الفصل الثالث

الشعر الغنائي

١

يندرج في هذا النوع الأدبي معظم تراث الشعر العربي بل معظم تراث الإنسانية. وكان في نشأته مقترنًا بالغناء سواء كان ذلك على أنغام القيثار أيام اليونان أو على أنغام العود والدف أيام العرب أو على أنغام الآلات المصرية المنوعة. وكان في نشأته — كما ذكرنا — مرتبطًا بالشعر القصصي أيضًا ولكنه انفصل عنه واستقل لاستقلال أهدافه فعرفه المصريون القدماء؛ إذ عرفوا مدائح الملوك ومراثي الموتى وابتهالات المعابد، كما عرف العرب القدماء هذه الأنواع جميعًا وأضافوا إليها العديد من الأنواع المعروفة وعلى أية حال فقد انفصل الجانب الأكبر من الشعر عن الموسيقى وأصبح يؤلف لينشد أو يكتب ليقرأ.

وأهم ما يميز الشعر الغنائي عن الشعر القصصي أو الشعر الدرامي هو أنه يعبر مباشرة عن مشاعر المتحدث وأفكاره، أي إنه تعبير ذاتي، وذلك رغم أنه يحول التجربة الذاتية إلى تجربة فنية (أي موضوعية) باستخدام لغة الفن أو لغة الشعر وهي لغة الإيقاع والتصوير والتركيب — كما سبق أن ذكرنا — ولكننا على أية حال نلمح ضمير المتكلم بارزًا في القصيدة الغنائية ونحس أنها موجهة إلى مستمع ما أو إلى قارئ ما. ومهما يكن الموضوع الذي تتناوله القصيدة. (أو ما يسميه العرب أغراض القصيدة) فإن الشاعر يفترض وجود جمهور ويفترض استجابته للقصيدة. ولم تنقطع الصلة المباشرة بين الشاعر والجمهور وتتحول إلى صلة مناجاة وهمس إلا بعد انتشار الطباعة وحلول الكلمة المكتوبة محل الكلمة المسموعة. وقد ازدهرت هذه الصلة الهامسة أو المهموسة — إن صح هذا التعبير — حتى كادت أن تكون الصلة الوحيدة مع حلول الرومانسية الأوروبية في القرن التاسع عشر ورومانسية العالم العربي ثم الشعر الحديث في القرن العشرين.

وربما كانت أقدم أنواع الشعر الغنائي هي التي عرفها المصريون القدماء في الألف الثالث قبل الميلاد وتدل نصوص الأهرام على أن المصريين قد عرفوا المديح والرثاء والغزل والأناشيد الدينية من تسابيح وابتهالات وأغاني الرعاة والصيادين وما إلى ذلك. أما في اليونان فكان منشأ هذا الشعر دينيًّا، تمامًا مثل منشأ الدراما والأناشيد التي تضمنتها الملاحم فيما بعد (كما سبق أن ذكرنا) وكان يؤلف في البداية في الاحتفالات الدينية الموسمية. أما العرب فقد أبدعوا حقًّا في شتى ألوان الشعر الغنائي وسادت أشعارهم العالم القديم قرونًا طويلة حتى انتقل تأثيرها إلى أوروبا عن طريق الأندلس. وعندما ولدت اللغات الأوروبية الحديثة في عصر النهضة كان لهذا التراث الشرقي تأثيره الملحوظ في الأشكال التي اتخذها الشعر الغنائي في أوروبا.

ولكن ما يعنينا هنا هو الملامح الخاصة بالشعر الغنائي قديمًا وحديثًا وبخاصة لأنه فن العربية الأول. فأما ملامحه في الشعر العالمي فيمكن إيجاز أهمها فيما يلي:

(١) قصر القصيدة

تتميز القصيدة الغنائية في الأدب الأوروبي عن القصيدة القصصية أيًّا كان نوعها بأنها قصيرة بل ربما لم تزد عن بضعة أبيات وربما لم تستغرق قراءتها دقائق بل ثواني معدودة! ولذلك ذهب بعض النقاد إلى الربط بينها وبين الفنون المكانية (أي الفنون التشكيلية) التي لا تتطلب زمنًا طويلًا في تذوقها أو بالأحرى لا تعتمد على عنصر التتابع الزمني فنحن نتذوق اللوحة كلها في لحظات توحي بالثبات الزمني بينما نتذوق الموسيقى في لحظات متتابعة.

(٢) وحدة الانطباع

تدور القصيدة الغنائية الأوروبية عادةً حول فكرة أو صورة واحدة، أو ما يسمى في الموسيقى ﺑ «ثيمة» واحدة أو لحن أساسي واحد. ولا تكاد تتفرع هذه الفكرة أو الصورة إلى أفكار أو صور أخرى وإنما يركز الشاعر عليها في تفاصيلها أو ما يتصل بها بحيث يكون الانطباع النهائي موحدًا.

(٣) الاعتماد على الصورة

رغم غلبة الموسيقى على القصيدة الغنائية فإن وسيلتها التعبيرية الأولى هي الصورة، والصورة الشعرية هي التعبير الحديث الذي يستخدم لشتى أنواع التصوير الفني من تشبيه واستعارة وما إلى ذلك من تصوير حسي ذي دلالات هامشية أي يستخدم كلمات توحي بمعانٍ أخرى إلى جانب معانيها الأصلية.

(٤) الاتكاء على اللحظة الواحدة

أي انتفاء عنصر الزمن الممتد الذي تتميز به القصيدة القصصية فالقصيدة الغنائية لا تعتمد على تتابع الأحداث أو تتابع الصور والأفكار بل تبرز لحظة واحدة تتركز فيها معاني التجربة وتصبح لحظة ذات دلالة.

(٥) الذاتية

كما سبق أن ذكرنا، لا يتحدث الشاعر هنا عن الآخرين بل عن تجربة ذاتية فموضوعه هو مشاعره وقد أدت هذه الذاتية إلى التطرف في جانب التعبير على حساب التوصيل إذ اهتم بعض الشعراء الرومانسيين بالصدق في إخراج (أي التعبير عن) مشاعرهم حتى ولم يفهمها (أي حتى ولو لم تصل إلى) القارئ أو السامع. فمعظم أشعار وليم بليك فيما يسمى بكتب النبوءات مستغلقة على الفهم حتى الآن لأنها تصور تجاربه الدينية الذاتية (أي الصوفية) مستعينة برموز تستعصي على المتابعة.

(٦) التركيب

يعتمد الشاعر في القصيدة الغنائية على بناء التراكيب الموحية بمعانٍ فنية ولو استعصت على التحليل المنطقي وينبع هذا من الاتكاء على الصورة كما سبق أن ذكرنا.

