الفصل الثالث

شجرة الدُّرِّ

لم يكن أحدٌ في حصن كيفا يعرف إلى أي جنسٍ من الناس تنتسبُ تلك الفتاة الملثمة التي التقطها جندُ الأمير ذات غَداةٍ في سنجار؛ فلا هي تركية ولا أرمنية ولا جركسية ولا من بنات الفرنجة، فليس في وجهها ولا في لسانها ولا في حركتها ما يُومئُ إلى الأصلِ الذي انشعبتْ منه،١ ولكنها فتاة من بنات حواء، قد اجتمع لها من خصائص الحسن النسوي ما تفرَّق في النساء ألوانًا وفنونًا؛ ففيها من كل جنسٍ وليست إلى جنسٍ، وإنها إلى ذلك لداهيةٌ أريبةٌ، ذاتُ تدبيرٍ وكيدٍ وتُحسن الخط والقراءة والغناء … وما كانت تعلم عن ماضيها ونشأتها أكثرَ مما يعلم الناس، فقد أصبحت ذات يوم فإذا هي جارية في دار؛ وما كان أكثرَ الجواريَ اللاتي لا يُعرَفُ لهنَّ آباء ولا أمهات ولا وطن في ذلك التاريخ البعيد! كالأعشاب الطافية تقذفها على الساحل موجة المدِّ، لا يعرفُ أحد أين كان مَنبتها قبل أن يقذفها الموج على السَّاحل، ولا تعرف هي نفُسها، وكان المغول مُندفعين يومئذٍ في موجة اكتساحٍ هائلةٍ قد بدأت من أقصى المشرق، وقد طفا على ثَبَجها غُثاءٌ وعُشبٌ قد اجتثَّته من منابتَ مُتباعدة، ثمَّ قذفته على السَّاحل.

وكانت طفلةً حين احتملتها الموجة فرمت بها إلى حيثُ رَمتْ، فلمَّا بلغتْ سنَّ التمييزِ عرفتْ نفسها جارية في دار، فأقامت بها حينًا، ثمَّ حملتها الأقدارُ على موجةٍ ثانيةٍ، فرمت بها في دارٍ غيرها لم يطب لها فيها المُقام، فمضت على وجهها حتى التقطها جند الأمير نجم الدين، فنزلت عنده منزلًا رحبًا، وتفيَّأت ظلًّا ظليلًا.

•••

قال الأمير نجم الدين: ولكنكِ لم تذكري لي يا فتاةُ ما كان من خبرك في قصر الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، حتى آثرْتِ الفرارَ إلى حيث التقطك عسكرنا!

فرفعت الفتاة إليه طرفًا نديًّا، ثم أطرقت وتسابقت على وجنتيها الدموع، فدنا منها نجم الدين وضمَّها إليه في حنانٍ وعطفٍ، ثمَّ أرسلها من بين يديه وهو يقول: لا عليكِ يا فتاة مما كان، ولن أهيجك بعدُ بذكره، فطيبي نفسًا!

ثم خلَّاها بين يَديْ ماشطتها وخرج لبعض شأنه.

•••

قال الطواشي بدر الدين صوابٌ لمولاه وقد خلا لهما المجلس: كأنْ قد عرفتُ ما كانت تحرص الفتاةُ على كتمانه من خبر ماضيها، لقد اختار اللهُ لك يا مولاي واختارَ لها.

قال الأمير في لهفة: ماذا عرفتَ من خبرها يا صواب؟

قال صواب: إنه تاريخٌ بعيدٌ يا سيدي، أفضى إليَّ بسرِّه جنديٌّ من الخُوَارِزْمية٢ كان من خاصَّة السلطان جلال الدين بن خُوَارزْم شاه، وقد عرفها منذ كانت طفلة في حجر السيدة فاطمة خاتون قبل أن تصير السيدة زوجًا للسلطان!٣

قال نجم الدين مدهوشًا: تعني فاطمة بنت طغرل السلجوقي؟

فأومأ صواب برأسه: نعم، ملكة تبريز وسيدة العجم، وزوج السلطان أزبك البهلوان، فلما انقطع ما بين الخاتون وأزبك حين أسرف في اللهو والفاحشة، وأهمل تدبير الملك، خلعت الخاتون طاعته، وانفصلت عنه، واستقلَّت بالحكم في تبريز، ثم حالفت جلالَ الدين واتخذته زوجًا، وخاضت معه الغمرات حتى أدركه الأجل في حرب المغول وتبدَّد مُلكه، فذهبتْ في الأرض، وقذفت المقادير بفتاتها إلى بدر الدين صاحب الموصل!٤

قال نجم الدين: هيه! ثمَّ ماذا يا صواب؟ فوالله ما خابت فراستي فيها، وإنَّ في وجهها أمارات الملوكية!

قال صواب: ثم لم يطب لها المقام ثمة حين أراد بناتُ بدر الدين أن يَمتهِنَّها مهنة الجواري، وإنها لأعرقُ أرومةً من بدر الدين وبنات بدر الدين، إنها لدرةٌ يا مولاي لم يلتقط مثلها غواص!

قال نجم الدين وقد تهيَّأَ للقيام: بل هي يا صواب «شجرة الدُّرِّ!»

