الخرافة الخامسة

لم يرتحل شكسبير قط
نعلم أن شكسبير ارتحل فعلًا؛ ورغم أن الرحلة من ستراتفورد-أبون-أفون (حيث وُلِدَ شسكبير) إلى لندن (حيث عمل شكسبير) أمست الآن نزهة لا تستغرق سوى ساعتين على الطريق السريع «إم٤٠»، فإنها كانت في القرن السادس عشر رحلة شاقة. ووفقًا لما ورد في الأدب الشعبي في أواخر القرن السابع عشر، سافر شكسبير مارًّا بمدينة بانبري، والتقى في أبرشية جرندن أندروود بمقاطعة باكينجهامشير شرطيًّا يخلط ما بين الألفاظ المتشابهة صوتًا، وهو الذي بنى على نسقه شخصية دوجبير في مسرحيته الكوميدية «جَعْجَعَة بلا طِحْن».1 وثمة قصة أخرى تفيد بأنه سافر عبر أكسفورد، مستمتعًا بضيافة فندق تافيرن (الذي سُمِّيَ لاحقًا باسم «التاج»)، حيث التقى بالرضيع ويليام ديفنانت الذي زعم، حسب الإشاعة التي كتب عنها جون أوبري لاحقًا، «أنه كَتَبَ بالروح نفسها التي (كَتَبَ) بها شكسبير، وبدا راضيًا بأن يظن الناس أنه ابنه».2 لا يتسنى التأكد من مسار الرحلتيْن — ولا التثبت من شائعة أُبُوَّته — لكن من المفترض أن أيًّا من الرحلتين كانت تستغرق مسيرة أربعة أيام، أو خمسة، سيرًا على الأقدام، ويُفترض أنه بعد أن أثري استأجر فرسًا، فاختصر بذلك زمن الرحلة بمقدار النصف. ولا نعرف كم مرة عاد إلى ستراتفورد من مقر تأليفه المسرحي في لندن (طالع الخرافة الرابعة عشرة).
لكن عندما يُزْعَم أن شكسبير لم يُسافر قطُّ، فعادةً ما يُراد بذلك أنه لم يَتَخَطَّ حدود إنجلترا. وما من دليل في حقيقة الأمر يؤكد ذلك، ومن المستبعد أنه فعل ذلك، ما دام الارتحال إلى خارج البلاد كان يقتضي إذنًا رسميًّا بذلك. لقد نَزَعَ غيره من الكُتَّاب المُعاصرين له الذين جابوا أوروبا إلى الارتحال بصفة دبلوماسية أو عسكرية مهنية. ونحن نعلم، استنادًا إلى رسالة من مجلس شورى الملك، أن كريستوفر مارلو، بصفته طالبًا بجامعة كامبريدج، «سافر بحرًا إلى مدينة ريمز الفرنسية»،3 ربما خدمةً للحكومة، والتحق بِن جونسون بالقوات الإنجليزية الاستكشافية المتجهة إلى البلدان الخفيضة [تشمل هولندا وبلجيكا الحاليتين] في تسعينيات القرن السادس عشر، وتُوَثِّق كتب توماس كوريات («فظاظات كوريات» عام ١٦١١) وفينيس موريسون — نُشِرَ «مخطط رحلة … يحوي أسفاره على مدار عشر سنوات إلى مناطق النفوذ الاثنتي عشرة لألمانيا وبومرلاند وسويسرا وهولندا والدنمارك وبولندا وإيطاليا وتركيا وفرنسا وإنجلترا واسكتلندا وأيرلندا» في ثلاثة مجلدات عام ١٦١٧ — أسفارهم في أوروبا. بالطبع مسألة سفر شكسبير إلى أوروبا هي إحدى الفرضيات التي تسد فجوة «السنوات المفقودة» المزعومة في حياته خلال الفترة بين عامَيْ ١٥٨٨ و١٥٩١ تقريبًا، حيث لا يوجد أي دليل وثائقي يثبت أماكن تواجده أو أنشطته.

