الخرافة الخامسة عشرة

شكسبير كان سارقًا
وردت أول إشارة مُسجلة إلى شكسبير بصفته مؤلفًا في نشرة تُسَمَّى «جرينز جروتسورث أوف ويت» (ويُزْعَم أنها صيغت بقلم روبرت جرين، لكن كثيرًا من العلماء حاليًّا يعتقدون أن هنري شيتل هو الذي خطها في حقيقة الأمر): «هناك غُراب مُبْتدئ يُزَيِّنه ريشُنا، ولكنه يعتقد، بقلب نَمِرِه المُغَلَّف بتَنَكُّر مُمَثِّل، أنه قادر على تفخيم الشعر الرديء ليضاهي أَبْرَعَكُمْ، ويرى نفسه، نظرًا لكونه بارعًا في العديد من المجالات، الشاعر الأوحد بالبلاد.»1 في عبارة «قلب النمر» إشارة إلى بيت بمسرحية «هنري السادس – الجزء الثالث»، عندما يجيب يورك الأسير الملكة مارجريت الْمُعيِّرَة له قائلًا: إنها «تحمل قلب نمر مستتر وراء قناع امرأة» (عُنْوِنَت المسرحية «ريتشارد دوق يورك» في مؤلَّف «أكسفورد شكسبير» إثر نشرها لأول مرة عام ١٥٩٥؛ الفصل الأول، المشهد الرابع، البيت ١٣٨). وشأنه شأن جميع تلميحات شكسبير الوثائقية، تَعَرَّضَ هذا التلميح للتمحيص، وشهد مجموعة من التفسيرات، لكن ثمة فكرة بعينها هي التي كان لها صدًى: من المفترض عادةً أن مؤلف النشرة يتهم شكسبير، حيث شبهه بالغراب الذي يحاكي ولا يبتكر، و«يزينه ريشنا»، بشيء أشبه بالسرقة.
من الصعب مناقشة هذه التهمة، ولا سيما لأن أفكار السرقة والملكية الأدبية شهدت تغيرات مهولة منذ عصر شكسبير حتى الآن؛ فبينما نَصِفُ الآن «الأصالة» بالسمة الأدبية الْمُلْزِمة، تعلَّم كُتَّاب عصر النهضة أهمية المحاكاة، ونعني بها نسخ الأمثلة الجيدة من المصادر الكلاسيكية والحديثة. نَصَحَ سينيكا الكاتب بتأمُّل «مَثَل النحل التي ترفرف وتنتخب الأزهار المناسبة لإنتاج العسل»، ورغم أن المعرفة القديمة بالنحل لم تكن متقدمة بما يكفي لفهم كيفية تَحَوُّل غبار الطلع إلى عسل، فإن عملية «التحول» هذه كَثُرَ الاستشهاد بها باعتبارها نموذجًا يُحْتَذَى.2 وبحسب صياغة بِن جونسون على نحو ملائم مستندًا إلى سينيكا، على الشاعر أن «يكون قادرًا على تحويل مادة شاعر آخر أو ثرواته لاستخدامه الخاص … لا يبتلع ما يأخذه في صورته الخام أو النيئة أو غير المهضومة، ولكن كمخلوق يقتات بشهية، ويتمتع بمعدة قادرة على الخلط والفصل وتحويل كل شيء إلى غذاء»: «يَرْصُد كيف حاكى أفضل الكُتَّاب، ويسير على خطاهم.»3
يوحي تشبيه جونسون للمحاكاة بالتغذية — ويعني هضم وتمثيل المواد الغذائية — بأن المحاكاة ليست آلية ولكنها عضوية وإبداعية لا تكرارية، وإيجازًا: المحاكاة المنشودة أبعد ما تكون عن المحاولة البلهاء بانتحال أعمال الآخرين والترويج لها باعتبارها أعمالك الخاصة، وهي السمة التي تميز المفهوم الحديث للسرقة. يصوغ تي إس إليوت — وهو يتناول فيليب ماسينجر الذي كاد يُعاصِر شكسبير في مؤلَّفه «الغابة المقدسة» — المسألة على نحو أنسب للاقتباس: «الشعراء غير الناضجين يحاكون، أما الناضجون فيسرقون، والشعراء السيئون يُشوِّهون ما يقتبسونه، أما الشعراء البارعون فيُحسِّنونه أو على الأقل يحولونه إلى شيء مختلف.»4
لننظر إذن إلى استخدام شكسبير التحويلي لمصادره. هناك بعض كتب المواد المرجعية التي لا بد أن شكسبير فتحها على مكتبه إبان كتابته المسرحية المعنية، ومنها، على سبيل المثال: كتاب التاريخ الإنجليزي للمؤرخ رفاييل هولينشيد، «الوقائع»، الذي استعان به في تأليف مسرحياته التاريخية الإنجليزية. إذا نظرنا إلى الوصف المطول لقانون ساليك، وهو قانون سلالي خفي يحظر على النساء تولي مقاليد الحكم في فرنسا، استشهد به رئيس أساقفة كانتربري لإقناع الملك هنري الخامس بشَنِّ حرب، مثلًا، يمكننا أن نرى أن شكسبير يكرر أخطاءً حسابية وتاريخية حرفيًّا من مصدره.5 وفي مسرحيته «تيتوس أندرونيكوس» يظهر المصدر — ألا وهو قصيدة أوفيد «التحولات» — على خشبة المسرح؛ ففي هذه المسرحية، يعرف المؤلف المسرحي وشخصياته على حد سواء أوفيدهم. وفي مسرحية «بريكليس»، يُمْسي مؤلف مصدر شكسبير، الشاعر القروسطي جون جاور، جوقة للمشهد. وثمة مثال أشهر ينبع من مسرحية «أنطونيو وكليوباترا» حيث اقْتُبِس الوصف الذي أدلى به الجندي الروماني البليغ عادةً إينوباربوس للملكة المصرية مباشرة من مصدر شكسبير، ألا وهو ترجمة السير توماس نورث لكتاب المؤرخ بلوتارك «ﺣﻴﺎة النبلاء الإغريق والرومان». في صفحة ٩٨١، عثر شكسبير على وصف نورث، وقد وضعنا إعادة صياغة شكسبير لهذا النص حتى يمكنك أن تقرر بنفسك هل استعارته هنا تُعَدُّ سرقة:

