السهم المسموم

هل نستطيع بما ألقى به إلينا التاريخ من أخبار أبلتها القرون، وطمستها الحوادث أن نصف بغداد في عهد الرشيد العباسي؟ وهل في مُكنة الخيال — وإن أبعد وأغرق — أن يملأ الفراغ، أو يكمِّل صورة العظمة العباسية في هذا العهد، بعد أن عجز المؤرخ والواصف عن إكمالها؟! لا. إن الخليفة الذي كان يتحدى السحب، ويأمرها في اعتزاز وثقة أن تذهب حيث شاءت؛ لأنها لن تمطر إلا بلاده جدير بأن يطرق القلم قليلًا قبل أن يفكر في وصف ضخامة ملكه، وبعد سلطانه، وإن الإمبراطورية التي كانت تبسط حكمها على أطراف الأرض، والتي كانت تُجبى إليها ثمرات الدنيا، لحقيقة بأن يعتصم الكاتب إذا حاول تصويرها بالسكوت، فإن من المعاني ما يعجز عنه الكلام ويكبو دون بلوغه الخيال. ويكفينا أن ننتقل بالقارئ في إيجاز وتواضع إلى بغداد في أحد شهور سنة مائة وواحد وثمانين أيام خلافة الرشيد. كانت الشمس تتهادى للغروب، وكانت أشعة الأصيل تسقط على نهر دجلة فتحيل لجينه ذهبًا نضارًا، وكانت القصور تبدو على الشاطئ الشرقي شامخة البناء، بعيدة الذرا، وكان بينها قصر بُني على الطراز البيزنطي، وامتاز بكثرة نوافذه، واتساع حديقته التي أحاطت به؛ فجعلت منه صورة للفن الهندسي الرفيع في إطار أخضر بديع.

هذا قصر أبي عبد الله محمد الموصلي، وقد كان من أعظم تجار بغداد، وأكبر سراتها، طوته يد المنون منذ سنين، وترك لزوجه، وابنته حفصة ثروة تتحدى كنوز قارون.

•••

كانت حفصة في الثامنة عشرة من سنيها، وكانت رائعة الحسن، باهرة الطلعة، تأنق في صنعها الجمال، فجمع فيها كل ما تدل به المرأة من أنوثة وفتنة، وكانت إلى ما منحها الله من قسامة وجمال ساحر تزدان بقوة النفس، وشجاعة القلب، ومضاء العزيمة مما يحسدها على بعضه كثير من الرجال. وقفت حفصة في أحد مشارف القصر تتطلع ذات اليمين وذات الشمال إلى الغادين والرائحين من صنوف البشر التي تزدحم بهم بغداد، وتغص بهم طرقاتها، وكان يبدو على وجهها القلق والسأم لطول التطلع والانتظار، وما كادت تمر ساعة أو نحوها حتى انبسطت أساريرها، وتطلق وجهها عن ابتسامة مشرقة زادت نور الأصيل بهاء وائتلاقًا، وبدرت منها صيحة حاولت أن تخفيها فما استطاعت، فقد سمعت نفسها تصيح: نزار! نزار! قدم نزار! ثم وثبت في خفة الطفلة الغريرة نحو السلم حتى إذا بلغت نهايته ارتمت بين ذراعي شاب وسيم القسمات، فضمَّها إليه في شوق وشغف؛ فاختلط الجسمان، وتتابعت القبلات في لحن موسيقي بديع، يعرف الحب كيف يؤلف نغماته.

كان نزار بن حمزة الخزاعي فتى مكتمل الشباب، قوي الأسر، مشرق الوجه، عربي السمات والشمائل، وكان يعتز بصفات البطولة والإقدام، وحب المخاطرة، واقتحام الخطوب، وكان أبوه واليًا على خراسان من قبل الرشيد، وقد شغف الفتى بحفصة، وفتن بجمالها، وهزه ما تتحلى به من أخلاق وشيم؛ فتقرب إليها بما يتقرب به العاشق المعمود من وسائل، فقابلته في منتصف الطريق ابتسامة مغرية دفعته إلى أن يسرع إلى أمها فيخطبها إليها، وتمت الخطبة، وقرَّت عين الحب بعاشقين سعيدين.

