الفصل الثالث عشر

الخاتمة

في العشرينيات والثلاثينيات، سادت قناعة قوية بين أوساط المثقفين في الولايات المتحدة بأن الرأسمالية نظام معيب يحول دون الرفاهية الاقتصادية وبالتالي الحرية، وأن الأمل في مستقبل أفضل يكمن في منح الجهات السياسية قدرًا أكبر من السيطرة المدروسة على الشئون الاقتصادية. لم يحدث تحول آراء المثقفين تحت تأثير وجود نموذج فعلي لمجتمع مؤيد لمبدأ الجماعية، مع أن هذا التحول ازداد سرعة بعد تأسيس المجتمع الشيوعي في روسيا والآمال المتوهجة التي عُلِّقَتْ عليه، بل تحقق التحول لدى المثقفين نتيجة للمقارنة بين الوضع الراهن — بكل ما يحمله من ظلم وعيوب — وبين الوضع الافتراضي الذي يمكن أن يكون عليه؛ أي أن المقارنة عُقِدَتْ بين ما هو قائم وبين ما هو مثالي.

في ذلك الوقت، لم يكن من الممكن حدوث شيء أكثر من ذلك. صحيح أن الإنسانية مرت بعصور من السيطرة المركزية ومن تدخل الدولة المفرط في الشئون الاقتصادية، بيد أنه حدثت ثورة في السياسة والعلوم والتكنولوجيا. ولا شك أن البعض زعم أنه يمكننا أن نحقق — من خلال الهيكل السياسي الديمقراطي والأدوات الحديثة والعلوم الحديثة — شيئا أفضل مما أمكن تحقيقه في العصور السابقة.

لا تزال اتجاهات ذلك العصر حاضرة معنا، فلا يزال هناك ميل لرؤية أيِّ تدخل حكومي حالي مرغوبًا، ولنسب كافة المساوئ للسوق، ولتقييم المقترحات الجديدة للسيطرة الحكومية في صورتها المثالية، حيث يديرها أشخاص متمكنون يمتازون بالنزاهة ولا يخضعون لضغط جماعات مصالح خاصة، فيما لا يزال مؤيدو التدخل الحكومي المحدود والاقتصاد الحر في موقف دفاع.

بيد أن الظروف تبدلت، فلدينا الآن عقود من الخبرات مع التدخل الحكومي ولم يعد من الضروري مقارنة عمل السوق الفعلي بالأداء المثالي المفترض للتدخل الحكومي، بل يمكننا مقارنة الوضع الفعلي بوضع فعلي.

إذا فعلنا ذلك، من المؤكد أن الاختلاف بين الأداء الفعلي للسوق وأدائه المثالي — مع أنه اختلاف كبير من دون شك — ليس هائلًا مقارنة بالاختلاف بين النتائج الفعلية للتدخل الحكومي والنتائج المنشودة. من يمكنه الآن رؤية أي أمل كبير للارتقاء بحرية الإنسان وكرامته في خضم الطغيان والاستبداد الهائلين اللذين يهيمنان على روسيا؟ كتب ماركس وإنجلز في بيان الحزب الشيوعي: «ليس لدى البروليتاريا ما تخسره سوى قيودها لكن أمامها العالم لتفوز به.» من يمكنه اليوم القول إن القيود المفروضة على البروليتاريا في الاتحاد السوفيتي أضعف منها في الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا أو أية دولة غربية؟

لنلق نظرة عن كثب على الداخل، أي من «الإصلاحات» العظيمة — إذا كان هناك إصلاحات في الأساس — في العقود الماضية حققت أهدافها؟ هل تحققت النوايا الحسنة لمؤيدي تلك الإصلاحات؟

سرعان ما أصبح تنظيم السكك الحديدية بهدف حماية المستهلك أداةً تمكنت السكك الحديدية بواسطتها حماية نفسها من المنافسة مع المنافسين الجدد — على حساب المستهلك بالطبع.

وأصبحت ضريبة الدخل التي فُرِضَتْ في البداية بمعدلات منخفضة واسْتُغِلَّتْ فيما بعد كوسيلة لإعادة توزيع الدخل في صالح الطبقات الدنيا واجهةً تغطي ثغرات وأحكام خاصة تجعل من المعدلات التصاعدية نظريًا غير فعالة تمامًا. ستولد ضريبة ثابتة تبلغ ثلاثة وعشرين ونصف في المائة على الدخل الخاضع للضريبة حاليًا إيرادًا يضاهي المعدلات الحالية المتصاعدة من عشرين إلى واحد وتسعين في المائة. لقد عززت ضريبة الدخل الهادفة إلى تقليص عدم المساواة وتعزيز وفرة الثروة عمليًا إعادة استثمار أرباح الشركات؛ ومن ثم ساندت نمو الشركات الكبرى وحالت دون إقامة سوق رأس المال وأعاقت إنشاء شركات جديدة.