ولذا، فعندما وصلتها رسائل من أنطونيو نفسه وكذلك من أصدقائه، استهزأت بها جدًّا وسَخِرَت من أنطونيو أيما سخرية، حتى استهجنت تغيير مسارها، بل انطلقت على متن زَوْرَقها بنهر سيدناس، وكان مؤخر الزورق مصنوعًا من الذهب وشراعه أرجواني اللون، أما المجاديف فكانت من الفضة، وأخذت تضرب المياه تناغمًا مع صوت الموسيقى المنبعثة من النايات والأوبوا والقيثارات والكمان وغيرها من الآلات الشبيهة التي كانت تعزف على الزورق. والآن لنتناول شخصها بالوصف؛ فقد كانت مستقرة تحت خيمة نسيجها من الذهب، ترتدي لباسًا أشبه بلباس الإلهة فينوس التي نراها مرسومة عمومًا في الصور: على جانبيها وقف فِتيان حِسان يرتدون الأردية التي يكسو بها الرسامون كيوبيد، وفي أيديهم مراوح صغيرة يحركون بها الهواء من حولها. والسيدات والنبيلات أيضًا، اللائي ترتدي أجملهن مثل حوريات البحار وإلهات الحُسن، كان بعضهن يوجه دفة الزورق والبعض الآخر يعتني بتجهيزات الزورق وحباله، وفاحت منهن روائح عطرة بديعة عَطَّرَت جانب المَرْفَأ الذي تَجَمَّعَ عليه عموم الناس من كل حَدَب وصَوْب. وتَبِعَ بعضهم الزورق بطول ضفة النهر كلها، وهرول آخرون خارج المدينة ليروها وهي قادمة. ولذا، ففي النهاية، تدافع هؤلاء العامة ليلمحوا طرفًا من موكبها الواحد تلو الآخر حتى إن أنطونيو تُرِكَ وحده في السوق يُشَاهَد عن بُعد في مقعده الملكي، وثمة شائعة لاكَها الناس بألسنتهم بأن الإلهة فينوس جاءت لتعبث مع الإله باخوس للصالح العام لآسيا كلها.

