الخرافة الثلاثون

شكسبير لم يكتب أعمال شكسبير
إذا كنت تعتقد بالفعل أن شكسبير لم يكتب أعمال شكسبير، فاستعد لمواجهة ستار مؤسسي كاذب آخر. أما إذا كنت تؤمن بالفعل أن شكسبير كتب أعمال شكسبير حقًّا، فلا تُجَشِّمْ نفسك عَناء قراءة هذه الخرافة. من بين جميع خرافاتنا، تُعد هذه الخرافة الأكثر عصيانًا على التفنيد؛ حيث يستحكم فيها التشبث بالمواقف. ببساطة شديدة تؤكد المؤسسة الأكاديمية أن ويليام شكسبير ابن ستراتفورد-أبون-أفون قد كتب المسرحيات المنسوبة إليه في مجموعة الأعمال الكاملة الأولى الصادرة عام ١٦٢٣ (وربما بعض المسرحيات الأخرى أيضًا، ولو أن الاتفاق يتبدد بعض الشيء في هذا الصدد). وثمة حِلف من الأطراف المعنية من غير الخبراء بشكسبير، ومنهم عدد لا بأس به من القانونيين والمسرحيين وبعض الشخصيات البارزة، أمثال سيجموند فرويد، وأورسون ويلز، وهنري جيمس ممن يعتقدون أنه لم يفعل ذلك، إما لأنهم يعتقدون أن شخصًا آخر كتبها وإما لأنهم يعتقدون، بحسب ما جاء في التماس على الإنترنت، أن ثمة «شكًّا مقبولًا» في نسبة المسرحيات إليه.1 إن اندلاع أعمال العنف إذ تنشر صحيفة ما الجدل الدائر، أو يقترح كتاب ما مرشحًا جديدًا، أو حينما يشترك شيء أشبه بفيلم رولاند إيميريش «مجهول» (٢٠١١؛ وعنوانه الفرعي: «أكان شكسبير محتالًا؟») في النقاش، كل ذلك يُحَرِّض الدارسين متصلبي الرأي القانعين أحيانًا، الذين يحطُّون من قدر ما يبدو معرفة وتحققًا مفصَّلين لدى خصومهم الهواة، بدلًا من أن يفندوا ذلك. وأحيانًا ما يسخن الجدل للغاية: اقترح ستيفن جرينبلات، الأستاذ بجامعة هارفرد، المتخصص في شكسبير؛ إذ راسل صحيفة نيويورك تايمز عام ٢٠٠٥، أن «مطلب (مناقشة أصالة تأليف شكسبير) يبدو حميدًا بالقدر الكافي إلى أن يتأمل المرء تداعياته. أينبغي أن نجعل المزاعم المتعلقة بأن المحرقة لم تحدث جزءًا من المنهج المعياري أيضًا؟» إذا استطاعت خطابة الحِجاج المساواة ما بين حقيقة أصالة مؤلفات شكسبير وحقيقة وقوع المحرقة، فمن الواضح أنه سيكون من الصعب خلق نقاش متوازن.

