

إذا لم يستمد هاملت اسمه من هامنت، أو حزنه من فقد شكسبير ابنه، فأنَّى له بهذا الاسم؟ عندما كتب شكسبير «هاملت»، شأنها شأن كل مسرحياته، استفاد شكسبير من مواد مرجعية (درامية، وشعرية، ونثرية، وكلاسيكية، ومعاصرة، ومكتوبة، وشفهية). وفي هذه الحالة، كما في حالات كثيرة أخرى، كانت مواد شكسبير المرجعية متعددة؛ فالحبكة مستوحاة من أسطورة دنماركية، يُدْعَى فيها البطل المنتقم أملوثي. وطُبِعَت هذه القصة التي خطَّها ساكسو جراماتيكاس باللاتينية في مخطوطة في القرن الثالث عشر (باللاتينية) عام ١٥١٤، وتُرْجِمَت إلى الفرنسية عام ١٥٧٦ ضمن مجموعة فرانسوا بلفورست «قصص تراجيدية». وفي غضون عقد من الزمان كانت هذه القصة قد تحولت إلى مسرحية على المسرح الإنجليزي. وبحلول عام ١٥٨٩، أمكن توماس ناش أن يتحدث عنها، معتبرًا إياها قصة مبتذلة قائلًا: «قصص كاملة عن هاملت، يجب أن أقول حفنة من الخطب التراجيدية.» (رسالة تعليقًا على رواية روبرت جرين «مينافون»). ويُعْتَقَد أن توماس كيد كتب مسرحية «هاملت» التي كانت سابقة لنسخة شكسبير. (مسرحية يأسى فيها ابنٌ على موت أبيه لا بد أن تكون رفيقة واضحة لمسرحيته «المأساة الإسبانية» التي يأسى فيها والد على موت ابنه). ولم يزل مدير المسرح آنذاك، فيليب هينسلو، يسجل عروض مسرحية «هاملت» في يونيو عام ١٥٩٤. وفي جميع هذه النسخ الإنجليزية كان اسم البطل هاملت.

اعتاد شكسبير أن يبدل بين الحين والآخر الأسماء التي عثر عليها في مصادره؛ (ففي مصدر مسرحية «الأمور بخواتمها»، وهو حكايات «ديكاميرون» لبوكاتشيو، تُسَمَّى البطلة جيليتا؛ أعاد شكسبير تسميتها إلى هيلين. ولعله غيَّرَ اسم روزيدر، بطل مصدر مسرحية «كما تشاء»، إلى أورلاندو، لكي يتجنب نوعًا ما الالتباس في المقطع الأول من اسمه واسم البطلة روزاليند عند اختصارهما). وفي «هاملت»، يحتفظ شكسبير باسم البطل، ولعله احتفظ به لقربه من ظروفه الشخصية. ولكنَّ افتراض أنه احتفظ بهذا الاسم يَزُجُّ بنا في غياهب الخرافة الثامنة عشرة، وما تنطوي عليه من دافع يشجعنا على قراءة السونيتات وكأنها تعبير تلقائي عن سيرة حياة مؤلفها. «هاملت» مسرحية مشحونة بالحزن، لكن لا حاجة لأن نفترض أن هذا الحزن مُسْتَوْحًى من غَمٍّ في حياة شكسبير (وإن صادفه). هناك تقارب الشعور هناك هو بالضبط مثل التقارب بين اسْمَيِ البطل وابن المؤلف. لكن التقارب ليس نفسه التطابق؛ لا يسعنا أن ندعى أن ثمة «تطابقًا»!

تستكشف المسرحية التي نناقشها هذه المعضلة ذاتها؛ فعندما يطلب مارسيلوس من هوراشيو أن يوافقه الرأي أن الشبح الذي رأوه يشبه بحق ملك الدنمارك الْمُتَوَفَّى، يُطمئنه هوراشيو بصورة مجازية ليست مباشرة كما تبدو:

مارسيلوس : ألا يشبه الملك؟
هوراشيو : يشبهه بقدر ما تشبه أنت نفسك.
(الفصل الأول، المشهد الأول، البيتان ٥٧-٥٨)

لكن مارسيلوس يستحيل أن يكون «شبيهًا» بذاته لأنه «هو» ذاته. تُعْمِل التشبيهات أثرَها بإقامة صلة مؤقتة بين شيئين ليس بينهما شَبَهٌ في واقع الأمر. ومسرحية «هاملت» حافلة بالحيل اللغوية التي تقتضي منا دومًا الشك في المناورات الْمَازِجَة؛ فإذ يتزوج كلاوديوس من زوجة أخيه على سبيل المثال، فإنه يمزج ما بين العلاقات، فيجعل جيرترود أمًّا وخالة في آنٍ واحد، ويجعل من نفسه عمًّا ووالدًا في الوقت عينه، ويجعل هاملت ابن أخ وابنًا. يقاوم هاملت مثل هذه الإجراءات المازجة بالاستعانة بالتورية — إذ يقول: «إنني غارق في ضوء الشمس/دور الابن أكثر من اللازم.» (الفصل الأول، المشهد الثاني، البيت ٦٧)، وزوج أمه «أكثر من قريب وأقل من عطوف» (الفصل الأول، المشهد الثاني، البيت ٦٥) — التي تعمد إلى الفصل ما بين العلاقات الدلالية والعاطفية الجديدة. إن هذه لمسرحية يقاوم فيها البطل دومًا محاولات تحويل شيئين منفصلين إلى كيان واحد فرد، وهي مثال ربما ينبغي علينا الانتباه له.

هوامش

(1) Sigmund Freud, The Interpretation of Dreams, trans. and ed. James Strachey (New York: George Allen & Unwin/Hogarth Press, 1965), p. 299.
(2) John Caird, in Michael Billington (ed.), Directors’ Approaches to “Twelfth Night” (London: Nick Hern Books, 1990), p. 40.
(3) Ibid.
(4) Augustine, Confessions, ed. R. S. Pine-Coffin (Harmondsworth: Penguin, 1961), p. 76.
(5) Christopher Rush, Will (London: Beautiful Books, 2007), p. 10.
(6) Peter Ackroyd, Shakespeare: The Biography (London: Vintage, 2006), p. 82.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