الخرافة الثامنة عشرة

سونيتات شكسبير كانت متعلقة بسيرة حياته

هل سونيتات شكسبير تعبير تلقائي عن سيرة حياته؟ الإجابة الموجزة هي: لا شك أن بعضها كذلك، والبعض الآخر ليس كذلك، وبعض الأخيرة تبدو (أو مصممة بحيث تبدو) كالأولى.

يمكن القول بأن السونيتا رقم ١٤٥ تملك أساسًا قويًّا لِلِادِّعاء بأنها تعبير تلقائي عن سيرة الحياة، أو الإشارة إلى الذات؛ فهي تدور (حرفيًّا) حول تلاعب لفظي ما بين hate away وHathaway، وكثيرًا ما يُعْتَقد أنها قصيدة حب كتبها شكسبير في بداية مشواره الأدبي لزوجة المستقبل آن هاثاواي (طالع الخرافة العاشرة). على مدار اثني عشر بيتًا يسجل الشاعر كراهية المرأة، ثم في زوج الأبيات الختامي تُقَدِّم بنية الجملة نفيًا مؤخرًا ومفعولًا غير متوقع (أو لا مفعول):
فألقت ﺑ «أكره» hate من «أنا أكره» بعيدًا away،
وأنقذت حياتي، بقولها «لست أنت».
ونظرًا لأن حرف العطف «و» and يكاد يطابق صوتيًّا الاسم «آن»، فمن الممكن قراءة البيت الأخير على النحو الآتي «آن أنقذت حياتي.» إن البساطة الشعرية (التي يصفها البعض بالسذاجة الشعرية) لهذه القصيدة، وبنيتها الرباعية التفاعيل غير المعتادة (حيث يتألف كل سطر من أربع نبرات، بينما تتألف السونيتات اﻟ ١٥٣ الأخرى من أبيات خُماسية التفاعيل ذات خمس نبرات: طالع الخرافة الحادية عشرة)، قد تدلل أيضًا على تأليفها في فترة مبكرة من مشوار شكسبير الأدبي (أو ربما إن شئنا المزيد من الدقة، في فترة مبكرة من حياة شكسبير وقبل أن يكون له مشوار أدبي أصلًا).

في السونيتا رقم ١٣٥ يتلاعب شكسبير بالألفاظ على نحو أكثر جلاءً، وبتكرار ملحوظ هذه المرة، مستعينًا باسمه، حيث يستعطف الشاعر المرأة الغامضة أن تضمه إلى قائمة عشاقها:

للنساء رغباتهن البسيطة، أما أنت فلك عشيقك ويل،
وويل آخر إن شئتِ، وويل ثالث لا حاجة لك به.