في هذه الرواية الموجزة، لا يسعنا الإبحار في جميع الحجج والمرشحين، لكننا نستطيع أن نحاول بيان لماذا وكيف نشأ هذا الجدال، وبعض القضايا المتعلقة بأدلة الفريقين المؤيد والمعارض؛ أولًا: رغم أن اسم شكسبير لا يظهر دائمًا على صفحات عناوين مسرحياته المنشورة إِبَّان حياته (طالع الخرافة الرابعة)، فإن زميليه بفرقة «رجال الملك»، جون هيمينج وهنري كوندل، اللذين جمعا الطبعة المُجَمَّعة بعد وفاة شكسبير لم يداخلهما أي شك قط حيال هوية مؤلف المسرحيات. تفخر صفحة العنوان لمجموعة الأعمال الكاملة الأولى (١٦٢٣) بوجود عبارة «مسرحيات السيد ويليام شكسبير الكوميدية والتاريخية والتراجيدية»، والنقش الأيقوني المطبوع لشكسبير الأصلع يعتلي رأسه على نحو أخرق طَوْق رِيشيٌّ مُنَشًّى يؤكد على أن الرجل وراء الأعمال الفنية (على العكس من مجموعة بن جونسون مثلًا المعنونة «أعمال» الصادرة عام ١٦١٦ والمُزدانة بصورة مُصَدَّرَة رمزية ومعمارية توحي بالسوابق الكلاسيكية للكتاب). ولقد عرف هيمينج وكوندل شكسبير على مدار عقود — وفي وصيته ترك لهما شكسبير مالًا لشراء خواتم للحداد — وعليه، فما لم يكونا جزءًا من مؤامرة، يبدو أن شهادتهما لا يرقى إليها الشك.

وحقيقة الأمر أن فكرة المؤامرة هذه محورية لمسألة أصالة التأليف؛ فما من أحد أعرب عن شكه أو تردده حيال أصالة تأليف المسرحيات في بدايات العصر الحديث، ولا حتى وصولًا إلى القرن التاسع عشر. ووفقًا للمنطق الجنوني لأنصار نظرية المؤامرة، فإن ثروة الأدلة المعاصرة المؤكدة أن شكسبير ابن ستراتفورد ألَّفَ حقًّا المسرحيات التي ننسبها إليه، يجب استبعادها باعتبارها مُقحمة («هذا ما «يريدون» أن تصدقه»)، وبالعكس، فإن غياب الدليل هو المهم حقًّا. أو بتعبير آخر، لكي نشكك في أن شكسبير كتب أعمال شكسبير، فإننا بحاجة إلى أن نُسقط من حسباننا أدلة كثيرة على أنه كتبها فعلًا، ونجتهد في البحث عن احتمالية أن شخصًا آخر ألفها. وعلى ذلك، فكون شكسبير مُدْرَجًا بصفته ممثلًا ومؤلفًا مسرحيًّا في عديد المصادر المعاصرة، وأن هناك أدلة زاخرة تربط ما بين هذا الرجل والرجل الذي وُلِدَ وتزوج ودُفِنَ في ستراتفورد-أبون-أفون ليس بأوثق صلة من حقيقة أن المؤلفيْن البديليْن المحتمليْن، كريستوفر مارلو وإيرل أكسفورد، تُوُفِّيا عاميْ ١٥٩٣ و١٦٠٤ على الترتيب، أي قبل تأليف الكثير من المسرحيات: هذه الحقائق التاريخية تُقابَل بالتجاهل ببساطة، أو يُعاد صياغتها، بالأحرى، بوصفها أجزاء عارضة من مؤامرة. ولقد نجحت حتى جمعية مارلو في الحصول على علامة استفهام بعد تاريخ وفاة مارلو المسجل في النافذة التذكارية الموجودة في دير وستمنستر عام ٢٠٠٢، على أمل أن يُفتح الباب أمام احتمالية تأليف مارلو للأعمال المنسوبة إلى شكسبير، وتقدم الجمعية أيضًا جائزة كبيرة لأي باحث «يقدم دليلًا دامغًا لا يُداخله الشك مما يقتضيه إقناع عالَم الدراسات الشكسبيرية بأن جميع المسرحيات والأشعار المنسوبة عمومًا الآن إلى ويليام شكسبير هي في واقع الأمر من تأليف كريستوفر مارلو.»2 ولم يطالب أحد بتلك الجائزة.