جلس الحبيبان في المشرف يتناجيان، ويتطلعان إلى ما ينتظرهما من سعادة وهناءة، ورفاهة عيش، ويرسمان أو ترسم لهما الآمال جنة صغيرة في هذه الأرض يأكلان من شجرتها ما يشاءان، وبينما هما يسبحان في هذه الأحلام إذ لمحت حفصة فيما حول قصرها من الطرق والميادين هرجًا بين الناس، ورأت طوائف إثر طوائف تزدحم فوق جسر دجلة آتية من الكرخ في عجلة وإسراع؛ فحارت في تعليل ما رأت، وسألت نزار: هل من حدث جديد في المدينة؟

– لا يا حبيبتي، ولكن هؤلاء البرامكة المناكيد الذين أسلم الرشيد إليهم زمام ملكه، والذين لا ينسون للعرب ما أوقعوا بدولتهم القادسية، والذين لا ينسون للعباسيين دم كبيرهم أبي مسلم الخراساني، برعوا في خلق الدسائس، والنفخ في نار الفتنة، فهم يغرون في كل يوم طائفة بطائفة، لا يريدون من وراء ذلك إلا إضعاف شوكة العرب، وتفريق كلمتهم، ولعلنا نسمع غدًا أن خارجيًّا خرج على الدولة، ثم نفهم بعد غد ما وراء هذا الخارجي من نزعة فارسية خبيثة لا تريد إلا زلزلة أركان الدولة.

– لا يا نزار، إن صخرة الملك العباسي أقوى من أن تحركها هذه الأيدي الهزيلة، والرشيد أرهف ذهنًا من أن تخفى عليه هذه الأخاديع، إنه قد يغضي وقد يتغافل، ولكنه كالذئب الذي ينام بإحدى مقلتيه، ويتقي بأخرى المنايا، فهو يقظان نائم، ثم طلبت إلى عبدها رماح أن يذهب ليستجلي حقيقة الأمر، ولم يغب رماح إلا قليلًا حتى عاد يقول: إن البريد قدم من الرقة يحمل كتابًا من عاملها ينبئ بأن (ريني) ملكة الروم خرجت في مائة ألف مقاتل، فأغارت على بلاد المسلمين، واستولت على حصونهم، ودخلت زبطرة، ونكَّلت بأهلها، والناس الآن يتوافدون على ميدان دار الخلافة في غضب وحماسة، وفي زحام لم يترك فيه موضعًا لقدم، وقد هال الخليفة الخبر، فجمع قواده، وأمر بأن يسرع الجيش بالرحيل.

سمع نزار الخبر فشخصت عيناه في غضب، وظهر على وجهه ما يظهر على وجه الأسد يتحفز للفريسة، ثم حيَّا حفصة في عجل وقال: لا بد لي من الذهاب الآن يا حبيبتي؛ فقد يرحل الجيش غدًا. فذعرت حفصة، وفرَّ الدم من وجهها، وارتعدت أوصالها، وقالت ولسانها يتعثر بكلماتها: لن أصدك عن المسير إلى القتال يا حبيبي؛ لأنك بطل خلقت للكفاح، وخلقت للذود عن حياض الدولة، ولأنك شجاع خلقت للقاء الموت في سبيل دينك وقومك، ويعلم الله أن بين جنبيَّ نفسًا تطمح إلى أن تكون مثلك، وتصبو إلى خطيرات الأمور، واقتحام الأهوال كما تصبو، ولكن ماذا أصنع وضعف الأنوثة يقعدها عن مطالبها، ويحول بينها وبين ما تتمنَّى؟ لو كان لي يا نزار زَند مثل زندك، وقبضة من الحديد مثل قبضتك لكانت اليوم كتفي إلى كتفك في ميدان الجهاد. كل هذا حسن وجميل يا نزار، وهو كلام ينطق به لساني، وتوحي به نفسي العربية التي طبعت على الإقدام، والتسابق إلى المجد، ولكن قلبي يقول: لا، قلبي يريد أن أضمك بين ذراعي كما تضم الأم الرءوم وحيدها، وأن أفرَّ بك بعيدًا عن كل ما يحوم حولنا من خطر، قلبي يقول: خذيه يا حفصة؛ إنه لك، واحذري عليه من مرّ النسيم، ومن قطرات الغمام، إن الحب يا حفصة أرفع شأنًا مما يطلب الناس من شرف ومجد وبطولة، فاحرصي عليه، وضعيه بين طيات قلبك في حرز حصين، لا تدعيه يخرج للقتال؛ فإن السيف أغرى بالبطل المقدام منه بالرعديد الجبان، ثم بكت وتعلقت بعنقه تقبله وتقول: قلبي يقول هذا يا نزار، ولكني لن أطيعه؛ فإن ابن حمزة الخزاعي يأنف من أن تكون له زوج لا تسبقه إلى مراتب الشرف، اذهب يا حبيبي إلى دار الخلافة، ولكن يجب أن تعود إلي. لا ترحل يا نزار قبل أن أراك. ثم اتجهت نحو السماء متضرعة تقول: يا رب، إنه قطعة من روحي، وريحانة حياتي، وزهرة آمالي، إنني لا أستطيع الصبر على فراقه ساعة، فظلله اللهم بجناح حمايتك، وردَّه إلي جميلًا كما هو قويًّا، وكما هو بطلًا تزهى به الجحافل. فمد إليها نزار ذراعيه في تدله واستهامة، وطواها إليه مجهشًا وهو يقول: أنت كبيرة النفس يا حفصة، رقيقة القلب، فثقي بالله، وانتظري إيابي، إن حبنا يا فتاتي حب يقهر الموت، ويخلد على الزمن، فلا تيأسي، وأقسم أن ما بي منك فوق ما بك مني، ولكن هكذا وضع الله غايات المجد دائمًا في طريق من الشوك والقتاد، ثم ابتسم ابتسامة حزينة تلتها زفرة طويلة، واستمر يقول: روي عن الأصمعي أن عبد الملك بن مروان حينما تجهز لقتال مصعب بن الزبير، وهمَّ بتوديع زوجه عاتكة بنت يزيد تشبثت به، وبكت، فبكت معها جواريها، فقال عبد الملك: قاتل الله كثير عزة؛ كأنه شاهد هذا حين قال:

إذا ما أراد الغزو لم تثن همه
حصان عليها نظم در يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقه
بكت فبكي مما شجاها قطينها

ثم انسلَّ من بين ذراعيها كالطائر المذعور، فنظرت حفصة فلم تجده كأنها كانت في حلم، أو في نشوة خيال.

•••

ذهب نزار لتوه إلى دار الخلافة، فرأى الجيش على أهبة المسير، فتقدم إلى قائده عبد الملك بن صالح سائلًا: أعزمتم على الرحيل الليلة؟

– نعم يا نزار، وقد طلبناك في الصباح فلم نعثر على مكانك.

– علمت الساعة أن البريد قدم اليوم بأخبار الروم، فهزَّ عبد الملك رأسه وقال: صحيح، ولكن الأخبار تواترت إلينا منذ أربعة أيام استكملنا فيها كل عدتنا، وأمر الخليفة أن يسير الجيش الليلة، وهذا جواد خالد بن أسامة، وعليه كل عدته، وشكته، فاركب يا نزار. ثم أمر الجنود في صوت جهير بالركوب، فمس نزار ذراعه في استعطاف يقول: ولكني يا سيدي القائد في حاجة إلى ساعة واحدة أقضي فيها بعض شئوني.

– لقد أعددنا العدة لكل مجاهد، فلن تحتاج إلى شيء يا نزار.

– أريد أن أودع بعض أهلي.

فضحك عبد الملك ثم همس قائلًا: حفصة؟!

– نعم حفصة، لقد وعدتها أن أعود إليها، فإذا لم أفعل فإنني أخشى أن يقتلها الحزن، أو تعبث بها الهواجس السود.

– اركب يا نزار، فإن للوداع آلامًا عرفتها في شبابي، فاصدف عنه ما استطعت، وادخر كل ما في فؤادك من حب وشغف إلى ساعة اللقاء، فإن غيبتنا بأرض الروم لن تطول، اركب يا نزار، اركب.

فركب نزار على كره منه، وتحرك الجيش مائجًا زخارًا كأنه قطعة من الليل، ومر بأثقاله وضوضائه بقصر حفصة، فأطلت من النافذة متشوقة متطلعة فلم تر لنزار أثرًا، فصاحت في حزن يقطع القلوب: لم أر حبيبي! لم أر حبيبي!

•••

بلغ الجيش أرض الروم بعد أن طوى الوهاد والنجود، وقاسى من طول السفر وبعد الشقة ما يهد عزائم الشجعان فلما جاوز طرسوس تصدى له جيش الروم بعدته وعديده، وجنوده الضخام، وبطارقته العظام، فوثب عليه العرب بإيمان أقوى من سواعدهم، وعزائم أمضى من سيوفهم، فهدوا أركانه، ومزقوا أوصاله، وتكلمت السيوف، وسكتت الألسنة. وكان نزار يقذف بنفسه في الغمرات، لا يبالي بالموت، ولا يأبه للحياة، ولا يرضى أن ينال سيفه إلا بطريقًا أو قائدًا، وتقهقر الروم، وتعقب العرب آثارهم في قتال عنيف، كثر فيه القتلى والأسرى، وتبع نزار فصيلة من الفارين فانقض عليه كمين، تكاثر عليه جنوده، فأطاروا حسامه من يده، وتواثبوا عليه فأسروه بعد أن أبلى أحسن البلاء، وكان أسره عند كبرائهم ظفرًا مبينًا، ولما ذهبوا به إلى ريني راعها ما رأت فيه من جمال وفتوة، بعد ما سمعت كثيرًا من أحاديث بطولته، فنظرت إليه في شغف كأنها لم تر من قبل شابًّا عربيًّا وسيمًا، وأسرع قلبها ينبض نبضات كانت تعرف معناها في ميعة الشباب، فتنهدت وقالت: لقد قتلت صناديد رجالي أيها الفارس الجميل، ولولا أن الملوك لا يقتلون أسراهم لأمرت بقتلك.

