الخرافة السادسة والعشرون

مسرحيات شكسبير لا تصلح لصناعة السينما
رغم نقاط التناظر ما بين المسرح في بدايات العصر الحديث وبين هوليوود (طالع الخرافة التاسعة عشرة)، فعادةً ما نصطدم بتأكيد يفيد بأن المسرحيات لا يمكن أن تُتَرْجَم إلى أفلام. وتُعَزِّز أحكام صناعة الأفلام نفسها من بعض الطرق هذه الفكرة: كان الفيلم الشكسبيري الوحيد الذي فاز بجائزة أوسكار لأفضل فيلم هو «هاملت» للورانس أوليفييه (١٩٤٨)، وربما تشهد قصة مشكوك في صحتها عن الداعم الرئيسي للفيلم، جيه آرثر رانك، مفادها أنه تلقى تأكيدات بأن الفيلم في شكله النهائي كان «رائعًا حتى إن المرء لا يستطيع أن يميز ما إذا كان لشكسبير أصلًا»، على تناقض العلاقة ما بين شكسبير والسينما.1 فقد رُشِّح شكسبير مرة واحدة فقط ضمن فئة أفضل نص سينمائي مقتبس (عن فيلم «هاملت» الذي أخرجه كينيث براناه عام ١٩٩٦: خسر أمام فيلم «سلينج بليد» لبيلي بوب ثورنتون). وفقًا لمعايير جائزة الأوسكار، فإن الفيلم الشكسبيري الوحيد الذي أحرز نجاحًا بحق لم يُقْتَبَس عن مسرحية على الإطلاق، ولكن عن سيرة الحياة الكوميدية «شكسبير عاشقًا» (جون مادن، ١٩٩٨): حيث فاز بسبع جوائز أوسكار، منها جائزة أفضل نص سينمائي.
لمَّا كتب لورانس أوليفييه عن تجهيزاته لفيلم الدعاية الحربية «هنري الخامس» (١٩٤٤)، افترض أن أعمال شكسبير تَسْتَبِق الإمكانات التي يمكن للسينما أن تحتملها: «في مسرحية هنري الخامس أكثر من غيرها، يتذمر شكسبير من قيود مسرح جلوب … وكل مشاهد المعارك القصيرة تلك، في الكثير من مسرحياته، هي سينما مُحْبَطَة.»2 وحقيقة الأمر أنه من الواضح أن كورال مسرحية «هنري الخامس» يتحدث بضرب من الصيغ البلاغية التي تستند إلى النفي تعبيرًا عن الإيجاب (صيغة بلاغية للثناء من خلال نفي النقيض): يتمتع المسرح بقدرة فائقة على عرض ما يريد عرضه، ولكن أوليفييه لديه فيلم يتعين عليه الترويج له. لكتابات شكسبير جوانب سينمائية بدائية، مع ذلك. وربما أن مسرحية «أنطونيو وكليوباترا» بأبطالها المشهورين المتقدمين في العمر، والتقاطع الممتد لمشاهد معسكرَيْهم لتصوير الوتيرة السريعة للعمل العسكري، تدنو أكثر ما تدنو من بين أعمال شكسبير إلى نمط التحرير الذي يبني الرواية السينمائية.