إن مسألة أصالة التأليف هي تنافر أيديلوجي شاذ؛ فهي، من جهة، تضرب بجذورها في إعادة تمحيص أساسية لمغزى مسرحيات شكسبير الفلسفي. نوعًا ما، كان تطرفها السياسي المُدْرَك حديثًا هو الذي جعل من المنطقي أن يود مؤلفها إخفاء هويته. رَسَّخَت الكاتبة والباحثة الأمريكية ديليا بيكون هذا التقليد التفسيري في كتابها الغامض «إماطة اللثام عن فلسفة مسرحيات شكسبير» (١٨٥٧)، وهو الكتاب الذي استقطب ناثانيال هوثورن ورالف والدو إيمرسون إلى دعواها. أيدت بيكون ومن سار على دربها لاحقًا علاقة المسرحيات بالسياسة المعاصرة لها بطرق سبقت الكثير من الدراسات اللاحقة المعنية بمكانة المسرح في إنجلترا في أوائل العصر الحديث، باعتباره عدوانيًّا من الناحية الاجتماعية، ومثيرًا للفتن من الناحية السياسية (يلحظ لجيمس شابيرو، في دراسة مستفيضة حديثة لمسألة أصالة التأليف من وجهة نظر نقدية واجتماعية، أنه لو لم تكن هذه الأفكار مرتبطة بمسألة أصالة التأليف «لحظيت بيكون حاليًّا بالحفاوة باعتبارها باكورة المؤرخين الجدد، وأول من يفترض بأن المسرحيات استشرفت الاضطرابات السياسية التي شهدتها إنجلترا في منتصف القرن السابع عشر»).3

ولكن، في مقابل هذه القراءة المتطرفة والمُسَيَّسَة للمسرحيات، لمسألة أصالة التأليف قالب متحفظ اجتماعيًّا بشدة؛ فأنصارها يستحيل أن يؤمنوا بأن ابن صانع قفازات من مدينة سوقية ريفية لم يحصل على تعليم جامعي يمكنه، بأي حال من الأحوال، أن يؤلف الأعمال المنسوبة إليه. وليس من قبيل المصادفة أن المرشحين البدلاء لتأليف هذه الأعمال كلهم نبلاء؛ فرانسيس بيكون، والسير هنري نيفيل، وإيرل أكسفورد، وإيرل ديربي، بل وحتى الملكة إليزابيث مدعومة بتحلل رسومي متولد بالحاسوب، للكشف عن صورة للملكة العذراء متخفية في هيئة شكسبير في صدر مجموعة الأعمال الكاملة الأولى. والبديل الوحيد المنتمي إلى «عامة الناس» في القائمة هو كريستوفر مارلو، خريج جامعة كامبريدج. ولكن ما من داعٍ، اللهم إلا التعالي الاجتماعي، وراء الربط ما بين القدرات الأدبية وبين المكانة الاجتماعية أو النسب، ولا سيما في عالم المسرح، حيث كان المؤلف المسرحي «صَنائِعِيًّا» وهي كلمة جديدة تصف مهنة جديدة (طالع الخرافية الحادية والعشرين)، اشْتُقَّتْ قياسًا على الحِرَفي الماهر، كصانع العجلات أو صانع السفن. إن المزاعم بأن إما أن كاتب المسرحيات لا بد أنه أحد رجال البلاط، أو أن مؤلفها الأرستقراطي لم يستطع أن يُدَنِّسَ ذاته باقتحام سوق الطباعة العامة هي مجرد توكيدات لا أدلة. في مواطن أخرى من هذا الكتاب سبق أن أوضحنا أن تعليم شكسبير كان موسَّعًا (الخرافة الثانية)، وأنه لم يكن بحاجة إلى السفر إلى الخارج ليكتب مسرحياته (الخرافة الخامسة). إن ما نعرفه عن شكسبير حقًّا — وما يشهد به معاصروه بالقدر الكافي — أنه كان بإمكانه تأليف مسرحيات خيالية وجذابة اشتملت على ملازمة الرؤية العالمية والكفاءة اللغوية لمختلف المتحدثين الذين ينتمون إلى طبقات اجتماعية مختلفة.