– لو عقل السيف ما قطع في كف الجبان.

– هكذا أنتم أيها العرب، لا نرى فيكم إلا الكبرياء والعناد.

– وبهما ملكنا الأرض.

– كيف حالكم مع خليفتكم؟

– لو أمرنا بالصعود إلى السماء لتبعنا إشارته، لا نجادله في أمر، ولا نسأله عن سبب.

– وكيف رأيت الروم؟

– رأيتهم أشداء تعوزهم قوة الإيمان.

– إنى أريد أن أصطفيك لنفسي، فابق عندي أمنحك من مناصب الدولة ما يرفعك فوق منزلة البطارقة. فابتسم نزار وقال: إن الله رفعني بالجهاد فوق منزلتك أيتها الملكة، فدعي يا سيدتي ما عندك من جاه ومناصب، فإننا قوم اشترينا الجنة بنفوسنا.

– لعلك تحن إلى بغداد، وإلى حبيب لك هناك، فطفرت دمعتان من عيني نزار، وقال: إن لي بشاطئ دجلة يا سيدتي زهرة لا أبيع بها زهرات الجنة.

– إن زهرات الروم أنضر لونًا، وأطيب ريحًا.

– تلك زهرات الدمن حسن منظر، وسوء منبت.

– ها قد عدت إلى طبيعتك الجافية، وإلى جهلك بمخاطبة الملوك.

– إنني أقول ما أعلم، وأعلم ما أقول.

– لن أتركك يا فتى؛ فإن مثلك من تثنى عليه الخناصر، فإذا لم ترض أن تكون من رجال حاشيتي، وأحببت أن تبقى طليقًا، فإني أقنع بأن تعيش بيننا حرًّا على أن تعاهدني ألا تحاول الفرار.

– لا أعاهد أحدًا.

فغضبت الملكة، وطلبت من رئيس قصرها أن يضعه بسجن القصر، وأقسمت ألا ترده إلى العرب، ولو طلبوا فيه رأسها.

وطال أمد القتال، واشتد مريره، وكتبت الهزيمة على الروم، فألقوا السلاح أذلاء مقهورين، وقدمت الملكة ريني إلى خيمة القائد عبد الملك بن صالح خاضعة تطلب الصلح في تضرع واستجداء، وأملى القائد العربي شروطه، فكان منها: أن يغرم الروم مائة ألف دينار رومية عقابًا لاعتدائهم على جيرانهم المسلمين، وأن يؤدوا جزية في كل عام مقدارها أربعة وستون ألف دينار رومية، وألفان وخمسمائة دينار عربية، ثم أن يتبادل الفريقان الأسرى.

ووقعت ريني وثيقة الصلح، والدموع تكاد تخفي عنها سطورها، وأرسل الروم أسرى العرب إلى القائد، فلما تفقدهم عبد الملك بن صالح صاح في وجه رسول الروم سائلًا: أين نزار بن حمزة؟ فتباله الرجل وقال: هؤلاء يا سيدي هم كل الأسرى، مائة وثلاثة وخمسون رجلًا، وهذا هو السجل الذي دونت فيه أسماؤهم، فارجع البصر يا سيدي القائد، فلعلك تراه بينهم، فقال عبد الملك في سخرية: إن نزار ليس ممن يجهل مكانه أيها الأبله، وهو لو كان في مائة ألف لبرز بينهم علمًا مفردًا، اذهب فأحضره، وإلا هدمت المدينة عليكم وعلى ملكتكم.

وذهب الرجل، وغاب ساعات، وعاد ينفض كفيه من اليأس ويقول: لقد بحثنا عنه في كل مكان ياسيدي فلم نقف له على أثر، وأغلب الظن أنه قتل بالمعركة، وهؤلاء أسراكم يشهدون بأنه لم يكن معهم، وأنهم لم يروه مدة أسرهم، وشهد الأسرى بما علموا، وأمر عبد الملك الجيش بالقفول حزينًا يائسًا كأن انتصاره المؤزر لم يكن شيئًا بجانب فقد نزار.