•••

وحَظيت الفتاة منذ ذلك اليوم عند الأمير نجم الدين أيوب، فليس لغيرها من حظاياه ونسائه مكانٌ في قلبه، ثم زادت حظوة حتى صارت صاحبة الرأي والمشورة، ثم زادت حتى ليس لغيرها مع الأمير رأيٌ ولا مشورة، واستأثرت بالسلطان.

على أنَّ مكانة شجرة الدُّرِّ عند الأمير لم تكن دُون منزلتها عند سائر المماليك والجند وأصحاب الوظائف في الحصن؛ فقد كانت من حصافة الرأي وسعة النفس وبسطة الكف بحيث صارت بين الجميع ملكة بلا تاج ولا عرش، يدينون لها بالحبِّ والولاءِ والطَّاعةِ، وكأنَّما كانت نشأتها الملوكية في حجر فاطمة بنت طغرل ملكة تبريز، وتَنقُّلها بين ألوان من السلطان في بلاط آل سلجوق، وأزبك، وجلال الدين إرهاصًا٥ لما بلغته من المجد والجاه في بلاط الأمير نجم الدين أيوب، سليل الغطاريف٦ من خلفاء صلاح الدين.

وسُرِّي عن الأمير بعضُ همِّهِ، ووجد رَوْحَ الاطمئنانِ وهدوء القلب في جوار صاحبته الفاتنة، ولكنه إلى ذلك لم يغفل لحظة عمَّا كان يجري في القاهرة من أحداث، فلا يزال يترقَّبُ الفرصة التي تُهيئ له أن يردَّ إلى عرش الأيوبيين هيبته، ويدفعَ عن البلاد ما يتربص بها من شرِّ الصليبيين والمغول، ولا يزال يردد مُصْبحًا ومُمسيًا بيتًا من شعر الإربلي هتف به الهاتف من وراء الحُجرات ذات يوم، كأنما هو إنذارٌ من وراء الغيب بيومٍ قريبٍ للملك الكامل:

وَصَل البنون إلى محل أبيهِمُ
وتَجهَّزَ الآباءُ للتَّرحال!

وكان الأمير فخر الدين بن الشيخ في القاهرة يرقب كذلك ويتربَّص!

١  تفرعت منه.
٢  الدولة الخوارزمية: دولة من دول المشرق، امتدَّ سلطانها في القرن السادس الهجري على كثيرٍ من البلاد الواقعة في أواسط آسيا، والتي تشملُ اليوم بلاد إيران وتركستان الروسية، وامتدَّ نفوذها السياسي إلى العراق، وكان آخرُ ملوك هذه الدولة هو السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه، تولَّى العرش بعد وفاةِ أبيه علاء الدين في سنة ٦١٧ﻫ، وكان المغول في ذلك الحين يتوغَّلون في قلب الدولة مُندفعين إلى المشرق في عنفٍ لا تثبت أمامهم قوة من قوى الدفاع.
٣  كانت السيدة فاطمة خاتون زوجًا للسلطان أزبك البهلوان، صاحب عرش تبريز من بلاد العجم، وكان هذا السلطان سكِّيرًا جبانًا فاسد الخلق لا رأي له ولا مروءة فيه، فلمَّا رأى المغولَ زاحفين بجحافلهم الجرارة يطئون البلاد ويستذلُّون العباد خاف على حياته، فاستسلم لهم وأسلم لهم بلاده، ومشى في ركابهم تابعًا يُعاونهم على حرب أصدقائه الخوارزميين، وترك زوجته فاطمة خاتون في تبريز لا تملك دفاعًا عن نفسها، فغضبت زوجته لسوء تصرفه وطلقت منه، وتحالفت مع السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه على حرب المغول، ثم صارت زوجة له، فلما انهزم جلال الدين أمام جيوش المغول الزاحفة وتفرقت جنوده، تبعثرت أسرته ونساؤه وجواريه؛ فمنهم من سقط قتيلًا، ومنهم من وقع في الأسر، ومنهم من غرق في النهر، ومنهم من ضاع خبره فلم يقف له أحدٌ على أثر، وبذلك انتهت الدولة الخوارزمية، سنة ٦٢٨ﻫ. أما فلول المنهزمين من جيش السُّلطان جلال الدين فقد صاروا جنودًا مرتزقة؛ يحاربون إلى جانب من يعطيهم رزقًا، لا يفرقون بين صديقٍ وعدوٍّ، ولا بين قريبٍ وغريبٍ؛ فمنهم من انضم إلى المغول، ومنهم من انضمَّ إلى جيش الخليفة العباسي في بغداد، ومنهم من استأجره الأيوبيون لتحقيق أغراضهم العسكرية في الشام، ومنهم طوائف أخرى …
٤  هو الملك الرحيم بدر الدين أبو الفضائل لؤلؤ، كان تابعًا من أتباع الأمير نور الدين أرسلان صاحب الموصل، فلمَّا مات الأمير نور الدين سنة ٦٠٧ﻫ انتهزها فرصة لنفسه، وقتل القاهر بن نور الدين واستولى على الموصل لنفسه. وانظر [الفصل الأول: نبأٌ من القاهرة والفصل الثالث: شجرة الدُّرِّ].
٥  مقدمة.
٦  الغطريف: السيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