لا شك أن هناك صعوبات في ملاءمة نصوص شكسبير اللفظية بغزارة مع وسط تهيمن فيه عادةً المعاني البصرية. ناقش المخرج الروسي جريجوري كوزينتسيف الترجمة الضرورية قائلًا: «يتعين أن يتحول الشفهي إلى بصري. والنسيج الشعري نفسه يجب تحويله إلى شعر بصري.»3 وتوضح أفلام كوزينتسيف كيف يمكن إنجاز ذلك؛ فالتسلسل الافتتاحي لفيلمه «هاملت» (١٩٦٤) يُظهر الأمير، الذي يلعب دوره الممثل إينوكينتي سموكتونوفسكي، المشهور باعتقاله في سيبيريا، وهو يمتطي فرسه، عابرًا البوابة المصفحة للقلعة التي تنغلق من ورائه، وهي صورة مرئية لملاحظة هاملت أن «الدنمارك سجن» (الفصل الثاني، المشهد الثاني، البيت ٢٤٦). وتمزج الموسيقى المؤثرة لشوستاكوفيتش ما بين ألحان الصور البصرية المتكررة: الملابس المنتفخة، وصفحة المياه، والدَّرَج، واللقطات المأخوذة من زوايا خفيضة التي تمنح الفيلم الانسجام الشعري الذي تحققه مسرحيات شكسبير عبر الزخرفة اللغوية.4 اخْتُصِرَ نص المسرحية بمقدار النصف تقريبًا، لكن ما استُغنِي عنه في هذا العالم اللفظي عُوِّضَ عنه في العالم البصري. وقد يمثل فيلم «عطيل» الذي أخرجه أورسون ويلز مثالًا آخر: هنا يضخم الاستعمال الواعي للأبيض والأسود انشغال المسرحية بثنائيات اللون العرقية والأخلاقية، حيث تنقل بؤرة تركيزها اللونية بعيدًا عن الأخلاقي باتجاه الجمالي. إن عناية ويلز بصور الوقوع في فخ، بداية من الشبكة المغزولة على حجاب ديدمونة، وحتى الظلال التي تلقيها نوافذ الحمامات العمومية الشبكية في الهجوم على كاسِّيو، والقفص الذي اعْتُقِلَ فيه إياجو، تخلع تعبيرًا بصريًّا على أفكار شكسبير المتعلقة بالسَّجن، وكأن الفيلم استكشاف رسومي مطول لخطة إياجو الشريرة: «وهكذا سأحيل فضيلتها (ديدمونة) عهرًا، وأنسج من نواياها الحسنة فخًّا كبيرًا يقعون فيه جميعًا.» (الفصل الثاني، المشهد الثالث، الأبيات ٣٥١–٣٥٣). إن ويلز، مخرج فيلم «المواطن كين» الذي يتصدر دائمًا تقريبًا استطلاعات رأي هواة الأفلام، واحد من أبرز السينمائيين القادرين على التعامل مع شكسبير؛ ففيلمه «ماكبث» (١٩٤٨) يربط مسرحية شكسبير بتصوير سلطة ملهمة غامضة أخلاقيًّا مستقاة من دعايات فترة الحرب، وفكرة خارقة للطبيعة عن سحر الفودو، وإعادة صياغته لمسرحيات «هنري الرابع» في شكل فيلم «دقات منتصف الليل» (١٩٦٥) يُعيد تخيل التعاقب بوصفه سيرة حياة رثائية لفالستاف الذي يلعب ويلز نفسه دوره.

إن الحذوفات اللغوية الضرورية لخلق عمل شكسبيري فيلمي — فيلم «هاملت» الملحمي الكامل لكينيث براناه الذي أُنْتِجَ عام ١٩٩٦ استثناء في صناعة السينما، حيث يمتد لأربع ساعات — سهلة الإنجاز نسبيًّا نوعًا ما — فالمشهد الافتتاحي لمسرحية «هاملت»، على سبيل المثال، يعمل كنوع من «اللقطة التأسيسية» اللفظية؛ حيث يثبت فيه الحوار الدائر بين الحراس للجمهور الذي يشاهد المسرحية في ضوء الظهيرة الساطع في مسرح جلوب أن أحداث هذا المشهد تدور على شرفات القلعة ليلًا. ويمكن التصوير في الموقع أن يُظهر ذلك في لحظة — وعليه، أيُعَد الحوار الدائر بين بارناردو وفرانشيسكو غير ضروري؟ ربما؛ فمن بين الانتقادات التي تعرض لها فيلم «هاملت» لبراناه اعتياده البيان والإخبار — بالجمع بين النص اللفظي للمسرحية والمحفزات البصرية المستفيضة التي بدت من قبيل الحشو. أو ربما لا؛ فعلاوة على تعيين زمان المشهد ومكانه، تؤسس افتتاحية مسرحية «هاملت» أيضًا لمزاج عصبي مهم — وكما وجد المخرج بيتر بروك في إعادة صياغة مسرحية للمسرحية عام ١٩٩٦ تحت عنوان «من هناك؟» — يستطيع السؤال الافتتاحي الحاسم للمسرحية «من هناك؟» (الفصل الأول، المشهد الأول، البيت الأول) الانتقال من سياقه الظاهري البراجماتيِّ إلى تناول أكثر استقصاءً وشمولًا لتساؤل المسرحية عن الهوية.