•••

عاد الجيش إلى بغداد، وذهبت حفصة تستقبله لتطفئ غليل شوقها بلقاء فتاها، ولكنها بعد أن تفرست كل وجه، وتطلعت إلى كل مقبل دب الذعر إلى فؤادها، وغلبها الشك القاتل، فأعادت النظرات، وكررت اللفتات، وكلما رأت فارسًا فارع العود أسرعت إليه فخاب أملها، وكلما لمحت شابًّا يلوح بيديه حدقت فيه النظر فإذا هو غير فتاها، وكلما سمعت صوتًا من بعيد يشبه صوت نزار أصغت إليه طويلًا، وانتهت بعد طول الإصغاء إلى ضيعة الرجاء. كلَّت المسكينة، وتخاذلت قواها، وأبت أن تحملها ساقاها، ثم أسعفها البكاء والنواح، فأرسلت صيحات وأنات تقطع نياط القلوب، وأقبل إليها عبد الملك بن صالح والحزن يكاد يعقد لسانه، وهو يقول في رفق: ما هذا الجزع يا حفصة؟ لقد كنت أعرفك أقوى نفسًا، وأشد جلدًا مما أرى، إن نزار حي لا تزال تزهى به الحياة، ولكنه لم يعد معنا، ولا أعرف لذلك سببًا، ولكنك يا فتاتي سترينه يومًا، وسترينه قريبًا، فتأوهت حفصة وقالت في يأس مخيف: نعم سأراه في الجنة، وسأراه قريبًا! لماذا لا تقولون الحق الصراح أيها الرجال؟ لم لا تقولون: إنه استشهد؟ لماذا لا تقولون: إنه مضى في ميدان الجهاد؟ ثم اشتد عويلها، وقالت وهي تهرول كأن بها مسًّا من جنون: لقد مات نزار! لقد مات نزار!

مضت سنوات ست وحفصة في حزن أليم، وهم مُقْعد مقيم، مرة ينبعث في نفسها وميض من رجاء، فيعود وجهها إلى إشراقه، ويرتد إليها شيء من أنس الحياة، ومرة تغيم في عينيها سماء الشك، وتكاد تقتلها جفوة اليقين، فتطوي نفسها على اليأس، وتتمتع بلذة البكاء، وكم أرسلت الرسل إثر الرسل للسؤال عن نزار في كل مدينة، وقرية، ودسكرة، ولكنهم كانوا يرجعون صامتين واجمين، وكم توسَّلت إلى الخليفة أن يهدد ملكة الروم بالكتاب يتلو الكتاب، ولكن الجواب دائما: إنه غير موجود.

وعاش نزار في سجن القصر بهرقلة هذه السنوات حزين القلب، مروع الفؤاد، لا يعد من أهل الأرض، قضى هذه الأعوام بين جدران السجن وقضبانه، يهتف باسم حفصة كلما اشتد به الوجد وغلبه الحنين، وكانت الملكة ريني تزوره بين الحين والحين، وتغريه بأن يكون لها على أن تهب له ما دون التاج والصولجان، فيردها في عزة وكبرياء أبيًّا عَزُوفًا.

وثار الروم على ملكتهم سنة مائة وسبعة وثمانين، وكان مُشْعِلُ الثورة، ومتولي كبر أمرها نقفور رئيس البطارقة، ثار البطارقة ساخطين على ريني؛ لأنها قبلت شروط الرشيد المهينة المذلة التي جعلت من الروم عبيدًا لخليفة العرب، يؤدُّون له الجزية في كل عام عن يد وهم صاغرون، وامتدت الثورة إلى الشعب؛ فأدخلوا عليه أن كرامته أهينت، وأن عزة دولته مرغت في التراب، فهب الجنود، وهب معهم العامة، وأنزل نقفور الملكة عن عرشها، وولاه البطارقة ملك الروم، وألبسه كبيرهم ميخائيل تاج قسطنطين، واشترطوا عليه أن يعيد لمملكتهم صولتها، وأن يبدأ بمحاربة العرب، وأخذ نقفور يجمع أحشاد الجند، ويحصن مدينة هرقلة، ويأخذ الأهبة لقتال مر عنيف، ولما أعد عدته كتب للرشيد:

من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب

أما بعد، فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقًا بحمل أمثاله إليها، لكن ذلك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتدِ بنفسك بما يقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك.

حمل رسول نقفور الرسالة إلى الرشيد، فلما بلغ بغداد سار إلى دار الخلافة مستأذنًا على الخليفة، وكان الرشيد بين وزرائه وندمائه، فلما وصلت إليه الرسالة وقرأها تملكه الغضب، ولمعت عيناه حتى صارتا كجذوتي حطب، وابتعد عنه وزيره الفضل بن ربيع؛ هيبة منه وخوفًا، ثم صاح الرشيد وصوته يرتعد من الغيظ: هات الدواة يا مسرور، فلما أحضرت إليه كتب في ظهر رسالة نقفور:

بسم الله الرحمن الرحيم
من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور

قد قرأت كتابك، والجواب ما تراه دون أن تسمعه.

ثم ألقى بالورقة، وأشار إلى مسرور أن يرمي بها إلى رسول الروم.