ولا بد هنا من نماذج لهذه القصيدة الغنائية في أبسط صورها وأقصرها، ولتكن من كتاب «مواويل غنائية» أو «بالادات غنائية» الذي سبقت الإشارة إليه في الفصل السابق فهي أقصر ما يمكن تقديمه والتعليق عليه. والقصيدتان التاليتان من تأليف الشاعر وليم وردزورث، وقد كتبهما وهو في رحلة إلى ألمانيا يرثي فتاة خيالية حار النقاد في تحديد شخصيتها (رغم أنه يسميها لوسي).

أما القصيدة الأولى فتمثل كل هذه الخصائص وقد حاولت في الترجمة (وبخاصة في الفقرة الثانية) أن أحاكي الوزن والقافية الأصلية دون أن أضحي بأي جانب من جوانب الصورة أو المعنى. فالبيتان الأول والثالث من تلك الفقرة أطول من البيتين الثاني والرابع ويشترك كل زوج منهما في قافية واحدة، وهذا هو ما يسمى ببحر البالاد (وهو لسهولته ويسره يقابل الرجز بالعربية وإن كنت أمزجه بالكامل هنا):

عاشت بعيدًا حيث لا تخطو قدم
عند الينابيع بأعلى النهر
عذراء لكن ما تغني حسنها
ولا هواها عاشق من بشر
هي كالبنفسج عند صخر معشب
يخفي عن العين بهاه
هي فتنة هي مثل نجم ثاقب
يبدو وحيدًا في سماه
عاشت بمعزلها ولم يعرف
إلا القليل متى قضت
لكنها في قبرها يا ويلتا
واحر قلبي إذ مضت!

ولا داعي إلى الاسترسال في التعليق والشرح فالقصيدة رثاء مباشر وهي تدور حول صورة العزلة وانطواء الحسن، وهي الصورة التي اتخذها الشاعر أساسًا لرثائه. فالفتاة في خياله زهرة من الزهور البرية التي لا تراها العين رغم جمالها أو نجم ثاقب يسطع عند الغروب أو الشروق فلا يلتفت إليه أحد (وربما كان كوكب الزهرة) وهي تعيش مجهولة وتموت مجهولة لا يدري بموتها إلا الشاعر فتصدر عنه هذه القصيدة القصيرة، وهي كما نرى تركز على مشاعر ذاتية في لحظة واحدة وتخرج لنا انطباعًا موحدًا من خلال صورة أساسية. أما القصيدة التالية فربما كانت أقدر على توضيح ما نعنيه بعنصر التركيب:

ختم النعاس على روحي وغيبها
ومحا مخاوف البشر
فبدت لعيني فتاة ليس تلمسها
يد السنين والقدر
فالآن قد سكنت والقوة اندثرت
ومضى زمان السمع والبصر
وغدت تدور ببطن الأرض دورتها
كالصخر والأحجار والشجر

الصورة هنا مختلفة إذ إن الموت الذي يسلب الفتاة الحركة يهبها في الحقيقة حركة من نوع آخر ألا وهي الحركة اللاإرادية إذ إنها رغم فقدانها القوة والسمع والبصر أصبحت تدور مع الأرض في دورتها اليومية دون أن يكون لها يد في ذلك. وأما التركيب فنقصد به أن الشاعر يبني عددًا من الصور المتداخلة يبدؤها بمفارقة النوم والصحو فهو يتبين أنه كان غائبًا عن الوعي حين تصور أن الفتاة لا يمكن أن تمسها يد السنين التي نعرفها على الأرض أي إنه لم يكن يتصور (لجمالها أو لحبه لها) أنها فانية مثل البشر وأن مصيرها إلى الموت ولهذا فلم تكن لديه مخاوف. وهو حين يصف هذه المخاوف بأنها مخاوف البشر أو البشرية فإنما يعني أنها الخوف من الفناء، وهو إذن لم يكن يخاف الفناء لأنه لم يكن يتصوره أو يعمل له حسابًا! أما وقد صحا فقد أصبح يذكره ويخشاه، وهي ثيمة جديدة تخرج من باطنها ثيمة أخرى وهي صورة الموت التي ذكرناها أي صورة الامتزاج بالأرض والدوران معها رغم فقدان الحركة والقوة. إنها صورة تربط الإنسان في النهاية بالصخور والأحجار والأشجار، تلك الكائنات التي لا حول لها ولا طول رغم أنها تتحرك يوميًّا وتدور مع الأرض في دورتها اليومية! فهل أصبح الشاعر يخاف هذا الامتزاج أم أن المفارقة تقف عند حد التضاد بين حركة الأحياء وحركة الأموات؟ إن إثارة هذا التساؤل من خلال صورة الصحو (صنو الحياة) والنوم (صنو الممات) هو الذي يجعلنا نصف الصورة بأنها مركبة، أي بأنها مجموعة من المشاعر المتداخلة وقد بُني بعضها فوق بعض.

٢

أما في الأدب العربي فالواضح أننا لن نستطيع أن نوجز ملامح القصيدة بمثل هذا التبسيط ولن نستطيع أن نلخص في سطور ما أفرد له الدارسون مئات الكتب. ولكن لا بد من توضيح الفارق بين القصيدة العربية الغنائية التقليدية وبين ما يسمى بالشعر الحديث أو ما يسمى خطأ بالشعر المرسل أو حتى الشعر الحر. ويكفي أن نذكر أن القصيدة العربية التقليدية تتبع أوزانًا محدودة أي إيقاعات كمية أي مجموعة محسوبة من الأصوات تتكون من ضربات معدودة (أي تركيبات من حروف ساكنة وأخرى متحركة)، بحيث نرى كل مجموعة من هذه الضربات وقد شكلت فيما بينها وحدة إيقاعية تسمى بالتفعيلة، وبحيث يتكون كل بيت من عدد من هذه التفعيلات لا يتعداه، ويتكرر نفس العدد في كل بيت. كما تتميز القصيدة العربية بوحدة القافية (والقافية هي مجموعة حروف في آخر البيت تنتهي بحرف محدد يسمى الروي تنسب إليه القصيدة، فيقال ميمية المتنبي أو رائية أبي تمام، وهلم جرًّا). وقد تمسك العرب بهذا الشكل وحافظوا عليه عبر القرون وهو ليس شكلًا جامدًا كما يُظَن بل إنه يهيئ تنويعات كثيرة في الأنغام والإيقاعات أولًا بسبب تعدد البحور، فهناك قرابة ستة عشر بحرًا (أي تكوينًا إيقاعيًّا ينتظم عددًا من التفعيلات قد تختلف فيما بينها) وثانيًا بسبب ما يسمح به من الخروج على شكل التفعيلة الأصلي وهو ما يسمى بالزحاف.