قد يبدو مدى اختزال النص الشكسبيريِّ في النسخ السينمائية مُعْضِلًا: حَذَفَ فيلم «هاملت» لأوليفييه نصف الأبيات؛ حيث اجْتَثَّ بالكامل شخصيات روزنكرينتس وجيلدنشتيرن وفورتنبراس. وحوى فيلم «هاملت» للمخرج زيفيريللي أقل من ٤٠٪ من نص شكسبير، وتختزل غالبية الأفلام القائمة على مسرحيات شكسبير الأبيات بنسبة شبيهة. إن لغتنا الشهيرة عن المعالجة «الأمينة» تفترض أنه كلما كان الفيلم أوثق صلة بالمسرحية كان ذلك أفضل. وحقيقة الأمر أن هذا ليس واقع الحال أبدًا تقريبًا؛ بل إن هناك ارتباطًا عكسيًّا تقريبًا ما بين «شكسبيرية» فيلم ما وقيمته السينمائية؛ فأعمال شكسبير تنجح سينمائيًّا عندما يتحلى الوسط الجديد بالثقة في إعادة صياغة الأعمال القديمة حقًّا. ومن وجهة نظر كثير من النقاد، يُعتبر فيلم «عرش الدم» (١٩٥٧) للمخرج الياباني أكيرو كوروساوا، المقتبس عن مسرحية «ماكبث»، أنجح فيلم صُنِعَ عن مسرحية شكسبيرية. أهذا الثناء على الرغم من، أم بسبب، أن الفيلم لا يحوي كلمة واحدة من نص شكسبير، وأنه مُتَرْجَم إلى سياق إقطاع الساموراي، ويعيد خلق الساحرات على هيئة شكل وحيد دوَّار للقَدَر؟ إن أنجح الأعمال الشكسبيرية الفيلمية هي في الغالب تلك التي آمن صُناعها تمامًا بإعادة توزيع الأدوار، وإعادة تخيل المسرحيات بوصفها أعمالًا فنية إبداعية جديدة. وفي المقابل، فإن أقلها نجاحًا يمكن أن تكون محصورة على نحو سكونيٍّ في تقاليد المسرح (ينتمي إلى تلك الفئة بعض المسلسلات الشكسبيرية التي أنتجتها هيئة الإذاعة البريطانية في الاستوديوهات خلال السبعينيات والثمانينيات)، رغم أن هذه الأعمال أكثر «إخلاصًا» لأصولها.

هناك لحظة في مسرحية «سيمبلين» ينزل فيها الإله جوبيتر «في أوج الرعد والبرق مستقرًّا على ظهر نسر: ويلقي بصاعقة على الأرض (إرشاد مسرحي، الفصل الخامس، المشهد الخامس، البيت ١٨٦). وبعدها بواحد وعشرين بيتًا يُنْتَشل لأعلى مجددًا: يمكننا أن نفترض أن هذا ليس بالمشهد الضروري للحبكة، لكنه يُؤَدَّى لأن القائمين على المسرحية يستطيعون تأديته. يستخدم شكسبير هنا المؤثرات الخاصة المتاحة له حديثًا حسب تطور تقنية المسرح، وربما أن هذه المؤثرات هي التي تَسُوق الرواية. والشيء نفسه ينطبق أحيانًا على أفلام شكسبير؛ فقط لأن رومان بولانسكي «يستطيع» أن يُرِيَنَا خنجرًا طافيًا يُناجيه جون فينش قائلًا: «أهذا خنجرٌ ذاك الذي أراه أمامي/ ومقبضه باتجاه يدي؟» («ماكبث»، الفصل الثاني، المشهد الأول، البيتان ٣٣-٣٤)، فإن ذلك لا يعني أنه «ينبغي عليه» أن يُظهر خنجرًا طافيًا. يُفسد التصوير البصري الأخرق لفيلمه عام ١٩٧١ تردد ماكبث الطفيف فيما يتعلق بما إذا كان الخنجر موجودًا بالفعل أم لا، إضافة إلى كونه مؤثرًا سرعان ما يقيد تنفيذه الفني الفيلم بزمن محدد؛ فما من شيء يتحرك أسرع من المؤثرات الخاصة.