ماسيناس: إنها أكثر النساء تحقيقًا للانتصارات، إن أوفتها التقارير حقها.
إنوباربوس: عندما التقت مارك أنطونيو لأول مرة، خطفت قلبه قاطعةً نهر سيدناس.
أجريبا: هنالك ظهرت حقًّا، وإلا فإن من أخبرني بالغ في وصفه.
إنوباربوس: سأخبركما.
الزورق الذي جلست فيه تلألأ وكأنه عرش مصقول

على صفحة الماء. وكانت مؤخرته مُذهَّبَة،

وأشرعته أرجوانية اللون ومُعطرةً بالكامل

حتى إن الريح أُغْرِمَت بها عشقًا. أما المجاديف فكانت فضية اللون.

ومع أنغام الناي تهادت ضرباتها على صفحة الماء، وجعلت الأمواج

التي ضربتها تتبعها على عجل وبوتيرة أسرع،

وكأنها وقعت في حب ضرباتها. أما عن وصفها،

فالكلمات تقف عاجزة. لقد استلقت في خيمتها

بلباسها المصنوع من نسيج ذهبي

متفوقة على صورة الإلهة فينوس التي نرى فيها

الفتنة تتعالى على الطبيعة. وعلى جانبيها غلمان

حِسان الواحد منهم أشبه بكيوبيد باسِم،

ويحملون مراوح بديعة الألوان بدا أن هواءها

أوْهَج الوجنتين الرقيقتَيْن اللتين كان يُفترض أن تبردهما،

فما كان منها إلا أن فعلت نقيض ما كان يجب أن تفعله.
أجريبا: يا لحظ أنطونيو!
إنوباربوس: ونبيلاتها كحوريات البحار
الكثيرات عددًا يعتنين بها بينما راقبتهن

فأضافت تحركاتهن البديعة للمشهد جمالًا.

وبدا وكأن عروس بحر تُوَجِّه الدفة.

وانتفخت أَوْداج الأشرعة الحريرية والحِبال

تأثُّرًا بالريح التي طَوَّعَتْها ببراعة أيادي الحُوريات الناعمة كالزهور.

واستطاع الناس على ضفاف النهر

أن يَشْتَمُّوا رائحة العطور الفاخرة النابعة من الزورق

إذ مر بهم. وخرج الناس جميعًا ليشهدوا عبورها

أما أنطوني فتُرِكَ وحيدًا بانتظارها في السوق.