نادى الخليفة بإعداد الجيش، وأنه سيقوده بنفسه. وانتشر ببغداد الخبر، وتزاحم المجاهدون للانضمام إلى الجيش، وعلمت حفصة بمسير الرشيد لغزو الروم، فطلبت إلى أمها في إلحاح أن تسير خلف الجيش مع النساء اللائي يصحبن دائمًا جيوش العرب؛ لينلن أجر المجاهدين، وسار جيش الرشيد، وسارت خلفه حفصة التي كانت كل آمالها أن ترى نزارًا، أو ترى له قبرًا.

•••

ولكن نزار لم يكن يعلم بزحف الرشيد، ولم يكن يصل إليه من أخبار ثورة الروم إلا أخبار ناقصة مبتورة، ورأته هيلين — إحدى وصائف القصر وبنت ميخائيل كبير البطارقة — فشغفها حُبًّا، وهي فتاة لو أدركت عهد الإغريق الأولين لنحتوا على مثالها تمثالًا للجمال.

فتنت هيلين بنزار، فكانت تزوره في سجنه في كل مساء، وتبثه ما تلقى من صبابة ووجد، وهو يصغي إليها، ويميل إلى حسن حديثها، وثارت بها ليلة نشوة الغرام، واستبد بها الهيام، فأخذت تحدثه، وتطيل الحديث، ثم انتقلت إلى استعداد الجيش لغزو العرب، وما جهز به من أسباب الدمار، ثم وضعت سبابتها على فمها القرمزي، وهمست قائلة: إننا يا حبيبي سنهزم العرب هذه المرة، وسنقضي على جيشهم وخليفتهم، فابتسم نزار وقال: كيف يا هيلين؟

– لن أبوح بشيء يا حبيبي! إنه سر خطير.

– إن حبك إذن من صنف عجيب؛ لأن المرأة العربية إذا أحبت مزجت روحها بروح من تحب، فكانت قطعة منه، وكان قطعة منها، فليس بينهما سر يصان.

– هيهات أن تصل المرأة العربية في الحب إلى ما بلغته الإغريقية، إن الفتاة عندنا إذا أحبت قدمت لحبيبها ما تملك، وما لا تملك، وغدا كل شيء في يديها هينًا مبذولًا أمام الحب، فلا جاه، ولا مال، ولا عزة، ولا وطن.

– وأنت تحبينني يا هيلين؟

– حبًّا لو وزعته على الدنيا لملأها رفقًا وبشاشة، وإيثارًا وسعادة.

– قولي هذا السر الخطير إذن. فاهتزت أوصالها، وأدركتها رعدة كأنها تعاني حمى حاطمة، ثم مالت إلى أذنه وقالت: إنهم الآن يحفرون خندقًا عظيم الطول والعرض بعيد الغور شرقي هرقلة.

– لا أرى شيئًا في هذا يا حبيبتي، فقد اعتاد الناس حفر الخنادق في مواقع القتال.

فأسرعت هيلين تقول: إن هذا الخندق ليس كالخنادق، إن طوله عشرة آلاف ذراع رومية، وعرضه مائتان، وقد عزموا أن يغطوه بالحصير، وفصيل القصب، ثم يضعوا فوقه طبقة من التراب لا تدع للمرء شكًّا في أنه أرض يابسة كالأرض التي حوله. وقد قدروا أن خليفتكم لا بد واثب على المدينة من الناحية الشرقية؛ لأنها طريق مقدمه من غيتاب، فإذا كرَّ جيشه الكرة الأولى يا حبيبي سقط الآلاف من نخبة أبطاله في الحفرة، ووقع فيه الذعر والخبال فالتف حوله جيشنا من الناحيتين الشمالية والجنوبية فلم يترك فيه رجلًا يستطيع أن ينقل أخبار الكارثة إلى بغداد، أرأيت يا حبيبي كيف أن السر جد خطير؟! فاضطربت نفس نزار، وهاله الأمر، ورأى أن الواقعة واقعة بالمسلمين لا محالة، ولكن شعاعًا خافتًا من الأمل خفق خفقة في ظلام يأسه، فمال نحو هيلين، وشرع يعانقها في شغف وحنان، ويردد: قبليني يا حبيبتي قبل أن أموت، قبليني قبلة الوداع، فذهلت هيلين، واتسعت حدقتاها من هول ما سمعت، وقالت مذعورة: تموت يا حبيبي؟! إنني وقومي وبلاد الروم كلها فداك، لم تقول هذا يا زهرة آمالي؟! أتحس شيئًا؟

– أحس أنني مائت لا محالة، فبالله دعيني أتزود منك بنظرات قليلة قبل أن ألقى حتفي.

– تلقى حتفك يا حبيبي؟ ممن؟

– من قومك الروم.