وإذا لم يكن شكسبير قد ارتحل خارج إنجلترا، فقد يبدو لنا السؤال هكذا: كيف له أن يُحاط علمًا بإيطاليا خاصةً، مسرح أحداث مسرحيات: «روميو وجولييت»، و«السيدان الفيرونيَّان»، و«جعجعة بلا طِحْن»، و«ترويض النمرة»، و«تاجر البندقية»، و«عُطيل»، وكذلك معرفته بإقليم إيليريا (كرواتيا وسلوفينيا الحاليتين)، مسرح أحداث «الليلة الثانية عشرة»، والدنمارك، مسرح أحداث «هاملت»، وصقلية وبوهيميا، حيث وقائع مسرحية «حكاية الشتاء»، وإفيسوس (في دولة تركيا الحديثة) حيث تقع أحداث «كوميديا الأخطاء»، وفيينا، حيث جرت أحداث مسرحية «العين بالعين»، وقبرص، مسرح أحداث «عُطيل»، وحوض البحر المتوسط، مشهد مجريات مسرحية «بريكليس»، ناهيك عن «الجزيرة غير المأهولة» الواقعة في مكان يمكن لأية رحلة ما بين نابولي وتونس تحويل وجهتها إليها في مسرحية «العاصفة»؟ إننا لا نعرف حتى هل زار شكسبير ويندسور أم لا. لكن الإجابة بطبيعة الحال عن سؤال كيفية معرفة شكسبير بتلك الأماكن هي عينها الإجابة عن لغز ذي صلة، ألا وهو: كيف «ارتحل» شكسبير إلى اليونان القديمة («حلم ليلة منتصف صيف»، و«تيمون الأثيني»، و«ترويلوس وكريسيدا»)، وإلى روما القديمة («يوليوس قيصر»، و«كوريولانوس»)، وإلى مصر القديمة («أنطونيو وكليوباترا»)، وإلى بريطانيا القديمة («الملك لير»، و«سيمبلين»)، أو إلى إنجلترا القرنين الرابع عشر والخامس عشر (مسرحياته التاريخية من «ريتشارد الثاني» إلى «ريتشارد الثالث»)؟ الإجابة هي أنه ارتحل قارئًا، محمولًا على صفحات الكتب؛ فهو لم يقصد هذه الأماكن، ولكن قرأ عنها.

ما من شيء في استخدام شكسبير للأماكن الأجنبية يتطلب معرفة أكبر بالأجواء المحددة مما يمكن تحصيله بالقراءة، أو مما يمثل جزءًا من قصة مصدرية استعان بها شكسبير. لننظر إلى مسرحية «روميو وجولييت»، على سبيل المثال، وعلاقتها ﺑ «فيرونا الجميلة، حيث أقمنا مشهدنا» (كلمة استهلالية، ٢). في مدينة فيرونا الواقعة شمال إيطاليا، ستجد الآن «بيت جولييت» الذي يُعد قِبْلةً للسائحين؛ والبيت كامل على حالته بشرفته؛ مما جعله يبدو وكأن أحداث المسرحية ربما وقعت هناك بالفعل، وكأن شكسبير تعرف على المكان بزيارته إياه. لكن الوجهة السياحية متأخرة على زمن مسرحية شكسبير، ولا تسبقها. وهي تستغل الصلات الأدبية بمدينة فيرونا بدلًا من أن تَسْتَفِزَّها لدى السائحين. في عام ٢٠٠٩، دَشَّنَ مجلس المدينة مشروعًا تحت عنوان «لنتزوج في فيرونا»، يسمح للمقبلين على الزواج بإقامة أعراسهم على شُرْفة جولييت، غير عابئين ربما بالسابقة المشئومة، نوعًا ما، التي وقعت بالمسرحية.4 أقام شكسبير أحداث مسرحيته «روميو وجولييت» في مدينة فيرونا؛ لأنها المدينة التي جعلها آرثر بروك مسرحًا لقصيدته التي تُعَدُّ المصدر الأساسي للمسرحية: «التاريخ المأساوي لروميو وجولييت»، نُشرت لأول مرة عام ١٥٦٢، وأُعيد نشرها عام ١٥٨٧. ومن ناحيته، استوحى بروك مسرح أحداث قصيدته من رواية للكاتب الإيطالي ماتيو بانديللو. أجرى شكسبير العديد من التعديلات على قصيدة بروك، ولا سيما فيما يتعلق بمزاجها الأخلاقي. يورد الخطاب الاستهلالي لبروك أن هذه قصة وَعْظِيَّة عن تَبِعات عصيان المرء والديه، وعن الشهوات الشبابية، والاعتماد غير اللائق على «شائعات المخمورين والرهبان المؤمنين بالخرافات (أي الكاثوليكيين)»: «أذى الأشرار يحذر الناس من اتباع الشر». ومن الصعب أن ينتهي المرء من قراءة مسرحية شكسبير ليجد نفسه في صف الوالدَيْن المتناحرَيْن. علاوة على ذلك، يضيف شكسبير، أيضًا، شخصية ميركوتيو، صديق روميو سريع الخاطر، الذي يبدو أن وفاته في الفصل الثالث، وهو يلعن «أسرتيكما»، جعلت المأساة حتمية. لكن ثمة شيء واحد لم يبدله شكسبير؛ ألا وهو مسرح الأحداث.

