الخرافة الثانية والعشرون

مسرحيات شكسبير خالدة

ثمة حقيقة لا مراء فيها تتعلق بشكسبير، ألا وهي أن مسرحياته اكتسبت شعبية في العديد من الدول في أغلب القرون. وبطبيعة الحال، هناك مسرحيات بعينها تفقد بريقها ثم يذيع صيتها بين الحين والآخر، لكن شكسبير الكاتب المسرحي ظل شعبيًّا بوجه عام سواء على الورق وعلى خشبة المسرح. كان بِن جونسون بعيد النظر؛ إذ كتب في ثناء على شكسبير طُبِعَ بالنسخة الأولى من الأعمال الكاملة عام ١٦٢٣: إنه «لم يكن ينتمي لعصر واحد بل لكل العصور.» ومن ثناء بِن جونسون عام ١٦٢٣ مرورًا بكتاب «شكسبيرنا» الصادر في ألمانيا في القرن التاسع عشر، وصولًا إلى صناعة الترجمة المعاصرة (نُشِرَت أعمال شكسبير بثمانين لغة مختلفة)، صمدت مسرحيات شكسبير أمام اختبار الزمن.

حري بنا أن نسأل: لِمَ يصمد بعض المؤلفين أمام اختبار الزمن دون غيرهم؟ من الإجابات السهلة — ولكن المضللة — عن التساؤل عن نجاح شكسبير أنه كان شكسبير (طالع الخرافة الأولى). استكشف جيري تايلور طول عمر الإنجازات الثقافية أو فقدانها عمومًا في كتابه الذي يُجْمِل عنوانُه كل شيء «الانتقاء الثقافي: لماذا تصمد بعض الإنجازات أمام اختبار الزمن دون غيرها؟»1 في هذه الدراسة المكتوبة بأسلوب شديد السلاسة، يقدم لنا الكاتب مزيجًا معقدًا من الظروف: على سبيل المثال الظروف الطارئة (كالنظام التعليمي الذي درسناه في الخرافة الثانية، وهو النظام المناسب تمامًا لإنتاج مؤلفين مسرحيين، وإن لم يُصَمَّم لهذا الغرض مطلقًا)، والعوامل الإشرافية التآزرية (المحررون) وغيرهم الكثيرون. وطرحت آن كولديرون السؤال نفسه، لا عن الثقافة عمومًا ولكن عن شكسبير خاصةً، وزادت في مقالتها عددًا من المكونات الإضافية لقائمة تايلور الممتدة في صفحات كتابه كلها. وتفترض أن مما ساعد على صمود شكسبير إنتاجه الغزير وتأليفه عبر أنواع أدبية متعددة؛ فساعد ذلك على بقاء سمعته نقية، حتى حينما تصعد مسرحياته الفردية أو تهبط في التقييمات. وهي تسلط الضوء على ميول شكسبير ما وراء النصية (الطريقة التي يحب أن يشير بها على نحو انعكاسي ذاتي إلى أعماله الدرامية باعتبارها