– كيف؟

– إنهم إذا هزموا جيش العرب — وهم لا شك هازموه — اتجهوا نحو هذا السجن ليقتلوا أعدى أعدائهم من العرب، وقد كانوا يبقون علي يا هيلين خوفًا من غضب الرشيد، فماذا يكون أمرهم معي بعد أن يزول الرشيد، ويزول ملكه؟ ودعيني يا هيلين. وإذا لم تتسع هذه الدنيا لحبنا فإننا سنلتقي في سماء كلها صفاء، وحب، ونور.

فوجمت هيلين ذاهلة، ثم أخذت تغمغم: نعم، إن هذا صحيح، إن كل ما قلته صحيح يا حبيبي، ثم سكتت قليلًا كالمفكرة وصاحت: أسرع يا حبيبي أسرع، هلمَّ نفر معًا، ونعش بعيدًا عن هؤلاء الوحوش من عرب وروم.

– ما كان أحب هذا إلى نفسي يا فتاتي، ولكني أخشى إذا عثروا علينا أن يقتلونا معًا، وأنت كل شيء عندي في هذه الحياة، وخير لي أن أقتل من أن أرى أظفورًا منك يمس بسوء. لا يا هيلين، دعيني أفر وحدي، فإنني إذا اطمأننت إلى سلامتك، وأنك في حرز أمين لتضاعفت قوتي، وزادت جرأتي، واستطعت الفرار من جنود الروم، ولو كانوا من جن سليمان، وسوف نلتقي في ليلة ضاحكة نسخر فيها من رعبنا وجزعنا في هذه الليلة.

– صدقت يا حبيبي، ولكن الجنود يحيطون بالمدينة من جميع جهاتها إلا من ناحية النهر، فهل تستطيع السباحة طويلًا؟

– نعم.

– انتظرني قليلًا، ثم عادت بعد لحظات وهي تقول في نبرة مرتجفة: لن تخشى شيئًا من حارس القصر، فقد نفحته بحفنة من الذهب، ثم نظرت إليه نظرة طويلة، ومدت إليه ذراعيها تعانقه في شغف حزين، وهمست باكية تقول: اذهب يا نزار، والإله حارسك، وجميع القديسين معك.

•••

وخرج نزار في ظلمة الليل، واتجه إلى الجانب الغربي من المدينة، وكانت الطريق خالية من السابلة إلا قليلًا، حتى إذا بلغ النهر خلع ثيابه، وقفز بنفسه في الماء، وكان البرد شديدًا، والريح عاصفة، والأمواج تجتمع وتفترق كأنها رءوس الأفاعي، وأدركته لحظات خوف وخور، ولكنه شدَّ على نفسه، وذكر عظيم الغاية التي يقصد إليها، وأنه سينقذ جيشًا، ويحمي أُمَّة وخليفة، فسارع في العوم، ومرت به ساعات حتى اجتاز حدود المدينة، وجاوزها بعيدًا، فسبح نحو الشاطئ، وقد نال منه الجهد، وكاد يقتله البرد؛ فلمح نورًا خافتًا يلمع من خصاص كوخ لا يبعد عنه كثيرًا، فاتجه إليه، ودفع بابه فإذا راهب رومي يتعبد في عزلة عن الناس، فلما رآه الراهب ذعر وصاح مستنجدًا بالعذراء، وجميع القديسين، فقرب منه نزار قائلًا: لا تخش سوءًا أيها الرجل؛ فإنني — وقد كاد يقتلني البرد — لا أريد منك إلا هذا، ثم جذب ثوب الراهب وقلنسوته فلبسهما واستراح بالكوخ قليلًا حتى هدأت نفسه، وعاد إليه نفسه، ثم خرج متجهًا نحو الشرق وهو حائر يفكر في وسيلة للوصول إلى جيش العرب، وبينما هو في هم ناصب إذ لمح شرذمة من فرسان الروم، فتحركت فيه غريزة النمر، ولمعت عيناه بوميض الأمل، ووثب كالنسر الجائع على أحدهم، وكان عن رفقته بعيدًا، فطعنه بخنجره، وأسرع فوثب على فرسه، واندفع اندفاع السهم نحو الشرق، وأحس به بقية الجند، فأسرعوا خلفه صائحين: جاسوس! جاسوس عربي في زي راهب! ثم أطلقوا خلفه وابلًا من السهام، فكان يميل يمنة ويسرة ليتقيها، وهو يهمز الفرس ويزجره زجر اليائس حتى بعد عن مرماهم، ولكن بعض السهام أصابه بين كتفيه، وأحس نزار بالدماء تنسال من جسمه، وأدركه ضعف شديد لشدة ما نزف، وكاد يسقط عن جواده، ولكنه تماسك وانتصرت قوة عزيمته على ضعف جسمه، وما زال يغذ السير حتى بلغ جيش الرشيد، فتصايح العرب: راهب رومي! ماذا يريد هذا الراهب؟ إنه يعدو بفرسه في اضطراب وجنون.