في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كان المرشح المفضل لتأليف مسرحيات شكسبير هو فرانسيس بيكون، والطريقة المفضلة لتأكيد هذه «الحقيقة» هي الكتابة المُشفرة؛ فقد اعْتُقِدَ بأن بيكون وضع شفرات في المسرحيات يمكن فكها للكشف عن توقيعه. وبشرت سلسلة متلاحقة من العناوين بالشرح. طَبَّقَ كتاب إجناتيوس دونيللي «الشفرة العظيمة: شفرة فرانسيس بيكون فيما يسمى مسرحيات شكسبير» (١٨٨٨) عددًا من حيل فك الشفرات لإنتاج رسالة سرية مفادها «شاكست سبير لم يكتب كلمة منها قط»، لكن طرائقه تعرضت للنقد اللاذع من الظرفاء وأهل ستراتفورد غير المقتنعين، في تطبيقات ساخرة لهذه الطريقة على عمله نفسه، وعلى صفحات أخرى من أعمال شكسبير، «كاشفة» على سبيل المثال عن أن «السيد ويلي إيه جاك سبير كتب هذه المسرحية»4 وإذ لم تَرْتَدِع إليزابيث جالوب، فقد نشرت كتابها «الشفرة الثنائية للسير فرانسيس بيكون المكتشَفة في أعماله» (١٨٩٩)، وقادت تعديلات حصيفة على الكلمة المُستحدثة honorificabilitudinitatibus (القدرة على تحقيق الشرف) من مسرحية «الحب مجهود ضائع» (الفصل الخامس، المشهد الأول، البيت ٤٠) السير إدوين دانينج-لورانس إلى جُملة لاتينية مفادها أن «هذه المسرحيات هي من بنات أفكار فرانسيس بيكون محفوظة للعالم» في كتابه «بيكون هو شكسبير» (١٩١٠)؛ وبمراكبتها لرسم تخطيطي كوني على مقدمة مسرحية «العاصفة» في كتابها «تدريج بيكون في شكسبير» (١٩٢٢)، كشفت ناتالي رايس كلارك عن البيان الصريح على نحو مفيد: «أنا، دابليو إس، أكون إف بيكون.»
لكن نجم بيكون ذوى، وأمسى أبرز المتنافسين على تأليف أعمال شكسبير الآن هو إدوارد دي فير، إيرل أكسفورد. إن مزاعم أكسفورد متعلقة بسيرة الحياة إلى حدٍّ بعيد: والحجة تقضي بأن حياته تناسب الحياة التي يُعْتَقَد أن المسرحيات تعبر عنها بقدر أكبر مما تفعل سيرة حياة شكسبير. ولا يوجد أي دليل خارجي يربط ما بين أكسفورد وأعمال شكسبير. يصف صامويل شونباوم، الذي ما زال أفضل كُتَّاب سيرة حياة شكسبير وأكثرهم حرصًا، مشكلة كتابة حياة شكسبير بأنها أشبه برأب «الفجوة المسببة للدوار ما بين سمو الموضوع واللامنطقية العادية للسجل الوثائقي.»5 بالنسبة لمؤيدي إيرل أكسفورد، لا تعتبر الحياة الموثقة لشكسبير عادية وحسب، ولكن بائسة أيضًا، وخاوية من المزايا الاجتماعية الضرورية لتأليف المسرحيات، ومشوبة بدلًا من ذلك بشكوك الشُّحِّ والتسلق الاجتماعي والتربح وهجران زوجته وأولاده. وفي المقابل، كان من الممكن أن تهيِّئ حياة إيرل أكسفورد التفاصيل الواردة في مسرحية «هاملت» (فيما خلا الخاتمة)؛ فقد سافر إلى أوروبا، وكان على علاقة وثيقة ببلاط الملكة إليزابيث، وكان حماه، اللورد بيرجلي، من المفترض أن يمثل نموذجًا لشخصية بولونيوس، وكان يعرف آرثر جولدينج مُترجم قصيدة «التحولات» لأوفيد (المُستعان بها في قصيدة «فينوس وأدونيس» ومسرحية «حلم ليلة منتصف صيف» ومسرحية «تيتوس أندرونيكوس» وغيرها).