خيالية) بصفتها أحد عوامل صموده: «فالنص الواحد الذي نعلم أنه سيعلق بذهن قراء المستقبل هو النص الواحد الذي يطالعونه أو يسمعونه.»2 ولقد كانت قدرة شكسبير على التكيف مع الوسائط المختلفة (أنواع مختلفة من المسارح والإذاعة والأفلام) مكونًا محوريًّا. وكذا تعدد مصادر ثقافته وشموليتها؛ فأعماله «تتعاطى بتعاطف مع هموم أكثر من نوع من الجماهير. ويعبر بتعاطف عن وجهات نظر الأثرياء والفقراء، والعجائز والشباب، والإناث والذكور، والصعاليك والأميرات متيحًا لأنواع كثيرة من الجماهير والقراء متعة التماهي مع شخصياته.»3 وتحليلَا هذين الناقدَيْن يُثْبِت أهمية الحظ في صمود الفنان أمام اختبار الزمن؛ فما من سمة جمالية متأصلة مسئولة وَحْدَها عن النجاح العابر للتاريخ وللأمم الذي أحرزه شكسبير.
لكن الصمود أمام اختبار الزمن واتصاف أعماله بالخلود ليسا الشيء نفسه (ولو أنهما يتداخلان). لننظر إلى توماس ميدلتون كحالة اختبارية لأغراض المقارنة: لا شك أن ميدلتون كان واحدًا من أبرع المؤلفين المسرحيين في عصره بمجموعة أعماله الزاخرة البالغ عددها ٣٢ مسرحية (باستثناء التمثيليات، وخطب المواكب المدينية، واقتباسات أعمال شكسبير بتصرف)، ومسرحياته متنوعة أدبيًّا عمومًا مثل مسرحيات شكسبير. ومع ذلك، فباستثناء مسرحيتين تراجيديتين — «المنتقم» و«المُستَبدَل» وربما «النساء يحذرن النساء» — قليل من مسرحياته هي التي تُؤَدَّى على خشبة المسرح حاليًّا. ويرجع ذلك نوعًا ما إلى أن نصف مسرحياته تقريبًا يتمحور حول نوع أدبي محلي وموضوعي جدًّا — ألا وهو السخرية — وتحديدًا، نوع السخرية المعروف بالكوميديا المدينية (أي اللندنيَّة)؛ فمسرحيات مثل «عيد القديس ميخائيل» و«شجعانك الخمسة» تسخر من نزوع اللندنيين الشديد للتقاضي ولخطط الثراء السريع. وهذه النزعات لا تقتصر على لندن وحسب، ولا على القرن السابع عشر وحده، لكن مسرحيات ميدلتون مقيدة بشدة بإيحاءات وتفاصيل محلية؛ حيث تظهر شخصياتها في أغلب الأحيان في صورة أنماط، حتى إنه يصعب عليها أن تتجاوز الحقبة التي خُلِقَت فيها. تُسْتَفْتَح مسرحية «شجعانك الخمسة» بتعريف الشجعان:

يمر على خشبة المسرح: الفارس القواد وبصحبته ثلاث سيدات في حُلل فرسان، ويلتقي به الفارس الداعر والفارس السارق والفارس الغشاش … والآن ننتقل إلى الفارس الآخر، الفارس السمسار، الجالس بمنزله إلى الآن. (مقدمة، ١–٦)

يُعْرَض الفرسان علينا في صورة أنماط. ورغم أن الكاتب يُسميهم لاحقًا، فحتى أسماؤهم أسماء أنماط؛ فريب (الفارس السمسار) وتيلبي (الفارس الداعر) وبورسنيت (الفارس السارق). وعندما يستخدم شكسبير أسماء أنماط للشخصية، نجد أن الشخصية تتصرف عكس نوعها. ولذا، نجد فرانسيس فيبل شجاعًا («هنري الرابع – الجزء الثاني») وسايلنس يُمْسي ثَرثارًا عندما يسكر («هنري الرابع – الجزء الثاني»)، وسبيد متلكئًا («السيدان الفيرونيان»). والنوع يؤكد تفرده.

لنرجع إلى حالتنا الاختبارية المقارنة، توماس ميدلتون. تعتبر مسرحية ميدلتون «الساحرة» (١٦١٦) تراجيديا كوميدية تستند إلى أحداث شائنة معاصرة: إدانات فرانسيس هوارد وزوجها الثاني روبرت كار لدورهما في مقتل السير توماس أوفربري. والقصة معقدة وتنطوي على زواج مُدَبَّر (بين فرانسيس ابنة الثالثة عشرة وإيرل إسيكس ابن الرابعة عشرة)، وخيانة لاحقة، واتهامات بالعقم وممارسة السحر (العقم بسبب السحر)، واختبار للعُذْرية، وطلاق، وتسميم، وقتل الرجل القوي الذي عارض الزيجة الثانية (أوفربري)، وزواج آخر بسرعة لا مبرر لها (حصلت فرانسيس هاوارد على الطلاق من إسيكس في سبتمبر عام ١٦١٣ وتزوجت من كار بعدها بثلاثة أشهر). وفي عام ١٦١٦، بعد أن اتُّهِما بالتآمر على مقتل أوفربري، أُودِعَ هاوارد وكار سجن «البرج». في العام نفسه، ألَّفَ ميدلتون «الساحرة»، وهي مسرحية كارهة للنساء، تدور أحداثها عن الشراهة الجنسية للنساء، وشخصيتها الرئيسية — فرانسيسكا — يشابه اسمها فرانسيس كار.4 وبحسب تعليق محرر أكسفورد «إن النص المسرحي المغرق في المحلية لا تطول حياته على خشبة المسرح.»5
ومن المثير للانتباه أن ميدلتون نَقَّحَ هذه المادة عام ١٦٢٢ إذ كتب «المُستَبدَل»، وهي المسرحية التي لم تكن حياتها المسرحية قصيرة. (في القرن العشرين، حققت هذه المسرحية أكبر نجاحات أعمال عصر النهضة بعد مسرحيات شكسبير من حيث إيرادات مشاهدتها). وعادت قصة فرانسيس كار إلى الاهتمامات المحلية مجددًا عام ١٦٢٢ بإطلاق سراحها. وفي مسرحية «المُستَبدَل»، تخضع البطلة بياتريس-جوانا لكشف عذرية، وتلتمس مساعدة خادمتها بعد أن أيقنت أنها لا تستطيع اجتياز الكشف بنجاح. (حضرت فرانسيس كار لفحص عذريتها — الذي اتخذ الشكل الذي لا يمكن تمثيله على المسرح، وإن كان أكثر موثوقية، من أشكال فحوص أمراض النساء — وهي محتجبة، فأشعل ذلك الشائعات بأنها استعانت بامرأة أخرى كي تخضع للكشف نيابة عنها). ولكن مادة ميدلتون المرتبطة بالأحداث المحلية تعلو الآن على قراءتها المحلية؛ فهذه تراجيديا وليست فضيحة، وهي تراجيديا عن الوقوع في الفخ، والزواج المدبر، والانحلال الأخلاقي، وهو ما اعتبره تي إس إليوت وويليام إمبسون وهيلين جاردنر ألفة للجريمة، ووصفت جاردنر بياتريس-جوانا بأنها روح ليست «فاسدة» ولكنها «مُشَوَّهة» بفعل «إصرارها الشخصي على إتيان أفعال تتعارض وطبيعتها.»6 ومن هذه الجوانب، تبدو المسرحية أشبه بمسرحية «ماكبث» لشكسبير أو «د. فاوست» لمارلو اللتين تقارنهما جاردنر بها.

إن المقارنات بين شكسبير ومارلو وثيقة الصلة؛ فماكبث ليس فقط حاكمًا لاسكتلندا خلال القرن الحادي عشر، ولكنه جندي يُخْفِق في إدراك أن القتل في الحياة المدنية يختلف عن القتل في الحياة العسكرية. ومن هذا المنطلق، فهو يشبه بروتوس في مسرحية «يوليوس قيصر» (شخصية نبيلة تُسْتَدْعى لاقتراف فعل مَشِين)، أو هاملت في مسرحية «هاملت» (مفكر يُسْتَدْعى لعمل فعل عنيف)؛ الرجل غير المناسب للمهمة. تستند شخصية فاوست على مزيج من شخصيتين مشعوذتين، ورغم ذلك فهو ليس مجرد مستحضر أرواح من القرن السادس عشر، ولكنه أي شخص طموح يشعر بالخذلان مما قدمته له الحياة، وينساق إلى ممارسة أنشطة محظورة أو محرمة. والمقارنة ما بين مسرحيتَي «الساحرة» و«المُستَبدَل» تساعدنا على أن نرى كيف يمكن للمحلي أن يستحيل خالدًا.