أما الإصلاحات النقدية الهادفة إلى تعزيز الاستقرار في النشاط الاقتصادي والأسعار، فقد زادت التضخم أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها وأدت بعد ذلك إلى مستوى من عدم الاستقرار أشد وطأة مما مررنا به من قبل. إن السلطات النقدية التي أقاموها تتحمل المسئولية الأساسية في تحويل انكماش اقتصادي خطير إلى كارثة الكساد الكبير ١٩٢٩–١٩٣٣. لقد أسفر نظام تأسس بهدف أساسي هو الحيلولة دون حدوث ذعر في القطاع المصرفي عن أشد ذعر في القطاع المصرفي في التاريخ الأمريكي.

وكذلك، أصبح برنامج زراعي هدف إلى مساعدة المزارعين المعدمين والقضاء على ما زُعِمَ إنه خلل في المنظومة الزراعية فضيحةً قوميةً أهدرت المال العام، وشوهت استخدام الموارد وفرضت ضوابط رقابية ثقيلة ومفصلة على المزارعين واصطدمت على نحو خطير بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة إضافة إلى أنه لم يحقق شيئًا لمساعدة المُزارع المعدم.

أما برنامج الإسكان الذي تأسس بهدف تحسين ظروف المسكن للفقراء وتقليل جنوح الأحداث والإسهام في القضاء على العشوائيات، فقد أساء ظروف السكن للفقراء وأسهم في زيادة جنوح الأحداث وفي انتشار الأحياء المتدهورة بالمدن.

في الثلاثينيات، كانت كلمة العمال مرادفًا لنقابة العمال في أوساط المثقفين، وكان الإيمان بنقاء وفضيلة النقابات العمالية مكافئًا للإيمان بالوطن والأمومة. سُنَّ تشريع شامل لتأييد النقابات العمالية ولتعزيز علاقات العمل «العادلة»، إلا أن قوة النقابات العمالية استفحلت وبحلول الخمسينيات، أصبحت كلمة «نقابة عمالية» كريهة ولم تعد مرادفة للعمال، ولم يَعُد يؤخذ كأمر مسلم به أنها تناصر القيم الأخلاقية.

على الجانب الآخر، شُرِّعَت إجراءات الضمان الاجتماعي بهدف جعل تلقي الإعانات مسألة حق، وللقضاء على الحاجة للإعانات والمساعدات المباشرة. والآن، يتلقى الملايين إعانات الضمان الاجتماعي، ومع ذلك تزداد قوائم الأشخاص المحتاجين للمساعدات وتزداد المبالغ المنفقة على المساعدة المباشرة.

يمكننا بسهولة إضافة أمثلة مشابهة: برنامج شراء الفضة في الثلاثينيات، ومشروعات الطاقة العامة، وبرامج المعونات الخارجية في السنوات التي أعقبت الحرب، ولجنة الاتصالات الفيدرالية، وبرامج إعادة تنمية المدن، وبرنامج بناء المخزون الاحتياطي. إن هذه المشروعات وغيرها الكثير كان لها نتائج مختلفة وعادة مناقضة تمامًا لتلك المنشودة.

هناك بعض الاستثناءات، فالطرق السريعة التي تشكل شبكة فوق البلاد والسدود الضخمة التي تمتد فوق الأنهار العظيمة والأقمار الصناعية التي تلف في المدار جميعها شهادات على قدرة الحكومة على التحكم في الموارد الضخمة. إن نظام التعليم المدرسي — بكل ما ينطوي عليه من عيوب ومشكلات وبكل ما يوجد به من احتمالات التطوير من خلال مشاركة أكثر فاعلية لقوى السوق — زاد من مجال الفرص المتاحة أمام الشباب الأمريكي وساهم في توسيع نطاق الحريات. إنه لشاهد إثبات على الجهود التي تنم عن حب العمل للصالح العام والتعاون لعشرات الألوف الذين عملوا في مجالس إدارة المدارس المحلية وعلى إرادة الشعب لتحمل ضرائب مرتفعة في سبيل ما ارتأوه غاية عامة. كذلك، عززت قوانين شيرمان لمكافحة الاحتكار بوجودها الفعلي المنافسة، بالرغم مما تنطوي عليه هذه القوانين من مشكلات للإدارة المفصلة. كذلك ساهمت إجراءات الصحة العامة في تقليل الأمراض المعدية. وكذلك إجراءات الدعم خففت المعاناة والمحن، ولطالما قدمت السلطات المحلية تسهيلات ضرورية لحياة المجتمعات. وقد صانت الحكومة القانون والنظام مع أنه في العديد من المدن الكبرى لم يكن أداء هذه الوظيفة الأساسية للحكومة مرضيًا. وكمواطن يعيش في شيكاجو، فإني أتحدث شاعرًا بما أقول.