لكن كثيرًا من فرص شكسبير على شاشات السينما تنبع خاصةً من التداخل ما بين شكسبير وتكنولوجيا الفيلم ولغته وقواعده؛ فأصداء فيلم «حروب النجوم» (جورج لوكاس، ١٩٧٧) و«الفصيلة» (أوليفر ستون، ١٩٨٦) في فيلم «هنري الخامس» لكينيث براناه (١٩٨٩) تضع الملك الشاب البطل في سياق البطولة المعاصرة. وتحتل زوجة ماكبث في فيلم «ماكبث» الذي أخرجه ويلز دور «الفاتنة اللعوب» المُستقى من النوع السينمائي الشهير «الفيلم المظلم» الذي أثَّرَ أيضًا في فيلم «هاملت» لأوليفييه. يضع فيلم «هاملت» (١٩٩٠) للمخرج زيفيريللي، ميل جيبسون في قالَب الأمير النشط نشاطًا غير عادي («أكثر فحولة منه اكتئابًا»، هكذا أعلن المقطع الدعائي للفيلم) الذي تستمد شخصيته الكثير من الدور السابق لجيبسون في سلسلة أفلامه «السلاح القاتل» التي لعب فيها دور الشرطي (ريتشارد دونر، ١٩٨٧)، بالضبط كما اصطبغت شخصية شريكته في البطولة، جلين كلوز التي أدت دور جيرترود، بصبغة جنسية من البداية، بسبب تاريخها في الأفلام الشائقة الإيروتيكية مثل «جاذبية قاتلة» (أدريان لين، ١٩٨٧). هناك ارتباطات تَسْرِي في مجال السينما عندما يُفْهَم الفيلم في سياق علاقته بغيره من الأفلام، لا في سياق علاقته بالنص الشكسبيريِّ. وأحيانًا تُسْتَغَل هذه الارتباطات ويُسَلَّط الضوء عليها في تسويق أفلام شكسبير، مع إهمال «شكسبير» نفسه في المقابل. على سبيل المثال، وُجِدَ أن الشريط الدعائي لفيلم «الليلة الثانية عشرة» (١٩٩٦) للمخرج تريفور نان، الذي أُعْلِنَ عن أنه «يسير على نهج أفلام «البعض يفضلونها ساخنة» و«توتسي» و«بريسيلا ملكة الصحراء»، يُعَبِّر عن الكوميديا الرومانسية الكلاسيكية، ويُثْبِت أن الملابس أحيانًا هي التي تصنع الرجال حقًّا.» ويبدو أن العبارات الدعائية لفيلم «ريتشارد الثالث» (١٩٩٥) للمخرج ريتشارد لونكرين — «ما يستحق أن نموت من أجله … يستحق أن نقتل لأجله» — أو فيلم «عُطيل» (١٩٩٥) للمخرج أوليفر باركر — «الحسد والطمع والغيرة والحب» — تتفادى عمدًا ما يحتمل أن يكون علاقات مُنَفِّرَة تربطها بشكسبير.5 وثمة تبادل شبيه يمكن أن نراه في المسرح، كما حدث عام ١٩٩٤؛ إذ أعلن مُلصق مسرحية «كوريولانوس» لفرقة شكسبير الملكية عن البطل بوصفه «قاتلًا بالفطرة»، مستمدًّا الفكرة من اسم فيلم أوليفر ستون الذي أخرجه عام ١٩٩٤. إن أنجح أفلام شكسبير، استنادًا إلى أرقام شباك التذاكر، هو فيلم «روميو + جولييت» (١٩٩٦) — وهنا نجد أن العنوان الكامل للفيلم يختال بارتباطاته بشكسبير «روميو + جولييت لويليام شكسبير» بدلًا من أن يخفيها. خلال فترة التسعينيات، أُنْتِجَ ما يربو على ٢٠ فيلمًا عن أعمال لشكسبير، استنادًا إلى النجاح الذي أحرزه فيلم «هنري الخامس» للمخرج كينيث براناه. وثمة ٢٠ عنوانًا أخرى تقدِّم فيها حبكات شكسبير عنصرًا محوريًّا للرواية — كالنسخة المُعاد صياغتها لمسرحية «ترويض النمرة» لطلبة الثانوية العامة تحت عنوان «١٠ أشياء أكرهها فيك» (جيل لانجر، ١٩٩٩) — جعلت هذا العقد الأكثر تنوعًا في تاريخ إنتاج