لا تتفادى مسرحيات شكسبير المحلية، لكنها تتعامل معه على نحو مختلف عن ميدلتون. ورغم أن استقصاءات شكسبير كثيرًا ما تكون معاصرة — مكانة المرأة في «كوميديا الأخطاء» أو «حلم ليلة منتصف صيف»، وتقسيم مملكة أو توحيدها في «الملك لير»، وتعريفات الحدود والشواطئ في «بريكليس»، ومرتبة الأكاذيب في «عُطيل» — يحصر شكسبير المحلية في إيحاءات أو تلميحات بسيطة. الملكة إليزابيث يُثنى عليها في كلمة قوامها اثنا عشر بيتًا في مسرحية «حلم ليلة منتصف صيف» (وصف أوبرون لأصل زهرة الثالوث بالفصل الثاني، المشهد الأول، الأبيات ١٥٥–١٦٨: طالع الخرافة ٢٨)، والملك هنري الخامس يُقارَن بتفاؤل بإيرل إسيكس («جنرال إمبراطورتنا الجليلة» العائد منتصرًا من أيرلندا، الفصل الخامس، المقدمة، البيت ٣٠) في كورال الفصل الخامس من مسرحية «هنري الخامس» (عاد إسيكس وهو أبعد ما يكون عن الانتصار؛ ولذا يساعدنا هذا التلميح على تأريخ مسرحية «هنري الخامس»، أو على الأقل هذا الكورال، بدقة عالية)؛ تلميحات بورتر إلى التورية في «ماكبث» (الفصل الثاني، المشهد الثالث، الأبيات ٧–١١) هي تلميحات محلية ﻟ «الكاثوليكيين الذين استعانوا بالتورية في المحكمة وسيلة للإفلات من الاتهام.»7 وتحوي مسرحية «كوميديا الأخطاء» تلميحًا فيه تورية للثورة البروتستانتية التي اندلعت في هولندا («شنت حربًا على وريثها/شعرها heir/hair»؛ الفصل الثالث، المشهد الثاني، البيت ١٢٧)، وتلمح مسرحية «الملك جون» إلى الأسطول الإسباني، وتُوصَف أصياف الأعوام من ١٥٩٤ إلى ١٥٩٦ الآتية في غير أوانها على لسان تيتانيا في مسرحية «حلم ليلة منتصف صيف»، ويأتي ذكر أعمال الشغب التي اندلعت بسبب الحبوب عام ١٦٠٨ في مسرحية «كوريولانوس»، وتلمح السونيتا رقم ١٠٧ إلى وفاة الملكة إليزابيث، وفقرة «الصقور الصغيرة» (الفصل الثاني، المشهد الثاني، البيت ٣٤٠) في نص مسرحية «هاملت» عام ١٦٠٤ تلميح إلى فرق الصبية المسرحية في لندن، التي هدد انبعاثها فِرَق الكبار تهديدًا تجاريًّا (ومن ثم جاء ارتحال الممثلين إلى إلسينور) — وأسقطت هذا التلميح مجموعة الأعمال الكاملة عندما لم يعد محل اهتمام محليًّا، وربما أن مالفوليو سخر من البيوريتانيين في مسرحية «الليلة الثانية عشرة» («إنه متشدد نوعًا ما») — عَدَّلَ محررو أكسفورد الكلمة في المجموعة الكاملة، (الفصل الثاني، المشهد الثالث، البيت ١٣٥، إلى «بيوريتاني»)، وربما يُلمِّح أورسينو إلى دون فيرجينيو أورسيني الذي قام بزيارة رسمية للملكة إليزابيث، وشاهد عرضًا مسرحيًّا لمسرحية «الليلة الثانية عشرة» المستندة إلى طبعة عام ١٦٠١ (لكن المقصد من هذا التلميح يصعب فهمه ما دام أن صورة أورسينو العاشق حتى النخاع تكاد لا تكون مُجاملة). وأغلب هذه التلميحات (وغيرها) من السهل استخلاصها أو تجاهلها؛ فكشف مسرحية «الليلة الثانية عشرة» لادِّعاءات مالفوليو يؤتي ثماره سواء أنظر إليه المرء باعتباره بيوريتانيًّا أم لا، ومسرحية «ماكبث» هي أكثر مسرحياته ارتباطًا بالأحداث المحلية من أولها إلى آخرها، لكنها لا تعتمد على نقاط التوازي بينها وبين الملك جيمس أو مجاملاته (طالع الخرافة الثامنة والعشرين)، وتستميل مسرحية «كوريولانوس» المشاهد، سواء أرأى المشاهد أعمال الشغب التي اندلعت بسبب القمح واكتناز الحبوب انعكاسًا لتلك الأحداث التي وقعت عام ١٦٠٨ أم لم يَرَهَا كذلك.
وحقيقة الأمر أن شكسبير يجتهد في تفادي المحلية؛ فهو لم يكتب قَطُّ شعرًا دينيًّا.8 وعندما يتعاطى مارلو مع السياسة الفرنسية الحديثة في مسرحيته «مذبحة في باريس» (مذبحة البروتستانت في عيد القديس بارثولوميو عام ١٥٧٢)، نراها مسرحية معاصرة بوضوح كما يشير عنوانها. وعندما يتعامل شكسبير مع المادة عينها، نراه يزيل عنها بعناية صبغتها السياسية؛ فمسرحية «الحب مجهود ضائع» تحيل الحرب ما بين فرنسا ونافارا إلى كوميديا رومانسية، تاركًا الأسماء وحسب تقوم بالمهمة (فجميع الشخصيات الرئيسية سُمِّيَت بأسماء شخصيات فرنسية معاصرة). وهذا العمل ليس سياسيًّا ولكنه أدبي، يُعْنى بالنوع الأدبي العام (لا السياسي).9