قد تكون نقاط التوازي هذه جوهرية وقد لا تكون كذلك، ولكن على أية حال، تستند الحجة إلى فرضية خاطئة مفادها أن أعمال شكسبير تعبير عن سيرة حياته. والشيء نفسه ينطبق على حالة بقية المرشحين؛ فالسير هنري نيفيل مرشح لأن اعتقاله إثر تمرد إسيكس عام ١٦٠١ يفسر التحول إلى مسرحيات كوميدية وتراجيدية أكثر كآبة في كتابات شكسبير إبان ذلك التاريخ (وهذا التحول مبالغ فيه نوعًا ما، ومن الأرجح أن يكون مرتبطًا، على أية حال، بأذواق الجمهور منه بمزاج المؤلف)، واقتُرِحَ إيرل راتلاند لأنه زار الدنمارك قبل نشر مسرحية «هاملت» (وحقيقة الأمر أن الدافع إلى تأليف المسرحية ربما كان أقرب في أرض الوطن؛ فالمصادر المكتوبة للمسرحية أيضًا تجعل من الدنمارك مسرحًا للأحداث). وإذا آمنا بأن المسرحيات كانت تعبيرًا تلقائيًّا عن سيرة الحياة، فيجوز أيضًا أن نبحث عن جندي (ماكبث وكوريولانوس وتيتوس وعُطيل جميعهم جنود)، وامرأة تشتهي لباس الرجال (نساء يتنكرن في هيئة رجال في مسرحيات «السيدان الفيرونيان» و«تاجر البندقية» و«كما تشاء» و«الليلة الثانية عشرة» و«سيمبلين»)، أو والد بنات راشدات (طالع «تيتوس أندرونيكوس» و«السيدان الفيرونيان» و«جعجعة بلا طِحْن» و«تاجر البندقية» و«كما تشاء» و«الملك لير» و«بيركليس» و«حكاية الشتاء» و«العاصفة» و«سيمبلين») (مهلًا! لقد كان شكسبير أبا البنات الراشدات …). ولكن، لو تحرينا الجد فسنجد أن فكرة أن النصوص الأدبية، ولا سيما المسرحيات في أوائل العصر الحديث، تُشَفِّر البيانات سيرة الحياة بعيدة عن فهم تلك النصوص بوصفها شكلًا من أشكال الأدب بقدر بُعْد الفكرة البيكونيَّة التي مفادها أن تلك النصوص شفرات يمكن فكها.