إذا حاولنا الوصول إلى حل وسط مُرْضٍ، فلن يكون هناك إلا القليل من الشك في أن السجلّ مروع. لقد أخفقت غالبية المشروعات الجديدة التي أخذتها الحكومة على عاتقها في العقود القليلة الماضية في تحقيق أهدافها. واصلت الولايات المتحدة تقدمها، وأصبح مواطنوها ينعمون بغذاء وملبس ومسكن أفضل ووسائل مواصلات أفضل وتقلصت الفروق الطبقية والمجتمعية وأصبحت الأقليات أقل حرمانًا من سبل الرفاهية وتقدمت الثقافة الشعبية بخطى سريعة للغاية. كان ذلك نتاج لروح المبادرة وحافز التعاون بين الأفراد من خلال السوق. إلا أن الإجراءات الحكومية عرقلت هذا النمو ولم تعززه، لكننا كنا قادرين على تحمل هذه الإجراءات والتغلب عليها نظرًا للخصوبة الاستثنائية للسوق فحسب، فقد كانت اليد الخفية أكثر فاعلية في دفع عجلة التقدم من اليد الظاهرة التي تجذبنا إلى الوراء.

هل هي مصادفة أن تضل العديد من الإصلاحات الحكومية في العقود الأخيرة هدفها، وكأنها آمال متوهجة تحولت إلى رماد؟ هل هذا ببساطة نتيجة لأن البرامج بها عيوب في التفاصيل؟

أرى أن الإجابة هي النفي في وضوح تام. إن العيب الرئيسي بهذه الإجراءات يتمثل في أنها تسعى من خلال الحكومة إلى إكراه الناس على التصرف ضد مصالحهم المباشرة في سبيل تعزيز مصلحة عامة مفترضة. وإنها لتسعى كذلك إلى حل ما يزعم أنه تضارب مصالح أو اختلاف في الرؤى بصدد المصالح، ليس عن طريق ترسيخ إطار عمل من شأنه القضاء على هذا التضارب أو عن طريق إقناع الناس بمراعاة مصالح مختلفة، بل عن طريق إرغام الناس بالتصرف ضد مصالحهم الشخصية. وكذلك، تحل هذه الإجراءات قيم أصحاب المصالح الخارجية محل قيم المساهمين، سواء بإطلاع البعض الآخرين بما هو في مصلحتهم، أو بأخذ الحكومة من البعض لمصلحة الآخرين. لذا، واجهت هذه الإجراءات مقاومة من واحدة من القوى الأشد بأسًا والأكثر إبداعًا التي عرفها الإنسان وهذه القوة هي محاولة ملايين الأفراد تعزيز مصالحهم الخاصة والعيش وفقًا لقيمهم، وهذا السبب الرئيسي لأن يكون لهذه الإجراءات في أغلب الأحيان نتائج عكسية لتلك المنشودة. إن ذلك أيضًا واحدة من بين نقاط القوى المهمة التي تمتع بها المجتمع الحر وهي أن القواعد والإجراءات الحكومية لا تعرقله أو تخنقه.

إن المصالح التي أتحدث عنها ليست ببساطة المصالح الأنانية. على العكس، فهي تشمل النطاق الكامل للقيم التي يقدرها الأشخاص وفي سبيلها يكون لديهم استعداد لإنفاق ثرواتهم والتضحية بحياتهم. إن الألمان الذين فقدوا حياتهم في معارضتهم لأدولف هتلر كانوا يسعون وراء مصالحهم كما ارتآوها، وكذلك الرجال والنساء الذين كرسوا جهدًا ووقتًا كبيرًا للأنشطة الخيرية والتعليمية والدينية. بطبيعة الحال، إن مثل تلك المصالح هي الأهم لرجال قلائل؛ فهي ميزة المجتمع الحر الذي يمنح هذه المصالح الفرص الكاملة ولا يخضعها للمصالح المادية الضيقة التي تهيمن على الأغلبية العظمى من البشر. لهذا السبب تعد المجتمعات الرأسمالية أقل مادية من المجتمعات القائمة على مبدأ الجماعية.