•••

وبما أن رغبتك مهولة ولا تشبع،
ألن تسمحي ولو لمرة أن أدفن رغبتي في رغبتك؟
وإذ استخدم في هذه القصيدة كلمة will ستة عشر مرة في أربعة عشر بيتًا، يتردد في القصيدة صدى التحولات الطارئة على المعاني المختلفة للكلمة مثل «الأمنية» و«العناد» و«الرغبة الجنسية» ودلالتها العامية «قضيب الذكر» و«فرج المرأة»، وكذلك اسم من أسماء الذكور. ومن المستحيل الفصل ما بين هذه التلاعبات اللفظية من ناحية واسم الشاعر من ناحية أخرى. وحقيقة الأمر أن تلاعب المرء اللفظي باسمه أو اسم من يعشق كان صَرْعَة شعرية إِبَّان تلك الفترة. أستروفِل وستيلا — عاشق النجوم ونجم — هما اسمان خياليان لفيليب سيدني، أطلقهما عليه وعلى معشوقته بعيدة المنال السيدة بينيلوبي (بعيدة المنال لأنها كانت زوجة اللورد ريتش)، ويُفْصَح عن هُوِيَّتها الحقيقية في تتابع مُرَكَّز من التلاعبات اللفظية في السونيتا رقم ٣٧ التي تتلاعب باسمها بعد الزواج؛ فهي rich أي غنية من كل النواحي (من حيث الجمال والفضيلة)، لكن مأساة الشاعر أنها «ريتش» (زوجة ريتش).
عبارة Hate away وكلمة Will في سونيتا ١٤٥ وسونيتا ١٣٥ على الترتيب واضحتان في تلميحيهما. وأقل منهما وضوحًا، ربما بسبب غياب الاسم، وجود واحد من معاصري شكسبير، ربما كان جورج شابمان، في سونيتات «الشاعر المنافس» التي قد تعكس خيبة أمل شكسبير المهنية في أواخر تسعينيات القرن السادس عشر. في عام ١٥٩٨، كان شابمان قد نشر توًّا ترجمته لجزء من «إلياذة» هوميروس — جزء في الكتاب الثامن عشر سمَّاه «درع أخيل» — وفي العام ذاته، نشر مارلو قصيدته الروائية القصيرة الإيروتيكية «هيرو وليندر»، علاوة على ذلك، فقد أُعيد طبعها في العام نفسه مع معارضةٍ كتبها شابمان. لم تكن هذه الأعمال نجاحًا أدبيًّا وحسب، ولكنها أصابت شهرة واسعة، و(في حالة ترجمة شابمان) ومكانة مرموقة (أُهْدِيَت ترجمة «درع أخيل» إلى راعٍ شبهه شابمان متملقًا بأخيل)، وكانت معركة أدبية؛ تحديًا يُراد منه إيجاد خليفة مارلو. وكانت معارضة شابمان لقصيدة «هيرو وليندر» بمنزلة إعلان صريح بأنه عَدَّ نفسه ذاك الخليفة. في السونيتا رقم ٨٦ لشكسبير، يقارن شكسبير نجاحه الشعري (أو افتقاره إليه) بإنجازات شاعر آخر. وشابمان منافس منطقي يُطابق تلك المقارنة. يأسى شكسبير لأنه أساء إدارة مشواره الأدبي، حيث لم يَفُزْ بالرعاية التي نالها شابمان («أكانت تلك القصيدة الطموحة المبهرة التي قَرَضَها منافسي لأجلك هي التي أحبطتني وجعلتني أحجم عن تأليف قصيدتي، وطمست أفكاري قبل أن أصوغها في كلمات؟») ولم يستطع أن ينافسه في معارفه الكلاسيكية («بعون من الأرواح التي علمته الكتابة» — ويريد بهم القدماء؛ «أعوانه الذين يزورونه ليلًا» — دراسته الليلية؛ «ذاك الجني المحبب المألوف / الذي يخدعه بمعلومات مغلوطة كل ليلة» — ادعى شابمان أنه يستلهم من هوميروس). وحقيقة الأمر، ربما أن هناك أكثر من شاعر منافس واحد في هذه السونيتا إذا اعتبرنا أن الجني الذي يلهم شابمان هو مارلو وليس هوميروس.1
وربما ليس من قَبِيل المصادفة أنه في تلك الفترة أتى شكسبير لأول مرة على ذكر مارلو (مرتيْن) في مسرحية واحدة، ألا وهي مسرحية «كما تشاء» (١٥٩٩). في غابة الأردين، تقول الراعية فيبي التي سحرها الحب: «أيها الراعي الراحل (أي الشاعر الراحل: كانت كلمة «الراعي» اختصارًا للشاعر الريفي)، الآن عرفت ما كنت تعنيه إذ قلت: من ذا الذي أحب إن لم يحب من النظرة الأولى؟» (الفصل الثالث، المشهد الخامس، البيتان ٨٢-٨٣). وسؤالها البلاغي اقتباس مباشر من قصيدة مارلو «هيرو وليندر». وتأتي الإشارة الثانية لمارلو في المسرحية عندما يقول المهرج تاتشستون في كلمة ألقاها عن خيبات الأمل التي تصيب المرء إذ لم يُقَدِّر أحد أشعاره: «إنه يصيب المرء ويجعله أكثر موتًا مما تفعل فاتورة حساب باهظة على إقامة في غرفة صغيرة.» (الفصل الثالث، المشهد الثالث، البيتان ١١-١٢). قُتل مارلو عام ١٥٩٣ بسبب خلاف حول فاتورة (حِساب) في نُزُل، حيث أمضى هو وثلاثة آخرون اليوم. («الحساب» هو عنوان سيرة حياة مارلو التي كتبها تشارلز نيكول.) من الواضح أن وفاة أشهر الكتاب المسرحيين في لندن أصاب عالم المسرح بصدمة كبيرة. وكما أشارت كاثرين دنكان-جونز، تشبيه الموت في عبارة تاتشستون: «إنه يصيب المرء ويجعله أكثر موتًا مما تفعل فاتورة حساب باهظة على إقامة في غرفة صغيرة» غير منطقي؛ فالموت لا يمكن تغييره، وليس للموت درجات؛ فالمرء إما ميت وإما حي.2 ما لم يكن المرء بالطبع يتكلم عن الحياة والموت الأدبييْن، حيث يمكن النظر إلى السمعة على نحو نسبي. يمكن لإنتاج الشاعر أن يكون حيًّا أو ميتًا، أو بين الحياة والموت. في السونيتا رقم ٨٦، يأسى الشاعر على أن النجاح الذي حققه منافسه «صعقه فألزمه الصمت» إن المشاعر المُعَبَّر عنها في مسرحية «كما تشاء»، التي كتبها شكسبير خلال العام الذي امتدت حياة مارلو فيه شعريًّا عبر نشر قصيدته «هيرو وليندر»، ترتبط بالمخاوف المصرح بها في السونيتا رقم ٨٦ حول السمعة والمقارنات الأدبية. ينتاب شكسبير القلق من أن يكون، وهو الشاعر الحي، أشد مواتًا من الناحية الأدبية من مارلو الميت حقًّا. وتساعد أيضًا مثل هذه التعبيرات عن المخاوف على تأريخ هذه السونيتا بوضعها في السياق الأدبي لتسعينيات القرن السادس عشر.
سواء أكانت هذه القراءات لسونيتات «الاسم» أو سونيتات «الشاعر المنافس» تعني أنه بإمكاننا قراءة كل سونيتات شكسبير وكأنها تعبير تلقائي عن سيرة حياته أم لا تعني ذلك، فهذا أمر جدلي. تقص علينا السونيتات، إجمالًا، قصة لا تقل درامية عن حبكات مسرحيات شكسبير: حبكة يتنافس في سياقها رجلان على حب امرأة واحدة، وتنبذ فيها المعشوقة الشاعر، ويعبر فيها الشاعر عن حبه لشاب، ويعيش فيها تجربة المنافسة في الحب والشعر على حد سواء. لم تُكتب القصائد بوصفها تسلسلًا روائيًّا محددًا (فقد أُلِّفَت على مدار فترة تقترب من ١٦ سنة). ورغم أن بعض تلك القصائد يعمل على نحو متتابع (فكثير منها يبدأ بأدوات ربط تدل على العطف أو المقارنة مثل «لكن» أو «لذا» لتستأنف بيتًا مما يُظَنُّ أنه سونيتا سابقة)، فهناك سونيتات أخرى (كالسونيتا رقم ١٥٣ والسونيتا رقم ١٥٤، وتتناولان قصة كيوبيد) تطابق الواحدة منهما الأخرى، وتبدوان أشبه بتنويعات تجريبية على موضوع واحد. وحقيقة أن قصيدة أو أكثر قابلة للقراءة وكأنها جزء من السيرة الذاتية، لا يعني بضرورة الحال أن السونيتات اﻟ ١٥٤ أو قصتها التراكمية تعبير ذاتي عن سيرة الحياة. والواقع، كما لاحظت ديمبنا كالاهان، أن مجموعة السونيتات، في مجموعها، غير محددة، على نحو ملحوظ، بزمان ومكان للأحداث (تقابل كالاهان تفاصيل بترارك أو صامويل دانيال)، وتوضح لويس بوتر أنه بينما لا تترك السونيتات الإليزابيثية الأخرى المجال مفتوحًا للشك في الأشخاص الذين تتناولهم، نجد أن سونيتات شكسبير لا تُسَمِّي إلا شخصيات خرافية وحسب: أدونيس وهيلين وإيف وتايم.3