ولو أن الهواء نفسه أيضًا هَرْوَلَ ليُحَدِّق في كليوباترا،

لتسبب ذلك في فراغ شاذ في الطبيعة.
(الفصل الثاني، المشهد الثاني، الأبيات ١٩١–٢٢٥)
من السهل رصد أوجه الشبه هنا، ولكن من السهل أيضًا رصد أوجه الاختلاف: وتحديدًا نجد أن نسخة شكسبير للمشهد تُسَلِّط الضوء على الجانب الإيروتيكي والحسي؛ فالريح «مغرمة عشقًا» والمياه «واقعة في الحب» والشراع يَدٌ «حريرية» تحاكي نعومتُها «نعومةَ الأزهار»، وبينما حشد بلوتارك المشهد بأدوات مساعدة، انصب تركيز شكسبير على كليوباترا باعتبارها إلهة المشهد النابضة بالحياة. وهناك فارق محوري بين المشهد النثري والمشهد الشعري. إننا نرى في كتابة شكسبير تكافؤًا بين الوزن ومبالغات المشهد؛ فالشكل والمضمون لا انفصام لهما. ينتهي عدد من أبياته الشعرية بمقطع إضافي غير مَنْبُور، وهي النهاية المعروفة آنذاك، وعن استحقاق، باسم «الخاتمة الأنثوية» (طالع الخرافة الحادية عشرة) — ومثال على تلك النهايات «فراغ» و«شراع» — وبعض الأبيات تشتمل على تفعيلة كاملة إضافية. «حتى إن الريح أُغْرَمَت بها عشقًا. أما المجاديف فكانت فضية اللون» و«وكأنها وقعت في حب ضرباتها. أما عن وصفها» ينتميان إلى البحر السداسي التفعيلة، حيث يبرزان من الإيقاع الخماسي التفاعيل التقليدي. إن شئنا التخفيف من الجانب الفني لقلنا إن هذين البيتيْن أطول وأكثر إسهابًا حيث يصوران بشكلهما هذا استحالة وصف كليوباترا التي «تعجز الكلمات عن وصفها». لم يقتبس شكسبير من بلوتارك حرفيًّا، بل خلق نسخة من كليوباترا يساهم الشكل الشعري فيها نفسه في مبالغات المشهد. ولقد حَوَّلَ شكسبير أيضًا تشبيهًا لبلوتارك مضيفًا أثرًا مذهلًا؛ فعندما شبَّه بلوتارك كليوباترا بالإلهة فينوس، نجد تشبيهه صورة مكافئة مباشرةً جدًّا. «ترتدي لباسًا أشبه بلباس الإلهة فينوس.» أما على لسان شكسبير، فنرى التشبيه متعدد المستويات: كليوباترا «متفوقة على (تتجاوز) صورة الإلهة فينوس التي نرى فيها الفتنة تتعالى على الطبيعة»، تفوق كليوباترا تلك الصورة الشهيرة للإلهة فينوس التي يتجاوز فيها الفن الطبيعة. والتتابع مذهل: الطبيعة فينوس الفن كليوباترا. (انتقل توم ستوبارد بالمزحة خطوة أخرى في مسرحيته «أركاديا» (١٩٩٣) إذ يخبر المعلم سيبتيموس هودج تلميذته أن تضيف شيئًا من الشغف إلى ترجمتها لكليوباترا بلوتارك، ويبين لها كيف تفعل ذلك؛ بانتحاله نسخة شكسبير من هذه الكلمة، وكأنها ترجمته الشعرية المُرْتَجَلَة.)
فقرة بلوتارك هذه استثناء، وغالبًا ما يكشف النظر إلى مسرحيات شكسبير بمضاهاتها بمصادرها كيف أعاد المؤلف صياغتها جذريًّا؛ فافتتاحية مسرحية «الملك لير» King Lear، تمثل تَحَوُّلًا ثوريًّا لنظيرتها القديمة King Leir التي كانت واحدة من مصادر شكسبير: بدلًا من البدء بمشهد الملك الذي تَرَمَّلَ حديثًا والقلق ينتابه على بناته في غياب رعاية أمهم، والْهَمُّ ينال منه بسبب ثقل شئون الدولة، يخلق شكسبير مناخًا من الشك حول سلوك الملك. وإذ يفتتحها بنظرة شَذَرًا من جلوستر وكِنت تؤسس أيضًا للتداخل ما بين قصة أبناء جلوستر وبنات لير، ينتقل شكسبير إلى اختبار الحب دون أي تفسير حقيقي: إننا لسنا على يقين ككورديليا مما يُطْلَب ولِمَاذا. ولكن، على نحو أكثر دراماتيكية، أحدث شكسبير تحولًا في خاتمة مسرحيته من محصلة القصة الواردة في مصادره. ترجع قصة الملك لير إلى حكايات سابقة لها في تاريخ هولينشيد، وكذلك تضرب بجذورها في قصص شعبية أقدم، على غرار قصص سندريلا (هل جونيريل وريجان تلعبان دور الأختيْن الدميمتيْن؟) وفي نصوص أخرى ترجع للحقبة نفسها خَطَّها فيليب سيدني وإدموند سبنسر، وربما حتى كان لها أثر في شائعات البلاط المعاصرة عن السير برايان أنيسلي العجوز الذي كانت ابنته الكبرى تسعى للحصول على حكم باعتباره مجنونًا (ومن ثم تحجر على ممتلكاته) على غير رغبة ابنته الأصغر المخلصة التي يُفْتَرَض أن اسمها كورديل. ولكن، في كل هذه القصص، تُنْقِذ والدها، وتصير ملكة من بعده. ويعطي الْتِفات شكسبير إلى قصة مشهورة المسرحية قوتها الضاربة؛ فتوقعات الجمهور التي يُؤَجِّجها لَمُّ شمل الأب والابنة في الفصل الرابع تَنْسَحق بقسوة. وأقر الدكتور جونسون في رواية مشهورة عنه بأنه «صُدِمَ للغاية بموت كورديليا» حتى إنه لم يُرِدْ أن يعيد قراءة خاتمة المسرحية مجددًا، لكن لا يبدو أنه أراد أن يصدق أن غضبه من مسرحية «انتصر فيها الشر وهُزِمَ فيه الخير» كانت من تصميم شكسبير بالكامل.6