وفي ضوء سجل المشروعات الحكومية، لماذا لا يزال يبدو أن عبء الإثبات يقع على عاتق هؤلاء الذين يعارضون البرامج الحكومية الجديدة والذين يسعون إلى تخفيف الدور الحكومة الكبير على نحو غير ملائم فعلًا؟ لندع دايسي يجب عن هذا التساؤل: «إن التأثير النافع للتدخل الحكومي — لا سيما في صورة التشريعات — مباشر وفوري ومرئي، إن جاز التعبير، أما نتائجه السيئة فتدريجية وغير مباشرة وتبقى متوارية عن الأنظار … كذلك …. لا يدرك أغلب الناس أن المراقبين الحكوميين قد يكونوا غير أكفاء ومستهترين أو أحيانًا فاسدين …، وقليل من الناس يدرك الحقيقة التي لا يمكن إنكارها وهي أن الدولة تساعد في القضاء على الاعتماد على النفس، وعليه تُظهر بالضرورة الغالبية العظمى من البشر دعمًا غير مستحق للتدخل الحكومي. يمكن أن يضاد هذا الانحياز الطبيعي فقط عن طريق وجود، في مجتمع ما، … افتراض أو تحيز في صالح الحرية الفردية، ألا وهو سياسة عدم التدخل. من ثم، إن مجرد التدني في الإيمان بالاعتماد على النفس — ومن المؤكد أن هذا التدني قد حدث فعلًا — في حد ذاته كافٍ لتفسير زيادة التشريعات التي تميل نحو الاشتراكية.»1

إن صيانة الحرية وزيادة مستواها مهددة الآن بأمرين. التهديد الأول واضح وصريح، فهو التهديد الخارجي القادم من أشرار الحكومة الروسية الذين يتعهدون بدفننا. أما التهديد الآخر فأقل وضوحًا كثيرًا، وهو التهديد الداخلي القادم من رجال ذوي نوايا حسنة وطيبة ويرجون إصلاحنا، ونظرًا لسأمهم من بطء وسائل الإقناع ووضع النماذج لتحقيق التغييرات الاجتماعية العظيمة التي يتصورونها، فهم تواقون لاستخدام سلطة الدولة لتحقيق أهدافهم وواثقين من قدرتهم على فعل ذلك. بيد أنه إذا تولوا زمام السلطة، فسيخفقون في تحقيق أهدافهم المباشرة، وعلاوة على ذلك قد يخلقون دولة تؤيد مبدأ الجماعية التي ينفرون منها في ذعر وقد يكونون أول ضحاياها؛ فأصحاب النوايا الحسنة الذين صاغوا تركيز السلطة لا يرونه أمرًا مضرًا.

إن التهديدين للأسف يعززان من أحدهما الآخر، حتى إذا تجنبنا إبادة نووية، فإن التهديد الروسي يقتضي منا تكريس جزء كبير من مواردنا للقوات المسلحة. إن أهمية الحكومة كمشترٍ لهذا القدر من إنتاجنا، والمشتري الوحيد لإنتاج الكثير من الشركات والصناعات، يركز فعلًا قدرًا خطيرًا من القوة الاقتصادية في أيدي السلطات السياسية، ويغير من البيئة التي تحدث في إطارها التجارة، وكذلك يغير من المعايير المرتبطة بنجاح التجارة، وبهذه الطرق وغيرها يُعرض السوقَ الحرةَ للخطر. لا يمكننا تجنب هذا الخطر، ولكننا لا نكتفي بذلك بل نعززه على نحو غير ضروري من خلال استمرار التدخل الحكومي الحالي واسع الانتشار في مجالات غير مرتبطة بالدفاع العسكري عن الأمة وعن طريق تنفيذ كل برنامج حكومي جديد بدءًا من الرعاية الطبية للمسنين وانتهاءً باستكشاف القمر.

وكما قال آدم سميث ذات مرة: «هناك قدر كبير من الخراب بين أفراد الدولة.» إن منظومة القيم الأساسية لدينا وشبكة المؤسسات الحرة المتداخلة ستصمد كثيرًا. أرى أننا سنكون قادرين على صيانة الحرية وتعزيزها بالرغم من حجم البرامج العسكرية وبالرغم من القوى الاقتصادية المتمركزة فعلًا في أيدي الحكومة الأمريكية؛ بيد أننا سنتمكن من فعل ذلك فقط إذا تنبهنا للتهديد الذي يواجهنا، وفقط إذا أقنعنا الأشخاص الآخرين بأن المؤسسات الحرة تقدم سبيلًا أصدق — مع أنه قد يكون أحيانًا أبطأ — لبلوغ الأهداف التي ننشدها عن السلطة القهرية للدولة، وبريق التغيير الواضح فعلًا في المناخ الفكري دلائل مبشرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