والأمر نفسه ينطبق على مصادر الكثير من المسرحيات الأخرى ذات مواقع الأحداث الإيطالية؛ فقد استوحى شكسبير مسرح الأحداث الصقليِّ لمسرحيته «جعجعة بلا طِحْن» من بانديللو (ولو أن الساعة من بنات أفكاره)، واستوحى من قصة «الساذج» للروائي الإيطالي فيورنتينو حبكة المرابي اليهودي في البندقية، وفي كتاب «الهيكاتوميثي» للأديب شينتيو، عثر شكسبير على قصة المغربي الفينيسيِّ الذي تزوج ديدمونة، فأخرج لنا مسرحيته «عُطيل».

وتحوي مسرحيات شكسبير، في أغلبها، تفاصيل محلية دقيقة نادرة نسبيًّا؛ فالألفة الخبيرة، كما هو واضح لسؤال شايلوك «ما أخبار الريالتو؟» (الفصل الأول، المشهد الثالث، البيت ٣٦)، في إشارة إلى القلب التجاري لمدينة فينيسيا في بداية العصر الحديث، لا بد أن تُوضَع بموازاة غياب أية إشارات إلى معزل المدينة (الجيتو) المخصص للمقيمين اليهود في مسرحية «تاجر البندقية». لا يبدو أن شكسبير كان خبيرًا بالأماكن والعادات الفينيسية، وليس من الضروري لمسرحيته أن تكون كذلك. ويجوز لنا أن نستشهد، على سبيل التشبيه، بنسخة بِن جونسون المنقحة المعاصرة لمسرحيته الكوميدية «كل امرئ بحسب مزاجه»؛ فلم يستلزم نقل مسرح أحداثها الأصلي من فلورنسا إلى لندن، وهي مسرح الأعمال الكوميدية المدينية المعاصرة الشعبية، سوى أقل التعديلات وأكثرها سطحية، ولو أن شكسبير نقل مسرح أحداث مسرحياته، لكنا توقعنا إعادات صياغة محدودة بالمثل. وكثيرًا ما تبدو الأماكن التي يختارها شكسبير لمسرحياته نسخًا مُمَوَّهة بالكاد، أو على نحو متقطع وحسب، لأماكن أكثر ألفة. على سبيل المثال، رغم اختيار الساحل الأدرياتيكي مسرحًا للأحداث، فإن مسرحية «الليلة الثانية عشرة»، وفيها السير توبي بيلش يذكر بذائقة إنجليزية «سرير وير»، وهو سرير معاصر له أربعة أعمدة يشتهر بحجمه الضخم (تأملاته «في إنجلترا» [الفصل الثالث، المشهد الثاني، البيتان ٤٥-٤٦] تستند إلى معرفة جمهور لندن، تمامًا كما لو أنهم كانوا يستمتعون بالنكات عن إنجلترا وقد أصبحت تَعِجُّ بالمجانين في الأجواء الدنماركية ظاهريًّا لبلدة هيليسينكور في نهاية مسرحية «هاملت»). لا بد أن اسم الفندق الذي نزل فيه أنطونيو وسيباستيان، فندق إليفانت في «الأطراف الجنوبية للمدينة» (الليلة الثانية عشرة، الفصل الثالث، المشهد الثالث، البيت ٣٩)، استدعى إلى الذاكرة الحانة التي تحمل الاسم عينه في منطقة بانكسايد (طالع الخرافة الرابعة عشرة). ويحاكي دوجبري وفريقه من المراقبين في مسرحية «جعجعة بلا طِحْن» رجال الشرطة الإنجليز، لا الصقليين، محاكاةً ساخرةً.