ويشترك الشعر في شتى اللغات مع الشعر العربي في هذه الخاصية الفريدة وهي الوزن والقافية. ولكنه يختلف في بعض اللغات وخاصة في اللغات الأوروبية الحديثة في النمط الإيقاعي الذي يتفاوت في بعض أنواع الشعر بين بيت وبيت، إذ قد ينتظم البيت أربع تفعيلات ويليه بيت من ثلاث — كما في البالاد — وفي نظام القافية إذ تتغير بالتناوب بين الأبيات وهلم جرًّا. ولكن الشعر الأوروبي الحديث لا يقوم على الموسيقى الكمية (أي القائمة على عدد الحروف الساكنة والمتحركة) ولكن على الموسيقى النبرية. والنبر هو الحدة في نطق الصوت الذي يحدد نوع الضربة الصوتية أو المقاطع. وهناك أنواع من الشعر الأوروبي لا تهتم بالقافية على الإطلاق مثل ما يسمى بالنظم الخالي أي الخالي من القافية، وهو ما يترجم إلى العربية بالشعر المرسل. وقد اضطر الشعراء إلى اللجوء إلى هذا النظم في الملاحم والمسرحيات الشعرية بسبب صعوبة الحفاظ على قافية واحدة على مدى آلاف الأبيات.

وقد شهدت القصيدة العربية محاولات عديدة للتجديد في شكلها في شتى البلاد التي فتحها العرب وخاصة في الأندلس فنشأت أشكال جديدة مثل الموشح والدوبيت ولكن هذا لم ينل من ثبات شكل القصيدة القديمة التي تفاوتت حظوظها من الجودة والقبول أو الانحطاط والرفض حتى عصر الإحياء أو البعث؛ وهو عصر البارودي فشوقي وحافظ، والذي بدأ منذ أواخر القرن التاسع عشر. أما السمات التي حافظت عليها عبر القرون فهي: وحدة البيت (وهي تقابل باللغات الأوروبية وحدة الكوبليه أي البيت الذي يتكون من سطرين باعتبار أن كل سطر يمثل شطرًا أو نصف بيت، كما سبق أن ذكرنا) فلم يكن العرب يحبون أن يكون معنى البيت ناقصًا أو معتمدًا على ما يسبقه أو ما يليه. ولهذا جاء كل بيت قائمًا برأسه باعتباره مستقلًّا في البناء النحوي وفي المعنى. وثانيها: هو تعدد أغراضها وتنوع «معانيها» بحيث تنقل السامع من فكرة إلى فكرة أو من صورة إلى صورة قد تكون أو لا تكون متصلة بها. وثالثها: هو وحدة الروي والقافية. ورابعها: هو وحدة البحر أي الإيقاع وعدم تفاوت طول الأبيات.

ولم يكن المحك في الحكم على القصيدة أن تكون ذا وحدة شعورية أو قائمة على تجربة نفسية أيًّا كانت هذه التجربة ولكن أن تتسم بإحكام البناء اللغوي وأن تكون معانيها ذات قيمة أي جديرة بأن يحفظها الناس ويرددوها ولذلك انشغل النقاد العرب بقضية اللفظ والمعنى، وكان أحد التعريفات للشعر هو الكلام الموزون المقفى الذي يدل على معنى، أي على معنى قيِّم. وأما المدارس النقدية في الأدب العربي على اختلافها فتكاد تجمع على بعض الأسس التي عادة ما نقرنها بالكلاسيكية في الأدب الأوروبي وهي باختصار أنه لكل مقام مقال (والذي يوازي مبدأ اللياقة في النقد الأوروبي أو «ديكوروم») بمعنى أن تتفق الصياغة مع مقتضى حال السامعين فلا تستخدم المستويات اللغوية الرفيعة في مخاطبة جمهور من العامة ولا تستخدم العامية في مخاطبة المثقفين، وأن من حق المعنى الشريف اللفظ الشريف (كما يقول بشر بن المعتمر). وثانيها أن تتسم بما وجده الشعراء في شعر سابقيهم من حيل وتراكيب بلاغية اختُصَّ بها الشعر دون النثر (ثم انتقلت فيما بعد إلى النثر) مثل الاستعارة والتشبيه والكناية وأنواع المحسنات اللفظية والبديعية من جناس وطباق وتوازٍ وتقابل وسائر ألوان الزخرفة اللفظية. وثالثها أن تحافظ القصيدة على الشكل الموروث إرضاءً للتقاليد الفنية والعرف الفني فتتعدد أغراضها وتشتمل على الحِكَم والمعاني التي تجري مجرى الأمثال وأن تبتعد عن التفاصيل الواقعية الدقيقة التي قد تختلف من عصر إلى عصر ومن مكان إلى مكان (وهو ما يسمى في النقد الكلاسيكي بالتعميم والتجريد).

ولكن الشعراء لم يكونوا يتبعون هذه المبادئ دائمًا أو يلتزمون بآراء النقاد فالشاعر العربي الأصيل كان يخرج عن التقاليد ويُخرج لنا تجربته النفسية في القصيدة دونما حرج، وكان من أثر ذلك أن تفاوت شكل القصيدة العربية، وبرزت لنا صور مختلفة وإن كانت جميعًا تتبع الأساس الأول وهو الالتزام بالبحر الواحد والقافية الواحدة وتحترم وحدة البيت.

أما سبب الخلط في أذهان الكثيرين بين المبدعين والمقلدين فهو المنهج الشكلي الذي اتبعه النقد العربي على مر العصور إذ كان يعتبر الشعر من فنون القول وحسب، ويطبق عليه ما يطبق على النثر (كالخطب والأحاديث والرسائل) من قواعد نقدية انحصرت كما سبق أن ذكرنا في قضية اللفظ والمعنى ولا داعي للإفاضة في هذا الموضوع فقد تولته معظم كتب النقد العربي الحديث، وباختصار فإن المنهج الشكلي لم يدع مجالًا على الإطلاق لأي منهج نقدي آخر يمكن أن يبرز العلاقة بين المبدع وإبداعه أو بين القصيدة والمتذوق، وكانت الضحية الأولى هي المنهج النفسي الذي كان يمكن أن يُلقي بالضوء على عملية «التحويل» التي ذكرناها في الفصل الأول، أي تحويل المادة النفسية المستقاة من التجربة الشعورية إلى عمل فني بطبيعته ذاتي وموضوعي معًا، أي ينبع من الذات أولًا قبل أن يتحول بالصور والإيقاع والتركيب إلى عمل موضوعي هو القصيدة.

وكانت ثورة أصحاب الديوان (العقاد والمازني وشكري) في أوائل هذا القرن على أصحاب مدرسة «الإحياء» (أو النهضة أو البعث) بزعامة شوقي، أي المدرسة التي أرادت إحياء التراث العربي بإحياء التقاليد المتوارثة للقصيدة العربية، كانت هذه الثورة في جوهرها ثورة رومانسية أكثر منها ثورة حديثة. ولم تستطع أن تضيف إلى الشعر العربي نماذج جديدة تغير من مفهومنا للشعر أو تعيننا على تعديل بعض ما توارثناه عن شكل القصيدة. فجاءت أشعارهم — رغم اهتمامها الشديد بالتجربة الذاتية — تقليدية في مبناها إذ تعتمد على وحدة البيت، وعلى انتظام الوزن ووحدة القافية.