الأفلام الشكسبيرية الأصل. لكن نسخة فيلم لورمان المأخوذ عن مسرحية لشكسبير هي التي حققت نجاحًا تجاريًّا مُدَوِّيًا. ويرجع السر في نجاحه إلى أن الفيلم يُخاطب جمهوره المراهق بأسلوب تحريره المُعتمد على فيديو البوب وموسيقاه التصويرية الشبابية وأبطاله، كلير دينز، وليونارديو دي كابريو على وجه الخصوص. ويُحَدِّث لورمان موقع أحداث القصة من فيرونا إبان عصر النهضة إلى «شاطئ فيرونا»، المنظر الحضري الحداثي الذي يهيمن عليه المقران الرئيسان لأعمال العائلتَيْن، وتمثال ضخم للمسيح — تضمين الفيلم لكاثوليكية مرضية رديئة، والأضرحة، وفن الوشم — هو جزء من لوحته البصرية الإبداعية. تشهد افتتاحية الفيلم الأخَّاذة شاشة تلفاز تدب فيها الحياة، ويقرأ فيها مذيع الأخبار مقدمة شكسبير: «عائلتان كبيرتان على قدم المساواة في المكانة» (المقدمة، البيت الأول) بوصفها تقريرًا جامدًا لصدام حضري آخر بين شباب عائلة مونتاجيو وشباب عائلة كابوليت؛ حيث يحاول النقيب برينس، رئيس الشرطة، الحفاظ على السلام. وتتخلل بطاقات الأسماء التي تستعرض أسماء شخصيات الفيلم، على غرار مسلسلات الحياة الاجتماعية، بكلمات مقدمة المسرحية المنطوقة والمكتوبة؛ حيث تتقاطع وتيرة الفيلم السريعة على نحو مميز مع صور من الرواية. وكما يقول صامويل كرول: «من الواضح أن لورمان بصدد خلق نسخة من روميو وجولييت لجيل إم تي في، وأنه يتحدث لغتهم السينمائية.»6 وتُتَرْجَم هذه المسرحية التي تتناول الطابع العاطفي المشحون لفترة المراهقة حيث «للمُتع العنيفة تبعات عنيفة» (الفصل الثاني، المشهد الخامس، البيت التاسع) إلى مسرح أحداث معاصر حافل بالحياة المتهورة ذات الإيقاع السريع التي تقابلها كلمات ثقافة البوب القدَرية، والاضمحلال المادي، والجمود العاطفي للثروة الحديثة. ولذلك يستطيع فيلم لورمان أن يستميل جمهوره دون أن يتعالى عليه، حتى وإن طرح — شأنه شأن كل التفسيرات النقدية أو المسرحية المثلى لمسرحية «روميو وجولييت» — تفسيرًا مدروسًا للمسرحية. إنه لفيلم ممتع في تفاصيله: على سبيل المثال، يشهد الحفل الزاخر بأرقى الأزياء في منزل آل كابوليت جولييت مرتدية زي ملاك وروميو زي فارس؛ مما يشير إلى الطابع الخيالي لعلاقتهما. ويوحي ارتداء باريس زي رجل فضاء بنجاح بانفصامه عما يحدث في حقيقة الأمر؛ حيث يمر سريعًا وبلا صخب من وراء القناع، مُعْتَمِرًا خوذته غير المتقنة، ويرتدي كابوليت زي إمبراطور روماني فاسد، أما ميركوتيو فيظهر في لباس مغاير لجنسه. تضيع رسالة الراهب إلى روميو المنفي في مكان انتظار المقطورات في مانتوان؛ لأنه ما من أحد بالبيت ليستلمها من المرسال. روميو المتقلب المزاج يَهِيم على وجهه قرب قاعات البليارد والحانات المطلة على الشاطئ حالمًا بروزالين. وتُشَكِّل نهاية الفيلم فكرة الموت من فرط الحب الأوبرالية المستخلصة من غموض مقبرة شكسبير، حيث يلتئم شمل روميو وجولييت وحدهما في الكنيسة وسط عدد مهول من الشموع التي تخلع صورة بصرية على إيحاءات المسرحية بأن موتهما هو الزواج الأبدي.