ورغم أن شكسبير لا يجعل من إنجلترا المعاصرة مسرحًا لأحداث مسرحياته قط، ربما فيما خلا مسرحيته الكوميدية الريفية «زوجات ويندسور البهيجات»، فقد نذهب إلى أن جميع مسرحياته تخلو من مسرح أحداث أجنبي كما هو واضح. وكما تَخْلَع مفارقاته التاريخية طابعًا سرمديًّا على مسرحياته — فالرومان القدماء تحكمهم ساعة تدق («يوليوس قيصر»، الفصل الثاني، المشهد الأول)، أو كليوباترا تشغل وقت فراغها بممارسة لعبة البليارد (طالع الخرافة الثالثة) — فهكذا يعني هذا الغموض الجغرافي أن مسارح أحداثها يمكن أن ترمز لعالم مألوف للندن في بدايات العصر الحديث. ويرى شكسبير مسارح الأحداث تلك من منظور موقعه الجغرافي الخاص. وبعض مسارح الأحداث غامضة عمدًا: هل الغابة المذكورة في كوميديا «كما تشاء» هي عينها غابات الأردين الفرنسية، كما في القصة الريفية المصدرية «روزاليند» (١٥٩٠) للكاتب توماس لودج التي استوحى منها شكسبير مسرحيته؟ أم أنها غابة أردِن الأقرب إليه، الواقعة في مقاطعة وركشير؟ في بعض المواضع، يبدو أن تصوير شكسبير للغابة يؤكد إنجليزيتها؛ فالدوق المنفي أشبه بشخصية روبن هود المُحاط بمجموعة ريفية من الرجال المرحين، ويبدو أودري وويليام والسير أوليفر مارتكست، القسيس غير الضروري، إنجليزًا بامتياز. لكن أورلاندو «أكثر شباب فرنسا عنادًا» (الفصل الأول، المشهد الأول، البيتان ١٣٣ و١٣٤)، وجاك، ولوبو لهم أسماء فرنسية، وعندما تُخْرِجُ الغابة «ثعبانًا أخضر مائلًا إلى اللون الذهبي» يرتقي إلى «لَبُؤَة جَفَّتْ أَثْداؤُها تمامًا» (الفصل الرابع، المشهد الثالث، البيتان ١٠٩ و١١٥)، ويصل إلى ذَرْوة مدهشة، بالتزامن مع ظهور «هايمن»، إلهة الزواج عند الإغريق، يُمْسي موقُعها تَوْلِيفَة من «لا مكان» للدهشة والإيهام، بدلًا من مكان واقعي يجوز أن يرتحل إليه المرء.

من الممكن أن نرى ذلك في التاريخ المسرحي اللاحق لبعض مسرحياته؛ فقد تخيل المخرجون والمصممون، بتنوع شديد، إقليم إيليريا الذي كان مسرحًا لمغامرات فيولا في كوميديا «الليلة الثانية عشرة». وفي ريجنتس بارك عام ١٩٧٣، استخدم روبرت لانج مسرحَ أحداثٍ فينيسيًّا ينتمي للقرن الثامن عشر، لتأكيد سمات الشكل المسرحي الإيطالي للحبكة الكوميدية، واستخدم فيلم هيئة الإذاعة البريطانية التلفزيوني (الذي أخرجه ديفيد جيليز عام ١٩٧٤) قلعة هوارد، وهي بيت ريفي صَمَّمَه جون فانبرا على الطراز الباروكي، لإبراز جانبَيِ الثراء والترف لدى الأسر. ولقد ذكَّرَ مسرحُ أحداثِ المخرجِ تيري هاندز الشتويُّ الطابَع بفرقة شكسبير المَلَكية عام ١٩٧٩ أحد النقاد ﺑ «ميدان باريسي مهجور، والقمر بدر ضبابيٌّ مُرقرق