ومع ذلك، تبرز صفحة العنوان للمجلد الصادر عام ١٦٠٩ شكسبير المؤلف؛ إذ تُعلن صفحة العنوان أن هذه «سونيتات شكسبير»، ويربط ضمير الملكية بين المؤلف وبين الإبداع بطريقة غير معتادة في السونيتات المنشورة في تلك الحقبة. إن صفحة العنوان الأخرى الوحيدة التي تحوي لفظة الملكية هي صحفة عنوان مجموعة سونيتات «أستروفِل وستيلا للسير فيليب سيدني» (١٥٩١). ولم تورد سونيتا توماس لودج «فيليس» (١٥٩٣) اسم الشاعر على صفحة العنوان، وكذلك سونيتا «سينثيا» لريتشارد بارنفيلد (١٥٩٥). وهناك تناقض ملحوظ يتجلى في سونيتا «هيكاتومباثيا» (١٥٨٢) لتوماس واطسون: «هيكاتومباثيا أو قرن الحب المتقد ينقسم إلى جزأين: أولها يعبر عن معاناة المؤلف في الحب، والآخر يعبر عن وداعه الطويل لحبه وكل ما ينطوي عليه من عذابات. من تأليف النبيل توماس واطسون.» لكن واطسون غير تقليدي، حيث يتبع تقليدًا أوروبيًّا في عرض السونيتا، سبق أن شهدناه أيضًا في الاستهلالات التي يقدم بها كلًّا من قصائده، لكن هذا الأسلوب لم يحظ برواج في إنجلترا.