إن السياسية بطبيعة الحال سرمدية، أو يمكن أن تكون كذلك. لكن مسرحية ميدلتون «لعبة شطرنج» (١٦٢٤) أو مسرحية ديكر «عاهرة بابل» (١٦٠٧) ليستا كذلك. وقد يرجع ذلك إلى النوع الأدبي (السخرية السياسية والرمزية الدينية على الترتيب). وقد يرجع جزء من سرمدية أعمال شكسبير إلى حقيقة أنه أدمج السياسة المحلية في شكلين متساميين؛ التراجيديا والكوميديا (كوميديا قد نلحظ أنها لا تتقيد بأية صفة محددة مقيِّدة كالكوميديا المدينية أو الكوميديا الساخرة). وحقيقة الأمر أن السخرية لم تكن النوع الأدبي الأكثر نجاحًا لدى شكسبير، ويُسْتَدَل على ذلك بمسرحيتيه «ترويلوس وكريسيدا» و«تيمون الأثيني». تكشف رسالة الطابع في واحدة من نسخ مسرحية «ترويلوس وكريسيدا» رُبْعِيَّة القطع عن أنها باءت بالفشل على خشبة المسرح، ولعل «تيمون الأثيني» كانت مسرحية غير مكتملة (طالع الخرافة السابعة عشرة).

تعكس مسرحيات شكسبير بالتأكيد قضايا محلية. ولهذا السبب يكتب المؤلفون المسرحيون مسرحياتهم؛ فمسرحية «هنري السادس» تدور حول تاريخ القرن الخامس عشر، ولكنها تتناول الخوف من الحرب الأهلية أيضًا. وتدور «هاملت» حول اغتصاب العرش، لكنها تتناول الحداد. وتُعنى «ماكبث» بالخيانة السياسية والتعاقب السياسي، لكنها أيضًا تتناول السطوة والخيال (الإيجابي والسلبي) وتعريفات الرجولة. ولذلك تحيي القرون اللاحقة المسرحيات الأقدم؛ فارتباطها بالأحداث قابل للتطبيق مجددًا، ومادتها آنيَّة على نحو قابل للتجدد، وعالمي في بعض الحالات، ولا نهائي. وليس من قَبِيل المصادفة أن مسرحية «بريكليس» كانت واحدة من أُولَيَات مسرحيات شكسبير التي أُحْيِيَت في عصر النهضة عام ١٦٦٠؛ فحبكتها التي تدور حول ملك منفي يسترد مُلكه كان لها صَدًى خاص؛ إذ تماسَّت مع الفرسان العائدين.10
لكن هناك ما يرتبط بالسرمدية بخلاف الصلة. أو بالأحرى، هناك فارق بين الصلة وبين السرمدية. وحري بنا التمهل هنا للتفكير في بعض الفروق بين مسرحيات شكسبير ومسرحيات معاصريه. لنأخذ مسرحية مارلو «إدوراد الثاني» على سبيل المثال؛ فخلفية هذه المسرحية مستقاة من كتاب هولينشيد «وقائع إنجلترا» الذي يصور الدمار الزراعي والمالي والطوبوغرافي في مستهل القرن الرابع عشر؛ فقد اجتاحت الجزء الشمالي من إنجلترا غارات الاسكتلنديين المستمرة، ووقعت حالات نقص من المحاصيل سنوية، وعانت القطعان من الأمراض واستنفدها الموت، وتمكن الوَهَن والضعف من الناس حيث كانوا يكافحون من أجل البقاء، ولجئوا في أثناء المجاعة إلى أكل «الجياد والكلاب وغيرها من الحيوانات الكريهة».11 وما من حدث من تلك الأحداث تسلل إلى مسرحية مارلو. وكما لاحظت روما جيل «كان الرجل العادي محط عناية شكسبير، لا مارلو.»12
ورغم أن «الرجل العادي» هو المادة الموضوعية للنوع الأدبي الذي ساد خلال القرن السابع عشر — الكوميديا المدينية — فلم يُسْتَدْرَج شكسبير إلى تلك الكتابة الساخرة الآنية. ولعل من أسباب ذلك أن هذا النوع الأدبي يتطلب ضربًا مختلفًا من التشخيص عن النوع الذي كان يكتبه. ويلاحظ الممثلون عادةً الفارق بين شخصيات شكسبير وشخصيات معاصريه؛ فشخصيات مارلو تُخْلَق بواسطة الوضع الساخر للمسافات، وحديثها يعج بالتعليقات الجانبية؛ حيث تُنْشِئ عن عمد شخصية خاصة بها. ويلاحظ أحد المخرجين أن مسرحيات مارلو «مادة مستعصية نوعًا ما لأي شخص مُصِرٌّ على التعاطي مع النص بمنهجية «طبيعية» أو «واقعية».»13 ونادرًا ما تساعد المناجوات في مسرحيات شكسبير على تطوير الحبكة، لكنها عادةً ما تضيف إلى الشخصية مزيدًا من التعقيد. إن أسلوب شكسبير في بناء الشخصيات مناسب تحديدًا لنوع الإعداد الذي أمسى قياسيًّا في القرن العشرين بمسرح الفنون بموسكو عن طريق «التمثيل المنهجي» (وفيه يقوم الممثلون بإنشاء تاريخ قَبْليٍّ وحياة داخلية ودوافع للشخصية) للمخرج المسرحي قسطنطين ستانيسلافسكي.