في السماء»، في العام التالي كان مصدر إلهام التليفزيون يتمثل في كبار الرسامين الهولنديين، حيث ارتدى السير توبي لباسًا يعيد إلى الذاكرة لوحات رامبرانت. ووقع اختيار المخرج جون كيرد على «ساحل أثينيٍّ وَعْر رومانسي» ليس عليه سوى شجرة وحيدة مهيبة، ووصف أحد المُعَقِّبين إقليم إيليريا بأنه «أرض خلود لدوق يرفض أن يَشِيخ»، مُوحيًا بتوازٍ مع قصة «المجال المفقود» للروائي آلان فورنييه (في الرواية الفرنسية الكلاسيكية «مولن الطويل» التي نُشِرَت لأول مرة عام ١٩١٣)، ومُتوسعًا؛ إذ قال: «إيليريا موجودة بداخل كلٍّ منا». بالنسبة للإنتاج المسرحي للمخرجة نانسي ميكلر بمسرح هايماركت بمدينة ليستر (١٩٨٤)، يوحي مسرح الأحداث الذي يُعِدَّه المصمم ديرموت هيز بمسرحٍ إليزابيثيٍّ متداعٍ، مكتمل بأَرْوِقَته العَفِنَة وأشغاله الخشبية المُشَوَّهة. كانت إيليريا في إنتاج فرقة شكسبير الملكية عام ١٩٨٧ لبل ألكسندر «جزيرة يونانية صغيرة ذات جدران بيضاء لَفَحَتْها الشمس»، وتخيل المسرح الملكي، في ستراتفورد إيست «إقليم إيليريا مُنْحَلًّا ومُتَرَهِلًّا في الأيام الأخيرة من الحكم البريطاني»، أما فرقة هول تراك المسرحية التابعة للكاتب المسرحي جون جودبر، فكان إقليم إيليريا من وجهة نظرها يستقر في عالم أكاديمي مُتَقَوْقِع (١٩٨٩)؛ وجعلت المخرجة بيب بروتون نسختها من شخصية فيولا تغتسل على «شاطئ تَحُفُّه أشجار الموز» (مسرح برمنجهام ريبيرتوري، ١٩٨٩). وثمة ناقد واحد لم يكن منبهرًا ببلاط الدوق أورسينو الذي بدا «مزيجًا من أوبرا (آخر مَن عَشِقَتْ بَحَّارًا) والأسطول البحري لمدينة روريتانيا الخيالية حوالي عام ١٩٠٠»، وفي ستراتفورد عام ١٩٩٤، تخيل إيان جادج إيليريا كصدى لمسقط رأس شكسبير نفسه، وصوَّرَ بروبلر إيليريا على أنها «موطن نسيان تَطْهِيري، تَتَّشِح فيه الشخصيات برداء أسود جنائزيٍّ» (١٩٩٩)، وثمة نسخة للمسرحية بواشنطن العاصمة، للمخرج دوجلاس سي ويجر، «حَوَت موقعًا لمعبد يوناني روماني بديع ومُتَداعٍ، ذي أعمدة أَيُونِيَّة مُحَطَّمَة، ومجموعة تماثيل منهارة»، وهناك نسخة أخرى كان «الثلج يتساقط فيها على مهل» على «مشهد حافل بالتلال الملتوية»، وفي مهرجان شكسبير بولاية كولورادو عام ٢٠٠٠، لَمَعَت كلمة «إيليريا» بضوء نيون أحمر، بتصميم هوليووديٍّ يرجع إلى حقبة الثلاثينيات.5 إن هذه العينات للعديد من القراءات الإخراجية تشير إلى أن مسرح أحداث مسرحية «الليلة الثانية عشرة» خيالي في نهاية المطاف، وأن المسرحية يمكن أن تقع أحداثها في أي مكان، سواء أكان واقعيًّا أم تعبيريًّا، يُناسب أكثر من غيره وجهة نظر مخرجها عن أفكارها وشخوصها.