وصاح نزار بقدر ما يستطيع أن يصيح: أين الخليفة؟ أين الرشيد؟

وأسرع الرشيد إليه فقال: ما خطبك أيها الراهب؟ فأجاب نزار: أنا يا أمير المؤمنين نزار بن حمزة الخزاعي، فررت من سجن الروم، احذروا الناحية الشرقية عند الهجوم على هرقلة، لأن بها خندقًا يلتهم الجيش كله، اجتنبوا ناحية شجر الصفصاف، ثم غلبه الإعياء، وألح عليه النزف؛ فسقط عن جواده، فصاح الرشيد: علي بطبيبي! علي بجبريل بن بختيشوع!

وسمعت حفصة ضجة الجنود، ورأت تزاحمهم فأسرعت واندست بين القوم، ثم رمت بنظرها إلى الجريح فكادت تصعق، وأحست بأن قلبها وقف في صدرها، فألقت نفسها عليه، وهي تصيح في خبال بين بكاء وقهقهة: حبيبي نزار! وجدته! ثم ظهر على وجهها الوهل، والذعر، وقالت: ويلاه، إنه يجود بنفسه! إنه يحتضر!

وأقبل جبريل بن بختيشوع ومعه جملة من العقاقير، وقال في رفق: دعيه الآن يا فتاة، وأرجو أن ينقذه الدواء، إنه شاب قوي البناء، ريان الفتوة، ومثل هؤلاء يقاومون الموت، ثم ضرب بكف على كف قائلًا: إن جلده يضرب إلى الزرقة، لقد أصابه سهم مسموم، ولكن لي أملًا في شفائه لن يخيب، ثم مزج في عجلة له شيئًا من الدواء في قدح، وأعطاه ثلاث جرعات، ففتح الجريح عينيه في بطء، فلما رأى حفصة زفر، وقال في صوت خافت: حفصة؟! الحمد لله! الحمد لله!

فاستبشر الطبيب وقال للخليفة: طب نفسًا يا أمير المؤمنين؛ فسوف يزول أثر السم بعد قليل، ولن يطول بالمريض مرضه أكثر من أربعة أيام، ثم أشار إلى حفصة قائلًا: وهذه الفتاة التي تحتضنه ستسكب فيه الحياة والقوة والأمل، وتغالب في نفسه أسباب الفناء، إنها يا أمير المؤمنين خير له ألف مرة من كل ما في الأرض من دواء.

•••

ومرت الأيام، وشفي نزار، وتقدم جيش الرشيد متجهًا إلى الناحية الشمالية من المدينة فقهر، ودمر، واستاق أمامه جحافل الروم متخاذلة مهزومة، ودخل الرشيد المدينة، وقدم عليه نقفور وبطارقته منكسي الرءوس، مذللي الأعناق، يعلنون التوبة، ويطلبون الصلح، ويقبلون كل جزية يطلبها أمير المؤمنين، وتقدم أبو العتاهية فأنشد الرشيد يهنئه بالفتح:

إمام الهدى أصبحت بالدين معنيا
وأصبحت تسقي كل مستمطر ريًّا
لك اسمان شقا من رشاد ومن هدى
فأنت الذي تُدعى رشيدًا ومهديًّا
إذا ما سخطت الشيء كان مسخطًا
وإن ترض شيئًا كان في الناس مرضيًّا
بسطت لنا شرقًا وغربًا يد العلى
فأوسعت شرقيًّا وأوسعت غربيًّا
ووشيت وجه الأرض بالجود والندى
فأصبح وجه الأرض بالجود مغشيًّا
وأنت أمير المؤمنين فتى التقى
نشرت من الإحسان ما كان مطويًّا
قضى الله أن يبقى لهرون ملكه
وكان قضاء الله في الخلق مقضيًّا
تجللت الدنيا لهرون ذي الرضا
وأصبح نقفور لهرون ذميًّا

فاهتز الرشيد للمديح، وحينما همَّ بالقفول صاح بين جنده: أين فاتح هرقلة؟ فتلاحظ كبار القواد، واتجهوا نحو يزيد بن مخلد، فقال الرشيد: إن فاتح هرقلة نزار الخزاعي، إنه القائد الأول للجيش، سر أمامنا يا ابن حمزة.

ولما تحرك الجيش للعودة إلى بغداد رأى بعض الجند عن بعد فتاة يذودها الروم برماحهم عن الوصول إلى العرب، وسمعوا لها نواحًا وأنينًا يدمي القلوب، ويبكي العيون، فتلفَّت الجند في ألم وإشفاق، وتساءلت حفصة في صوت حزين: من الفتاة؟! من تكون الفتاة؟ ولكن لم يكن بالجيش كله إلا رجل واحد يستطيع أن يجيب، وأن يقول: إنها هيلين!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