وتارة تكون تعديلات شكسبير على مصادره تفاصيل بسيطة ولكنها كاشفة؛ ففي القصة الرومانسية الريفية التي اقتبس منها شكسبير «كما تشاء»، نجد أن أسدًا هو الذي كان يهدد أورلاندو النائم. وفي مسرحيته التي تهيمن فيها روزاليند بالكامل على خاطبها، يمثل تغيير شكسبير الأسد إلى «لَبُؤَة جَفَّت ضروعها تمامًا» (الفصل الرابع، المشهد الثالث، البيت ١١٥) عنصرًا كاشفًا. وفي مصادر مسرحية «عُطيل»، للزوجين اللذين جعلهما شكسبير إياجو وإميليا ابنة صغيرة، تشتت انتباه ديدمونة بغير قصد، بينما يأخذ أبوها الوشاح المشئوم. ومما يضيف إلى عُقْم العواطف في المسرحية أن شكسبير طرح جانبًا هذا الجانب الصابغ بصبغة إنسانية، تاركًا دوافع إياجو التوليدية موجهة نحو «الطفل» الفاسد في حبكته ضد عطيل: «قُضِيَ الأمر. لقد وضعت الترتيبات. وبعون من الشيطان، سأحرص على نجاح هذه الخطة الرهيبة.» (الفصل الأول، المشهد الثالث، البيتان ٣٩٥-٣٩٦). شخصية هاملت لدى شكسبير أيضًا أكثر استتارًا روحانيًّا بأبيه مما هو في القصة المصدرية؛ ففي هذه المسرحية وحدها يشترك الأمير المسكون بالجن والأب الشبح في اسم يجمعهما (يتردد صداه في حوار الأميرين فورتنبرا). ويُشَخِّص شكسبير الأم المهيبة فولومنيا في مسرحيته «كوريولانوس» والأبله ميركوتيو في مسرحية «روميو وجولييت» وفالستاف السمين في الجزأين الأول والثاني من مسرحية «هنري الرابع» والابن غير الشرعي صاحب الشخصية الجذَّابة فيليب فولكنبريدج في مسرحية «الملك جون» إما بالاستعانة بتفاصيل صغرى من مصادره، وإما من خياله بالكامل. وفي حالات أخرى، نجد الشكل الشَّبَحي للمصدر لا يزال في حالته الأولية في دراما شكسبير الخاصة. إن البناء التراجيدي الكوميدي أو هيكل «المسرحية التي تُعالج مشكلة اجتماعية» لمسرحية «العين بالعين» مثلًا قد يدين بشيء ما لأثر مسرحية جورج ويتستون «بروموس وكاساندرا» (١٥٨٢)، وهي مسرحية من جزأين، يمثل فيها الجزء الأول تراجيديا، والثاني كوميديا. وربما يكمن جزء من الصعوبة التي تشوب لقاءات لَمِّ الشمل المتعددة بنهاية مسرحية «حكاية الشتاء» في الشبح المظلم لرواية روبرت جرين النثرية «باندوستو» التي تقع فيها الشخصية المُسَمَّاة على اسم ليونتس في حب ابنته المفقودة لفترة طويلة، وتنتحر من فرط العار والأسى بسبب رغبتها المتجاوزة للحدود. وعجبًا، جرين لا يُعيد هيرميون للحياة أيضًا.