حتى إذا وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وجدنا بعض المؤثرات الجديدة في الشعر الغنائي العربي وأهمها الشعر الحديث الذي كان قد نشأ وازدهر في إنجلترا وأمريكا ومدرسة النقد الحديث التي أشاعت بعض المبادئ الجديدة المناقضة للرومانسية في إنجلترا في أوائل القرن، ثم تلاها بعض الأساتذة في أمريكا بتحليل الأعمال الأدبية القديمة في ضوء هذه المبادئ، ومن أهمها ما يُسمَّى بالتصويرية أي الاتكاء على العلاقة بين الرسم والشعر (وهو مذهب كلاسيكي قديم) بحيث تكون الصورة الحسية هي جوهر القصيدة وبحيث تختفي ذاتية الشاعر أو شخصيته تمامًا في عملية التحويل الفني أي تحويل المادة النفسية إلى مادة فنية موضوعية. ومن مبادئها أيضًا التخصيص بدلًا من التعميم، والتجسيد بدلًا من التجريد وقد سبق القول في هذا جميعًا في الفصل الأول.

٣

أما الشعر الحديث الذي يسمى أحيانًا بالشعر المرسل وأحيانًا بالشعر الحر، ونسميه اليوم شعر التفعيلة، فهو يتبع حقًّا هذه المبادئ ويضيف إليها قدرًا من التجديد في الوزن والقافية ولذلك لا بد من إلقاء الضوء عليه. ولقد سبق الحديث عن التكوين الإيقاعي المنتظم للقصيدة العربية ولا أريد في كتاب مبسط كهذا أن أُدخل القارئ في تفصيلات البحور والقافية، إذ إن لهذه كتبًا خاصة تتولاها بالشرح والتحليل، ولكن لا بأس من شرح ما نعنيه بوحدة التفعيلة في الشعر الحديث.

قلنا إن الشعر العربي يعتمد في نظمه على الإيقاع الكمي أي على عدد من «الضربات» تتكون كل «ضربة» منها من حروف متحركة وأخرى ساكنة (والسكون يعني التسكين أو المد) ويسمِّي العروضيون هذه الضربات بالأسباب والأوتاد والفواصل. وسوف نوضحها بالأمثلة التالية. خذ أداة النفي «لم» إنها تتكون من حرفين الأول متحرك (ولا يهم إذا كان مفتوحًا أو مكسورًا أو مضمومًا) والثاني ساكن. وهو وحدة بسيطة أو ما أسميناه «ضربة». وقس على هذا أية كلمة تتكون من حرفين الأول متحرك والثاني ساكن أو ممدود: لم – لن – في – يا – عن – من – إن … إلخ. فإذا جاءتك كلمة أخرى تتكون من ثلاثة حروف، الحرفان الأولان متحركان والثالث ساكن كانت هذه ضربة مختلفة، أضف همزة الاستفهام إلى أداة النفي: «ألم»، أو إلى بعض الكلمات التي أوردناها يخرج لك المثال الذي نبغيه، أعن – أفي – ألن – أمن، وهكذا. ويكفي هذا القدر لتوضيح ما نريد. فإذا أتيت بمجموعة منوعة من هذه الضربات (وقد أوردت هنا نموذجين فحسب) تكونت لديك وحدة الإيقاع في النظم العربي. مثلًا يمكن أن تجد من التفعيلات الشائعة ما يستخدم هاتين الضربتين فحسب في نمط محدد، ضربتين من النوع الأول تليهما ضربة من النوع الثاني. ومثل التفعيلة هو «إن لم يكن» فالكلمتان الأوليان تنتميان إلى الضربة الأولى والكلمة الثالثة تنتمي إلى الضربة الثانية. أو خذ تفعيلة أخرى تضع الضربة الثانية بين ضربتين من النوع الأول، هكذا «لم يكن في» وهلم جرًّا.

التفعيلة إذن هي الوحدة الأولى أو اللبنة الإيقاعية التي يبنى منها النظم العربي. وهي أنواع كثيرة. ويعتمد البحر في الشعر العربي، والبحر هو الإيقاع المحدد للبيت الواحد من الشعر، على ثلاثة أمور أولها نوع التفعيلة إذ قد تتكون من ثلاث ضربات من أنواع مختلفة كما رأينا في المثال السابق وقد تتكون من ضربتين فقط من النوع الأول «يا من» أو من النوع «ألم يكن» أو منهما معًا «أتاني» وهلم جرًّا. وثانيهما عدد التفعيلات في البيت الواحد (أو في الشطر، والشطر هو النصف) إذ قد يتكون البيت من ست تفعيلات وقد يتكون من أربع. وثالثها التشكيلات من هذه التفعيلات في البيت الواحد. إذ قد يتكون الشطر من أربع تفعيلات الأولى طويلة (يرمز لها ﺑ «ط») والثانية قصيرة «ق» ثم تتكرر هاتان التفعيلتان معًا فيكون شكل الشطر هكذا «ط + ق» + «ط + ق» أي إن الوحدة هنا تطول فتنتظم تفعيلتين بدلًا من واحدة بل إن الشطر الواحد قد يمثل وحدة إيقاعية كاملة إذا كان يتكون من ثلاث تفعيلات الأولى طويلة والثانية قصيرة والثالثة مثل الأولى، هكذا «ط + ق + ط» في كل سطر.

وسنورد نماذج لتوضيح الفرق في موسيقى الشطر أو البيت نتيجة لهذه الأمور الثلاثة. انظر أولًا إلى البيت التالي وردده بصوت عالٍ لتتبين تأثير قصر التفعيلة:

يا نجمي يا نجمي الأوحد
يا فرحي يا عمري الأسعد

هنا التفعيلة قصيرة وتتكون من ضربتين اثنتين وهي تتكرر أربع مرات في كل شطر (ثمانية في البيت كله) وتحس بأن الإيقاع به شيء من السرعة. فإذا أخذنا بيتًا آخر يتكون من تفعيلة أطول (تتكون من ثلاث ضربات في العادة) وجدنا الفرق واضحًا رغم أن التفعيلة لا تتكرر أكثر من ثلاث مرات في كل شطر.

أيها الفلك على وشك الرحيل
قف تمهل! إن لي فيك خليل

وانظر ثانيًا إلى التأثير الذي يحدثه عدد التفعيلات في موسيقى البيت. في البيت التالي يتكون كل شطر من ثلاث تفعيلات طويلة من النوع نفسه أي من البحر السابق:

يا ربيعي ما لأزهارك تذوي
قبلما تشهد أنوار الحياة

أما في البيت التالي الذي ينتمي إلى البحر نفسه أي يستخدم النمط الإيقاعي نفسه أي التفعيلة نفسها؛ فإنه يتكون من تفعيلتين فقط من كل شطر (أربع تفعيلات في البيت كله).

في الأماسي التقينا
وعلى النسم مشينا

وهذا ما يسميه العروضيون «مجزوءًا»، وتأثير حذف تفعيلتين من البيت واضح.