يعيد لورمان ابتكار مسرحية شكسبير الأشهر على الإطلاق، رومانسية المراهقة ﻟ «روميو وجولييت»، لجماهير السينما في أواخر القرن العشرين، بالضبط كما فعل زيفيريللي بنسخته قبلها بثلاثة عقود. ولكنَّ هناك أفلامًا ناجحة لأعمال شكسبير تتناول نصوصًا أقل شهرة. فيلم «تيتوس» (١٩٩٩) للمخرجة جولي تيمور، المستند إلى المسرحية التراجيدية الدموية المبكرة «تيتوس أندرونيكوس» يمثل فيلمًا يصور بصريًّا الأسلوب اللفظي للمسرحية بمجموعة من التقنيات السينمائية غير الطبيعية. وإذ يُسْتَهَلُّ الفيلم بمقدمة يمارس فيها صبي صغير ألعابًا متزايدة العنف، مستعينًا بدمًى على هيئة جنود، ودم مصنوع من الصلصلة، تتسع رؤية الأحداث لتسوقنا إلى مسيرة لجنود فيلق روماني ملطخين بالوحل في طريق عودتهم، حاملين صرعى المعركة. وهذه هي أول صورة من بين سلسلة من الصور التي لا تُنْسَى التي تُتَرْجِم من خلالها جولي، لكنها لا تحاول تنظيم، طابع المسرحية الشبيه «بحبل مشدود» كما وصفه أحد الممثلين المسرحيين «من العبث ما بين الكوميديا والتراجيديا.»7 ويستمد أنطوني هوبكنز الذي يمثل شخصية تيتوس الكثير من شخصيته العنيفة على نحو شرير في فيله السابق «صمت الحملان» (جوناثان ديم، ١٩٩١) وكذلك من مكانته الرفيعة كممثل كلاسيكي على خشبة المسرح وعلى شاشات السينما. وتستعين تيمور بتعاقبات من الكولاج لتعطل التمثيل الطبيعي، وتصور المنظورات الذاتية لشخصياتها، وتستحضر لوشيوس الصغير شاهدًا، وتُسكت الكورال لتسلط الضوء على بشاعات المسرحية، وفي النهاية تجعله يحمل طفل آرون الرضيع في مسيرة طويلة وئيدة خارج أطلال المدرَّج الكبير، ومنه إلى فجر زهري اللون. تَتَابُع الفيلم الذي تبرد فيه الفطائر المخبوزة من أبناء تامورا على نحو شهي؛ إذ ترفرف الستائر المصنوعة من قماش رقيق تأثرًا بالنسيم على أنغام موسيقى تصويرية لأنشودة إيطالية جذلة يُلَخِّص الصدام بين الأمزجة المطمئنة والمُزَعْزعة. لقد أدركنا بالفعل أن مسرحيات شكسبير الكوميدية يمكن أن تنجح على شاشات السينما — فيلم «جعجعة بلا طِحْن» الإيطالي الطابع (كينيث براناه، ١٩٩٣) — وتشير جميع أفلام «هاملت» و«روميو وجولييت» إلى بعض الطرق التي يمكن بها للتراجيديا أن تنجح على الشاشة الفضية. ولكن ما حققته تيمور مع مسرحية «تيتوس» كان فيلمًا لا يُضخِّم المسرحية، أو يفسرها، أو يجعلها مناسبة للصفوف الدراسية، أو ينأى بعيدًا عن صعوباتها، بل هو فيلم يواجه تحدي أعمال شكسبير مواجهة مباشرة.

هوامش

(1) Quoted in Richard Cavendish, “Five Oscars for Olivier’s Hamlet,” History Today, 49 (1999); http://www.historytoday.com/richard-cavendish/five-oscars-oliviers-hamlet (accessed 12 July 2012).
(2) Laurence Olivier, On Acting (London: Weidenfeld & Nicolson, 1986), p. 186.
(3) Grigori Kozintsev (1967), quoted in Judith Buchanan, Shakespeare on Film (Harlow: Pearson/Longman, 2005), p. 4.
(4) See Neil Taylor, “The Films of Hamlet,” in Anthony Davies and Stanley Wells (eds.), Shakespeare and the Moving Image: The Plays on Film and Television (Cambridge: Cambridge University Press, 1994), pp. 180–95.
(6) Samuel Crowl, Shakespeare and Film: A Norton Guide (New York and London: W. W. Norton, 2008), p. 109.
(7) Brian Cox (Titus in the Royal Shakespeare Company production directed by Deborah Warner, 1987), in Russell Jackson and Robert Smallwood (eds.), Players of Shakespeare 3: Further Essays in Shakespearian Performance (Cambridge: Cambridge University Press, 1993), p. 175.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