إن أغلب مسرحيات شكسبير تقريبًا لها مصدر رئيس محدد: حبكات مسرحيات «زوجات ويندسور البهيجات» و«حلم ليلة منتصف صيف» و«الحب مجهود ضائع» و«العاصفة» فقط تبدو من بنات أفكار شكسبير. ولكن، بينما يرتقي شكسبير في مشواره الأدبي، نجد أن مسرحياته الخاصة السابقة هي التي ينتفع بها مصدرًا لمسرحياته التالية على نحو متزايد. ولعل هذه السرقة الذاتية تبلغ ذروتها في مسرحية «سيمبلين» الرومانسية التي كتبها شكسبير في مرحلة متأخرة من حياته، وهي مسرحية تسرف في التمتع بالحبكة. وتكاد تكون مسرحية «سيمبلين» موجزًا لصور شكسبير البلاغية: غيرة ذكورية (كما شهدناها في مسرحيات «عطيل» و«جعجعة بلا طِحْن» و«زوجات ويندسور البهيجات»)، والملكة المتآمرة (فلنقارن مسرحيات «تيتوس أندرونيكوس» و«هنري الرابع – الجزء الثاني» و«ماكبث»)، والمرأة المرتدية لباس الرجال («السيدان الفيرونيان» و«كما تشاء» و«تاجر البندقية» و«الليلة الثانية عشرة»)، والفاصل الريفي («كما تشاء» و«السيدان الفيرونيان» و«حكاية الشتاء»)، وقطع الرأس («ماكبث» و«العين بالعين»)، والعديد من مناسبات لَمِّ الشمل والالتباسات في الهُوِيَّات (ضع علامة في قائمة محتويات الأعمال الكاملة). وفي مواضع أخرى نجد أن الأعمال المتأخرة تُعيد صياغة مواد شكسبيرية؛ فمسرحية «العاصفة» تُعَدُّ نسخة مُخَفَّفَة من «هاملت»؛ ففيها يعزل الأخ الطموح الملك دون أن يقتله، وهو ما يسمح للطفل الراشد في مسرحية «العاصفة» بأن يكون وسيلة تضميد للجراح الناجمة عن الجريمة، بدلًا من أن يكون وسيلة انتقام كما في «هاملت». وتمثل «حكاية الشتاء» إعادة نظر في «عطيل» مع إتاحة احتمالية وجود فرصة ثانية. وفي مسرحية «بريكليس»، يجد البطل خلاصًا، على العكس من الملك لير، في لَمِّ شمله بابنته. والشرير الذي يُخَطِّط (دون أن ينجح) في أن يدمر الزوج وزوجه في مسرحية «سيمبلين» يُدعى إياكيمو (ويعني «إياجو الصغير») على نحو يتردد صداه.

وأخيرًا، فإن مسألة ما إذا كان شكسبير سارقًا اتخذت منعطفًا جديدًا في السنوات الأخيرة؛ فقد طُبِّقت البرمجيات المصممة للمعاهد التعليمية لتمييز سرقات طلابها والمعاقبة عليها، على مجموعة أعمال شكسبير وغيره من المؤلفين المسرحيين في بدايات العصر الحديث، في محاولة لضمان أصالتهم التأليفية. على سبيل المثال، نسب برايان فيكرز عميد هذه المنهجية أجزاء من مسرحية «إدوارد الثالث» إلى شكسبير بناءً على تحليل للعبارات المشتركة ما بين هذه المسرحية وبقية أعمال شكسبير.7 وبالطبع تستند هذه المنهجية إلى فرضية أن الأعمال الخاصة بشكسبير هي له بالفعل، وأن هناك قسمًا ثابتًا من أعماله غير مسروق. وتصطدم هنا ثقافات المحاكاة المنتمية إلى عصر النهضة بثقافتَيِ السرقة والأصالة المنتميتين إلى العصر الحديث.

هوامش

(1) Quoted in Samuel Schoenbaum, Shakespeare: A Compact Documentary Life (Oxford: Oxford University Press, 1987), p. 151.
(2) Seneca, Epistulae morales 84, quoted in Brian Vickers (ed.), English Renaissance Literary Criticism (Oxford: Clarendon Press, 1999), p. 24.
(3) Ben Jonson, Discoveries, in Jonson, ed. Ian Donaldson, Oxford Authors (Oxford: Oxford University Press, 1985), pp. 585-6.
(4) T. S. Eliot, The Sacred Wood (London: Methuen, 1920; reissued Faber & Faber, 1997), pp. 105-6.
(6) Quoted in Emma Smith (ed.), Blackwell Guides to Criticism: Shakespeare’s Tragedies (Oxford: Blackwell Publishing, 2004), p. 20.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