ثم انظر ثالثًا إلى نوع الإيقاع في الأبيات التي تعتمد على تكرار التفعيلة الواحدة أو ما يسمى حاليًّا بالبحور الصافية. لقد رأينا هذا في المثال الأول «يا نجمي يا نجمي الأوحد» حيث يعتمد البحر على أقصر تفعيلة ممكنة، ورأيناه في المثال الثاني «أيها الفلك» حيث نجد التفعيلة أطول بكثير، ولننظر إلى مثال ثالث (من بحر آخَر).

جن على جن وإن كانوا بشر
كأنهم خيطوا عليها بالإبر

أو خذ مثالًا من بحر رابع:

سنون تعاد ودهر يعيد
لعمرك ما في الليالي جديد

أو من بحر خامس:

رقد السحاب على الجبال ولم يزل
متثاقلًا متكاسلًا وَسْنانَا

ثم قارن هذه الموسيقى بموسيقى الأبيات التي تتنوع فيها وحدة الإيقاع بحيث تتكون من تفعيلتين مختلفتين عن هذه جميعًا بل وتختلفان فيما بينهما، فالأولى قصيرة والثانية طويلة وهما تشكلان «الوحدة» التي تتكرر أربع مرات في البيت أي مرتين في كل شطر حسب ما رمزنا ﺑ «ق + ط» + «ق + ط» في كل شطر:

تداركتما عبسًا وذبيان بعدما
تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم

أو خذ بيتًا من بحر آخر يتبع نفس القاعدة ولكنه يستخدم تفعيلات مختلفة، فالوحدة فيه تتكون أيضًا من تفعيلتين الأولى طويلة والثانية قصيرة هكذا: «ط + ق» + «ط + ق»:

ما في المقام لذي عقل وذي أدبِ
من راحة فدعِ الأوطان واغتربِ

ثم انظر إلى التركيب التالي (ما أسميناه بالتشكيل)، أي التركيبة التي رمزنا لها بالمعادلة ط + ق + ط في كل شطر. بحيث يكون كل شطر وحدة إيقاعية مستقلة تتكون من تفعيلة طويلة تليها تفعيلة أقصر منها ثم تأتي التفعيلة الأولى، وبحيث يتكون البيت كله من وحدتين موسيقيتين فقط:

همت الفلك واحتواها الماء
وحداها بمَن تقل الرجاء

ومن نفس البحر:

أخرج الروض أطيب الثمرات
هاتِ ما شئت من قريضك هاتِ
زهرات تتيه بالغصن زهوًا
وغصون تتيه بالزهرات

وقد يعمد الشاعر إلى وصل الشطرين بحيث تحس بأن الموسيقى متصلة في البيت كله:

وسهيل كوجنة الحب في اللون وقلب المحب في الخفقان.
مستبد كأنه الفارس المعلم يبدو معارض الفرسان.

وهكذا نرى أن الشعر العربي يتمتع بحرية كبيرة في الإيقاع، أي في الأوزان والبحور إلى جانب ما يهيئه الزحاف (أي التعديل في شكل التفعيلة بإسكان حرف متحرك أو حذفه أو تحريك حرف ساكن أو حذفه) من حرية في الموسيقى بحيث يستطيع الشاعر أن يطوع موسيقاه لمقتضيات الإيقاع النفسي لتجربته. فالموسيقى ليست قوالب جامدة. وليس أدل على ذلك من الزيادة أو النقصان في الضربات في بعض التفعيلات وهو ما لجأ إليها كثير من المجددين على مدى تاريخ الشعر العربي الطويل. ولا شك أن الثراء الذي تحفل به أنغام النظم العربي يتيح للشاعر المقتدر أن يبدع أشعاره في إيقاعات متفاوتة لا أعتقد أن الشعر الأوروبي يتحلى بها. فماذا فعل الشعراء المحدثون؟

كانت أول مشكلة ولا شك هي القافية لأن الحفاظ على قافية واحدة على مدى أبيات كثيرة يستلزم جهدًا مضنيًا وإلمامًا كبيرًا بالمعجم العربي، أي يتطلب ذخيرة من الألفاظ قد لا تتوافر للشاعر في هذا العصر، ثم هي إذا توافرت فقد تشمل على الغريب والحوشي مما لا يحسن استخدامه في شعر موجه إلى جمهور أبناء القرن العشرين.

ولذلك فقد دعا الشعراء المحدثون إلى عدم الالتزام بقافية واحدة في القصيدة وتنويعها خاصة في الأشكال الجديدة من الشعر العربي وبخاصة في المسرحية (وقد فعل هذا شوقي في مسرحياته) أما المشكلة الثانية فقد رأى المحدثون أن الشكل التقليدي رغم ثراء موسيقاه يوحي بالانتظام الشديد ومن ثم فقد قالوا إنه يحبس أو يقيد جميع التجارب النفسية للشاعر أيًّا كان شكلها في نمط واحد من الأبيات المتساوية في الطول والإيقاع أي يفرض عليها نسقًا ونهجًا مسبقًا يمكن أن يؤدي إلى طمس بعض المشاعر أو أن يحول دون تصويرها تصويرًا دقيقًا. ولذلك فقد لجئوا إلى التفعيلة الواحدة باعتبارها الإيقاع الذي يمكن تكراره بحرية أي دون التقيد بعدد معين في كل بيت مع التوسع في الزحاف وفي حرية استخدام أجزاء من التفعيلات بدلًا من التفعيلة الكاملة، وقد نجح الموهوبون من الشعراء في استخدام هذا اللون الجديد وأثبتوا قدرتهم على إبداع شعر تقليدي وشعر حديث بالجودة نفسها فبرزت أسماء بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمد الفيتوري وجيلي عبد الرحمن وغيرهم من الرواد واستقبلهم العالم العربي استقبالًا حافلًا وعلى مدى سنوات طويلة بدا أن الشعر العربي قد ولد ميلادًا جديدًا لم يشهد مثله منذ أن توفي حافظ وشوقي ١٩٣٢م، وفعلًا ازداد عدد الشعراء وتنوع إنتاجهم من الشعر الغنائي (حسب تعريفنا له في البداية) وانضم إليهم في السبعينيات عشرات على مدى العالم العربي ممن ينشرون في الصحف ويتلقف القراء دواوينهم وينتظرونها بلهفة ولا داعي بالطبع لذكر أسمائهم.