لا عجب إذن أن ويليام وردزورث الذي كتب في عصر كانت فيه السونيتات (والشعر عمومًا بأشكاله مختلفة) أدوات للتعبير عن الذات قال إنه «بهذا المفتاح / أفصح شكسبير عن مكنون قلبه» («لا تزدروا السونيتا»). ولكن، قد نتساءل: ألا نفترض أن شكسبير أفصح عن مكنون قلبه في مسرحياته؟ هذا ما نفترضه بالطبع إلى حد ما؛ فكثيرًا ما يُنْظَر إلى مسرحية «هاملت» باعتبارها محاولة من شكسبير للتنفيس عن حزنه لموت ابنه هامنت عام ١٥٩٦ (طالع الخرافة الثانية عشرة). وعادةً ما تُعتبر مسرحية «العاصفة» التي يفقد فيها الأب ابنته بعد زواجها ويتخلى عن مهاراته المسرحية انعكاسًا لظروف شكسبير الشخصية والمهنية عام ١٦١٠ (طالع الخرافة العشرين). ونصيحة أورسينو في مسرحية «الليلة الثانية عشرة» التي يوصي فيها بأن تنتقي النساء دومًا «رجلًا أكبر منهن سنًّا» (الفصل الثاني، المشهد الرابع، البيتان ٢٨-٢٩) كثيرًا ما تُفَسَّر على أنها ندم شكسبير الشخصي على تَبَنيه موقفًا معاكسًا في زواجه، حيث كان يصغر آن هاثاواي بثماني سنوات (طالع الخرافة العاشرة). ويُنْظَر إلى استعانة شكسبير بحبكات تحوي توائم على أنها تعبير عن افتتانه الشخصي، بصفته والدًا لتوءمين، بالتوائم عمومًا (تحوي مسرحية «كوميديا الأخطاء» مجموعتين من التوائم المتطابقة، بينما تشتمل مسرحية «الليلة الثانية عشرة» على زوج واحد من توءمين غير متطابقين). لكننا لا نفترض أبدًا أن شكسبير عاش تجربة غرق سفينة أو سافر إلى إيليريا، أو أن الشخص المتوهَّم طارده تحت أثر السحر (ولو أن حبكة مسرحية «حلم ليلة منتصف صيف» تفضي بنا أحيانًا إلى هذا السؤال: «هل آمن شكسبير بالجنيات؟») وبتعبير آخر، فإننا نفسر المشاعر تفسيرًا ذاتيًّا على عكس الحبكات المسرحية، فيما خلا في حالة السونيتات حيث نفسر الاثنين تفسيرًا ذاتيًّا.