عَكَفَ المُنَظِّرون الأدبيون على الإعلان عن «موت المؤلف» منذ ستينيات القرن العشرين (تُنْسَب هذه العبارة إلى رولان بارت)، وإفلاس القراءات المستندة إلى سير الحياة قبل ذلك بفترة طويلة. ومن ثم، لا يجب أن يكون من المهم ما إذا كان شكسبير أو شخص آخر (له الاسم عينه، كما قال مارك توين في خُبث) قد كتب المسرحيات ونسبها إليه، لكن هذا أمر مهم حقًّا. رأينا في السنوات الأخيرة أنه عندما تُنسب مسرحية حديثًا إلى شكسبير — على سبيل المثال مسرحية «إدوارد الثالث» — يترتب على ذلك ظهور طبعات جديدة، وعروض جديدة، ودراسات جديدة، وأشكال من الانتباه تَبْتَكِر، أو على الأقل تُعَزِّز، السِّمَة الأدبية التي تزعم أنها تصفها. لم تكن مسرحية «إدوارد الثالث» مجهولة في السابق، لكنها كانت موسومة بصفة «المجهولة الاسم» في المقبرة النقدية. أقر جوناثان بِيت خلال تحرير مسرحية «تيتوس أندرونيكوس»، وهي المسرحية التي عُدَّت في السابق معيبة جماليًّا قائلًا: «أردت بشدة أن أثني على المسرحية بدلًا من أن أدفنها كما فعل محرر طبعة أردِن المنتمي للجيل السابق، حتى إنني قبلت بلا نقد الحجج المؤيدة للتأليف الفردي لها.» وهنا نرى مرة أخرى أن الأصالة التأليفية والقيمة الأدبية مرتبطتان (طالع الخرافة السابعة عشرة).6
بالتأكيد ثمة لغز يكتنف أصالة تأليف شكسبير. كيف ألَّفَ كل هذه المسرحيات؟ وكيف يستقيم أن أعماله اقْتُبِسَت بتصرف بلا نهاية، وأنها متوائمة مع تفسيرات وأحاسيس وطرق للتفكير مختلفة كثيرًا عن الثقافة التي كُتِبَت فيها؟ وهو لغز يُرْجَأ فقط، ولا يُحَل، بإلحاق اسم مختلف بالأعمال، ما دامت المشكلة ليست «كيف ألَّف تلك الأعمال ما دام لم يَرْتَد الجامعة؟» ولكنها على نحو أعمق: «كيف كتبها؟» يفترض جوناثان بِيت أن ««العبقرية» فئة اخْتُرِعَت لتفسير ما كان غريبًا بشأن شكسبير».7 ولا عجب أن سوبرمان (في نسخة من مجلة دي سي للقصص المصورة صدرت عام ١٩٤٧) ودكتور هو (في حلقة أُذِيعَت عام ٢٠٠٧) تخيلهما مؤلفاهما بوصفهما معاونَيْ شكسبير المسافرَيْن عبر الزمن: إذا لم يكن شكسبير هو مَن كتب أعماله، فربما أن ثمة بطلًا خارقًا هو الذي فعل ذلك.
إذا بحثت عن بعض الكُتب ومواقع الإنترنت المُستشهد بها تأييدًا لهذه الخرافة، فستجد أن واحدة من الأدوات النقاشية الأساسية الجدلية لخصوم ستراتفورد هي التفاصيل: «يشير بولونيوس في مسرحية «هاملت» إلى «شباب يتساقطون في ملعب التنس»، وهي إشارة، على الأرجح، إلى الشجار المخجل الذي وقع بين أكسفورد وسيدني في ملعب التنس»؛ تعتبر مواضع كلمتيْ «كل» و«مطلقًا» إشارات مشفرة لدي فير (إيرل أكسفورد)؛ يحوي كتاب فرانسيس بيكون المبتذل عبارات نجدها أيضًا في مسرحيات شكسبير.8 ومن الصعب ألا نرى هذا الوابل من التفاصيل وتَحَزُّب النقاش كستار دخاني لا شعوري، وتكتيك تضليلي لتفادي التفكير في الأسئلة الأهم التي تطرحها هذه الخرافة: وأعني الأسئلة المتعلقة بالعبقرية، ومجموعة الأعمال، والطبقة، والقيمة الأدبية، وكذا السؤال المتعلق بمَن يملك «شكسبير»: الأكاديميون أم جمهوره المتحمس؟

هوامش

(3) James Shapiro, Contested Will: Who Wrote Shakespeare? (London: Faber & Faber, 2010), p. 109.
(4) Samuel Schoenbaum, Shakespeare’s Lives (Oxford: Clarendon Press, 1991), pp. 406-7.
(5) Ibid., p. 568.
(6) Jonathan Bate, “In the Script Factory,” review of Brian Vickers, Shakespeare, Co-Author, Times Literary Supplement, 18 April 2003.
(7) Jonathan Bate, The Genius of Shakespeare (London: Picador, 1997), p. 163.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