ولكن لا بد من تحذير قارئ هذا الكتاب من أن اليسر الذي يتسم به الشعر الحديث خادع في الحقيقة. فالشعر الحديث موزون وإن تحرر من تقسيمات الأوزان الثابتة القديمة. ولذلك لا بد من إيراد بعض الأمثلة ولتكن جميعًا من ديوان الراحل صلاح عبد الصبور. في ديوانه الأول «الناس في بلادي» تطالعنا بعض القصائد ذات الموسيقى المنوعة أي التي لا تلتزم بوحدة التفعيلة وتقدم ما يوحي بالموسيقى المنتظمة مثل قصائد «عيد الميلاد لسنة ١٩٥٤م» و«سوناتا» و«الرحلة» و«الوافد الجديد» و«الإله الصغير» و«سرداب»، ولنضرب لها مثلًا من قصيدة الوافد الجديد:

وأنا جاهد لغوب
أتهادى إلى الأبد
نحو قصر من الرمال
وقلاع من الزبد

في كل شطر تفعيلتان مختلفتان بحيث تتكون الوحدة الإيقاعية منهما وتكرر في كل بيت. ولكن معظم القصائد في هذا الديوان تعتمد وحدة التفعيلة ولنأخذ قصيدة «شنق زهران» وقد كانت محببة إلى نفس الشاعر رحمه الله (إذ أعجب بها الدكتور لويس عوض عندما نشرت أول مرة):

وثوى في جبهة الأرض الضياء
ومشى الحزن إلى الأكواخ تنين له ألف ذراع
كل دهليز ذراع
من أذان الظهر حتى الليل يا لله!
كل هذي المحن الصماء في نصف نهار
مذ تدلَّى رأس زهران الوديع

والواضح أن عدد التفعيلات يتفاوت من بيت إلى بيت كما يلي:

٣ – ٥ – ٢ – ٣ – ٤ – ٣ ولكن الشاعر لا يلتزم بهذه «الحرية» في سائر القصيدة فنجده عندما تقتضي التجربة الشعرية يحافظ تقريبًا على نفس العدد:

ذات يوم
مرَّ زهران بظهر السوق يومًا
ورأى النار التي تحرق حقلًا
ورأى النار التي تصرع طفلًا
كان زهران صديقًا للحياة
ورأى النيران تجتاح الحياة
مد زهران إلى الأنجم كفًّا
ودعا يسأل لطفًا
ربما سورة حقد في الدماء
ربما استعدى على النار السماء

فكل بيت يتكون من ثلاث تفعيلات فيما عدا الأول الذي يتكون من تفعيلة واحدة والثامن الذي يتكون من تفعيلتين، والواضح أن القافية تختلف هنا اختلافًا كبيرًا عما اعتدناه في الشعر العربي التقليدي ولا تكاد تحتاج إلى تعليق.

٤

نجح المحدثون في إبداع شعر غنائي حديث من عدة أنواع أهم نوع هو القصيدة التركيبية أي التي تقوم على «تعدد الأصوات» أو ما يسمى «البوليفونية» في الموسيقى ولنشرح هذا الكلام: قلنا إن الشاعر في القصيدة الغنائية يركز على لحظة واحدة تتجمع فيها انفعالات التجربة النفسية التي عاناها وقد كان الشعراء في الماضي يميلون إلى تجريد هذه اللحظة وتنقيتها حتى لتصبح حزنًا خالصًا أو فرحًا خالصًا أو قلقًا أو أملًا أو شكوى … إلخ. وكان الشاعر في القصيدة التقليدية يعرف ما يريد أن يقوله وينحصر جهده بعد ذلك في عمليات الصياغة اللغوية والبناء الفني، فهو حين يكتب قصيدة يبكي فيها عزيزًا فقده فهو يبكيه وحسب، وهو حين يذكر الماضي ليتحسر عليه فهو يتحسر عليه وحسب، وهذا ما نعنيه بالصوت الواحد. أما في الشعر الحديث الذي بدأ في أوروبا في القرن العشرين فقد أدخل الشعراء في الشعر الغنائي أصواتًا أخرى نتيجة لإدراكهم أن التجربة البشرية معقدة وأن ما يسمى بالعاطفة يتضمن عدة عواطف في الوقت نفسه ولذلك فبدلًا من التنقية قدموا لنا عدة عواطف تتناقض فيما بينها لما يدف في ثناياها من مشاعر متباينة. أي إن هم الشاعر أصبح ينصب على التجربة بكل ما في غضونها من أحاسيس بدلًا من تجريد إحساس واحد للتعبير عنه.

ورغم الصورة التقليدية الخادعة في الشعر العربي الكلاسيكي من ابتداء بالنسيب ثم تدرج إلى الموضوع الأساسي أو التفرع منه فإن العاطفة فيها صافية فالمدائح النبوية التي أبدعها شوقي مدائح خالصة وأشعار حافظ إبراهيم الوطنية أشعار وطنية خالصة، وكذلك كانت خمريات أبي نواس وزهديات أبي العتاهية … إلخ. وكذلك كانت أشعار الأوروبيين على مدى تاريخ الشعر الغنائي وليس فقط في القرن التاسع عشر (نقول هذا لأن ثورة المحدثين كانت موجهة أساسًا ضد شعراء ذلك القرن). وحتى عندما يصور شوقي في مسرحياته مشاعر الشخصيات في المواقف الدرامية (أي التي تنبع من الصراع وتصب فيه) فإنه يصفيها وينقيها جريًا على عادته في الشعر الغنائي. فعندما تخاطب كليوباترا الحية التي تموت بسمها فهي تتخذ صورة الملكة الفخورة المعتدة بنفسها ولا تراودها أية مشاعر سوى الكبرياء. فهي لا تتردد ولا ترى في الموت رهبة ولا تخشاه. إن شوقي يصورها تصويرًا أسطوريًّا يقترب بها من أبطال الملاحم ويبتعد بها عن أبطال المأساة (أو مَن يُسمون بالأبطال التراجيديين). فالبطل الملحمي بطل خالص نصفه بالأسطورية لأنه يمثل فكرة ما ويرمز لمثل أعلى، أما البطل المأسوي (أو التراجيدي) فهو إنسان كامل تدف بين جوانحه مخاوف البشر ويخطئ مثل البشر ويخاف الموت مثل البشر! ولكن كليوباترا لا تخامرها أية مشاعر من هذا النوع: إنها تريد أن تموت مثلما ماتت الزباء صائحة «بيدي لا بيد عمرو»، ولذلك فإن شوقي يهتم في تصوير لحظة انتحارها بمعنى هذه اللحظة لكل إنسان بدلًا من استكشاف معناها للشخصية نفسها. إننا لا نشهد تجربة شعورية مركبة (انظر الباب الأول) ولكننا نشهد تجريدًا لمعنًى واحد من معاني التجربة الشعورية التي لم يتمثلها شوقي. والأرجح أنه كان يريد لحديث كليوباترا أن يشتمل على الحكم التي يرددها الناس من بعده «وقد يشفي العضال من العضال» أكثر من أن يكون تصويرًا وتجسيدًا لأخطر لحظة في حياة ملكة؛ لحظة موتها. ولذلك فإن المشاعر التي يصورها حديث كليوباترا ومطلعه:

هلمي الآن منقذتي هلمي
وأهلًا بالخلاص وقد سعى لي

مشاعر متجانسة، وهي تنبع جميعًا من صوت واحد لا من عدة أصوات (قد تختلف فيما بينها وقد تتصارع).