في عام ١٩١٢، كتب العالم النفساني من جامعة كامبريدج إدوارد بولو أن «تعبير الفنان عن ذاته لا يُشاكل تعبير كاتب الرسائل أو الخطيب الذي يتحدث لعامة الناس عن ذاته؛ فهو ليس التعبير «المباشر» عن شخصية الفنان الواقعية، وليس حتى تعبيرًا «غير مباشر» عن الشخصية الواقعية.»4 ويقر بولو بأن عصر الكاتب وتجربته الشخصية ينعكسان حقًّا على أعماله، لكنه يضيف أن القراء يمكنهم فقط العثور على تلك العصور والتجارب حالما يدركون ماهية التجارب المنعكسة التي يبحثون عنها. وبتعبير آخر، يمكننا قراءة السونيتات بالرجوع إلى حياة شكسبير، ولكن لا يسعنا معرفة حياته انطلاقًا من السونيتات.
ولا يفتقر أدب عصر النهضة إلى تصوير الذات: «مقالات» مونتين (المترجمة إلى الإنجليزية عام ١٦٠٣) و«ريليجيو ميديتشي» لتوماس براون (نُشرت عام ١٦٤٣) مثالان جليان. ولكن من وجهة نظر بولو، فحتى أعمال التعبير الذاتي عن سير الحياة التي لا تحتمل الشك هي أعمال فنية، وهي «الصياغة غير المباشرة للمحتوى العقلي المنعزل.»5 أي إن تصوير الذات ليس من الضروري أن تكون تعبيرات مباشرة عن الذات؛ نظرًا للعامل الوسيط الممثل في التشكل الفني. (يقدم لنا النوع الأدبي الحالي «المذكرات» العديد من الأمثلة لهذه الظاهرة؛ انظر على سبيل المثال رواية فرانك ماكورت «رماد أنجيلا»). وكما يعبر بولو عن المسألة ببلاغة فإن «الفكرة يمكن أن توحي بها تجربة فعلية» لكن «الفكرة ذاتها هي تجربة فعلية»6 ومن هذا المنطلق، فإن جميع أعمال شكسبير هي انعكاسات شخصية تعبيرية تلقائية عن سيرة حياة الفنان (بالمعنَيَيْن).
لنرجع إلى السونيتات: يوضح بيتر هولبروك أن «أحد الأشياء الأكثر إدهاشًا بخصوصها هو جرأتها وتهورها في تعرية ذاتها.» الشاعر محزون، وبلا قيمة، ويَحُفُّه الأسى، ولا يثق بأحد، ويكره ذاته، وحاسد للغير، ومتألم، وذليل، ويشعر بتفوق الآخرين عليه، «وتعاليهم عليه شعريًّا».7 ينتهي هولبروك إلى أن ما يميز السونيتات تصويرها لإنسان معيب في خضم مجموعة من التجارب «والادعاء الضمني في القصائد بأن هذه التجربة ذات قيمة عظيمة لأنها تجربته.»8 ويتسق ذلك مع اهتمام شكسبير بالفرد في مواضع أخرى بمجموعة أعماله؛ مقولة «أنا ما أنا عليه» (من السونيتا ١٢١) ليست ببعيدة عن التوكيدات الذاتية الوجودية الشبيهة لريتشارد الثالث أو آرون المغربي (مسرحية «تيتوس أندرونيكوس») أو باروليس (مسرحية «الأمور بخواتيمها») أو إياجو (مسرحية «عُطيل»)، ومن المذهل أن أيًّا من هذه الشخصيات ليس نظيرًا جديرًا بالإعجاب.