عندما يُبَدِّل شكسبير مسارح أحداث مسرحياته، فهو يَشِي بين الفَيْنَة والأخرى بجهله الجغرافي. كان بِن جونسون أول من اشتكى من الزيف الذي شَابَ مسرحية «حكاية الشتاء»، حيث مُنِحَت بوهيميا الحبيسة ساحلًا، لكن هذا الادعاء يرجع، نوعًا ما، إلى حقيقة أن شكسبير استقر رأيه على التبديل ما بين مكانَيْن من مصدره، رواية روبرت جرين الرومانسية النثرية «باندوستو، أو انتظار الزمن» (١٥٨٨). يجعل جرين بلاط الملك الغَيور المستبد (وتَمَثُّله شخصية ليونتيس لدى شكسبير) في بوهيميا، وملاذ برديتا الريفي في صقلية، ولكن ربما أن شكسبير أبدلهما لأسباب سياسية، لا لأسباب طوبوغرافية؛ فقد كان الملك جيمس يرتبط بعلاقات سياسية وثيقة بالبلاط البروتستانتي للإمبراطور رودولف الثاني في بوهيميا. ويفترض جوناثان بِيت أنه كان من «الحَصَافَة» تبديل الملوك، وجعل الملك الصقلي الكاثوليكي هو المتصف ﺑ «الطيش والقسوة والتَّجْديف» (ولو أن بوليكسينز ملك بوهيميا لم يكن قديسًا هو الآخر).6 بتغيير شكسبير مسرح أحداث «كوميديا الأخطاء» من مدينة إيبيدامنوس، كما في مسرحية «ميناكمي» لمؤلفها بلوتوس، إلى مدينة إفيسوس بتركيا، يُفَعِّل مجموعة من العلاقات الإنجيلية برسالة بولس إلى أهل إفيسوس، ولا سيما قيودها على الزواج، وكذلك العلاقات السحرية المرتبطة بإفيسوس. ومرةً أخرى نجد إفيسوس مصدرًا أدبيًّا مُسْتَقًى من المطالعة والقراءة، لا مصدرًا جغرافيًّا معلومًا من طريق الارتحال والسفر.

في حقيقة الأمر، لا يُعْنَى هذا السؤال عن شكسبير بطبيعة واقعيته الجغرافية أو خلاف تلك، بل إنه أمسى مثار نزاع في «مسألة التأليف» (طالع الخرافة الثلاثين). كثيرًا ما زعم أعداء أهل ستراتفورد أن مسرحيات شكسبير بحاجة إلى معرفة شخصية بمواقع أجنبية، وأنه نظرًا لغياب أي دليل على أن شكسبير خَبَرَ تلك الأماكن خبرة شخصية، فمن الأرجح أن ثمة مرشحًا بديلًا هو الذي ارتحل إلى أرجاء أوروبا وألَّفَ المسرحيات. وكثيرًا ما يُسْتَشْهَد بسفر إدوارد دوفير، إيرل أكسفورد، في شبابه في سبعينيات القرن السادس عشر، باعتباره دليلًا مِحْوَرِيًّا على مزاعمه بتأليف مُجْمَل أعمال شكسبير، والأمر الأصعب تفسيرًا هو كيفية إنجازه تلك المسرحيات بمهارته الشعرية المتواضعة. إذا كان المشوار المهني لشكسبير يوحي بأنه من الممكن تأليف مسرحيات عظيمة تدور أحداثها في مواقع أجنبية من دون ترحال، فإن إيرل أكسفورد يقدم لنا الاقتراح المؤيد لتلك النظرية، ألا وهو أن تجربة السفر لا تُفْضِي بضرورة الحال إلى براعة التأليف.

هوامش

(1) Samuel Schoenbaum, Shakespeare: A Documentary Life (Oxford: Oxford University Press, 1975), pp. 118-19.
(2) John Aubrey, Brief Lives, ed. Richard Barber (Woodbridge: The Boydell Press, 1982), p. 90.
(3) See Charles Nicholl, The Reckoning (London: Jonathan Cape, 1992), p. 92.
(4) “Fair Verona to Stage Weddings on Juliet’s Balcony,” Independent, 14 March 2009.
(5) Reviews from John O’Connor and Katharine Goodland, A Directory of Shakespeare in Performance, vol. 1: Great Britain, 1970–2005 (Basingstoke: Palgrave Macmillan, 2007), pp. 1496–1544; for Canada and the USA, see vol. 3 (A Directory of Shakespeare in Performance since 1991), pp. 1882–1970.
(6) Jonathan Bate, Soul of the Age: The Life, Mind and World of William Shakespeare (London: Penguin, 2008), p. 305.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