وكذلك نرى مجنون ليلى في مسرحية شوقي فهو محب خالص يتطلع إلى المستقبل أو يذكر الماضي أو يصف الطبيعة أو يتغزل، وقد انفردت بكل عاطفة قصيدة صغيرة ينتظمها بناء المسرحية الكبير، أي إن تجربة المجنون في المسرحية قد تحولت إلى عاطفة مبسطة أو عدة عواطف مبسطة مما يرتبط عادة بتجربة الحب، سواء منها الغيرة أو القلق أو الشوق أو الوحشة … إلخ.

ومن قبل شوقي كان البارودي واضحًا وضوح النهار في تفرد الصوت، وحدبًا على الأبيات التي تجري مجرى الأمثال:

ومن كانت العلياء همة نفسه
فكل الذي يلقاه فيها محبَّبُ

وذلك في قصيدته الشهيرة التي مطلعها:

سواي بتحنان الأغاريد يطربُ
وغيري باللذات يلهو ويلعبُ

وكذلك كان حافظ متفرد الصوت حين يخاطب الإنجليز:

حولوا النيل واحجبوا الضوء عنا
واطمسوا النجم واحرمونا النسيما

وقس على هذا غيرهم من الشعراء المجيدين في تلك الفترة وحتى مولد الشعر الحديث.

والواقع أن تفرد الصوت من الملامح الكلاسيكية في الأدب العالمي ويبدو أن الشعراء المحدثين في أوروبا ابتداءً من الحركة الرمزية في فرنسا في القرن التاسع عشر وانتهاءً بشعراء الحرب العالمية الأولى، وهم الذين ثاروا على تجريدات الرومانسية وتعميماتها وتهويماتها وأرادوا للشعر صلابة التجربة الحسية، قد غمطوا الرومانسية حقها عامدين أو غير عامدين إذ إن شعر التجربة وتعدد الأصوات قد وُلد حقًّا وصدقًا على أيدي الرومانسيين. ولنضرب الآن المثل على تعدد الأصوات وتأثيره في القصيدة العربية الحديثة من ديوان صلاح عبد الصبور:

(١) أغنية للقاهرة

لقاكِ يا مدينتي حِجِّي ومبكايا
لقاك يا مدينتي أسايا
وحين رأيت من خلال ظلمة المطار
نورك يا مدينتي عرفت أنني غللت
إلى الشوارع المسفلتة
إلى الميادين التي تموت في وقدتها
خضرة أيامي …
وأن ما قُدِّر لي يا جرحي النامي
لقاك كلما اغتربت عنك
بروحي الظامي (١٠)
وأن يكون ما وهبت أو قدرت للفؤاد من عذاب
ينبوع إلهامي
وأن أذوب آخر الزمان فيك
وأن يضم النيل والجزائر التي تشقه …
والزيت والأوشاب والحجر (١٥)
عظامي المفتتة
على الشوارع المسفلتة
على ذرى الأحياء والسكك
حين يلم شملها تابوتي المنحوت من جميز مصر
لقاك يا مدينتي يخلع قلبي ضاغطًا ثقيلًا (٢٠)
كأنه الشهوة والرهبة والجوع
لقاك يا مدينتي ينفضني
لقاك يا مدينتي دموع
أهواك يا مدينتي الهوى الذي يشرق بالبكاء
إذا ارتوت برؤية المحبوب عيناه (٢٥)
أهواك يا مدينتي الهوى الذي يسامح
لأن صوته الحبيس لا يقول غير كلمتين …
إن أراد أن يصارح
أهواك يا مدينتي …
أهواك رغم أنني أنكرت في رحابك (٣٠)
وأن طيري الأليف طار عني
وأنني أعود، لا مأوى، ولا ملتجأ
أعود كي أشرد في أبوابك
أعود كي أشرب من عذابك …

التجربة هنا هي عودة الشاعر إلى مدينته «بعد شهر من التجوال» كما يقول لنا وهو يستخدم في البداية لفظ لقاء ليوحي باللقاء بين محب وحبيبته ولكننا سرعان ما ندرك أنه لقاء عاصف (كما يقولون) فقلبه مفعم بعدة عواطف معًا ينتظمها خيط «مواجهة» مدينته. والمواجهة تجري في إطار هيكل استعاري كبير هو ما أسميناه في الفصل الأول بالرؤية الاستعارية أو الرؤية الفنية. وتتفرع منه خيوط أفكار وصور (وهي ما أسميناها بالثيمات) تتضافر وتتقابل وتتضاد على مدى القصيدة حتى تكتمل التجربة وتكتمل معها القصيدة التي تقوم على التركيب والمفارقة كما سنرى.

يبدأ الشاعر بصورة جسورة وهي ثيمة الحج. فالاستعارة الأولى تجعل من لقاء الشاعر بالمدينة لقاءً مع أرض مقدسة يحس فيها بانتمائه الروحي. أي إن الحج هنا رحلة إلى المصدر أو المنبع الروحي أيًّا كان المكان فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ. والمبكى كلمة توحي بمن يسلم نفسه لله لحظات فيذكر ضعفه وينهار باكيًا، أي إنه ليس بالضرورة حائط المبكى ولكنه أي مكان يحس فيه الإنسان ذلك الإحساس ولكننا ما نكاد نتلقى هذه الاستعارة وقبل أن يطورها الشاعر تدخل ثيمة أخرى هي ثيمة الأسى والأسى هنا إحساس رقيق يوازي ما يسمى في اللغات الأجنبية ﺑ «الحزن الشاعري» لأنه يتضمن في هذه القصيدة خيطًا قدريًّا في صورة الأغلال التي لا فكاك منها والتي يقبل عليها الشاعر راضيًا. فهو يقدم على الفور صورة مفارقة فنية تطور هذه الثيمة إذ تتحول ظلمة المطار في عين ذهنه إلى وهج باهر ووقدة ظهيرة تُحيل الأخضر يابسًا، وفي الوقت نفسه تتحول الهاجرة الحارقة إلى ينبوع للروح «ينبوع إلهامي» ينهل منه الشاعر ليروي لهبته «روحي الظامي»، فهذه المفارقة أي هذا التناقض بين الصورتين هو الذي يولد ما يسمى في الشعر الحديث بالتوتر الفني، والشاعر يقبل هذين العنصرين من عناصر التجربة أي صورة النار وصورة الماء معًا لأنهما يمثلان قدره «ما قُدر لي»، «قدرت للفؤاد».