ولكن يجب ألا ننسى أن ريتشارد الثالث وآرون وباروليس وإياجو شخصيات خيالية، وأن «أنا» الشاعرية في السونيتات ربما تكون خيالية بالقدر ذاته. وينبغي ألا ننسى أيضًا أن السونيتات، بموجب أنها مطبوعة من حيث الأصل، أُتْبِعت بقصيدة روائية بعنوان «شكوى العاشق». في هذه القصيدة، يرى راوٍ صبية ريفية مُنْتَحِبَة ومَكْرُوبة، تروي هي بدورها قصة حبها المغدور لرجل عجوز كان من قاطني المدن، وهو الآن مزارع («رجل جليل يرعى ماشيته في مكان قريب / وتارةً ما كان صلفًا عاش اضطرابات / بالبلاد وبالمدينة»؛ الجزء الثاني، الأبيات ٥٧–٥٩). يوحي المزارع العجوز بأن خبرته ربما ساعدته على تخفيف عبء معاناة الصبية. وبعد أن تتشجع الصبية، تقص علينا قصة الحكمة التي اكتسبتها، لكنها تقدم لنا الخاتمة المذهلة، وهي أنه لو تكرر الموقف لاستجابت لحبيبها الخائن بالطريقة عينها، ولسمحت لنفسها بأن تُخْدَع كما سبق، وهنالك تنتهي القصيدة. وتتركنا مع المفارقة الأليمة المتمثلة في استسلام الشابة، وهو شعور شخصيٌّ جدًّا (فهي قصتها هي) وعامٌّ في آنٍ واحد؛ فهي تنتقل من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب (مقومات جاذبية العاشق «ستخون مرة أخرى من خانته سابقًا / كل عواطفه المصطنعة يمكن أن تَخدع مجددًا تلك الفتاة التائبة.» الجزء الثاني، البيتان ٣٢٨-٣٢٩). وتُوضَع مناورة وضع المسافات هذه داخل بنية سردية ثلاثية المسافات — قصة داخل قصة داخل قصة — تفضي في نهاية المطاف إلى (لا) خاتمة مشوقة ومحبطة، لا نسمع فيها شيئًا بعد عن العجوز المذكور في المقطع الشعري التاسع، أو الراوي المذكور في المقطع الشعري الأول. ولا نعرف أبدًا شيئًا عن ردة فعل المزارع العجوز، أو طبيعة الخبرة أو الحكمة الوثيقة الصلة التي يمكن أن يقدمها، أو عن علة وجود الراوي الذي راقب وتَسَمَّعَ الصبية وهي تروي قصتها للعجوز من الأساس.

وهذه هي تجربة قراءة السونيتات؛ ففيها يتعايش الشخصي والعام، وكثير من الشخصيات تحتل مكانة مركزية، ولا يُحَدَّد فيها الزمان ولا المكان ولا الشخصيات. ونتيجة لذلك، فإننا لا نوقن لِمن هذه القصة.

هوامش

(1) Katherine Duncan-Jones, Shakespeare: Upstart Crow to Sweet Swan, 1592–1623 (London: A. & C. Black, 2011), pp. 140–6.
(2) Ibid.
(3) Dympna Callaghan, Shakespeare’s Sonnets, Blackwell Introductions to Literature (Oxford: Wiley-Blackwell, 2007), p. 3; Lois Potter, The Life of William Shakespeare: A Critical Biography (Oxford: Wiley-Blackwell, 2012), p. 414.
(4) Edward Bullough, “‘Psychical Distance’ as a Factor in Art and an Aesthetic Principle,” British Journal of Psychology, 5 (1912), pp. 87–118 (p. 113).
(5) Ibid., p. 115.
(6) Ibid.
(7) Peter Holbrook, Shakespeare’s Individualism (Cambridge: Cambridge University Press, 2010), pp. 193-4.
(8) Ibid., p. 194.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