ولعل اهتمام شكسبير بدواخل الشخصية هو ما يفسر سرمديته؛ فالسياسة تتغير، والموقف من المرأة يتبدل، لكن القلب الإنساني لا يتغير. وفي مركز كل مسرحية شكسبيرية إنسان. الملك لير هو أب أولًا وملك ثانيًا. علاوة على ذلك، فهو أب يواجه متلازمة العش الخالي؛ حيث إنه على وشك أن يخسر ابنته الأخيرة التي ستتزوج، وهو حاكم على شفا التقاعد المبكر. وهاملت أمير قتل عمُّه والدَه واغتصب عرشه، لكنه طالب جامعي أيضًا، لا يستطيع أن يتصالح مع فكرة فقدان أبيه (ولا شيء يعزيه حتى من قبل أن يسمع بجريمة القتل بفترة طويلة). إن فقدان العرش معضلة نخبوية، أما فقدان الأب فليس كذلك. هذه مواقف إنسانية لا تنحصر في الملوك أو الأمراء؛ فالإنسان صنف سَرْمَدِيٌّ.

هوامش

(1) New York: HarperCollins, 1996.
(2) A. E. B. Coldiron, “Canons and Cultures: Is Shakespeare Universal?”, in Laurie Maguire (ed.), How To Do Things with Shakespeare (Oxford: Wiley-Blackwell, 2008) pp. 255–79 (p. 261).
(3) Ibid.
(4) See The Witch, ed. Elizabeth Schafer, New Mermaids (London: A. & C. Black, 1994), p. xvi.
(5) Marion O’Connor in Thomas Middleton: The Collected Works, ed. Gary Taylor and John Lavagnino (Oxford: Clarendon Press, 2007), p. 1128.
(6) Helen Gardner, “Milton’s ‘Satan’ and the Theme of Damnation in Elizabethan Tragedy,” in F. P. Wilson (ed.), English Studies 1948 (London: John Murray, 1948), pp. 46–66 (p. 47).
(7) Note to Macbeth 2.3.8, in William Shakespeare: Complete Works, ed. Jonathan Bate and Eric Rasmussen (Basingstoke: Macmillan, 2007).
(8) Alison Shell, Shakespeare and Religion, Arden (London, 2010).
(9) Gillian Woods, “Catholicism and Conversion in Love’s Labour’s Lost,” in Maguire (ed.), How To Do Things with Shakespeare, pp. 101–30.
(10) Gary Taylor, Reinventing Shakespeare: A Cultural History from the Restoration to the Present (London: Vintage, 1991), pp. 21-2.
(11) Raphael Holinshed, Chronicles, vol. 4 (1587): see the Oxford Holinshed Project, http://www.english.ox.ac.uk/holinshed/texts.php?text1=1577_5319
(12) Edward II, ed. Roma Gill (Oxford: Oxford University Press, 1967; repr. 1978), p. 19.
(13) Stevie Simkin, Marlowe: The Plays (Basingstoke: Palgrave, 2001), pp. 66-7.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