ولكن الشاعر لا يتوقف عند مفارقة الأخضر واليابس، إذ ما يكاد يفرغ من صورة الينبوع — البيت ١٢ — حتى يدفع إلينا بصورة أخرى تطورها بمفارقة أخرى. فالأبيات من ١٣–١٩ تقدم لنا صورة موت يفضي إلى حياة، يستعين فيها الشاعر بأسطورة إيزيس وأوزوريس، فبعد أن تقطعت (تفتَّتَت) أوصاله وبعثرت جمعتها إيزيس «حين يلم شملها تابوتي» بعد رحلة طويلة في النيل. واستخدام الأسطورة شائع في الأدب العالمي ويعتبر من الطرائق الفنية المألوفة باعتباره لونًا من الاستعارة. ولكن هذه الاستعارة ليست مقصورة على الموت والحياة فهي توحي بالتوحيد بين الإنسان ووطنه وذوبانه فيه «وأن أذوب آخر الزمان فيك» كما تجعل من القاهرة رمزًا لكل مصر. وهذه الأسطورة الاستعارية هي الثيمة الثالثة التي تتفرع من الثيمتين الأوليين.

ومن البيت ٢٠ حتى ٢٣ يصور الشاعر مشاعر لا يدري كنهها هو نفسه ولا يجد لها إلا ما يسميه النقاد بالفورة الانطباعية أي تقديم عدد من الانطباعات السريعة اللاهثة المتلاحقة التي ما تلبث أن تهدأ وتخمد، فنحن نواجه فجأة لحظة خوف غريب، لحظة رعب لا يفهمها الشاعر نفسه فيحاول أن يجد لها تفسيرًا في تشبيه غريب لا يعدو أن يكون تعقيدًا لأنه ليس أقل غموضًا منها «كأنه الشهوة والرهبة والجوع»، واستخدام المجردات هنا استخدام رومانسي ولكنه في نطاق التشبيه يحدث تأثيره لأنه يمثل محاولة من الشاعر لإدراك كنه هذا الإحساس الغامض. وسريعًا ما تهدأ الثورة وتتحول إلى دموع!

ولكننا منذ البيت ٢٤ وحتى نهاية القصيدة ندخل مرحلة جديدة، أولها صورة المحب الذي فاض به الحب حتى جعله يغفر كل شيء بل ولا يلجأ إلى لغة الألفاظ على الإطلاق. أي إن الدموع في آخر الجزء الثالث من القصيدة تتحول هنا إلى دموع انفعال باطني فالصوت يحتبس والحلق يشرق بالبكاء دون أن يبكي. وتكرار كلمة «أهواك» هنا تأكيد لهذا الحب غير المفهوم فالشاعر لا يعرف سر هذا «الهوى» لأنه يرى في الواقع صورًا تتناقض معه وكان ينبغي أن تلغيه، ولذلك تقدم لنا الأبيات الأخيرة لمسات واقعية من حياة الشاعر وما فعلته المدينة به ومع انتهائها تكون المفارقة الأخيرة قد اكتملت، وهي مفارقة الحب الذي لا مبرر له وهو الحب الذي يوحي الشاعر بأنه الحب الصادق، كأنه حب الأم أو الأب، ولا شك أن صورة الوطن مرتبطة بهذا الحب الفطري الذي لا يمكن فهمه أو تبريره.

القصيدة لا تقدم إذن صورة واحدة للمدينة أو للمشاعر التي تنتاب مَن عاد إليها بل عدة صور وكلها تقوم على التناقض ويؤدي بعضها إلى بعض داخل نسق شعوري موحد حتى أننا لا نستطيع أن نحذف منها أي جزء دون أن تختل التجربة. وهذه الثيمات المتعددة هي التي تكوِّن ألحان القصيدة التي تتفارق فتتناغم ومن ثَم تمثل ما أسميناه بتعدد الأصوات. وتمثل القصيدة أيضًا ما انتهت إليه الاستعارة على أيدي الشعراء المحدثين إذ لم تعد صورة يُستعان بها على الإيضاح أو تستخدم للزخرفة ولكنها أصبحت جزءًا لا يتجزأ من التجربة الشعورية التي تمثل أساس التجربة الشعرية.

ويتضح من هذه القصيدة أيضًا ما انتهى إليه الشعر الحديث من الإصرار على وحدة القصيدة بدلًا من وحدة البيت، فالأبيات هنا متداخلة مترابطة من ناحية المبنى والمعنى. أما القافية فهي غير موجودة بالمعنى التقليدي ولكن لها وجود من نوع آخَر لأنه يعتمد على الوظيفة الجديدة التي تقوم بها في الشعر الحديث. فالقافية تربط البيتين الأولين اللذين يضمان الثيمتين السائدتين في الجزء الأول من القصيدة، وبعد ذلك لا يستخدم الشاعر أي قافية ليؤكد الوحدة اللغوية في الجملة التالية الممتدة من البيت الثالث حتى البيت السابع. إذ إن القافية كان يمكن أن توقف القارئ دون مبرر عند آخر البيت أي في منتصف العبارة ولا شك أنه يستعين على هذا أيضًا ببحر يسير أقرب ما يكون إلى الحديث العادي (غير الموزون) أو النثر حتى يصرف انتباه القارئ إلى الصورة الشعرية. ولكنه يعود إلى القافية في الأبيات ٧ – ٨ – ١٠ – ١٢ لتوحيد صورة المفارقة في أن يكون اللقاء هاجرة وينبوع ارتواء ومصدر إلهام في الوقت نفسه، وهلم جرًّا.

ولا بد قبل أن نختم هذا الفصل أن نقول إن الشعر الحديث ليس ولا يمكن أن يكون بديلًا عن الشعر العمودي، وتعدد الأصوات ليس بديلًا عن الصوت الواحد. إذ إن صدق التجربة النفسية الذي يضمن صدق التجربة الفنية ممكن في أي شكل يختاره الشاعر والشكل يصنعه الشاعر ويختص به مثل الأسلوب. فهو ابن للتجربة الفنية، وإذا كان الشكل الجديد يتيح للشاعر مزيدًا من الحرية في تصوير تجربته النفسية وإخراجها فإنه قد جمد على أيدي كثير من الأدباء والمقلدين الذين يستقون تراثهم وتقاليدهم الفنية من الشعر الحديث لا من تراث العربية الحافل. وهذا يفسر قلة عدد الممتازين من الشعراء العرب اليوم فإذا افترضنا أن ثمة مائة ممن يجيدون كتابة الشعر الحديث في مصر فلن نجد من بينهم عشرين يتميزون ويبرزون بأصالتهم وصدقهم الفني، وهو عدد جد قليل في بلد تتكلم العربية وتكتبها وتدرس بها وتقرأ، ويزيد عدد سكانها على الأربعين مليونًا. وينطبق المنطق نفسه على مَن يكتبون الشعر التقليدي. فالشاعر إنسان موهوب حباه الله طاقة فذة على الاستجابة للتجربة والأحاسيس البشرية وموهبة نادرة على استخدام اللغة لبلورة هذه التجربة وتلك الأحاسيس فإذا لم يتوافر له في صباه إتقان اللغة التي يكتب بها واكتمال عدته الفنية لم يستطع أن يخرج لنا شعرًا أصيلًا واقتصر على التقليد والمحاكاة وكم من حساس موهوب قعد به ضعف آلته عن الترقي في درج الشعر الحقيقي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